الطفولة الغريرة
أظنني كنت في الرابعة أو الخامسة، فما أذكر على التحقيق كم كانت سني، والطفل عندنا — أعني في بلادنا — لا يفكر، أو على الأصح لا يُسمح له أن يفكر في مثل هذه السن، ويُخيل إليَّ الآن وأنا أدير عيني في تلك الأيام كأن وظيفة الآباء والأمهات كانت صرف الأبناء عن النظر والتفكير، وإلزامهم الجمود ونهيهم عن كل حركة جسمية أو عقلية. والطفل — كما تعلم الآن — أكثر ما تكون حيويته في أعضائه، فرغبته في الجري والوثب وما إلى ذلك طبيعية، وهو أشد من الكبار صبرًا على ذلك ولجاجة فيه لقلة ما يشغله غيره، وهو جديد في هذه الدنيا، فشوقه إلى معرفتها معقول، ومن هنا مدَّ يده إلى كل ما تقع عليه عينه وتناولِه وتقليبه وتحطيمه أو إفساده، وليس التحطيم أو الإفساد غايته، ولكنها المعرفة، والآباء يشفقون على أشيائهم من مغبة هذا التناول، فيمنعون التجربة ويأخذون على المعرفة طريقها.
ولست أذكر أني هممت مرة باللعب إلا زجرني عنه واحد من الكبار، أو مددت يدي إلى شيء إلا نُهيت عن لمسه، وما كان أصعب السكون المُقضَى عليَّ به، بل ما أقل ما كان الجمود يرضيهم! فأنا إذا لعبت «شقي»، وإذا سكنت فلا شك أني مريض! وكان ملجئي الوحيد أبي، هو وحده الذي كان يبدو لي أنه يفهم. وقلما كنت أجالسه لأنه رجل، والرجل في ذلك العصر، مكانه بين الرجال لا بين الأطفال والنساء، حتى الأكل كان يتناوله وحده، أو مع ضيوفه في «منظرة» الرجال. حتى القهوة تُصنع وتُرسل إليه. فهو في منزله وحده، وكل مَن في البيت يخدمه حتى أمي. بل حتى أمه هو. يستيقظ أهل البيت ويكون هو لا يزال نائمًا. فالكلام همس، والسير على أطراف الأصابع، والأطفال يُحملون إلى مكان قصي من تلك الدُّور القديمة الواسعة لئلا توقظه ضوضاؤهم. ثم يفتح عينيه ويتثاءب فينقلب السكون جلبة، هذه تجيء بالطشت والإبريق للوضوء، وهذه تُعِدُّ الشاي، وتلك تهيِّئ الطعام، وكأنما يتعمد كل إنسان أن يُسمِعه صوته ويُثبت له أنه يتحرك في خدمته، فالأصوات عالية، والنداءات متتابعة، «والقباقيب» ملبوسة والأرجل تدُب، ويكون الشيء المطلوب تحت أنف الطالب فيقطع المكان ذاهبًا وآيبًا عشر مرات قبل أن يمد يده إليه، ويصيح وينادي ويسأل عنه كل مخلوق قبل أن يتفضل ويراه، ويحاسب كل مَن في البيت على اختفائه ويتوعَّد ويُنذر، حتى إذا ظهر — وهو أدنى شيء منهم جميعًا — انطلق طالبه المتعامي عنه يصف الإهمال والعمى بما يفتح الله به عليه. ثم تقص هذه الحكاية بتفصيل وافٍ شافٍ لأبي وهو يفطر أو يشرب القهوة على سبيل الاعتذار من الإبطاء، عليه والشكوى من الخدم وسائر أهل البيت، والتذمر من الدنيا وسوء الحظ فيها، والتبرم بهذه المتعبات التي تحفل بها ساعات الليل والنهار.
ولا أزال أذكر «علقة» من أجل هذا، وكانت أمي تطلب الطشت من الحمام والإبريق على بابه، فاحتملت الخادمة الطشت وذهبت به ولم ترَ الإبريق، فذهبت تسأل عنه خادمة أخرى أصغر منها وتصيح بها: «أين وضعت الإبريق يا ملعونة؟»
فقالت الصغرى في ذلة وخوف: «لم أرَه والله!»
فصرخت الكبرى: «كيف لم تريه؟ لقد وضعته بيدي في الحمام فهل أخذه العفاريت؟!»
ودفعتها بيدها وأطلقتها لتبحث عن الإبريق فدخلت المسكينة ووقفت بباب الحمام وأسندت كتفيها إلى الحائط ولكنها لم تبحث عن الإبريق، وكان بجانبها على مسافة شبرين منها، بل وقفت تبكي لا كما يبكي الناس، بل بحنجرتها دون عينيها. أعني أنها كانت تُخرِج مثل صوت الباكي المعول ولكن عينيها جامدتان.
