الحقائق البارزة في حياتي
تمهيد: حدث منذ عامين، أو نحو ذلك … أن حرمت الجريدة التي كنت أتولى رياسة التحرير فيها، حقًّا، ولا داعي هنا لبيان الموضوع فقد مضى أوانه، وليس هذا على كل حال محله، فكتبت على أثر ذلك مقالًا قويًّا — أو لعل الأصح أن أقول: إنه عنيف — نقلتْه صحيفة فرنسية بفصه ونصه، وبعد يوم وجدت على مكتبي بطاقة «دكتور» يراسل صحيفة نمسوية وكلامًا في ظهر البطاقة حسبته في أول الأمر ألمانيًّا، ثم قيل لي إنه فرنسي، ثم تبين أنه إنجليزي، فاقتنعت ولم أواصل البحث مخافة أن يتضح أنه عربي وأوجز فأقول: إني استقبلت الزميل الفاضل في مكتبي في الساعة التي اتفقنا عليها تليفونيًّا. ولم يتجاوز الفرق بين ما فهمته أنا وما فهمه هو أربع ساعات لا أكثر، فكنت أنا جالسًا أمام مكتبي في الساعة الثالثة مساء ووافاني هو في الساعة السابعة مقدمًا بين يديه اعتذاره من حضوره قبل الموعد بنصف ساعة، ودار الحديث بيننا فأفضيتُ إليه بجواب ما أعتقد مخلصًا أنه سألني عنه، وبإيضاح ما أشكل عليه فَهْمه من موضوع الخلاف السياسي ومواقف الأحزاب في ذلك الوقت وما إلى ذلك مما يتصل به من قريب أو بعيد، واعتقدت أن الأمر انتهى عند هذا الحد ولم يخالجني شك في أن الله أرحم من أن يبلوني بحديث آخر.
ولكن المقادير جرت — لسوء الحظ أو لحسنه — بغير ذلك، فعاد الدكتور الفاضل يرجو مني شيئًا آخر لا أقل من أن أتفضل عليه بترجمتي أو تاريخ حياتي، وكان الدكتور أظرف وأكبر من أن أرفض له طلبًا، ولكن تاريخ حياتي! … تصوَّر هذا؟ فأحلته أولًا على ترجمة كنت قد كتبتها منذ سنوات تمهيدًا لمختارات من شعري، وقد نُشر ذلك كله في كتاب «شعراء العصر»، ولكنه اعتذر وقال إنه فَهِم من كلامي أن الترجمة مكتوبة باللغة العربية وأن الكتاب مطبوع في سوريا، ووقته أضيق من أن يسمح له بالسفر إلى ذلك القطر وإن كان لا شك عنده في أنه لو تيسَّر له السفر لألفى الترجمة التي أشير إليها وافية بالغرض، ثم تفضل فذكر لي أنه علم من بعض مَن اتصلت أسبابه بأسبابهم من المصريين أني من رجال المدرسة الحديثة في الأدب، وأن هذا هو الباعث له على الإلحاح عليَّ في الرجاء أن أوافيه بترجمتي، فسرني هذا ورأيت فيه فرصة لانتشار اسمي إلى ما وراء مصر واستفاضة ذكري على ألسنة الغربيين. وتوقعت بعد أن أجيبه إلى سؤاله أن يتقدَّم إليَّ واحد أو اثنان أو ثلاثة من ناشري الكتب في أوروبا يطلبون السماح لهم بترجمة كتبي وإذاعتها في العالم الغربي، فلا يعود المازني بعدُ محتاجًا إلى وظيفة ثقيلة مضنية كرياسة التحرير في صحيفة يومية. ففركت يدي مغتبطًا وقلت له: إني طوع أمره ورهن مشيئته، ولكن بي حاجة إلى يوم أو يومين أجمع فيهما الحقائق البارزة وأحضرها إلى ذهني استعدادًا للإجابة، وفي اليوم المعيَّن تلاقينا فدار بيننا الحديث الآتي:
(فبدا عليه الاهتمام ورفع سن القلم عن الورقة ومنحني أذنه — واحترامه أيضًا — وقال، وقد رأى سكوتي ريثما يتم أُهبته: «إني مُصغٍ.»)
