كيف كنتُ عفريتًا من الجن
كان ذلك وأنا فتى يافع أسوم كل سرح، وأنهز بكل دلو، ولا أفكر في غير الساعة التي أكون فيها، ولا أبغي إلا أن أستوفي حظي في الحياة، وأن أستوثق من أن كرعتي منها راوية. وفي ليلة من ليالي الصيف الحميدة، ثنَّيت الخطا إلى البيت — وكان في حي «الصليبة» — بعد أن قضيت وطري من شراب وسماع، فلما بلغته ووقفت على عتبته، ذكرت أن ليس به أحد سوى جدتي التي أوفت على التسعين، وأن المفتاح ليس معي، فقلت لنفسي «أيليق أن أزعج الجدة وهي تقوم مجهدة ولا تسير إلا إلى جانب الحيطان لتضع يدها عليها وتسند نفسها؟ كلَّا، أولى بي أن أدعها مستريحة وأن ألحق ببقية الأسرة — أمي وأخي — والجو رائق والمشي منعش.»
وأوليت الباب ظهري وانصرفت. ولم يكن الطريق إلى الإمام، في تلك الأيام معبَّدًا، ولا ترام هنا ولا نور، فليس طريق بأحسن أو آثر من طريق، فاخترت أقصر مسلك وهو الذي يمر بمسجد «السيدة نفيسة» ويخترق المقابر المبعثرة وراءه، ويتصل بالطريق العام المطروق عند آخره ومضيت أخبط فيه، وأتخبط أيضًا؛ لأن كثرة المقابر وانتثارها وتزاحمها تُضِلُّ ولا سيما في الظلام، غير أني لم أكترث لذلك ولا فكَّرت فيه، وفوَّضت الأمر لرجلَيَّ تَدِبَّان حيث ألِفتا أن تدِبَّا في أوقات شتَّى من النهار والليل، وانطلقت أفكر فيما كنت فيه، وأردد فيما راقني سماعه وأُرجِّع ما شجاني من الأنغام، وأعيتني «مقطوعة» وأحسست أن المشي لا يعينني على ضبط الصوت فيها وإخراجها كما ينبغي، فوقفت وأسندت ظهري إلى قبر وذهبت أغني، وهي صورة لا تزال ماثلة بذهني إلى هذه الساعة وإن كنت في ليلتي تلك لم ألتفت إليها، ولا جعلت بالي لها، وكيف يعبأ شاب ثَمِلٌ بالقبور وما انطبقت عليه؟! وعلى أنه متى كان المرء في صدر العمر يفكر في الموت على أنه حقيقة قريبة لا مهرب منها ولا معدَى عن مواجهتها؟ إن الإنسان منَّا ينظر في شبابه إلى الموت — حين يجريه شيءٌ بباله — كما ينظر إلى شيء وراء الجبل، لا يفهمه ولا يدركه ولا يعرف كُنْهه ولا يتصوره إلا على أنه المجهول البعيد. ويشغله صعود الجبل وما يلقاه على هذا الجانب منه، وما يفتنه وهو يتوغل حتى يدنو من القمة، فتتزاحم في رأسه الخواطر والتكهنات عما وراء هذه الرُّبَاوة التي قضى الشطر الجميل من حياته في الصعود إليها، ويَحضُر إلى ذهنه شيئًا فشيئًا معنى الموت ومؤداه، ثم يستبد بخاطره ولا يخاطره، ويكون الإصعاد قد هدَّ القوى كثيرًا وأنهك الجسم فيتبلد إلى حد كبير من فرط التعب، ويواجه فكرة الموت في شيء من الذهول يذهب برهبة الفَناء ويَسلُبه الفزع.
