عاطفة الأبوة
١
قلت مرة لزميل من المدرسين الإنجليز، رُزق غلامًا: أتحب غلامك هذا؟
فأدهشه سؤالي ولم يخفِ تعجُّبه له، وتوهَّم بادئ الأمر أني أتكلف التشكك، فلما بدا لي منه هذا الريب في صدق سريرتي سألته: أتظن أن فقد الأبناء في طفولتهم يكون كفقدهم بعد أن يرشدوا، ويدخلوا في مداخل الرجال من حيث وقع ذلك في النفس؟
قال: كلَّا. وإن كنت ولله الحمد لم أجرِّب هذا أو ذاك.
قلت: وكيف تعلِّل ذلك؟
فأطرق لحظة ثم قال؟ إني أرُدُّ الفرق بين الوقعين إلى مبلغ الجهد والعناء في تنشئة الطفل ورعايته حتى يكبر، فعلى قدر ما نبذل في تربيته يكون حرصنا عليه وضنُّنا به وشعورنا بالخسارة حين نفقده.
قلت: إنكم معشر الإنجليز هكذا دائمًا، حتى العواطف تقدرونها بالأرقام، على أن تعليلك — مع ذلك — صحيح إلى مدى كبير، وإن كنت لا أشك أنه كان يسعك أن تهتدي إلى عبارة أخرى غير هذه. والآن سؤال آخر: هبك رُزقت غلامًا ورحلت عن بيتك زمنًا ثم عُدتَ وقد شبَّ الطفل وترعرع وأصبح فتًى يافعًا، أيكون شعورك نحوه كشعورك لو أنك كنت إلى جانبه، تراه في كل ساعة وتراقب نموه وتفتح عقله؟
قال: كلَّا.
قلت: أتظن أن من الضروري لنمو الشعور بالأبوة أن يكون لجهدك الذي تبذله مظهر ماديٌّ، كأن تتولى أنت مثلًا الإنفاق عليه والسهر على تعليمه ومراقبة تدريبه بنفسك إلى آخر ذلك مما يجري هذا المجرى؟
قال: وكيف يكون الجهد غير ذلك؟
قلت: ألا يكفي مثلًا أن يكون جهد «عاطفة» يحركها ويثيرها قربه منك؟
قال: وما أشك في أن هذا يكفي.
قلت: «نستطيع الآن أن نستخلص أن حياة الطفل هي التي تتيح للشعور الأبوي فرصة النمو، وبعبارة أخرى أن للعادة دخلًا لا يُستهان به في قوة هذا الشعور. وليس معنى هذا أن العادة تخلق هذا الشعور خلقًا ولكن معناه، أنه يكون كامنًا في النفس فتُظهِره، وضعيفًا فتقوِّيه، وفاترًا فتُكسِبه الحرارة. والأبوة ماذا هي؟ أليست مظهرًا من مظاهر حُب الذات والرغبة في تخليدها بتكريرها وإعادتها في شخص آخر هو بعضها؟»
قال: أحسبها كذلك.
قلت: ولكن التخليد معنًى، أو إن شئت فقل إنه وهم وخيال تتعلق به النفس وتتعزى عن الفناء الذي تعلم أنه لا محالة مدركها، ولمَّا كان كذلك، فرُبَّ نفس تكون أطلب له — بطبيعة استعدادها — من نواحٍ أخرى غير الأبوة، وعلى طريقة غير طريقة التكرير والإعادة — إذا صح أن الأبناء صور معادة من الآباء، وهو غير صحيح، فما أظن بك إلا أنك ترى معي أن هذه الإعادة تكون إسرافًا لا معنى له، وسفهًا لا تسوِّغه حكمة، وأَخلقُ بالجيل الواحد من الناس أن يغني عن كل الأجيال التي تتلوه إذا كانت ستجيء مطابقة له غير مختلفة عنه، وما أحق الطبيعة في هذه الحالة بأن يُحجر عليها.
قال: هذا كله صحيح، بل بديهي …
قلت: أشكرك!
قال: عفوًا. إنما أردت أن أسأل عن النتيجة؟
قلت: أريد أن أقول إن عاطفة الأبوة قد تكون في بعض النفوس أضعف منها في البعض الآخر.
قال وهو يبتسم: ما أراك جئت بجديد.
