نظرة في أحوالنا
إن المطَّلع على أحوالنا منذ أربعين سنة فقط يستعظم الخُطى الواسعة التي خطوناها في سبيل الحياة، فقد كان الشرق الأقصى والأدنى في ذلك العهد في حالة سُباتٍ لا تفرق كثيرًا عن الموت، ولقد نهض الشرق الأقصى نهضة أدهشت العالم بعد أن كان يُظَنُّ أنه في غفوةٍ لا يعقبها يقظة، فبلغت اليابان في هذه المدة القصيرة مبلغ أرقى الأمم اليوم في علومها، في صناعاتها، في تجارتها، في نظاماتها، في أحكامها، في تأهُّبها لدفع الطوارئ؛ فملكت ناصية القوَّتين الهائلتين الأدبية العلمية والوحشية الحربية.
وها هي الصين التي تموج بسكانها كالنمل ناهضة بثورتها الحاضرة بعد سباتها الطويل العميق، نهضة يُرجى منها كل خير.
فاليابان لم يصدَّها حائل لا من أصولها السماوية ولا من عاداتها القومية عن اقتباس أسباب الحضارة ممن سبقها في ذلك من الأمم، فهجرت القديم ولاذت بالجديد جريًا على سنن الارتقاء كأنها أدركت أن التمسك بالقديم جمود والجمود تقهقر، فتزيَّت بأزيائهم وتلقبت بألقابهم واستنسخت نظاماتهم واقتبست صناعاتهم وعلومهم، ونبغت فيها حتى صارت في مقامهم عظمةً واقتدارًا.
ومقدِّمات الثورة الصينية تبشر بمستقبل عسى أن لا يكون حظ الصين فيها دون حظ جارتها، وإن كانت الصعوبات التي تعترضها فيها أشد؛ لأن ثورة اليابان قامت بها القوة الحاكمة، وقادت الأمة فيها بالقوى السلمية فهي نشوءٌ سريع لا ثورة بالمعنى المشهور، ولا يكاد يكون لها نظير في تاريخ الانقلابات الاجتماعية، وأما ثورة الصين فالهيئة الحاكمة كانت ضدها، فهي كسائر الثورات التي مصدرها الأمة، إلا أن ذلك يجعل دعائم الارتقاء فيها إذا قامت أعلى وأرسخ.
ولم يَفُت الشرق الأدنى نصيب من هذه الحركة إلى النهوض، فكلنا يذكر ثورتنا العثمانية وما جلبت لنا من السرور، وإن كانت مقدماتها لا تُبشرنا حتى اليوم بمستقبل زاهٍ لعيوبٍ فيها تجعل نورها فينا سريع الانطفاء، كالنار في الهشيم لعدم اشتراك الأمة فيها اشتراكًا محسوسًا بسوى الإكثار من التغني في أول الأمر، وهي اليوم تُكثر من العويل ولا تتعداه إلى عملٍ حازم وتُخرسها أقل كمامة، فثورتنا حتى الآن عسكرية اقتصر التغيير فيها على صورة الهيئة الحاكمة، فلم تُغيِّر شيئًا من أخلاقنا ولم تتصل إلى علومنا وصناعاتنا وتجارتنا ولم تتغلب فيها مداركنا على أهوائنا؛ فلا تزال أغراضنا القريبة والبعيدة سدًّا يمنعنا عن اقتباس كل إصلاح مطلوب، فضلًا عن اختلاف أجناسنا وتباين مشاربنا ووجودنا كالقوم العُزَّل في وسط هذا التنازع الشديد المُحيق بنا من كل جانب، وقربنا من معالم الحضارة وقيامنا في قلبها كالخرائب والأطلال في وسط الحدائق والقصور، ومع ذلك فالفرق بين ما كنا عليه منذ أربعين سنة وما صرنا إليه اليوم عظيم جدًّا.