وقفت إذن أُغنِّي على القبر وأرسل الصوت في ظلمة الليل غير حافل بما حولي من القبور المتزاحمة أو عابئ بما تحتي من الرُّفات الدَّفين. رفات قوم كانوا مثلي في مِيعَة العمر وعُنفوان الحياة وجهل الشباب يمرحون ويُغنُّون ولا يفكِّرون فيما يصير إليه كل حي من الفناء الشامل. وما فتئتُ على هذه الساعة أعجب لذهولي إذ ذاك عن الموت وأنا في وسط لجته الراكدة. إن الشباب رحمة، وكيف كانت الحياة تكون لو أن فكرة الموت كانت تخامر النفس من المهد إلى اللحد؟ كان حريًّا بها إذن ألا تُطاق وكان خليقًا بالمرء أن يكفَّ عن كل سعي، وأن ينفُض يده من كل جهد يبذله في سبيل أية غاية بالغة ما بلغت من السمو والفتنة، وما خير الحياة أو جدوى المساعي أو عزاء الغايات وهذه الهاوية مفتوحة لابتلاع الإنسان؟ إن الموت هو اليأس، ومن رحمة الله بالخلق أن الحياة أقوى، وأن إحساس المرء بها أعظم، وأن وقعها في نفسه أشفع وأن استيلاءها عليه أتم، والشباب قوة دافقة، والحياة معه تكون جديدة، فلها كل حلاوة الجِدَّة وسِحْرها، ولكنها في الكهولة تكون شيئًا مألوفًا وتجارب معهودة معادة، ومن هنا لا يَحُسُّ الإنسان بالفزع حين يخطر له أنه سيكُف عن هذه الحياة التي ظل يذوقها حتى كاد يحتويها، ولولا أن الحياة عادةٌ ككل شيء في الدنيا، وأن المرء يألَف أن يعيش وأن يتنفس الهواء لما استثقل أن يموت وأن ينقطع عن الدنيا، فالعادة والخيال الذي ينمو مع العمر، والإحساس بالنفس، هذا هو الذي يجعل الموت صعبًا وتجعل لمفارقة الحياة ألمًا. وعلى خلاف ذلك الأطفال والحيوان.
وبينما أنا واقف أُغنِّي لمحت شبحًا مقبلًا ولم أشُكَّ في أنه رجل، فما تجرؤ المرأة — إلا في الندرة القليلة — أن تسير بين القبور في الليل فكففت عن الغناء وساورتني الشكوك. وخطر لي أن القادم قد يكون لصًّا، وقد لا يكون ذلك، ولكن وحشة المكان وسكون الليل قد يغريانه بالتلصص. غير أني طمأنت نفسي، وقلت — وماذا أخشى وليس معي شيء يستحِق السَّرقة؟ إن هي إلا بضعة قروش لا تغنيه إذا فاز بها، ولا تفقرني إذا خسرتها، وأنا بعدُ خفيف الوزن سريع العدو وعارف بالمداخل والمخارج، وما أحسبه يستطيع أن يدركني إذا أطلقت ساقي للريح، فلا خوف من القادم، وليكن مَن يشاء، وليس من الحكمة أن أدع الخوف يشيع في نفسي فتظهر دلائله في صوتي وحركاتي، فيُطمِعه ذلك فيَّ إن كان رجلَ سوء، على أن الحَزامة مع ذلك أن أتوارى خلف قبر منزوٍ، لأراه دون أن يراني، ولا أعرف ماذا هو، وليَسِر أمامي وأكون أنا وراءه فذلك أدعى إلى الاطمئنان.
ودنا القادم فإذا هو شيخ كهل، أبيض اللحية وفي يده سُبْحة، وهو يذكر الله أو يتلو من القرآن أو لا أدري ماذا كان يتمتم، وبأي كلام كان يحرِّك شفتيه، فغاظني أن هذا الشيخ الضعيف قد أفزعني، وكأنما تحركت نفسي للانتقام منه، فغافلته في بعض الطريق وظهرت له فجأة من وراء قبر، فرِيع المسكين وكاد يتهافت إلى الأرض، وأسرعتُ فتواريتُ وعُدتُ أدراجي مسافة قبر أو قبرين — أي بضعة أمتار — وكان الرجل يتلفَّت حوله فلا يُبصِر شيئًا ولا يسمع حسًّا فشد بعضه إلى بعض وتَفَل يَمْنةً ويَسْرةً ورفع صوته باستعاذة من كل شيطان رجيم، واستأنف التلاوة والسير، وأنا أتسلل بين القبور وراءه، وصارت خطاه أسرع، فأدركت أن الخوف لا يزال في قلبه، ووثبت إلى جانبه مرة أخرى، ومددت يدي بخفة فجذبت شعر لحيته فصرخ واختفيت، ودُرت من وراء القبور فسبقته وأنا أكاد أُجنُّ من السرور والجَذَل، وصدري يكاد ينفجر بالضحك المكتوم، وصبرت حتى مرَّ بي فدفعت يدي إلى خَصْره ودغدغتُه، فأُقسِم لقد وثب الرجل عن الأرض كأنما كنت قد غرزت في جنبه سيفًا أو حديدًا محميًّا ورأيت فرصتي سانحة؛ فقد بلغ الاضطراب بالرجل غايته، وصار يخلط في كلامه كالذي لا يعي ما يقول، فكان يصيح «أعوذ بالله من …» من فرط ما أصابه من الفزع. وجئته من ورائه ورفعت صوتي بالزمزمة وبكل ما أستطيع إخراجه من الأصوات المنكَرة فانطلق الرجل يعدو!
