من ذكريات الصبا: بين رجال الليل
وكنت أعرف من الكتب أن هناك «دُبَّين» واحد منهما أكبر من زميله، ولكني لم أوفق إلى رؤيتهما في هذا التيه السماوي إلا منذ عهد قريب، وكان شكي يومئذٍ في وجودهما عظيمًا، ولكنه شكٌّ لم أكن أدعَه يندُّ عن صدري إلى لساني ولاسيما إذا كان أحد من المدرسين حاضرًا، تلك جرأة كنت قد تعلمتُ ضبطها وكتمانها بعد أن جرَّت عليَّ ما لا أزال — كلما تذكرت — أرى يدي ترتفع إلى خدي. وشَرْحُ ذلك أنَّا كنا نطالع كتابًا نسيتُ اسمه، فمرتْ بنا هذه الجملة المشهورة: «إن المضطرَّ يركب الصعب من الأمور وهو عالم بركوبه» وأخذ المدرس يضرب الأمثال، فكبر في عيني هذا «المضطر» الذي يبلغ من مخاطرته ألا يركب إلا الصعب «ويتعمد ذلك» ولا يعبأ شيئًا بالأهوال التي يقذف بنفسه عليها، وأعجبتني هذه الشجاعة وملأت نفسي إجلالًا له، فاشتقت أن أراه وعانيت من إلحاح هذا الشوق أشد البَرْح، فلم يكد المدرس يفرغ من الشرح — وكنت في شغل عنه بتصور «المضطر» وتمثل «الصعب» الذي يُركب — حتى وثبتُ عن الدرج كالقذيفة وقلت بلا استئذان: «أفندي! أفندي!»
فتغاضى المدرس عن مخالفتي للأصول المرعية وقال لي وعلى فمه ابتسامة الراضي عن نفسه المطمئن إلى بلوغ غايته من الإيضاح والبيان: «نعم يا عبد القادر؟»
فجازيته ابتسامًا بابتسام ولم أكن أقل منه رضًا عن نفسي وفرحًا بالانفراد — دون بقية التلاميذ — بهذه الرغبة الملحة، واغتباطًا بشجاعة النهوض بلا استئذان للإعراب عنها فقلت: «أين يعيش المضطر؟»
فتجهَّم وجهه وانزوى ما بين عينيه وطالعتني أمارات الغضب حسبتها دلائل حيرة، فأسفت لتقدمي بهذا السؤال وإحراجي إياه به أمام التلاميذ وقلت لنفسي: إن معلمنا هذا معذور إذا جهل مكان «المضطر» واستعصى عليه الجواب، وأنَّى له أن يعرف — وهو رجل عادي — ذلك «المضطر» الذي لا يبالي بالصعب ويأبى إلا أن يركبه؟ وانتبهت من هذه المناجاة، التي يظهر أنها طالت أكثر مما ينبغي، على التلاميذ يدفعونني وعلى المدرس يصيح بي. «أقول لك تعالَ هنا، ألا تسمع؟»
فلم أدَع الابتسام وذهبت إليه وأنا أقول لنفسي: «سيعاتبني الآن على تسرعي وعدم انتظاري انتهاء الدرس لأسأله على انفراد، وسيهمس في أذني عتابه فأهمس في أذنه اعتذاري وأنتظر.»
«ماذا تقول؟» بصوت عالٍ.
ولم يكن هذا ما توقعته فارتبكتُ، وحدثت نفسي أن هذا مأزق ظريف. أرجو أن أنقذ الرجل ويأبى هو إلا أن يغرق، ورفعت له وجهًا يستطيع أن يقرأ فيه إذا لم يكن أعمى، أني آسف وأني مدرك خطئي وكان عليه أن يُخفِض صوته قليلًا، ولكنه لم يحفل رجائي وتوسلي فصرخ مرة أخرى: «ماذا تقول؟ أجب.»