قلت: بل أريد أن أقول إن بعض الناس لا يصلحون أن يكونوا آباء أو بعبارة أخرى أنهم بطبيعة تكوينهم لا يستطيعون أن يخدموا «النوع» من هذا الطريق، وهؤلاء هم الذين نسميهم النوابغ، ونعني بهم طلاب المجد الأدبي أو الحربي أو العلمي، فكأن مساعيهم تستنفد حيويتهم وتردُّهم غير صالحين لغيرها، ومن هنا ما يلاحظ من عقمهم أو قلة نسلهم أو سرعة انقراضه على خلاف السواد الأعظم من الناس، وهذا السواد هو الذي يُعمِّر الدنيا ويحفظ النوع الإنساني فيها.
•••
والناس أكثرهم لا يفكرون، سألت مرة واحدًا من إخواني: لماذا تحب أبناءك؟ فكان جوابه: إنهم بعضه وفلذة من كبده.
ألم يقل الشاعر:
إلى آخر هذا الهراء الذي يَعذُب في السماع وتأنس إليه النفس وإن كان لا محول وراءه، وقد أردت أن أنبِّه صاحبي هذا إلى ما بتعليله من المآخذ فقلت: وهل أنت آسف على أبنائك الذين أخطأهم التوفيق ولم يتمكنوا من الانحدار إلى هذه الدنيا؟
قال في وجوم: ماذا تعني؟ مَن هم؟
قلت: إن الجواب الذي تطلبه يستوجب مني أن أصارحك بحقيقة علمية لا أحسبك تجهلها، فأنا أذكرك بأن الرجل منا ينفث في المرة الواحدة مئات من الملايين من الجراثيم، وكل جرثومة منها كافية لأن تخرج إلى الدنيا طفلًا لو ساعفتها الأحوال وآزرها الحظ، ولكنه قلما يكون هناك أكثر من جرثومة واحدة هي السعيدة الموفَّقة، وما خلاها يذهب كما يُراق الماء في الصحراء فالإنسان — إذا اعتبر هذه الحقيقة العلمية — يفقد في كل مرة ملايين من الأبناء بقدر ما يضيع سدًى من ملايين الجراثيم، ولولا هذا الاقتصاد في التلقيح لاستطاع فرد واحد أن يعمِّر لا الكرة الأرضية وحدها، بل مئات من الكرات الأرضية بنسله.
وهذه الجراثيم الضائعة، أو إذا اعتبرت ما كان يمكن أن يكون، هؤلاء الأبناء الذين لم يجيئوا بعضك أيضًا، وهم أفلاذك أو أكبادك كما تقول أو يقول الشاعر، فلماذا لا نراك أو نرى أحدًا يأسى على فقدهم وهم بعضك، كما تفرح لغلام تُرزَقه، وتحبه لأنه بعضك؟
الحقيقة أن المسألة ليست أن الأب لا يحب أبناءه إلا لأنهم بعضه، فإن غريزة حفظ النوع قد تكفلت بنشوء العاطفة وبدفع الناس إلى طلب النسل، وهي عاطفة يسهل على الرجل — كما لا يسهل على المرأة — أن يحولها إلى مجرى آخر تخرج منه شيئًا مختلفًا جدًّا، وعاطفة جديدة وإن كانت مولَّدة من عاطفة الأبوة. وهَبْها لم تتحول فإن من الميسور أن تنمو وأن تستوفي حظها على التبني، كما هو معروف ومألوف.
على أن الرجل والمرأة ليسا سِيَّين في هذه العاطفة، وأكثر الفرق بينهما راجع إلى أن غريزة حفظ الذات أقوى في الرجل من غريزة حفظ النوع، أما المرأة فعلى خلاف ذلك، الغريزة النوعية فيها أقوى من الغريزة الفردية، إذ كانت هي بطبيعة تكوينها، أداة المحافظة على النوع، وليس الرجل سوى عون لها على ذلك، ومن هنا كانت الأمومة وحواشيها أقوى وأبرز من العواطف المنبعثة من الأبوة.