وهكذا أفلت مني … وكنت قد تعِبت فلم أحاول أن ألحق به، فمشيت متمهلًا ونفضت التراب عن ثيابي وخرجت إلى الطريق العام المطروق وبعد قليل — ربع ساعة أو نحو ذلك — بلغت مسجد الإمام الشافعي، وكان المؤذن يمهِّد للأذان بغناء سخيف، والناس يخرجون إلى المسجد ليتهيئوا لصلاة الفجر، فرأيت جماعة يحيطون بصاحبي الشيخ وهو يقول لهم: «وكان كالقط الأسود، يثب على كتفي ويلحس لي خدي وينفذ من بين رِجلَي، ويدخل بين الجُبة والقفطان، وكنت أستعيذ بالله فتنشق الأرض ويغيب في جوفها، ولكنه كان يعود فيظهر لي أحيانًا في صورة الدُّبة راكضًا على يديه ورجليه، وأحيانًا أخرى في مثل كفن الميت خارجًا من تحت أحجار القبر، وقد تمزق اللثام عن وجهه وبرزت عيناه تقدحان بالشرر فأتلو ما تيسر من القرآن فيلتفُّ الوجه في خِرقة ويهوي الجسم إلى جَدَثه. ولست أنسى ما حييت أسنانه! لقد كانت كالجمرات لامعة حمراء وكانت تضطرب في فمه وتخفق كالنجوم والحمد لله الذي أنجاني من عِناقه …»
فقال أحدهم: «أتُراه همَّ أن يعانقك؟»
فقال الشيخ: «همَّ؟ همَّ يعني ماذا؟ أقول لك: إنه مدَّ ذراعين كأنهما مِئذنتين ودنا مني ليطوقني بهما، ولمع الشوك الذي في صدره كأسنان الحراب فلولا أن ألهمني الله أن أقرأ آية الكرسي لكنت أنا الذي مُتُّ.»
قال آخر: وهل مات؟ غريب!
فقال الشيخ: «لقد احترق، أحرقتْه آية الكرسي. ثم استأنفت السير حتى بلغت هذا الطريق عند …»
ودار بوجهه ليشير إلى المكان الذي نفذ منه إلى الطريق العام فأبصرني وراءه فاضطرب وصاح وهو يشير إليَّ بيديه: «أهه. أهه … أهو …»
فلم يفهم أحد سواي معنى صيحته وإشارته، ورددت الضحك الذي ازدحم في حلقي والتفتُّ ورائي، كأنما أريد أن أنظر إلى حيث يشير، وكان الرجل يتراجع ويلصق بالناس فسأله بعضهم: «أين؟ إنَّا لا نرى شيئًا!»
فمسح الشيخ وجهه بكفه وفاء إلى الهدوء وقال: «غريب! غريب! إن هذا الأفندي يشبهه جدًّا.»
فلم أرَ مانعًا من الضحك وقلت: «أترى لي وجه عِفريت؟»
وكان بين الواقفين رجل أعرفه ذكيًّا خبيثًا ويظهر أن الشك خالجه في الحكاية أو أنه فطِن إلى بعض الحقيقة فقال لي: «اسمع. مِن أين جئت؟»
قلت، وقد أدركت ما يرمي إليه: «جئت من هذا الطريق.»
وكان هذا كذبًا أو بعض الحقيقة. ولكني خِفتُ أن يجرَّ الصدق عليَّ الفضيحة. فعاد يسأل: «هل جئت من السيدة نفيسة أو من القلعة.»
قلت: «من القلعة ولا شك. ومَن الذي يجرؤ أن يمشي بين القبور؟» فتمتم شيئًا لم أسمعه ومضى عني ونجوت.
وهكذا عرفت أني كنت في ليلتي عفريتًا من الجن!