•••
ولا ريب أن هذا الفرق العظيم المحسوس يُشاهد اليوم بأجلى صورته في مصر وأبنائها، فإن النهضة التي نهضتها مصر في هذه المدة القصيرة، والتي لا يقدرها حق قدرها إلا الذي عرف بنفسه العهدين لمما يُحمَد جدًّا؛ حتى إن أبناء اليوم لا يُصدِّقون ما كان عليه في ذلك العهد القريب آباؤهم الأقربون لا أجدادهم الأبعدون، وسهولة ارتقائهم هذه تدل على أن عامل الترقِّي الموجود فيهم من عهد بعيد والذي طمسته يد المظالم كل تلك القرون الطويلة، عريق فيهم من يوم كان تمدنهم نبراس الأمم.
ولكن إذا كانوا يحمدون من جهة سرعة التحصيل كأكثر الأمم ذات التاريخ المجيد في الحضارة في الماضي، فهل يحق لهم هذا الحمد من جهة أنهم عرفوا كيف يستفيدون من الأحوال السياسية التي طرأت عليهم في الحاضر؟ فالمُنصف لا يسعُه إلا أن يرميهم في باطن الأمر بالتقصير في مصلحة أنفسهم وهم في الظاهر مُجِدُّون في طلبها، فقد قضوا الزمن الطويل من حكم الاحتلال الذي رفع عنهم الضواغط وهم يسمونهُ نيرًا ويسعون للتخلص من ربقته، ولكنهم يسعون إلى ذلك بالطرق التي تزيده فيهم تحكُّمًا وتزيدهم في معالم الحضارة الحقيقية تقهقرًا، فصرفوا كل هذا الوقت الثمين وهم يدعون إلى الاستقلال، ولكن من غير السبيل الموصل إليه فطلبوه بالتمني، وخدعتهم ثروتهم الطبيعية التي زادت قيمتها زيادة فاحشة؛ نظرًا لاصطلاح نظامهم في حكومتهم الجديدة، كأن المال إذا لم يُمَد لا يفرغ وكأن الاستقلال الاكتفاء بالمصنوع المجلوب حتى صار قسم عظيم من الأرض رهنًا الدين، فنهضتهم اليوم إذا كان أثرها باديًا جيِّدًا في العلوم الأدبية والأمور النظرية، لكنها في العلوم الحقيقية والأمور العملية لا تزال جرثومة لا تُرى إلا بالنظَّارات المعظمة، فليس لهم يد حتى اليوم لا في العلم الراقي ولا في الصناعات الدقيقة ولا في التجارة الواسعة. والزراعة التي تكاد تكون موردهم الوحيد لا يزالون فيها كما كان آباؤهم في الماضي، ويكادون يكونون غرباء في وسط هذا التمدن الظاهر الذي يحيط بهم كأن البلاد أشبه شيء بمعرض كل معروضاته غريبة، ولعل الحرية التي باغتتهم بها الدولة المحتلة قبل أن تتولى تدريبهم على العمل كانت السبب في كل ذلك؛ فبلغت فيهم ثورة الأفكار أقصاها وبالضد من ذلك ضعفت فيهم مَلَكة العمل.
•••
فنهضة المملكة العثمانية ونهضة مصر اليوم إنما هي نهضة فكرية بحتة لم تُقرَن حتى الساعة بشيء من عوامل الارتقاء الحقيقية، وأعني بالبلادين شعبيهما وإلا ففي الأمور الإدارية فَرْقٌ عظيم هو لمصلحة مصر، وما ذلك إلَّا لانصراف أكثر الأفكار الراقية إلى الاشتغال بمسائل ماضية أو حاضرة بائدة أو بادية، قلما تهم العمران لانحصار دائرة هذه الحركة فيها بمباحث أدبية يجوز أن تكون كمالية ولكن ليست حاجية، وبأمور نظرية يصح أن تكون نتيجة ولكن لا يجوز أن تكون سببًا.
