فلما كانت الليلة ٤٠٢
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الغلام بعد ذلك اشتغل بالاستغفار، والصلاة والسلام على سيد الأبرار، وتلاوة بعض الآيات، ثم أنشد هذه الأبيات:
قال أبو عامر البصري: فلما فرغ الغلام من وصيته وإنشاده، ذهبت عنه وتوجَّهت إلى بيتي. فلما أصبح الصباح ذهبت إليه من الغد وقت الضحى فوجدته قد مات رحمة الله عليه، فغسَّلته وفتقت جُبَّته، فوجدتُ في جيبها ياقوتة تساوي آلافًا من الدنانير، فقلت في نفسي: والله إن هذا الفتى زهد في الدنيا غاية الزهد. ثم بعد أن دفنتُه توجَّهت إلى بغداد، ووصلت إلى دار الخلافة، وصرت أترقَّب خروجَ الرشيد إلى أن خرج، فتعرَّضت له في بعض الطرق، ودفعت إليه الياقوتة، فلما رآها عرفها فخَرَّ مغشيًّا عليه، فقبض عليَّ الخَدَمَة، فلما أفاق قال للخَدَمة: أفرجوا عنه وأرسلوه برفق إلى القصر. ففعلوا ما أمرهم به، فلما دخل قصره طلبني وأدخلني محله، وقال لي: ما فعل صاحب هذه الياقوتة؟ فقلت له: قد مات. ووصفت له حاله، فجعل يبكي ويقول: انتفع الولد، وخاب الوالد. ثم نادى: يا فلانة. فخرجت امرأة، فلما رأتني أرادت أن ترجع فقال لها: تعالي، وما عليك منه. فدخلَتْ وسلَّمَتْ، فرمى إليها الياقوتة، فلما رأتها صرخت صرخة عظيمة، ووقعت مغشيًّا عليها. فلما أفاقت من غشيتها قالت: يا أمير المؤمنين، ما فعل الله بولدي؟ فقال لي: أخبرها بشأنه. وأخذته العَبْرة. فأخبرتها بشأنه فجعلتْ تبكي وتقول بصوت ضعيف: ما أشوقني إلى لقائك يا قرة عيني! ليتني كنتُ أسقيك إذا لم تجد ساقيًا! ليتني كنت أؤانسك إذا لم تجد مؤانسًا! ثم سكبَتِ العَبَرات، وأنشدت هذه الأبيات:
فقلت: يا أمير المؤمنين، أهو ولدك؟ قال: نعم، وقد كان قبل ولايتي هذا الأمر يزور العلماء ويجالِس الصالحين، فلما وليت هذا الأمر نفر مني، وباعَدَ نفسه عني، فقلت لأمه: إن هذا الولد منقطع إلى الله تعالى، وربما تصيبه الشدائد ويكابد بالامتحان، فادفعي إليه هذه الياقوتة ليجدها وقت الاحتياج إليها. فدفعتها إليه وعزمت عليه أن يمسكها، فامتثل أمرها وأخذها منها، ثم ترك لنا دنيانا وغاب عنا، ولم يزل غائبًا حتى لقي الله — عز وجل — تقيًّا نقيًّا. ثم قال: قُمْ فأَرِني قبره. فخرجت معه وجعلت أسير إلى أن أريتُه إياه، فجعل يبكي وينتحب حتى وقع مغشيًّا عليه. فلما أفاق من غشيته استغفر الله وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون. ودعا له بخير، ثم سألني الصحبة، فقلت له: يا أمير المؤمنين، إن لي في ولدك أعظم العظات. ثم أنشدتُ هذه الأبيات:
حكاية الفقيه والصبيان
ومما يُحكَى عن بعض الفضلاء أنه قال: مررتُ بفقيه في كتَّاب وهو يُقرِئ الصبيان، فوجدته في هيئة حسنة، وقماش مليح، فأقبلتُ عليه فقام إليَّ وأجلسني معه؛ فمارسته في القرآن والنحو والشعر واللغة، فإذا هو كامل في كل ما يُراد منه، فقلتُ له: قوَّى الله عزمك، فإنك عارف بكل ما يُراد منك. ثم عاشرته مدة، وكل يوم يظهر لي فيه حسن، فقلت في نفسي: إن هذا شيء عجيب من فقيه يعلِّم الصبيان، مع أن العقلاء اتفقوا على نقص عقل معلِّم الصبيان. ثم فارقته، وكنت كل أيام قلائل أتفقَّده وأزوره، فأتيت إليه في بعض الأيام على عادتي من زيارته، فوجدت الكتَّاب مغلوقًا فسألت جيرانه فقالوا: إنه مات عنده ميت. فقلت في نفسي: وجب علينا أن نعزِّيه. فجئت إلى بابه وطرقته، فخرجت لي جارية وقالت: ما تريد؟ فقلت: أريد مولاك. فقالت: إن مولاي قاعد في العزاء وحده. فقلت لها: قولي له إن صديقك فلانًا يطلب أن يعزيك. فراحت وأخبرته، فقال لها: دعيه يدخل. فأذنت لي في الدخول، فدخلتُ إليه فرأيته جالسًا وحده ومعصِّبًا رأسه، فقلت له: عظَّم الله أجرك، وهذا سبيل لا بد لكل أحد منه، فعليك بالصبر. ثم قلت له: مَن الذي مات لك؟ فقال: أعز الناس عليَّ، وأحبهم إليَّ. فقلت: لعله والدك. فقال: لا. قلتُ: والدتك. قال: لا. قلت: أخوك. قال: لا. قلت: أحد من أقاربك. قال: لا. قلت: فما نسبته إليك؟ قال: حبيبتي. فقلتُ في نفسي: هذا أول المباحث في قلَّة عقله. ثم قلت له: قد يوجد غيرها مما هو أحسن منها. فقال: أنا ما رأيتها حتى أعرف إنْ كان غيرها أحسن منها أم لا. فقلتُ في نفسي: وهذا مبحث ثانٍ. فقلت له: وكيف عشقتَ مَن لا تراها؟ فقال: اعلم أني كنتُ جالسًا في الطاقة، وإذا برجل عابر طريق يغني بهذا البيت:
وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.