•••
بعد هذا الذي أسلفناه لا نظن القارئ يستغرب أن نقول إن عاطفة الإخاء عادة ليس إلا، وإلْف لا أكثر ولا أقل، وما أحسبها تختلف في حقيقتها عن عاطفة الصداقة، وكل ما في الأمر أن اشتراك المصالح والنشأة الواحدة تجعل الروابط أمتن والأواصر أوثق. وليس أسهل من فسادها ولا أيسر من تفكك عراها إذا وقعت النَّبْوَة بين الأخوين لسبب من الأسباب، فلا مبالغة إذا قلنا إنها عاطفة لا تتميز إلا في الظاهر وإلا من حيث الاعتقاد العام فيها، عن أية عاطفة تنشأ بين اثنين من أبناء آدم. وليس بالنادر ولا من الفلتات أن تؤدي أعاجيب ما تُحدِثه الوراثة إلى جعل الأخوين أشد ما يكون اثنان تنافرًا، وقلما يفقد الوالدان حُب بنيهما أو الولد حُب أبويه، ولكن ما أكثر ما يقع من التعادي بين الأخوين ويتباغضان؛ ذلك أن للأبوة أو الأمومة أصلًا تحور إليه ويبقى لها إذا فقدت كل معزز أو مقوٍّ، ولكن ما بين الأخوين لا يرجع إلى أكثر من المصادقة.
والناس يدركون هذا ويفطنون إليه بالسليقة وإن كانوا قلَّ أن يفكروا فيه، فتراهم يطلقون لفظ الإخاء والتآخي على الصداقة، ولا يستكثرون أن يُنزِلوا الصديق منزلة الأخ، ولا يحسون أنهم هبطوا بمرتبة الإخاء من أجل ذلك، ولكن الأبوة عندهم وعلى ألسنتهم في كل لغة لها مقامها الذي تنفرد به ومنزلتها الملحوظة التي لا تدانيها منزلة. وليس أصدق من فطرة الجماعات ولا أصح أو أدق من تقديرها لهذه الصلات بما تجريه على ألسنتها — عفوًا ومن غير تدبُّر — من العبارات الواسعة الدلالة العميقة المغزى.
٢
قال لي صاحب قديم خلطته بنفسي زمنًا: أصحيح هذا؟
قلت: ماذا؟
قال: هذا الذي كتبته عن عاطفة الأبوة.
قلت: وما سؤالك أنت، أإنكار هو أم أسلوب جديد في الإعراب عن الموافقة؟
قال: أما ما ذكرت عن عاطفة الإخاء وأنها لا تختلف عن الصداقة في أصولها، وأن الناس يفطنون إلى ذلك بالسليقة فينعتون الصديق بالأخ، فصحيح، وكذلك ما أشرت إليه من أعاجيب الوراثة قد تقضي إلى التنافر بين الأخوين.
قلت: إن التعادي قد يقع بين الأخوة حتى من غير أن يكون للوراثة دخل، وما أكثر الأسباب التي تؤدي إلى انفراج الحال ووقوع النَّبْوَة، كأن يكونوا من أم واحدة أو أب واحد — أي غير أشقاء — أو يكون أحدهم أكثر توفيقًا في الحياة، أو آثر عند أبويه وأحب إليهما. وأحسبك تذكر قصة يوسف — عليه السلام — وحسد إخوته له لأنه أحبُّ إلى أبيهم منهم: لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ * إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ.
وهذه الآية الكريمة تُريك كيف يتحدث الأخوة بقتل أخيهم ويأتمرون به ويتفقون على إلقائه في الجُب وتركه لمن عسى أن يلتقطه من المارة، ويذهب به إلى حيث يشاء من الأرض، ويبيعه أو يتخذه عبدًا له أو يصنع به ما يحب، كأنما لا يجري في عروقه نفس الدم الذي يجري في عروقهم، وكأنما لا تربطهم به صلة ولا تعطفهم عليه آصرة، وكل هذا لماذا؟ لأن أباهم فيما يرون أحنى عليه منه عليهم وأكثر شغفًا به ورقة له!
وأدل من ذلك وأولى بالملاحظة أن أباهم نفسه يدرك بفطرته السليمة وبإلهام حبه ليوسف، أن كون يوسف أخًا لهؤلاء ليس يمانعهم أن يسيئوا إليه ويكيدوا له غيرة وحسدًا، تأمَّل هذه الآية: إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ * قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ.
