غرابة آرائي الاجتماعية
أما عن غرابة آرائي الاجتماعية؛ فالغريب فيها أن تُرمى بالغرابة، كأن المألوف للناس
في
نظام الاجتماع هو النظام الصالح لهم دائمًا؛ للرضى به وعدم السعي للتحوُّل عنه إلى ما
يكون
أوفق لمصلحة العمران، والواقع ينقض ذلك؛ فنظام الاجتماع يتغيَّر على الدوام طبقًا للناموس
الطبيعي القاضي بأن كل شيء في الطبيعة متغيِّر، فيجب إذن أن لا نصده بما نضعه له من الشرائع
والنظامات عن هذا التحول طبقًا لحاجات أعضائه المتغيرين هم أنفسهم؛ لئلا يوجب ذلك فيه
اختلالًا في التوازن يُفضي به إلى غير المقصود منها، بل يجب أن نجعل له في هذه الشرائع
متَّسعًا لسرعة هذا التحول إلى الأصلح لِنَقِيَهُ بذلك شرَّ عواقب الإبطاء في هذا
الارتقاء.
والناظر إلى نظام الاجتماع في التاريخ يجد أنه تغيَّر كثيرًا في العصور، وأنه اليوم
أصلح
بكثير مما كان في الماضي، ولكنه يجد أيضًا أنه تباطأ جدًّا في هذا التغيُّر وهو حتى الآن
لا
ينطبق كثيرًا على مصلحة العمران؛ لأن الشرائع التي تولَّت سياسته في كل هذه الأحقاب الطويلة
والتي لا تزال تسُوسُه حتى اليوم، لم تعرف كيف توفر له الانتفاع من جميع القوى التي فيه
فأكثرت من التبذير فيها؛ مما جعله كثير التقهقر كثير الوقوف بطيء الارتقاء، وهو لا يزال
حتى
اليوم شديد التنازع قليل التضامن كثير الاضطراب، فعدم معرفة توفير العمل يجرُّ إلى الفاقة
والفاقة تدفع إلى الجناية، وعدم توزيع الفائدة على قدر العمل يؤدي إلى التذمر، والظلم
المُتناهي يدفع إلى الثورة، كما أن عدم الاعتناء بوسائل صحة الأفراد يُولِّد الأمراض
ويُعرِّض المجتمع لفتك الأوبئة؛ لأن ناموس التكافؤ الطبيعي في العمران صارم جدًّا لا
يرحم
ولا يقبل تأجيلًا،
١ فإذا كانت الشرائع حتى اليوم لم تعرف كيف تُوفِّر له هذا الانتفاع وتدرأ عنه
شرَّ إغفالها؛ فلأنَّ مبدأها مخالف لطبيعته التي قررها له العلم اليوم؛ فالشرائع المدنية
جعلت أساس توازنه دفع الشر ولاذت فيه إلى العقاب، وقد يكون القائمون بهذه الشرائع من
أكبر
أسباب هذا الشر فيتناهون هم ويتفاقم هو. وزادت الشرائع الدينية على العقاب الثواب للترغيب
بالجزاء الحسن، وتوسلت التعاليم الأدبية منها بالحض على الإنسانية ليكون هناك محل واسع
للرحمة، والرحمة كرَمٌ من النفس كثيرًا ما يلهو الإنسان عنه،
٢ والثواب مؤجَّل عسى أن يرجع الإنسان ويستحقه بتوبة وندامة تمحوان كل إثم، بخلاف
الشرائع الطبيعية التي تجعل أساس هذا التوازن التكافؤ القاضي بأن كل عملٍ يعملهُ الفرد
في
الاجتماع، أو يعمله الاجتماع للفرد تعود نتيجته على عاملهِ خيرًا كانت أو شرًّا، كما
هي
الحال في الجسم الحيِّ وفي سائر أفعال الطبيعة نفسها، وحينئذ يصير العمل لمصلحة العمران
من
قَبيل «الواجب»، وإلا تراجع إليك صداه في الحال فلا يدعك تغفل عنه لحظة إلا وقد غفلت
عن
أقرب المصالح إليك.
وهذه الحقيقة لم تتقرَّر للاجتماع على أساس علمي طبيعي مكين إلا من عهد قريب، مع أنها
بسيطة للغاية شأن كل الحقائق التي غيَّرت وجه العلم والعالم؛ كمذهب الجاذبيَّة العامة
ومذهب
التحول، فقد فنيت الأجيال في الأجيال قبل أن أُهتدى إليهما وظهرا بالبساطة التي يبدوان
بها
لنا اليوم، كأن الصعوبة في الحقيقة ليست في العثور عليها بل في إرادة البحث عنها، حتى
قال
بعضهم: «الصعوبة في الحقيقة هي أنك تجدها كلما بحثت عنها.»
فأنا لا أطلب المستحيل في الأمور الاجتماعية بل أطلب التمشِّي في نظام العمران على
النواميس الطبيعية نفسها والاسترشاد بها لاجتناب عثراته وتسهيل ارتقائه، عسى أن يصبح
كل
أعضائه عاملين نافعين منتفعين معًا، فلا يكون هناك تبذير في قوى الاجتماع، ولا حيف على
الأفراد يعودان بالضرر على المجتمع، وهو أمرٌ ميسور لولا أثَرة المستأثرين وغفلة
الجاهلين.