أبو الهول وتمثال مختار
رأيت تمثال «مختار» كما لم يره غيري. ولست أعني أني دخلت في جوفه، أو صعدت إليه، وركبت أبا هوله، أو نظرت إليه بأربع عيون، ولكنما أعني أني لم أكد أقف أمامه وأهمُّ بأن أرفع إليه عيني حتى أحسست طفيليًّا إلى جانبي يتأبط ذراعي، كأنما كنت أعرفه قبل أن يُولد، ويقول لي: إن صانعه «مختار محمد مختار» … فصرفت نظري عن التمثال وانصرفت إلى هذا الذي اختار أن يكون صديقي دفعة واحدة وآثرني على غيري من الواقفين بصحبته وراقني الموقف جدًّا، وقلت له وأنا أفحصه بعيني وأبحث في وجهه عبثًا عن مخايل «النشالين»: سبحان الله! أصحيح ما تقول؟!
قال: وهل أنا أكذب عليك؟ سَل مَن شئت من الواقفين.
قلت وقد زاد اغتباطي بالموقف: أستغفر الله! فما أعرفك كذبت قبل اليوم.
وخطر لي أن أستخلص من هذا الموقف كل ما فيه من متعة فقلت: معذرة، ولكن صاحبه عبد الغفار، هل …
فقال بلهجة مَن يريد أن يدركني لينقذني: لا لا لا. مختار … مختار محمد مختار.
– معذرة مرة أخرى — مختار — وهل هو صاحبه؟
قال: نعم.
فقلت: ومن أين اشتراه؟
قال: اشتراه! إنه هو الذي نحته.
قلت: وهل كان هنا جبلٌ نحته منه؟
فضحك ملء شدقيه ثم قال: جبل؟ أي جبل؟ ألست من أهل القاهرة؟
قلت: كلَّا إني من الريف. وهذا أول يوم لي في القاهرة.
فزال عجبه ولم يسرني أن أراه يضحك مني أنا الذي يريد أن يضحك منه، غير أنه لم يسعني أن أتراجع بعد أن ذهبت معه إلى هذا المدى، ورددت الحديث إلى مختار فسألته: وهل مختار هذا من قدماء المصريين؟ أقول هل — معذرة إذا كنت غلطت في اسمه مرة أخرى — ولكن هل هو — أعني صاحب التمثال — من قدماء المصريين؟
فافترَّ فمُه عن ابتسامة عطف على كتلة الجهل المجسَّد الذي كان يتأبطه واستل ذراعه، فحمدت الله ووقف أمامي يتأملني وقد شكَّ في أمري على ما أظن، وتوقعت أنا أن أنفجر بالضحك المكتوم فيحدث بيننا ما لا تُحمد — أو ما لا أَحمِد أنا على الأقل — عقباه.
فأشرتُ إلى اسم التمثال المكتوب بالخط الكوفي على القاعدة وسألته: ما هذا؟
قال: ألا تستطيع أن تقرأ؟
قلت: أقرأ! وهل هذه كتابة؟
قال: نعم، وماذا كنت تظنها؟ إنها اسم التمثال، نهضة مصر.
قلت — وتجهمتُ له — اسمع يا صاحبي. لا يليق بك أن تغشني.
فراح يُقسِم بالله أن الأمر كما يقول، وينطق الاسم وهو يشير إلى الحروف بإصبعه. فقلت: وهل هذا خط عبد الغفار … لا لا … مختار. أليس كذلك؟ إن خطه قبيح جدًّا. إن أبلد تلميذ في بلدتنا يكتب خيرًا من هذا الخط ألف مرة.
وأحسبني حيرته وأدرت له رأسه بهذه الملاحظة فقد تلعثم، وسرَّني جدًّا أن أشهد ارتباكه، وأقسمتُ لأمطرنه وابلًا من هذه المدهشات، فلم أمهله ريثما يفكر في جواب، بل رميته بسؤال آخر عن المصرية الواقفة إلى جانب أبي الهول: وهل تعرف هذه السيدة؟
فرفع رأسه بسرعة وقال بلهفة: نعم. لا. إنها من التمثال.
فقلت: شيء جميل والله! وهل هذه أول مرة تقف فيها هذه السيدة هنا؟
فحملق في وجهي ولم يفهم وضاعت النكتة، واحتجتُ إلى سؤال آخر فقلت: وهل ستظل هذه السيدة واقفة هنا؟
ففتح الله عليه بهذا: يا أخي هذه ليست سيدة. إنها حجر. تمثال. ألا تفهم؟
فقلت: فهمت. فهمت ولكن أتظل هكذا؟ ألا تتعب؟
فقال — ودقَّ كفًّا بكفٍّ: كيف تتعب؟ ألم أقل لك إنها حجر؟
قلت: آه صحيح. وأي حيوان هذا الذي جانبها؟
قال: حيوان؟ هذا أبو الهول ينهض.