والتاريخ حافل بقصص الأمراء الذين لم يتحرجوا أن يقتلوا إخوانهم ليتبوءوا عروشهم أو ليحلوا محلهم في ولاية العهد أو ليتقوا تآمرهم عليهم، لا بل ليستولوا على زوجاتهم، وقلَّ أن يقتل الولد أباه، وأقل من ذلك وأندر أن يغتال الوالد ولده، وعلى أي شيء تدور قصة هاملت الخالدة؟ أليس محورها كله أن عمَّه اغتال أباه وأفرغ السُّم في أذنه وهو نائم في الحديقة، ليخلفه على الدولة، ثم لم يَرُعه شيء أن يتزوج مَن كانت امرأة أخيه؟ والناس لا يستفظعون أن يتخذ المرء زوجة أخيه زوجة له بعد أن يسرحها أو يموت عنها، ولكن ما أشد استفظاعهم لأن يبني المرء بمَن كانت زوجة لابنه وأفظع من ذلك أن يتزوج امرأة أبيه؛ لأنها في منزلة الأم، حتى لقد حرَّمت الشرائع ذلك، على حين كان المصريون يتزوجون الأخت ولست أذكر هذا إلا على أنه مظهر للشعور الفطري العام الذي تقوم على قاعدته الشرائع والقوانين، وتدور عليه الآداب الصادقة لا التقليدية المتكلفة.
قال صاحبي: هذا صحيح، ولكن ألا ترجع عاطفة الأبوة إلى أكثر من العادة والإلف؟
قلت: مَن قال إنها عادة ليس إلا؟
إن الشعور الأبوي مرجعه إلى غريزة حفظ النوع كالحُب، وأساسه في الرجل والمرأة واحد، غير أن الرجل أقوى تمثيلًا في حياته الفردية منه للنوعية، أعني بذلك أن غريزة حفظ الذات أقوى فيه من غريزة حفظ النوع، ذلك أنه هو الذي يتولى مكافحة الطبيعة بما فيها من قوى وكائنات من جنسه وغير جنسه، وهو المتكفِّل بالسعي والذي يتعرض بسبب هذا كله للأخطار، فلا غِنى له عن الاحتيال لدفعها بالقوة إذا تهيأ له ذلك، وبالحيلة والتدبير وحسن التصرف وما إلى ذلك إذا أعوزته المنة، والحياة ليست باللقمة السائغة فهو محتاج إلى مغالبة الصعاب ومعالجة تذليلها، وهو في كل خطوة يخطوها يصادف ما ينبِّه غريزة حفظ الذات أو صيانة النفس، ومن أجل هذا — كما قلت في «حصاد الهشيم» — صارت هذه الغريزة أقوى وأنضج وأسرع تنبهًا وأكثر عملًا؛ لأن حياته تجعل أعماله متصلة بها أكثر من اتصالها بغريزة حفظ النوع، وهو لذلك أحسُّ بها وأسرع تأثرًا من ناحيتها، ومن هنا كانت الأنانية في الرجل أظهر وأقوى. والعامة يلاحظون ذلك ويفطنون إليه ويذهبون فيما وضعوه من أمثالهم إلى أن الأم أحنى على طفلها من أبيه. وقد ترى الرجل يداعب طفله برهة أو ساعة، ولكنك قلَّ أن تجد رجلًا يقوى على ما تقوى عليه المرأة من ملازمة الطفل، والمثابرة على مداعبته والصبر على التحدث إليه، ومن توهم فَهْم ما لعله يرتسم على صفحة وجهه من الحركات أو يَنِد عنه من الأصوات، واحتمال ذلك وما هو أشق منه ساعة بعد أخرى، ويومًا بعد يوم، وشهرًا تلو شهر، وحولًا عقب حول.
أما المرأة فخُلقت للنوع قبل أن تُخلق لنفسها، وهي في سبيل النوع تحمل وتضع وتتعرض للموت الوَحَى ساعة يجيئها المخاض. وتكوين جسمها شاهد بأنها مجعولة أداة للنسل ووسيلة لحفظ النوع، ففي جوفها مكان مُعَد للجنين تحمله فيه تسعة أشهر كوامل، ولها ثديان يدُرَّان اللبن، وجسمها مركَّب بحيث يتحول الغذاء إلى لبن تُرضعه طفلها وتغذيه به حولًا كاملًا على الأقل.