انظر إلى القطرين العربيين الراقيين اليوم مصر وسورية، انظر إلى أبنائهما في وطنهم وفي مهجرهم تجد الحركة الفكرية في أشد غليانها، ولكنها على حال واحد فيهم من الانصباب إلى جهة واحدة، فكلنا اليوم كاتب وكلنا أديب وكلنا شاعر، ولو يُقاس الارتقاء في العمران بهذا المقياس لكنا اليوم أرقى الأمم بلا شك، ولا سيما في هذه الأيام التي ثارت فيها العواطف وفاضت القرائح، فلم يبقَ منا كاتب أو شاعر إلَّا وطبَّق السماء بالتغني بمجد الآباء، وما كان لنا من الهمم الشمَّاء في اقتحام الهيجاء من دون أن يدلنا أحد على عيوبنا، ويُلفتنا إلى أيدينا الوعثاء وأرجلنا الفدعاء في العمران اليوم. وأما العالم والمهندس والصانع والتاجر منا فأندر من الكبريت الأحمر حتى صار كل مصنوع نحتاج إليه من نعلنا إلى أوتوموبيلنا إلى سلاحنا غريبًا ومجلوبًا بيد غريبة أيضًا، وإذا وُجِد لنا تجارة فهي أثرية وثروتنا الطبيعية التي نتناولها بسهولة من سطح الأرض لا من باطنها الموصد على هممنا الفاترة مهما عظُمت، لا بد أن تفرغ حيال هذا المنصرف حتى تُفرغ الأرض نفسها إلى أيدٍ هي أحق من أيدينا باستثمارها.
•••
وفتور هممنا ناشئٌ من تربيتنا البيتية والاجتماعية ونظام أحكامنا، خاصة الذي ينزع من نفوسنا كل رغبة في العمل، والتربية المدرسية التي هي ذات الشأن الأكبر في التأثير على الأخلاق والأجسام والعقول قلَّما تهتم بإصلاح ذلك فينا؛ فهي لا تزال ناقصة حتى في أرقى المعمورة، ونقصها في مدارسنا أظهر بكثير على تفاوتٍ بينها. وعيباها الأكبران أنها أولًا: تعليمنا المجرَّد قبل المحسوس والموضوع قبل المطبوع، وثانيًا: ليس فيها اقتصاد في الزمن فتُحمِّل العقول ما لا طاقة لها بهِ من علوم الاستظهار، التي لا يبقى لها مع كرور الأيام أثر أو يبقى لها أثر لا فائدة به. وتقلل لها من علوم الاستحضار ما لو مرَّت الحواس عليه مرة، لبقي أثره في الذهن طول العمر، ولجعل الطفل رجلًا زمانًا طويلًا قبل أن يترجل رجال اليوم، فلكي تكون المدارس أجمع للغرض الذي أُنشئت لأجله وتنمي في الطالب ملكة العمل خاصةً، يجب أن تتحوَّل إلى حقول وحدائق ومعارض ومعامل؛ ليكون العلم موصوفًا محسوسًا لا موصوفًا فقط، وأن تستعين بمخترعات العلم والصناعة كاليسنماتوغراف مثلًا لسدِّ ما يتعذر علينا من هذا القبيل، وتقتصر من علوم الأدب على اللازم الضروري لسهولة الفهم وحسن التعبير، وتقلل من العلوم الموضوعة ما أمكن، وكثيرٌ منه يمكن الاستغناء عنه بالمرة من دون بخس للعلم بل بفائدة لهُ أكثر؛ إذ تجعل العقل أقل تقيُّدًا وأكثر حريةً أيضًا.