قلت: وهل كان راقدًا قبل الآن؟
فخُيل إليَّ أنه سيدعني ويجري، ولكني كنت واهمًا فقد ثبت وكان أشجع وأجلد مما ظننته، وقال بصوت خفيض، وفي تؤدة: اسمع. ألم أقل لك: إن اسم التمثال نهضة مصر؟ أجبني.
قاطعته وأجبته أن نعم.
فقال: فهذا أبو الهول ينهض. يعني أن مصر تنهض. أفهمت الآن؟
قلت: بودي أن أكون فهمت حتى لا أتعبك. ولكن أين مصر هنا؟
قال: أبو الهول يا أخي.
قلت: ومَن هذه السيدة الواقفة بجانبه؟
قال: مصر.
قلت: هل هما مصران؟
قال: سبحان الله العظيم! لا يا أخي.
قلت: لا تؤاخذني. ولكنك أفهمتني أن أبا الهول هو مصر وأن السيدة هي مصر، وقد تعلمت أن واحدًا وواحدًا اثنان.
قال: لا لا. إن هذا ليس حسابًا. إن هذه مصر تُنهِض أبا الهول. قلت: أليس معنى ذلك أن مصر تُنهِض مصرًا؟
قال: لقد بدأتَ تفهم. هذا هو المعنى.
قلت: ولكني — ولا مؤاخذة — لم أفهم.
قال — وهو مغيظ — كيف لم تفهم؟
وبدا لي أن في حديثنا من الجِد أكثر من المقدار الذي يحتمله هو، فعدتُ إلى التَّبالُهِ وسألته: ولكني لا أرى الهرم هنا فهل نقله مختار؟
قال: نقله كيف؟ أين أنت من الهرم؟
قلت: هكذا قرأت في الكتب أن الهرم إلى جانبه أبو الهول فأين ذهب الهرم؟
ويظهر أن نقل الهرم كان أكثر مما يطيق. فلوَّح بيده في وجهي، وتمتم شيئًا لم أفهمه؛ لأني شُغلت بنظارتي التي هوت إلى الأرض وتكسرت عدستها وأولاني ظهره ومضى.
بعد هذا الحديث الذي استطبته والذي شغلني عن التمثال وعن الوقوف به أتدبره كما ينبغي، مضيت إلى أهرام الفراعنة، فلما سرتُ عند أبي الهول وددت لو أن صاحبنا معي. إذن لسألته مَن صنع هذا؟ أهو مختار أيضًا؟
وتخيلته وهو يهز كتفيه أمامي — تحت أنفي — ويقول: لا يا أخي. الفراعنة.
فأعود أسأله: وهل هم أحياء؟
فيستعيذ بالله من هذا الجهل المطبِق ويقول: أحياء كيف؟ لقد ماتوا منذ آلاف من السنين.
فأُبدي له العجب من أن يكونوا أمواتًا كل هذه الآلاف من السنين أسأله: وبأي شيء ماتوا؟
فيقول: لا أدري. لا يدري أحد.
فأكر عليه بقولي: أتظن أنهم ماتوا بالطاعون؟
فيقول: لا أدري. ربما. مَن يدري؟
فألحُّ عليه وأقول: أترجح أنهم ماتوا بالكوليرا؟
فيقول بلهجة السأمان: ربما، ربما، قلت لك لا أدري.
فلا أدعه ولا أرحمه وأقول: أو لعلهم ماتوا حسرة؟
فيقول، وقد انتفخت مساحره من فرط الضجر: ربما، قلت لك ألف مرة لا أدري، ماتوا والسلام.
فأزداد عليه شدة وأسأله: وأبناء الفراعنة ألا يزالون أحياء؟
فينقذني بلفظة «مستحيل» ويعض حروفها بأسنانه، فلا يردعني هذا وأسأله عن أبي الهول وأين القاعدة وأين أبو الهول؟
فيعود إلى كفيه يدق إحداهما بالأخرى، وبعد أن يقضي مأربه ويرفِّه عن نفسه يبينهما لي فأقول: «ما أوقره، وأشد سكونه! وهل هو … هل هو ميت؟»
فيهيج برهة ثم يبيِّن لي أنه حجر، أو لا يستطيع معي صبرًا فيلوِّح بذراعه ويمضي عني.
