الفصل الثاني عشر
التَّوزيعُ الجغرافي
التوزيع الجغرافي الحالي لا يمكن تعليله بالاختلافات الواقعة في الظروف
الطبيعية – أهمية العوائق – علاقات الكائنات الحية في قارَّةٍ بعينها – مراكز
الخلق – وسائل الانتشار وَفقًا لتغيرات المناخ ومستوى الأرض والأسباب العرضية –
الانتشار في أثناء العصر الجليدي – تناوُب العصور الجليدية في الشمال وفي
الجنوب.
***
إذا نظرنا في استيطان الكائنات العضوية على ظهر الأرض، فإن أول حقيقة عظيمة تجابهنا،
هي أن المشابهات أو المباينات بين قُطَّان الأصقاع المتفرقة لا يمكن تعليلها — جملة —
بالأسباب المناخية أو غيرها من الظروف الطبيعية. ولقد وصل إلى هذه النتيجة كل باحث درس
هذا الموضوع، وإن حالة أمريكا وحدها لكافية لأن تثبت صحتها، وإذا غضضنا النظر عن
الأصقاع القطبية والأصقاع المعتدلة الشمالية، نجد أن كل المؤلِّفين يتفقون على أن من
أخصِّ التقسيمات في التوزيع الجغرافي، تقسيم الدنيا الجديدة والدنيا القديمة، ومع هذا
فإننا إذا سافرنا عابرين القارة الأمريكية العظيمة من وسط الولايات المتحدة حتى أقصى
الطرف الجنوبي، فإننا نواجه من طبيعة الحالات أشدها اختلافًا وتباينًا، باحات رطبة،
وصحارى قاحلة، وجبالًا شامخة، وسهولًا مُعشِبة، وغابات ومستنقعات، وبحيرات، وأنهارًا
عظيمة، تكتنفها جميعًا درجات من الحرارة مختلفات، وليس في الدنيا القديمة من مناخ أو
حالة طبيعية، لا يمكن أن يقابلها مشابه لها في الدنيا الجديدة، مشابه هو على الأقل بقدر
ما يحتاج إليه نوع بذاته في كلا الشِّقين، ومما لا ريب، فيه أنه من الممكن أنْ نشير إلى
باحات في الدنيا القديمة أشد احترارًا من أية باحة في الدنيا الجديدة. غير أنَّ هذه غير
مأهولة بمجموعة حيوانية تختلف عن تلك التي تأهل بها البِقاع المحيطة بها، ذلك بأنه يندر
أن تجد عشيرة من العضويات مقتصرًا مقامها على باحة صغيرة، اختصت بظروف طبيعية، انفردت
بها ولو بصورة تافهة، ومهما يكن من أمر هذه الموازاة العامة في مقايسة الحالات الطبيعية
بين الدنيا القديمة والدنيا الجديدة، فأيُّ تباين ذاك الذي تقع عليه بين أهلياتها
الحية!
فإذا قابلنا في نصف الكرة الجنوبي بين رقاع كبيرة من الأرض في أستراليا، وجنوبي
أفريقيا، وجنوب غربي الولايات المتحدة تقع بين خطى العرض ٢٥
° و٣٥
°، فقد نجد أجزاء
تتشابه جد التشابُه في جميع ظروفها الطبيعية، في حين أنه يتعذر أن نذكر ثلاث مجموعات
حيوانية
١ وأخرى نباتية
٢ بلغ تباينها بعضها من بعض مبلغ تبايُنِ الأحياء التي تقْطُن تلك الرِّقاع،
ثم نعود بعد ذلك إلى المقابلة بين أهليات أمريكا الجنوبية تحت خط العرض ٣٥
° بتلك التي
تعيش عند الخط ٢٥
° شمالًا، وهي مواقع يفصل بينها عشر درجات عرضية، كما تسودها ظروف
طبيعيةٌ بلغت أقصى التباين والاختلاف، ومع هذا نجد أن أهلياتها يتصل بعضها ببعض اتصالًا
كبيرًا، بحيث نجده أوثق من اتصالها بأهليات أوستراليَّة أو إفريقيَّة، في ظل حالات
مناخية تكاد تكون واحدة، وإن من الحقائق ما يثبت أن ذلك ينطبق تمامًا على قُطَّان
البحار.