ودخلت في أثرها الخادمة الأخرى وأمي وراءها. وعلا الضجيج وكثر الكلام، وكنت أنا أشاهد هذا كله وأرى الإبريق، ولكني كنت مفتونًا بهذا الحوار الذي يدور على لا شيء، فلم أدِلَّهم على مكانه، ولو أني تكلمت لضاع صوتي الصغير ولغرق في طوفان هذه الضوضاء، على أني لم ألبث أن شعرت كأن رأسي سيتهشم وعجزت عن احتمال هذه الحال، وبدا لي — لسوء الحظ — أني حقيق بأن يكون لي من احترام النساء للرجال حظ ولو قليلًا قياسًا على ما أراه من إجلالهن لأبي، فصِحتُ بهن، وأمي في جملتهن.
«يا للعمى! ألا ترين الإبريق وهو تحت أنوفكن؟ ما هذه الضجة الفارغة؟ لقد أوجعتن رأسي!»
فكان جزائي — كما أسلفت — علقة.
•••
نعم، كان المنزل جحيم الطفل. فهو مطالب بأن يكون له عقل الكبار واتزانهم وفَهْمهم، ولكنه محروم من مزاياهم ولا يُعامل معاملتهم. وكل شيء يصدر عنه معيب وخطأ. فاللعب عيب، والصمت عيب، والتهويم في المجلس عيب، والأرق عيب، والاستفهام عيب، ولا شيء فيما يرى الطفل محمود مشكور. ماتت بنت خادمتنا — وكانت في مثل سني — ولم أعلم أنها ماتت؛ لأنهم أجلوني عن البيت وأرسلوني إلى عمتي، فلما عُدتُ ولم أجدها سألت عنها لأني افتقدتها، فكان كل مَن أستفسر منه عن اختفائها يتجهَّم لي وينهرني عن السؤال لأنه عيب. فذهبت إلى أبي، وكان حليمًا صبورًا رضي الخلق، فسألته عنها فأخبرني أنها ماتت. فعجبت ولم أفهم كيف تجرؤ أن تموت. فسألني أبي بدوره عن سر عجبي. فقلت له: «لأنها صغيرة.»
قال: «ولكن الموت ينزك بالكبار والصغار على السواء.»
فألححتُ وقلتُ: «ولكن يا أبي إنها لا تزال صغيرة فكيف يجوز أن تموت؟»
قال: «يا بني لا اعتراض على قضاء الله.»
قلت مصرًّا: «ولكنها صغيرة وهذا عيب.»
فضحك ومسح رأسي بكفه فلم أزد إلا لجاجة وقلت: «يا أبي. هل تسمح لي أن أُفهِمها أن هذا عيب وأنها لا يصح أن تموت؟»
قال وقد ضجر على ما يظهر، وإن ظل يبتسم: «يا بني كيف يكون الموت عيبًا؟»
قلت مستغرِبًا: «أليس الموت عيبًا؟»
قال: «كلَّا. إنها آجال.»
فأعجبني أن يكون الموت آجالًا وطرِبت جدًّا. ودنوتُ منه ووضعت كفي على خديه وقلت وقد خُيل إليَّ أني ظفرت بملهاة جديدة: «إذن ليس من العيب أن أموت أنا أيضًا.»
فصاح بي: «أعوذ بالله!» واكفهرَّ وجهه لا أدري لماذا «إياك أن تقول كلامًا كهذا مرة أخرى.»
لا أدري لماذا! … لقد فهمت … ولكن بعد سنوات، تُرى ألم يكن في الوسع اختصارها.
وصار لي أخ صغير. لم أرَه حين جاء لأني أُجليت عن البيت، فلم أكن في استقباله. ولما عُدتُ وأخبروني وسألت عنه من أين جاءوا به، قالوا، أو فهمت أنا منهم: إنه من عند الله، وإن الله هو الذي يرزق الآباء، فاقتنعت ورُحت بعدها أتوقع أن أتلقى كل يوم من عند الله أخًا جديدًا وساءني أن يرزقني الله أخًا لا أختًا.
فسألت أبي: لماذا لم يرسل الله لي أختًا بدلًا من هذا الأخ؟
قال: هذه مشيئة الله ولا حيلة لنا فيها.
قلت: ولكني أريد أختًا …
فقال: ادعُ الله.