•••
ولولا أن الاعتقاد شائع كثيرًا بين الناس حتى اليوم، أن علوم الأدب أرقى العلوم حتى إن الخارج من المدرسة ومعه شيء من هذه البضاعة ليأنف من تعاطي صناعة من الصناعات لما أسهبتُ هنا في البيان، وما مثل هذا المترفِّع اليوم إلا مثل أشراف الماضي الذين كانوا يترفعون عن تعلم القراءة والكتابة، ويعهدون بهما إلى الموالي لحقارتهما في اعتبارهم، فإذا كان قد جاز ذلك في الماضي لاعتبار الناس يومئذٍ صناعة السلب والنهب والقتل والضرب من الصناعات الشريفة، فهل ذلك يجوز اليوم؟
ولقد جاء زمان لا يزال ذيله السابغ مُسبلًا علينا حتى اليوم كان فيه لعلوم الأدب شأن عظيم، فاستهوت بها أسمى العقول وشغلتها بمباحثها المجردة عن سواها، فتناولت البحث في حقيقة الوجود، وتخرصات الآباء والجدود، وأغلت في العلوم الموضوعة المجهودة، حتى صرفت العقول بها عن المحسوس الموجود والمطبوع المشهود، فوقف الناس عندها زمانًا طويلًا مُكتفين بالماضي عن الحاضر، مقتنعين أن الأوائل ما تركوا شيئًا للأواخر، وأنت تعلم معي اليوم أن الأوائل تركوا كثيرًا للأواخر وأنهم في غالب الأحيان اشتغلوا بشيء هو لا شيء، تركوا اللُّباب واشتغلوا بالقشور، تركوا القريب واشتغلوا بالبعيد، تركوا الممكن واشتغلوا بالمستحيل، فبقي العالم يتخبط معهم قرونًا وهو يدور في دائرة واحدة معيبة، وجرى مع الأواخر في سنين أشواطًا لم يسرها مع الأوائل في ألوفها. وتعلم معي كذلك أن علوم الأواخر التي ارتقى بها العمران هذا الارتقاء السريع هي نقيض علوم أجدادهم على خط مستقيم، فإذا جاز حتى اليوم اعتبار علوم الأدب العالية من الكماليات في العمران الراقي، فما أحوجنا نحن اليوم فيه إلى علوم الحاجيات الضروريات؛ لئلا نبقى كذلك الكسيح الذي يزعق ويقول للذي يعدو أمامه: لو كانت رجلاي سليمتين لما سبقتني!
•••
قلت: علوم الأدب وخصصتها بالعالية؛ لأن هذه الكلمة مرنة جدًّا، فتشتمل على الغثِّ والسمين، وغثها أكثر من سمينها، كما هو الحال في علومنا الكلامية واللغوية وفروعها الكثيرة الفضولية، فيصرف الطالب أثمن سني عمره في المدرسة للوقوف على اختلاف البصريين والكوفيين، والتبحر في سائر العلوم الموضوعة كالمعاني والبيان والبديع والمنطق، وشوارد العروض مما يشغل الذهن ولا يبقى منه فيه على مرِّ الزمان شيء، ألا يمكن التعبير عن الأفكار بلغةٍ سليمة يصرف في تحصيلها أقل ما يمكن من الزمن وتكون صالحة لخدمة العلم؟! وما الفائدة من مقالة يدبجها الكاتب ويملؤها بعويص الكلام ومهمله، يستخرجه بعد العناء الشديد من بطون القواميس ليخرج القارئ في فهمه إلى الرجوع إليها، ما دام في الإمكان التعبير بالألفاظ المألوفة، وما دامت اللغة نفسها على رغم كل محافظ تابعة للإنسان في نشوئه، ومتحولة معه في تحوله تُعبِّر عن أفكاره الجديدة ومعلوماته الجديدة في هذا النشوء وهذا التحول؟! وما الفائدة الكبرى التي يجنيها العمران من قصر اهتمامنا على البحث في ماضٍ بالٍ؛ للتبسط في تاريخ متناقض وأكثره مكذوب والاعتصام به للاختصام على حركات رجلٍ وكلامه، لمعرفة ما كان عليه من الدعارة أو التأدب وفي شعره من التشبيب الخليع أو التبذل الدنيء، فما أشبه تخاصمهما هنا بتخاصم أصحاب «أبو زيد الهلالي» وأصحاب «دياب بن غانم» على حركات كل منهما! فإذا كان لا بد لكل أمة من تاريخ يدل على نشوئها، فالأفضل أن يُتوخَّى من ذلك ما يدل دلالة كلية على حالة الإنسان في هذا النشوء بحسب العصور، فإذا كان لا بد من التبسُّط شيئًا ففي تاريخ العلم فقط عسى أن يُعثَر في هذا التبسيط على فائدة جديدة للعلم نفسه.