فالعاطفة موجودة، ومردُّها عند الرجل والمرأة إلى هذه الغريزة النوعية، ولكن اختلاف الرجل والمرأة من حيث التكوين وما أعدتهما الطبيعة له، ومن حيث طبيعة الحياة يجعل هذه العاطفة أقوى في المرأة وأنضج منها في الرجل، ثم تجيء الصور الذهنية التي تحصل لكل منهما فتزيد هذه العاطفة وتضرمها. وهذه الصور عند المرأة حشد حاشد وبحر زاخر لا آخر له ولا نهاية، فهي لا يَسَعها إلا أن تذكر ما عانت في شهور الحمل وما جرَّبت في أطواره وأحست من حركات الجنين في جوفها، ثم ما كابدت من عذاب الوضع، وكم ألْف ألْف صورة تحصل في ذهنها بعد ذلك، مذ كان طفلها وليدًا إلى أن يشُبَّ عن الطوق ويدخل مداخل الرجال أو النساء، وكل حركة ومصة من ثديها وابتسامة ونظرة وتعبيسة وعولة وصوت ونهضة وعثرة وخطوة، كل ذلك منقوش على صفحة قلبها مرتسم على لوح صدرها مذخور في رأسها، وجوُّها حافل بهذا الطفل، وحياتها كلها دائرة عليه غير منفصلة عنه، وماضيها كان تمهيدًا له، وحاضرها مستغرق فيه، ومستقبلها آمال منوطة به، وأخلق بهذا أن يعيننا على تصور روعة الأمومة وعمقها وسعتها وانطواء كل أحساس فيها، وتسرب كل شعور إليها ومنها. ولما كان نصيب الرجل من هذه الصور التي تحصل في نفس المرأة أقل وأضأل، فلا عجب أن يكون غذاء العاطفة الأبوية أتفه جدًّا مما يغذي عاطفة الأمومة. وهل الحياة إلا الصور التي تحصل في الذهن؟
يقول ابن الرومي في رثاء ابنه:
إلى أن يقول:
ولم نورد القصيدة كلها وإن كانت أبياتها جميعًا من هذا الطبق الرفيع، وإنما اقتصرنا على ما فيه تمثيل لما نريد، والذي نريد هو أن «نمو» عاطفة الأبوة أو الأمومة رهن بالصورة الحاصلة في الذهن وبجهد النفس وبالأمل الناشئ. وفي هذه الأبيات المتخيَّرة صور عدة — صور قبلات يذكر الأب حلاوتها، وشمَّات لا تزال تتضوَّع إلى أنفه، وضمات لا يفتأ يحُسها، وملاعب للطفل وعين أبيه ترعاه وتلاحظه، وذكريات شتى يهيجها الغلامان اللذان أخطأهما الموت، بل كل شيء يهيج الشاعر إلى التذكر، وللمهد صورة وللَّحد أخرى، ولما كان للآمال فيه صور شتى ولما صار إليه في التراب صور غيرها، يتخيلها الشاعر ويتساءل عنها مشفقًا موجَعًا فيقول:
ولصحته صور محبَّبة ولسقامه وذبوله وما أصابه من النزف وذواه على الأيدي، صور تكوي الفؤاد وتلعج القلب، وللمحاته وبشائرها وأفعاله وما كان يأنس منها، وللرجاء فيه والفرح به وانتظار ما سيكون عليه ويصير إليه، لكل ذلك صوره العالقة بالنفس المتشبثة بالضمير، وهكذا إلى غير نهاية. وأين تكون نهاية هذا العالم الحافل بالذكريات المحشودة الزمر؟ وما ظنك بالأم وعالمها أحفل، وزمر ذكرياتها أحشد!
والذين تتحول هذه العاطفة الأبوية في نفوسهم إلى مجرى آخر، أعني الذين يتبنون الآداب أو الفنون أو العلوم أو ما شاكل ذلك، يستغرقهم حُب ما انصرفوا إليه وتخلوا له، ويدري الناس مبلغ استغراق ذلك لنفوسهم واستيلائه على هواهم فيعجبون ويَعُدونه شذوذًا ويحصونه عليهم، ولو أنهم فكَّروا في أنهم اعتاضوا من الأبناء هذا الذي شغفوا به، وأنها هي عاطفة الأبوة في صورة أخرى ومظهر جديد، لما بدا لهم في أمرهم وجه غرابة أو شذوذ، ومَن الذي يستغرب من الأب حُب بنيه ووقف حياته عليهم وإفراغ جهده في سبيلهم وقصر سعيه على خدماتهم؟ لا أحد! بل هذا هو المعقول، فممَ يدهشون ويعجبون حين تلبس هذه العاطفة ثوبًا آخر أو تتدفق في مجرى جديد أو تتخذ صورة غير المألوفة؟