فلبثتُ بعدها أدعو الله ولاسيما قبيل النوم، وكنت أتوقع في كل مرة أن أصبح فأجد الأخت المرجوة تحت السرير أو في الدولاب أو بجانبي، ولكن الله لم يستجب لي قط.
•••
وكان في البيت اثنان لا أراهما أبدًا وإن كان ذكرهما على لسانَي أبي وأمي، وهما «الست» و «الأفندي»، فأبي يقول للخادمة مثلًا قولي كذا أو كذا «للست»، ويتحدث في أوقات شتى ولاسيما حين يكون معه رجال من أقربائنا عن هذه «الست»، وأمي لا تفتأ تقول «الأفندي قال، أو الأفندي أتى، أو الأفندي خرج» فأعجب أين هما؟ ولماذا لا أراهما؟ وأصعد إلى السطح باحثًا عنهما فلا أجدهما، وأدخل كل غرفة فلا أهتدي إلى أثرهما، وأنزل إلى فناء الدار فلا ألتقي بهما. أين ينامان يا تُرى؟ ماذا يأكلان؟ ألا يظهران أبدًا؟ وعلى كثرة ما فكرت في أمرهما وبحثت عنهما لم يفتح الله عليَّ بخير من أنهما لا محالة يلبسان «طاقية الإخفاء»، ولشد ما كان يلج بي الشوق إلى رؤيتهما، يدركني العطف عليهما أيضًا! وكثيرًا ما كنت أقوم من النوم على صوت — لعله موهوم — فأتخيَّل أنهما داخلان، وأرهف سمعي وأنشر أذني في الليل وأفتح عيني جدًّا وأحدِّق في الظلام، وقد قمت على ذراع وربما تسللت إلى كل غرفة لعلي أبصرهما، ناسيًا في سبيلهما مخاوفي وما تثيره الظلمة، في نفوس الأطفال.
واتفق مرة أنَّا كنَّا جميعًا جلوسًا في غرفة أبي وكان مريضًا — فدخلت الخادمة فأسرَّت شيئًا إلى أمي، فقالت لها هذه «أخبريه أن الأفندي مريض»، فصعدت روحي إلى حلقي وشعرت بالأسف على «الأفندي» والألم له، والفرح أيضًا؛ لأن مرضه قد يتيح لي أن أراه أخيرًا …
ودنوت من أبي — وكنت عليه أجرأ — فابتسم لي ومد يده فوضعها على كتفي فأطرقت برهة ثم رفعت عيني إليه وقلت: «بابا.»
قال: «نعم» وجذبني إليه في رفق وعطف.
قلت: «كيف صحة الأفندي.»
فضحكوا جميعًا، أبي وأمي وجدتي وعمتي و… لا أدري مَن أيضًا.
وقبَّلني أبي، ولكنه لم يجبني لا هو ولا سواه. فلم أفهم هذا، وأحسست بالغيظ، ورحت أنظر في وجوههم نظر المحنِق. ثم تولَّني العناد، فعُدت إلى أبي أسأله عن صحة «الأفندي»، فنظر أبي إلى أمي فتناولت هذه يدي وقالت: «عيب، الأولى كانت عفوًا. وقد فاتت ولكن لا يليق أن تكرِّرها.»
فكدت أُجن. لماذا يُخفون عني الأفندي والست، وهما يراهما كلُّ إنسان سواي، ويحادثهما على ما يظهر لي مما أسمع؟ لماذا أُحرم وحدي أن أبصرهما وأكلمهما؟!
فقلت: «ولكني أريد أن أرى الأفندي.»
فقالت أمي: «عيب قلت لك عيب.»
وفي هذه اللحظة دخل جَدي على مَهْل، ويظهر أنه سمع أمي تنهرني، وكان شديد الحنو عليَّ فسأل «ما له؟»
فقصُّوا عليه الحكاية. فابتسم وأجلسني على ركبتيه ولم يزل بي حتى سرَّى عني، وجفت دموع الغيظ التي كانت تترقرق في جفني فشرحت له المسألة وكشفت له عن جهودي التي بذلتها في الاهتداء إلى «الست والأفندي»، ولم يبقَ في الغرفة أحد لم يضحك مني. ولكني كنت فرحًا بإصغاء جَدي وتشجيعه لي، وما كان يبدو على وجهه من الاغتباط والجذل، فلم أعبأ بالضحك، ولما فرغت سألته: «والآن هل ستخفيهما أنت أيضًا عني؟»
قال: «لا. لقد أخطئوا معك يا بني. وكان حقهم أن يدلوك.»
واستغنيت بعد ذلك عن البحث والتنقيب، فقد عرفت «الست والأفندي» وضحكت أيضًا لما عرفتهما.