فالتفتُّ إلى التلاميذ كالذي يريد أن يقول: أتسمعون هذا المجنون؟ لستُ ملومًا إذن وأنتم شهودي. ولكني لم أكد أرد وجهي إليه حتى خطر لي كوميض البرق أنه لعله لم يسمع سؤالي فهو يجهل مداه ومبلغ ما ينطوي عليه من الخطر على سمعته ومركزه بين التلاميذ. واستولى عليَّ هذا الخاطر فسرَّني أن فرصة الإنقاذ لم تضِع، فشببتُ عن الأرض ورأيت يُمناي تمتد إلى كتفه لتدنوَ بأذنه إلى فمي، وإذا بي على الأرض أقيسُها إلى آخر الفصل دائرًا حول نفسي ومتخذًا رأسي محورًا، وقعدت أبكي وبي من الغيظ والحقد أكثر مما بي من الألم، ولكن المدرس كان قد لحق بي فكتمت الغيظ ورفعت طبقة البكاء فجأة حتى صار إعوالًا، فجعل يصيح بي: «اخرس يا كلب اخرس. أقول لك اخرس.»
ويشفع كل كلمة بلطمة أو لكمة فأزداد إعوالًا.
ويظهر أن هذا الصخب نبَّه «الناظر» — وكانت غرفته قريبة منا — فدخل علينا ورأى المدرس متلبسًا بجريمة الضرب — وهي محرمة — وكان الناظر رجلًا طيبًا ساذجًا يخرج الكلام من أنفه أخنَّ أغنَّ ممطوطًا لينًا، وكان صديقًا لأبي — أعني قبل موته — وحديث عهد بالبكوية، وكانت لي عليه دالة بفضل تملقي «بكويته» لا بفضل صداقته لأبي، وكان التلاميذ يعرفون لي هذه الدالة فإذا أرادوا شيئًا بعثوا بي إليه. أوفدوني إليه مرة.
فقلت: «يا سعادة البك. نريد أن تأذن سعادتك لنا في الذهاب إلى حديقة الحيوانات.»
فاعتدل في مقعده وهزَّ رأسه وهو يقول: «حونات. حونات إيه يا ابني. أسد فك السلاسل نهش عيِّل منكم نبقى نقول يا مين؟ يا ابني يا عبد القادر لا.»
فاقتنعت واقتنع التلاميذ بأن الذهاب إلى حديقة الحيوانات خطر ليس بعده خطر. ولا أذكر أني دخلتها إلا بعد أن صرت مدرسًا في المدرسة السعيدية الثانوية وعلى مقربة منها، وإلا بعد أن تحققت أن الأسود تُحبس في أقفاص ولا تُربط بالسلاسل — إن صح أنها كانت تُربط — كما كان الحال على عهد ناظرنا طيب القلب …
وأعود إلى «المضطر» وقصتي معه فأقول بإيجاز: إن المدرس — على الرغم من اعتدائه عليَّ وعلى القانون ممثلًا في شخصي المحطم المجرَّح — زعم أني هممت بصفعه. يا للكذب! وأصرَّ على وجوب طردي من المدرسة. ولم تُجدِ دموعي ولا ما أقسمت من الأيمان على أني لم أرتكب هذه الجريمة التي لم تخطر لي على بال قط، وأنني ما أردت إلا الاستفسار عن مكان «المضطر» لأراه، وشهد التلاميذ الملاعين أني رفعت يدي إلى كتف المعلم، فأيقنت أني ضائع لا محالة، ويئست فكففت عن البكاء، وقلت: «أتلقى هذا الظلم بما يستحقه من الاشمئزاز والاحتقار.» وجرني الناظر معه إلى غرفته وشرع يسألني في هدوء وعطف فسردتُ عليه القصة على حقيقتها ورأيت فرصتي سانحة فاغتنمتها وأكثرت من «سعادة البك»، وأضفت من عندي كذبة صغيرة فزعمت أن المعلم شتم أبي، وأبي — كما يعلم سعادة البك الناظر — ميت. وفعل التملقُ والأكذوبة فعلهما الذي توقعت فنهض سعادة البك وقال لي بصوت خفيض: «اسمع يا ابني أطردك من باب تيجي من باب. فاهم؟»
قلت: «نعم يا سعادة البك»، فتركني وخرج وأسرَّ شيئًا إلى فرَّاش بينما كنت أتوثَّب في الغرفة وأطوي يدي ورجلي في الهواء من فرط الفرح، ثم ناداني فخرجت وبعد قليل حضر المدرس أيضًا فمضى بنا جميعًا إلى الباب الكبير — وكان هناك باب آخر — وقال: «يا عم محمد. افتح البوابة. اخرج من مدرستي. امشِ من هنا. مبسوط بقى يا عم الشيخ …؟» هذا للمدرس.