•••
كلَّا، تمثال مختار — «محمود» مختار — على براعته لا شيء حين يقيسه المرء إلى أبي الهول الفرعوني، فإنه على هذا الوجه من الكآبة والجد والتشوف والصبر والجلال والنبل، ما ليس له شبه في وجه الإنسان، وهو حجر ولكنه فيما يبدو للعين يفكِّر، ينظر إلى الدنيا حوله ولكن نظرته تتخطاها إلى الفراغ الذي يلفُّها في طياته، وتتطلع إليه فيُخيل إليك أنه يرد عينه إلى الماضي متجاوزًا محيط الزمن وأمواج أجياله وقرونه، أو متراجعًا بها ومطبِقًا بعضها على بعض، حتى تعود وقد امتزجت وآضتْ مدًّا واحدًا عند أُفق القدم، نعم يفكِّر أبو الهول هذا في الحروب التي دارت أرحاؤها في الأزمنة الغابرة، وفي الدول التي شهد قيامها وسقوطها، وفي الأجيال التي رأى مولدها وراقب نهضتها ولاحظ فناءها، وفي المسرات والأحزان والحياة والموت والرفعة والذلة التي دارت بها أربعة آلاف من السنين البطاء.
ودَعْ ما أرادوا أن يرمزوا له به، إن كانوا قد قصدوا إلى شيء من ذلك، فما أراه أنا إلا تجسيدًا لتلك الملكة الإنسانية التي يسمونها «الذاكرة» في صورة بارزة محسوسة، وما من أحد عرف أي شعور تحرِّكه في النفس ذكرى الأيام السوالف، وماذا ترسم على الوجه، إلا وهو يستطيع أن يقرأ ذلك كله في هاتين العينين اللتين يديرهما أبو الهول فيما عرفه وشهده قبل أن يُولد التاريخ.
وهو لا يقيس الزمن بالسنين، فإنها هُنيْهات، ولا بالأجيال فإنها لحظات، وإنما يقيسه بالدول التي قامت ثم تقوَّضت تحت عينه التي لا تتعب ولا تشبع من النظر، ذلك أن فيه معنى من معاني الخلود، فقد رأى منف وطيبة وشاهد مجدهما، وعاش ليُبصِر الخراب يُعفِّي عليهما ويوكِل بهما البوم والوطاويط، ورأى أبناء إسرائيل يقومون ثم يُسحقون، والأغارقة ينهضون ثم يموتون، ورومية تُشاد ويرتمي ظلها على الأرض ثم تفنى، والعرب يستفيضون في الدنيا أسرع من العاصفة ثم يذهبون في سبيل مَن غَبر.
وكما أخذت عينه عظام مئات من الدولات كذلك ستأخذ قبور مئات أخرى قبل أن يفتُر لحظُها وتطبق الجفون.
والمرء ينظر إلى أبي الهول الساهد ويفكر في آلاف السنين التي قضاها هنا على حافة الصحراء، فلا يستغرب ولا يخالجه شيء من الشعور بالتنافي بين هذه الدهور الطويلة وبين مقامه هذا، وذلك أن ربضته تشيع في النفس معنى الاستقرار التام. وقد أحسن القدماء بإيثار الربوض له، فإنه جلسة مريحة تقترن في الذهن بمعنى الاستمرار، وليس كذلك «النهوض» كما هو مصور في تمثال مختار، والمرء خليق حين يعود إليه مرة بعد أخرى أن يحس أن لهذا الوضع ما بعده، إما أن يثب إلى الأرض، وإما أن يعود إلى الجثوم والراحة والسهوم مرة أخرى، أما البقاء هكذا يومًا بعد يوم. وشهرًا في إثر شهر، وعامًا في عقب عام، فليس من السهل على العقل أن يأنس إليه ويقتنع به، وقد تكون هذه مزية للتمثال، وعسى أن يكون المقصود بها أنها نبوءة أو أمل أو نحو ذلك. ولست أعيب أو أنقد، فما أعني أكثر من أني حين أنظر إلى التمثال لا أحس أني قد رأيت كل شيء، وقد أتوهم أنه سيثب عن القاعدة إلى الأرض.