(فوقع القلم من بين أصابعه وهوت يده إلى جانبه وخُيل إليَّ لحظة أنه سيسقط عن كرسيه عجزًا عن احتمال كل هذا المجد، وسرني أن أرى فعل كلامي في نفسه، ولكنها لم تكن سوى لحظة ثم نهض فجأة ومد إليَّ يده، فنهضتُ مثله ومددتُ له يدي وقد ظننت أنه سيستأذن، غير أنه خيَّب أملي وقال):
(فهززت يده سرورًا بهذه القربى، وقلت):
(فلم يعجبني أن يحشر نفسه في أسرتي بعد أن أخرجته منها ونويت ألا أعُده — فيما بيني وبين نفسي — إلا من سلالة معاتيق جدي قابيل، بيد أني كتمت هذا وقلت مقاطعًا له):
ومن مشاهيرهم: هلال بن الأسعر المازني، كان رجلًا فيه فكاهة عملية وكان يحلو له أن يركب الناس بالدعاية، فكان يشحذ سيفه القديم ويخرج في الظلام فإذا مر به أحد شكه بالسيف في بطنه، فيثب ثم يقع على الأرض فيُغرب جَدي في الضحك ويذهب إليه ويلاطفه ويخفِّف عنه حمله، ألا لقد كان مفطورًا على الفكاهة.
ومن أكرمهم أيضًا: مسعود بن حرشة المازني، كان شديد العطف على الناس والمرثية لهم فعاش عمره لا عمل له إلا إراحة إخوانه في الإنسانية من الإبل ومما يحملون، ولكن حسَّاد فضله وشوا به لعامل الخليفة فقطع له نصفه الأعلى وعلَّقه في مكان ظاهر في سوق كبير، وأتاح له بذلك أن يشرف على الناس ويتأملهم زمنًا كافيًا.
(فلم أرتَح إلى هذه المقاطعة التي لا شك عندي في أن الحسد هو المُغرِي بها. كنت أريد أن أغمره بسيل من هذه الحقائق التي ترفع الرأس وتطيل القامة، غير أني قدَّرت أن الفرصة لم تضِع، وأنها لا محالة سانحة، فقلت له: تفضل.)
(ورأيت فرصتي سانحة فاغتنمتها لأكر إلى مجد أجدادي فقلت):
(فاغتنمت هذه الفرصة لأطيِّر له صوابه.)
(فضحك وقال: مات ودُفن فماذا تريد؟ أظن أن المسألة واضحة جدًّا فماذا يحيرك فيها؟)
(فانطلق يقهقه كأنما كان في جوفه رعد مخزون وصبرتُ عليه حتى فرغتْ الذخيرة، ثم قلت له بلهجة غريبة مرعبة: «هل تستطيع إذا قصصت عليك القصة وأفضيت إليك بالسر أن تنبئني عمن يحدثك الآن، أهو المازني أم مَن كان ينبغي أن يكون خادمه وإن كان أخاه في الرضاعة؟»)
(فارتبك وبدت عليه دلائل الحَيرة والدهشة وعلا وجهه السهوم. فاغتبطتُ وأقسمتُ لأزيدنه ارتباكًا ولأطيرنَّ من رأسه هذا الولع بتراجم الناس، فقلت: «اسمع يا صاحبي، لقد كان لمرضعتي طفل في مثل سني وكان شديد الشبه بي، وكان يلبس من ثيابي فيزيد الأمر بيننا اختلاطًا، وما أكثر مَن كان يتوهم أننا توءمان، وكثيرًا ما كان يقضي هذا الولد لياليه في غرفتي على أنه أنا، بينما أكون أنا نائمًا مع الخادمة، وهكذا نشأنا، فشببت أنا على أنني المازني وشبَّ هو على أنه الخادم، وقد يكون الأمر على خلاف ذلك، وما يدريني ويدريك أن الأمر لم يختلط على ظئري وهي تغسلنا في الحمام؟ ولا أطيل. كبرنا نحن الاثنين، المازني وخادمه محمد، أو محمد وخادمه المازني، فما أدري الآن مَن أنا على التحقيق؟ كبرنا إذن وسرق الخادم مرة من الجار فحُبس لذلك بضعة شهور لا أذكر عددها، وعسى أن يكون المازني هو الذي سرق وحُبس خادمه، ربما، ولكن هذا لا قيمة له، فكثيرًا ما كنت أنا أُخطِئ ويُضرب خادمي عني، أو بعبارة أخرى ربما كانت أصحَّ وأقرب إلى الحقيقة، كثيرًا ما كان هو يُخطِئ وأُضرَب أنا عنه، هذا إذا ذهبنا نعتبر الخلط الذي لعله أصاب عنوانينا أو اسمينا.»)
(فأبرقت أسارير وجهه ولمع السرور في عينيه وقال: لا أحسبك تضن عليَّ بحل هذا اللغز بعد أن أوجعت رأسي بعقده؟)
فنهض وانحنى وقال: «أشكرك.»
ولم أرَ بعد ذلك وجهه.