فلما كانت الليلة ٤٠١
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن مسرورًا قال: يا أمير المؤمنين، يكفيني الثلث وأَعْطِه الثلثين. فضحك عليهما وأمَرَ لكلِّ واحدٍ منهما بألف دينار، وانصرفا مسرورَيْن بما أنعم عليهما الخليفة.
حكاية هارون الرشيد وابنه
يُحكَى أن أمير المؤمنين هارون الرشيد كان له ولد قد بلغ من العمر ستة عشر عامًا، وكان مُعرِضًا عن الدنيا، وسالكًا طريقة الزُّهاد والعُبَّاد، فكان يخرج إلى المقابر ويقول: قد كنتم تملكون الدنيا فما ذلك بمنجيكم، وقد صرتم إلى قبوركم، فيا ليت شعري ما قلتم وما قيل لكم؟ ويبكي بكاء الخائف الواجل، وينشد قول القائل:
فاتفق أن أباه مرَّ عليه في بعض الأيام وهو في موكبه، وحوله وزراؤه وكبراء دولته وأهل مملكته، فرأوا ولد أمير المؤمنين وعلى جسده جبَّة من صوف، وعلى رأسه مئزر من صوف، فقال بعضهم لبعض: لقد فضح هذا الولدُ أميرَ المؤمنين بين الملوك، فلو عاتَبَه لَرجع عمَّا هو فيه. فسمع أمير المؤمنين كلامهم فكلَّمه في ذلك وقال له: يا بني، لقد فضحتني بما أنت عليه. فنظر إليه ولم يُجِبْه، ثم نظر إلى طائر على شرفة من شرفات القصر، فقال له: أيها الطائر، بحق الذي خلقك أن تسقط على يدي. فانقضَّ الطائر على يد الغلام، ثم قال له: ارجع إلى موضعك. فرجع إلى موضعه، ثم قال له: اسقط على يد أمير المؤمنين. فأَبَى أن يسقط على يده، فقال الغلام لأبيه أمير المؤمنين: أنت الذي فضحتني بين الأولياء بحبك الدنيا، وقد عزمتُ على مفارقتك مفارَقةً لا أعود إليك بعدها إلا في الآخرة. ثم انحدر إلى البصرة فكان يعمل مع الفَعَلة في الطين، وكان لا يعمل في كل يوم إلا بدرهم ودانق، فيتقوَّت بالدانق ويتصدَّق بالدرهم.
قال أبو عامر البصري: وكان قد وقع في داري حائط فخرجت إلى موقف الفَعَلة لأنظر رجلًا يعمل لي فيه، فوقعت عيني على شاب مليح ذي وجه صبيح، فجئت إليه وسلَّمت عليه وقلت له: يا حبيبي، أتريد الخدمة؟ فقال: نعم. فقلت: قُمْ معي إلى بناء حائط. فقال لي: بشروطٍ أشترطها عليك. قلت: يا حبيبي، ما هي؟ قال: الأجرة درهم ودانق، وإذا أذَّنَ المؤذن تتركني حتى أصلي مع الجماعة. قلت: نعم. ثم أخذته وذهبت به إلى المنزل فخدم خدمة لم أرَ مثلها، وذكرت له الغداء فقال: لا. فعلمت أنه صائم، فلما سمع الأذان قال لي: قد علمتَ الشرط. فقلت: نعم. فحلَّ حزامه وتفرَّغَ للوضوء، فتوضَّأ وضوءًا لم أرَ أحسن منه، ثم خرج إلى الصلاة فصلى مع الجماعة، ثم رجع إلى خدمته، فلما أذَّن العصر توضَّأ وذهب إلى الصلاة، ثم عاد إلى الخدمة، فقلت له: يا حبيبي، قد انتهى وقت الخدمة، فإن خدمة الفَعَلة إلى العصر. فقال: سبحان الله، إنما خدمتي إلى الليل. ولم يزل يخدم إلى الليل فأعطيته درهمين، فلما رآهما قال: ما هذا؟ قلت: والله إن هذا بعض أجرتك لاجتهادك في خدمتي. فرمى بهما إليَّ وقال: لا أريد زيادة على ما كان بيني وبينك. فرغَّبْتُه فلم أقدر عليه، فأعطيته درهمًا ودانقًا وسار.
فلما أصبح الصباح بكَّرت إلى الموقف فلم أجده، فسألت عنه فقيل لي: إنه لا يأتي ها هنا إلا في يوم السبت فقط. فلما كان يوم السبت الثاني ذهبت إلى ذلك المكان فوجدته، فقلت له: باسم الله تفضَّل إلى الخدمة. فقال لي: على الشروط التي تعلمها. قلت: نعم. فذهبت به إلى داري ووقفت أنظره وهو لا يراني، فأخذ كفًّا من الطين ووضعه على الحائط، فإذا الحجارة يتركَّب بعضها على بعض، فقلت: هكذا أولياء الله. فخدم يومه ذلك، وزاد فيه على ما تقدم، فلمَّا كان الليل دفعت له أجرته فأخذها وسار. فلما جاء يوم السبت الثالث أتيت إلى الموقف فلم أجده، فسألت عنه فقيل لي: هو مريض وراقد في خيمة فلانة. وكانت تلك المرأة عجوزًا مشهورة بالصلاح، ولها خيمة من قصب في الجبَّانة، فسرت إلى الخيمة ودخلتها، فإذا هو مضطجع على الأرض، وليس تحته شيء، وقد وضع رأسه على لَبِنة، ووجهه يتهلل نورًا، فسلَّمت عليه فردَّ عليَّ السلام، فجلست عند رأسه أبكي على صِغَر سنه وغربته، وتوفيقه لطاعة ربه، ثم قلت له: أَلَكَ حاجة؟ قال: نعم. قلت: وما هي؟ قال: إذا كان الغد تجيء إليَّ في وقت الضحى فتجدني ميتًا، فتغسلني وتحفر قبري، ولا تُعلِم بذلك أحدًا، وتكفِّنني في هذه الجُبَّة التي عليَّ بعد أن تفتقها، وتفتِّش جيبها وتُخرِج ما فيه وتحفظه عندك، فإذا صلَّيتَ عليَّ وواريتني في التراب فاذهب إلى بغداد، وارتقب الخليفة هارون الرشيد حتى يخرج، وادفع له ما تجده في جيبي، وأَقْرِئه مني السلام. ثم تشهَّدَ وأثنى على ربه بأبلغ الكلمات، وأنشد هذه الأبيات:
ثم إن الغلام بعد ذلك اشتغل بالاستغفار. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.