ولا يحتاج القارئ أن أقول له إني درت ودخلت المدرسة من الباب الثاني، وإن المدرس وجدني جالسًا على درجي في اليوم التالي، ولكن القارئ قد ينقصه أن يعلم أن المدرس عاد إلى الشكوى فقال له الناظر: «وماذا أعمل إذا كان هؤلاء الأولاد كالعفاريت ربما كان قد هبط إلى فناء المدرسة من فوق سطوح الجيران.»
والآن إلى اللصوص بعد هذا الاستطراد الطويل الذي دعتْ إليه المناسبة العارضة، مناسبة الذكرى الأليمة.
فأسرعت ورددت رأسي وتواريت خلف الصخرة التي كانوا جالسين إليها من الناحية الأخرى. وجلست أفكر وقد شاع فيَّ الرعب وكادت عيناي تخرجان. غير أني لم ألبث أن سمعتهم يغنون ويتضاحكون فعاد إليَّ بعض ما عَزَب من الطمأنينة، وتشجعت فدنوت من حرف الصخرة وجعلت أبرز من وجهي بقدر وأخفي بقدر، فألفيتهم على بضعة أمتار، نحوَ عشرة، منهم الضخم الهائل الأنحاء والطويل الهزيل والقصير والبدين، وكان أحدهم يغني والباقون يصخبون حوله ويضحكون ويتندرون عليه ويُركِبونه بألذع أنواع المجون. ويظهر أن هذا استفزه وأحنقه فانتفض عن الأرض ومضى يلعنهم ويقذفهم بأقبح النعوت، فهموا به جميعًا ولكن رجلًا ضخمًا من بينهم حسبته فيلًا صغيرًا صدَّهم وأهاب بهم أن «دعوه لي فإنه طعامي الليلة.»
فعلقتُ أنا أنفاسي وقد ملأ الرعب والإعجاب والسرور قلبي، الرعب مما سمعتُ ورأيتُ، والإعجاب بقوته وحذقه، والسرور بما أنا موشك أن أراه بين المتنازلين، وحدثتُ نفسي أني سأشهد منظرًا لن أنساه ما حييت، منظرًا ينطوي — من دواعي الإعجاب والإجلال — على أعظم وأهول مما ينطوي عليه ركوب ذلك «المضطر» للصعب من الأمور.
ثم نهض الذي كان يغني وكانوا يسخرون منه، وفي يده «نبوته» لا كما ننهض نحن أبناء آدم، بل كما يطير النسر عن الصخرة، وهوى على نبوته قائمًا على الأرض وهو معتمد عليه ببطنه وناشر يديه ورجليه في الفضاء طلبًا للاتزان، ثم وثب بين صيحات الإعجاب وانطلق يضرب في الهواء بنبوته كما صنع زميله، ويقول كلامًا كهذا: «احنُوا ظهوركم لركوبي ولا تنظروا إليَّ بعيونكم فتذهلوا، إني أحُكُّ جِلدَ رأسي بالبرق، وأُنيِّم نفسي بالرعد، وأُروِّح على وجهي بالعواصف، وإذا ظمئتُ مصصتُ السحاب وإذا جعتُ سار القحط في ركابي. واتقوا أن تنظروا إليَّ فتُبهتوا! إني أحجب الشمس بكفي وأقدُّ من القمر قطعة فينتهي الشهر، وأرتجُّ لِتندكَّ الجبال، احنُوا الظهور لأبي الخوارق!»
