فصل في العلم والتعليم
إذا كانت هذه الآراء العلمية والاجتماعية لا تزال قليلة الشيوع بين الناس، فالسبب كما قلت في ما تقدم هو قلة انتشار العلم الطبيعي رغمًا عن ارتفاع شأنه كثيرًا اليوم لدى خاصة العلماء وعامتهم، والذنب في ذلك على المدارس فأكثرها حتى اليوم لا يزال يعلمنا العلوم العقلية الأدبية كما كانت في عهد أرسطو وابن سينا والعلوم الحيوية كما كانت في عهد لينيوس وكوڨيه، وقلَّ منها ما يعلم مذهب التحوُّل بعد مائة سنة من اكتشافه وخمسين سنة من ثبوته، والغريب أنها اليوم تجري على قواعد هذا المذهب في تعليم العلوم الكيماوية والفلسفية الطبيعية، وقد تختلس شيئًا منه تطلقه على علومها العقلية الأدبية من دون أن تدري أنها مَدِينة له بذلك، فإذا دَرت كما في العلوم الحيوية دفعها جمودها الذي هو من مميزاتها الأولى إلى النفرة منه والانزواء بين دفَّتي كتبها البالية، وهو وإن كان يُعلَّم اليوم في بعض المعاهد العلمية الراقية في أوروبا، ففكرة تعليمه في مدارسنا الشرقية على اختلاف نزعاتها لا تزال أبعد من عنقاء مغرب.
فإذا كان الخوف على الدين هو الذي يمنع المدارس وخاصة المدارس العالية من تعليم مذهب التحول، فليعلموا أولًا أن هذا المذهب اليوم ليس نظرًا فلسفيًّا يحتمل الشك بل هو مذهبٌ علمي ثابت أدلته محسوسة لا تقبل النقض، فمهما حاولوا طمسه فإنهم لا يُفلحون، ولا بد من أن يحتل المدارس احتلالًا دائمًا في زمن قريب، فليعلِّموه إذن، وليقفوا فيه عند حد العلم البسيط، كما فعلوا بأكثر المذاهب العلمية الكبرى التي حاربوها أولًا بحجة الدين ثم عادوا إليها، ولم يجدوا حينئذ أدنى مشقة في تطبيقها على الدين أو تطبيق الدين عليها؛ نقول ذلك لأنَّا لا نريد أن يكون هذا الخوف اليوم سببًا لحرمان التعليم من فوائد هذا المذهب الجمَّة لجميع فروعه العلمية والأدبية والتاريخية؛ إذ ما من مذهب حتى الآن ظهر بهذا الاتساع شاملًا لجميع معارف الإنسان، ونخص بهذا القول مدارسنا عامة، فلعلها تجعله قاعدة تعليمها الثانوي ولا توصد أبوابها دون أرقى العلوم اليوم.
ويا ليت الجامعة المصرية تكون السابقة إلى ذلك فتجعله أساس تعليمها وهي لا تكون قد أتت بدعة، بل تكون قد حذت بذلك حذو جامعة باريس وجامعة ڨينا اليوم وأنشأت كذلك تعليمًا جديدًا غير موجود في المدارس الشرقية، ذلك أفضل جدًّا من اقتصارها على المباحث التي تبحثها والتي يمكن لسواها أن يقوم مقامها فيها، بخلاف مباحث هذا المذهب فإن الإحاطة بها على أسلوب علمي لا تتيسر أينما كان، وهي لو فعلت لوجدت من علماء أوروبا اليوم من لو خطب في الموضوع لخلب العقول وملأها بمعلومات تقترن اللذة فيها بالفائدة، ولرأت من الجمهور كذلك إقبالًا عظيمًا جدًّا على حضور دروسها؛ لأن العقول اليوم متعطشة جدًّا للعلم الصحيح، ولربَّت منا أيضًا رجالًا أكْفاء يخلفونهم في تعليمهم باللغة العربية في وقت قريب، ولأدت فوق ذلك كله خدمة كبرى للبلاد تُذكَر لها فتُشكَر.
وحتى لا يكون هناك موانع وهمية من العواطف ينبغي أن نقف في تعليمها حينئذ عند حد العلم البسيط؛ لأن المذهب ككل المذاهب العلمية الكبرى يمكن تجريده بالكلية عن الدين كما تقدم، أقول ذلك نصيحة خالصة لا غاية لي فيها سوى خدمة العلم وخدمة البلاد معها خدمة حقيقية تدفعها في العمران الراقي شوطًا بعيدًا، بل ألتمس ذلك من الجامعة التماسًا لمصلحة الأمة الناهضة اليوم والطالبة مهيعًا تسير فيه يكون أهدى لها وأطلق لحركاتها؛ لأنه لم يقم حتى اليوم أصحَّ وأوسع من هذا المذهب؛ ولأني على يقين تام من أنه سيصبح المحور الذي تدور عليه جميع أعمال الإنسان ومعارفه، لا في المستقبل البعيد بل في القريب الأقرب ومن يعِش يَرَهُ.