•••
ولا أنظر في انتقادي هذا إلى مجتمعنا وحده حيث هذه العلة اليوم في طور «البداءة»، وإن كان لنا من آثارنا الماضية المتراكمة ما يُخشَى علينا فيها كثيرًا من طول «التزيُّد»؛ فإن هذه العلة لا تزال آفة كبرى من آفات المجتمعات الراقية، ويُطلَق عليها عندهم اسم «علم آداب القوم» مع الفرق بأن لهذه المجتمعات مع ذلك حسنات أخرى كثيرة ليست لنا، فإذا كان جانب عظيم من هذه الأمم الراقية يشتغل اليوم بالعلم والعمل، فإن الجانب الأعظم منهم لا يزال حتى الآن يصبو إلى الأحلام ويشتغل بغير الهامِّ، ويُرصِّع بالجواهر تصابي عمر الخيام ويضع الشروح الضافية لتفسير قول شكسپير «كان أم ما كان»، بل إن تجار الأدب منهم في رواياتهم التمثيلية وقصصهم الفكاهية، لا يَسلمون من هذا الانتقاد الحاد والأنكى ادعاؤهم أنهم يقصدون منها التهذيب والتدريب وهي في أكثرها منافية لذلك؛ فالراقية منها تُصوِّر الإنسان على غير حقيقته، وتخلق له صفات فوق طبيعته، فتجعل حياته في الاجتماع شاقة جدًّا ومحفوفة بالمصاعب، فإما أن تدفعه إلى الانتحار وإما أن تخرج به إلى تعمد الإضرار، وغير الراقية كثيرًا ما تستهويه بالغرابة التي فيها وتدفعه في تيَّارها إلى أبعد ما يمكن، ولا سيما تلك القصص التي تفشَّت اليوم بين العامة في أوروبا كالوباء وبلغ سيلها الجارف إلينا، والتي تشبه في الغرابة قصص «علي الزئبق» مع الفرق فيها بين لباقة هذه وشناعة تلك، فاستهوت بها قرائح الكتاب في القارات الأربع لما بها من الكسب، فبروا لها أقلامهم وتباروا فيها ونشَّطهم إقبال الجمهور عليها، فملئُوها بكل تفنن فوق التصور في اقتراف الجرائم ومثَّلوها على مشاهد الصور المتحركة ليرغب فيها أطفالنا؛ حتى صارت مدرسة للجميع تُحبِّب للبعض النسج على منوالها ولو من باب ركوب متن الإعجاز. والغريب أن الحكومات اليوم تتكاتف على صد أوبئة الأمراض ولا تصادر هذه الأوبئة الاجتماعية، التي هي أشد فتكًا من تلك، والتي إذا استوطنت لا يعود استئصالها من جسم الاجتماع بالأمر السهل، ولعل عذرهم في ذلك أنها بضاعة أدبية، فيا ويل الاجتماع من هذه اللفظة؛ فكم يجرِّعونه بها كل يوم من السموم!