فصارت روحي في فمي. ونهض الأول وذهبا يتوثبان ويضربان الهواء بنبوتيهما ويصرخان كالشيطان ويتسابَّان بأوجع الكلام حتى غلى الدم في رأسي أنا، وأيقنتُ أن الدماء ستكون أمامي بركة. ثم طيَّر الأول عمامة الثاني بنبوته، فقلتُ قد صرنا إلى الجِد الرائع فالتقطها الثاني بنبوته أيضًا، وضرب عمامة الأول فأطارها عن رأسه فوقعت قريبًا مني، فجرى الأول في أثرها وتناولها وقال «لا بأس، دقة بدقة والبادي أظلم، ولكن هذا لن يكون آخر ما بيننا، فخير لك أن تكون على حذر وأن تجنب طريقي فإني لا أصفح ولا أرحم، وسيأتي اليوم الذي تكفِّر فيه عن ذلك بدمك.»
فقال الثاني — أبو الخوارق — إنه مستعد لذلك اليوم، وإنه يُنذِر الأولَ من الآن، فإنه لن يستريح ولن يهدأ له بال إلا إذا خاض برجليه في دمه، وأنه يدعه الآن إكرامًا لأولاده الصغار. وهمَّ كلاهما أن يذهب في طريق، وكانا لا يزالان يتقاذفان بالوعيد والشتائم، ولكن رجلًا قميء الجسم — بالقياس إلى هذين الفيلين — قفز وصاح بهما: «قفا لعنة الله عليكما من جبانين، وإلا أطعمتكما هذه العصا.»
ولم يكذب فقد جذب كلًّا منهما بذراع قوية أطعمه التراب، ثم أوسعهما ركلًا برجليه حتى أشبعهما تمريغًا وضربًا، ولم تمضِ دقائق حتى انقلبا كلبين ذليلين عند قدميه. فدوَّى الفضاء بضحكات الجالسين وتهكماتهم، وعانيتُ الأمرين من كتمان الضحك.
وبدا لي أن قد آن أن أفكر في الرجوع والهروب من هذه الحيرة، ولكن أحد الذليلين — وأحسبه أبا الخوارق — قام ليغسل وجهه ويديه في العين فرآني، فوقف وصاح «هوا مَن هذا؟» ووثب الباقون فكانوا حولي في أسرع من لمح البصر، وقبل أن أفكر في جواب. وتصايحوا بي فقال الأول: ماذا تفعل هنا؟ قل وإلا أغرقناك في العين.
وقال الآخر: شدوا رجليه ومزِّقوه!
وقال ثالث: لص بطربوش! ها ها! تعالَ نعلمك: هاتوا الفرشاة لندهن له وجهه باللون الأزرق السماوي من فرعه إلى قدمه.
فضحكوا جميعًا وقالوا: «فكرة بديعة» غير أن الرجل القميء الذي مرغ الفيلين في التراب صدَّهم جميعًا وقال: إنه ليس إلا طفلًا؟ ارفعوا عنه أيديكم! ويمينًا لأدفننَّ مَن يلمسه.
فوضع أحدهم الجردل وترك الفرشاة تهوي إلى الأرض وتتعفر بترابها، وقال المنقذ: تعالَ إلى النور لنرى ماذا جاء بك إلى هنا، اقعد! كم لك هنا؟
قلت: «دقيقة واحدة.»
قال: «ما اسمك؟»
ولا أدري لماذا لم أقل اسمي، ولا لماذا أجري لساني بما جرى به، ولكن الذي أدريه أني قلت بلهجة الجاد «أبو الخوارق.»
فانفجر القوم ضاحكين ما عدا سميي الذي استعرت منه هذه الكناية، ويظهر أن هذا راق منقذي. فقال: «هذا حسن، ولم أكن أنتظره من طفل مثلك.» ولكنك يا صاحبي كذبت عليَّ حين قلت: «إنك هنا منذ دقيقة، فقل الحق ولا تخف فلن يصيبك سوء.»
فأخبرته الحقيقة وتعمدت — وقد اطمأنت نفسي لهذا الوعد — أن ما سمعت ورأيت من الفحلين الجبانين اللذين مرَّغمهما منقذي في التراب؛ لأن أحدهما هو الذي توعَّدني بالإغراق وثانيهما هو الذي أراد أن يدهنني. وهكذا انتقمت لنفسي وأدخلت السرور على نفس منقذي، فرافقني إلى أول الطريق المأنوس ثم أطلقني فمضيت أعدو إلى البيت!
وكان هذا أول عهدي «برجال الليل».