وهذا الذي عليه أبو الهول الجديد إقعاء لا نهوض، فإن الحيوان — من البعير إلى الهرة — حين يريد أن ينهض، يقوم على رجليه الخلفيتين أولًا ثم الأماميتين، أما القيام على رجليه الأماميتين فحسب، فهذا هو الإقعاء، وهو جلسة للحيوان يتخذها أحيانًا، وأكثر ما يراه الإنسان في الكلاب، حين تقعد ناشرة آذانها راصدة عيونها، وأحسب أن مختارًا إنما آثر هذا الوضع؛ لأن منظر أبي الهول يكون غريبًا ثقيلًا إذا أنهضته على رجليه الخلفيتين، كما ينبغي أن يفعل إذا كان يقصد إلى النهوض، ولعل عذر مختار أن أبا الهول هذا خليط من الإنس والحيوان فله أن ينهض كيف يشاء حتى على رأسه.
وهذه الفتاة المنصوبة إلى جانب أبي الهول لا أفهم معناها ولا أدري لماذا يقيمها المثَّال هناك ويضنيها بهذه الوقفة المتعِبة؟ ولو كنت أنا مختارًا لاستغنيت عنها جملة ولاجتزأت بأبي الهول وحده؛ لأنه إذا كان المراد الرمز إلى أن مصر تنهض، فإن أبا الهول بمفرده حَسْبُ مَن شاء أن يرمز إلى ذاك. ولن يركب الجهلُ أحدًا فيتوهم أن المراد به رومية أو قرطاجنة، ففي نهوضه وحده ما يكفي رمزًا لنهوض البلاد التي اقترن اسمه بتاريخها. زد على ذلك أن قيام الفتاة إلى جانبه تخليط؛ وذلك أنها — على ما فهمتُ — رمزٌ لمصر الحديثة. وعلى هذا يكون أبو الهول عنوانًا على مصر القديمة، وكان المعنى — على هذا — أن مصر الحديثة توقِظ مصر القديمة، أو أن مصر القديمة تنهض إلى جانب الحديثة وفي كَنَفها، وكلا المعنيين مستحيل يرفضه العقل ولا يسيغ معناه، وأصحُّ من ذلك أن هناك — أو هنا على الأصح — مصرًا واحدة تاريخها سلسلة متصلة الحلقات، وأنها كانت نائمة أو متفترة أو ما شئتَ غير ذلك، ثم هي الآن تستيقظ أو تنفض عنها غبار القرون وتهم بالنهوض، وهو معنى لا يحتاج إلى هذه الفتاة التي تفسده ولا تؤيده.
ولست أستريح إلى وقفة الفتاة فإنها كالعصا، ويُمْناها التي على رأس أبي الهول غريبة في وضعها؛ فإنها لا يسندها في الحقيقة إذا تأملتها إلا أصابُعها، أما ذراعها فكالمعلق في الهواء إن كانت الشملة — أو لا أدري ماذا هي — تحجب هذا التعليق عن عين الناظر، وهي لا تفعل بيُمناها هذه أكثر من هذا الاستناد بأطراف الأصابع دون باطن الراح، ولا أدري لماذا جعلها كذلك ولم يدعها تريح ذراعها؟ ثم ما معنى هذا الوضع؟ وما الذي قصد به إليه؟ أتُراه أراد الإيقاظ؟ فهذه ليست حركة إيقاظ، وليس في وجه الفتاة أدنى التفات إلى الذي بجانبها إن صح أنها تريد أن توقظه. أم تُرى المراد أن مصر الجديدة تحسُر عن وجهها وتبرُز للعالم معتمدةً على مصر القديمة، فإن كان هذا هو المقصود وأحرى به أن يكون؛ فإن رمز النهوض واليقظة هو الفتاة لا أبو الهول، ولا داعيَ إذن لإقامة أبي الهول على رجليه ما دام أن الناهضة سواه، وأنه ليس إلا تُكأة ووسيلة للرمز إلى الاتصال بالماضي، وحينئذٍ يكون المعنى أتم وأقوم بأن يظل أبو الهول هذا رابضًا على العهد به والفتاة حاسرة على جانبه.
والخلاصة أن التمثال كان حقيقًا أن يكون أوفى بالغرض فيما أرى لو أن أبا الهول ظل رابضًا إلى جانب الفتاة المعتمدة عليه؛ إشارة إلى اتكاء مصر الحديثة على ماضيها واعتزازها به واستيحائها إياه، أو لو أن التمثال خلا من الفتاة. والأُولى عندي أفضلُ؛ اجتنابًا للإقعاء، وتفاديًا من الوقوع في هذا الغلط. أما التمثال في شكله الحالي فلا أكتم القراء أني أحس كأني أحمله وقاعدته على ظهري. ولا يسوء مختارًا قولي هذا فإنه يعلم أني من أجهل الناس بالفنون، وأن ليس لي من الوسائل المعينة على حسن التقدير سوى رأس واحد وعينين اثنتين ليس إلا.