•••
على أن موضوع الروايات واسع جدًّا ويمكن لكُتَّابها المبرَّزين أن يكتبوا روايات يقرنون فيها الجميل الباسط بالمفيد النافع، وليس من الضروري لرواجها أن يخرجوا فيها عن الممكن أو يتنزلوا إلى التهتك لإفساد التصور وترسيخ القبيح، وما أحق كتابنا نحن خاصة في نهضتنا هذه الحديثة بعد أن صدأت أفكارنا وشاخت لغتنا أن يعلمونا كيف نفكر وكيف نتفاهم، وكيف نعبر عما لا غنى لنا عنه وهو واقع تحت نظرنا كل يوم! كأن يدخلوا بنا إلى حانوت التاجر ودكان الصانع، ويجولوا بنا جولة في حقل الزَّارع، ويسبكوا لنا قصة ظريفة لطيفة ينمقونها كما يشاءون، يأتون في عرضها على ذكر الآلات والأدوات وسائر الإصلاحات التي تَرِد في عمل كل واحد منهم، والتي لا ذكر لها في قواميسنا على ضخامتها والتي إذا عرضت على كتابنا المبرزين الواقفين على أسرار اللغة من عهد قحطان إلى اليوم أصابهم أمامها العيُّ، يُشذِّبون القواميس من المترادفات التي أصبح كثيرها في حكم الفضول، ويطرحون منها الألفاظ التي شاخت وماتت ولم يعد لها فائدة بشيء ويضعون الألفاظ الجديدة مكانها، يذكرونها كما هي في اصطلاح أصحاب الحرف من دون نحت أو تقعر، كما كان يفعل سلفاؤهم في نقل الألفاظ الجديدة والأسماء الغريبة، والطباعة اليوم تتكفل لهم بضبطها أكثر مما كان يستطيعه النسخ لسلفائهم في الماضي.
•••
ولا يُؤخَذ من هذا القول أني أريد القضاء التام على علوم الأدب، ولا سيما في أحوالنا الخاصة التي تجعل هذه العلوم كل رأسمالنا في نهضتنا الحديثة، وإنما أريد أن أنبه إلى أنَّ قصر قوانا عليها اليوم مضيعة لنا كما كان مضيعة لنا ولسوانا في الماضي، فما علا كعب علوم الكلام في أمة إلَّا وكان القاضي عليها فلا نجعلها الغاية من حركتنا الفكرية الجديدة، بل نجعلها الواسطة لبلوغ ما هو أرقى وأهم مما ينفعنا في حياتنا العملية الاجتماعية، فلا ننخدع كثيرًا بنهضتنا الأدبية فنستنيم عليها أو ننصرف بها إلى إضاعة الوقت، بمباحث لا طائل تحتها نتصل منها إلى جدال لا فائدة منه سوى أن نموَّه به على أنفسنا أنه هو العلم، بل نحوِّل قوانا المتجمعة والكامنة فينا إلى ما يرفع عماد العمران ويرقيه كما هو اليوم؛ ليكون لنا في ذلك قسط راجح، ولنكون له أعوانًا أيضًا لا عقبات، وهذا لا يتم لنا بالسياحة في فضاء الخيال والتلفت دائمًا إلى الماضي، للبحث في مطويات الأدراج والتغني بمجد الآباء والبكاء على الأطلال، بل بالنظر في حاضرنا في الاجتماع ومستقبلنا، وإذا نظرنا إلى ماضينا نظرًا كليًّا فللمقابلة فقط لإظهار الفرق وأسبابه للعيان ليسهل علينا الانتقال إلى الأحسن، لا لإضاعة الوقت والتلهي بمباحث عقيمة لا تهم حاضر الاجتماع ولا مستقبله بشيء، وأقل إضرارها بنا الجمود، والعمران لا يرتقي إن لم تكن وجهته في كل أعماله التزيُّد ولا يتزيد إلا إذا أكثر اشتغاله بما أمامه وقل تلفُّته إلى ما وراءه.
•••
ومنذ ذلك التاريخ إلى اليوم أنا أنظر إلى الأمام البعيد وأرجع في سيري إلى الوراء، وأرى أكثر الناس حولي على الضد يسيرون متلفتين كثيرًا إلى الوراء ويتقدمون سريعًا إلى الأمام، وهو من غريب المفارقات الكثير وقوعها، فلعل الذين تستهويهم الألغاز يأتون بحل هذا المجاز، أو على الأقل يعلمون ما علمته أنا فيتَّقونه هم: يعلمون أن الطِّلْبة التي تُستجَاب هي طلبة الشباب. فلا يتمنون في شبابهم ما لا يودونه في شيخوختهم؛ لئلا يعود يخطر على بالهم مثل هذا القول: