فلما كانت الليلة ٤٠٣
قالت: بلغني أيها الملك السعيد، أن الفقيه قال: لما غنَّى الرجل المار في الطريق بالشعر الذي سمعته منه، قلت في نفسي: لولا أن أم عمرو هذه ما في الدنيا مثلها، ما كان الشعراء يتغزلون فيها. فتعلَّقْتُ بحبها، فلما كان بعد يومين عبَرَ ذلك الرجل وهو ينشد هذا البيت:
فعلمت أنها ماتت فحزنت عليها، ومضى لي ثلاثة أيام وأنا في العزاء. فتركته وانصرفت بعدما تحقَّقتُ قلةَ عقله.
ومما يُحكَى من قلَّة عقل معلم الصبيان، أنه كان رجل فقيه في مكتب فدخل عليه رجل ظريف، وجلس عنده ومارسه، فرآه فقيهًا نحويًّا لغويًّا شاعرًا أديبًا فهيمًا لطيفًا، فتعجَّب من ذلك وقال: إن الذين يعلِّمون الصبيان في المكاتب ليس لهم عقل كامل. فلما همَّ بالانصراف من عند الفقيه قال له: أنت ضيفي في هذه الليلة. فأجابه إلى الضيافة، وتوجَّه صحبته إلى منزله، فأكرمه وأتى له بالطعام، فأكلا وشربا، ثم جلسا بعد ذلك يتحدثان إلى ثلث الليل، وبعد ذلك جهَّز له الفراش وطلع إلى حريمه. فاضطجع الضيف وأراد النوم، وإذا بصراخ كثير ثار في حريمه، فسأل: ما الخبر؟ فقالوا له: إن الشيخ حصل له أمر عظيم، وهو في آخِر رمق. فقال: طلعوني له. فطلعوه له، ودخل عليه فرآه مغشيًّا عليه ودمه سائل، فرشَّ الماء على وجهه فلما أفاق قال له: ما هذا الحال؟ أنت طلعت من عندي في غاية ما يكون من الحظ وأنت صحيح البدن، فما أصابك؟ فقال له: يا أخي، إني بعدما طلعت من عندك جلست أتذكر في مصنوعات الله تعالى، وقلت في نفسي: كل شيء خلقه الله للإنسان فيه نفع؛ لأن الله سبحانه خلق اليدين للبطش، والرجلين للمشي، والعينين للنظر، والأذنين للسماع، والذكر للجماع … وهلمَّ جرًّا، إلا هاتين البيضتين ليس لهما نفع، فأخذت موسى كان عندي وقطعتهما فحصل لي هذا الأمر. فنزل من عنده وقال: صدَقَ مَن قال: إن كل فقيه يعلِّم الصبيان ليس له عقل كامل، ولو كان يعرف جميعَ العلوم.
وحُكِي أيضًا أن أحد المجاورين كان لا يعرف الخط ولا القراءة، وإنما كان يحتال على الناس بحِيَل يأكل منها الخبز، فخطر بباله يومًا من الأيام أنه يفتح له مكتبًا ويُقرِئ فيه الصبيان؛ فجمع ألواحًا وأوراقًا مكتوبة، وعلَّقها في مكان، وكبَّر عمامته، وجلس على باب المكتب؛ فصار الناس يمرون عليه وينظرون إلى عمامته، وإلى الألواح والأوراق فيظنون أنه فقيه جيد، فيأتون إليه بأولادهم؛ فصار يقول لهذا اكتب، ولهذا اقرأ؛ فصار الأولاد يعلِّم بعضهم بعضًا. فبينما هو ذات يوم جالس على باب المكتب على عادته، وإذا بامرأة مقبلة من بعيد وبيدها مكتوب، فقال في باله: لا بد أن هذه المرأة تقصدني لأقرأ لها المكتوب الذي معها، فكيف يكون عملي معها وأنا لا أعرف قراءة الخط؟ وهمَّ بالنزول ليهرب منها فلحقته قبل أن ينزل، وقالت له: إلى أين؟ فقال لها: أريد أن أصلي الظهر وأعود. فقالت له: الظهر بعيد، فاقرأ لي هذا الكتاب. فأخذه منها وجعل أعلاه أسفله، وصار ينظر إليه، ويهزُّ عمامته تارةً، ويرقِّص حواجبه تارةً أخرى، ويُظهِر غيظًا، وكان زوج المرأة غائبًا، والكتابُ مُرسَل إليها من عنده، فلما رأت الفقيه على تلك الحالة قالت في نفسها: لا شكَّ أن زوجي مات، وهذا الفقيه يستحي أن يقول لي إنه مات. فقالت له: يا سيدي، إن كان مات فقُلْ لي. فهزَّ رأسه وسكت، فقالت له المرأة: هل أشقُّ ثيابي؟ فقال لها: شقِّي. فقالت له: هل ألطم على وجهي؟ فقال لها: الْطِمِي. فأخذت الكتاب من يده وعادت إلى منزلها، وصارت تبكي هي وأولادها، فسمع بعض جيرانها البكاء فسألوا عن حالها فقيل لهم: إنه جاءها كتاب بموت زوجها. فقال الرجل: إن هذا كلام كذب؛ لأن زوجها أرسَلَ لي مكتوبًا بالأمس يخبر فيه أنه طيب بخير وعافية، وأنه بعد عشرة أيام يكون عندها. فقام من ساعته وجاء إلى المرأة وقال لها: أين الكتاب الذي جاءك؟ فجاءت به إليه، فأخذه منها وقرأه، وإذا فيه: أما بعدُ، فإني طيب بخير وعافية، وبعد عشرة أيام أكون عندكم، وقد أرسلتُ إليكم ملحفة ومكمرة. فأخذت الكتاب وعادت به إلى الفقيه، وقالت له: ما حملك على الذي فعلتَه معي؟ وأخبرَتْه بما قاله جارها من سلامة زوجها، وأنه أرسل إليها ملحفة ومكمرة، فقال لها: لقد صدقت، ولكن يا حرمة اعذريني؛ فإني كنت في تلك الساعة مغتاظًا. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتَتْ عن الكلام المباح.