حقيقة كبيرة أخرى تأخذ بألبابنا في هذا الصدد، هي أن العوائق الطبيعية بأنواعها،
والعقبات التي تحُول دون الهجرة، لها صلة وثيقة واضحة بالتباينات القائمة بين أهليات
أصقاع متفرقة، نأنَسُ ذلك في الفروق الكبيرة بين جميع الأهليات الأرضية في الدنيا
الجديدة والدنيا القديمة، ما عدا الأجزاء الشمالية، حيث تتواصل باحات الأرض، وحيث
يُتَّفَق أن يكون قد حدثت هجرة حُرَّةٌ عمدت إليها صور المناطق الشمالية المعتدِلة في
ظل حالات مناخية قليلة الاختلاف، على النحو الذي نراه الآن قائمًا بين أهليات منطقة
الجمد. يثبت لدينا هذه الحقيقة، ذلك الفَرق الكبير الكائن بين أهليات أستراليا وأفريقيا
وجنوبي أمريكا على خطوط عرض واحدة، ذلك بأن هذه البقاع منعزل بعضها عن بعض جهد ما تكون
العزلة، وكذلك نأنس هذه الحقيقة ماثلة في كل قارَّةٍ من القارات. فعلى جانبي سلاسل
الجبال الشامخة المتواصلة الامتداد والصحارى الكبار، وحتى على جانبي الأنهر الكبيرة،
نقع على أهليات متباينة، وبالرغم من أن سلاسل الجبال والصحارى وغير ذلك من العوائق التي
لا يحتمل أن تكون قد بقيت على ما هي عليه زمنًا طويلًا، ولا تبلغ من المَنَعة على
مجتازيها مبلغ المحيطات التي تفصل بين القارات، نجد أن المباينات أقل كثيرًا من تلك
المباينات التي نشهدها بين القارات المنفصلة.
إذا رجعنا إلى البحر، ألفينا أنَّ القاعدة نفسها مُطبَّقة فيه، فالحياة البحرية في
الشاطئين الشرقي والغربي لجنوبي أمريكا معينة تمامًا، وليس بها إلا قليل من القِشريات
٣ أو الشوك جِلديات
٤ بوجه عام. غير أن دكتور «جونتر» قد كشف حديثًا عن أن حوالي ثلاثين في
المائة من الأسماك التي تقطن جانبي برزخ «بناما» واحدة، فساقت هذه الحقيقة المواليديين
إلى الاعتقاد بأن هذا البرزخ كان مفتوحًا من قبل. وفي غربي شواطئ أمريكا باحة واسعة من
المحيط لا تتخللها جزيرة يمكن أن يتخذها المهاجرون محِلًّا للاستجمام، وهنا نقع على
عائق من صنف آخر، وبمجرد أن نتجاوزه، نقابل جزر المحيط الهادي الشرقية التي تأهَل
بمجموعة حيوانية مختلفة تمامًا عن غيرها. وبذلك نرى أن هنالك ثلاث مجموعات حيوانية
تنتشر في خطوط متوازية، لا يبْعُد بعضها عن بعض من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، وهي
تعيش في ظل حالات مناخية متشابهة، غير أن هذه المجموعات إذ يفصل بين بعضها وبعض عوائق
منيعة، إمَّا يابسة وإمَّا بحرًا، فجميعها مُستقِلٌّ عن غيره. ثم إننا إذا تقدمنا
ضاربين نحو الغرب من حدود الجزر الموجودة في أجزاء المحيط الهادي الاستوائية، نواجه
عوائق منيعة لا تُقتَحم، بل نجد عددًا وافرًا من الجُزُر، يمكن أن تُتَّخذ مواضع
استجمام، أو شواطئ متواصلة، حتى إذا ما قطعنا رحلتنا عابرين نصف الكرة الأرضية، نواجه
شواطئ أفريقيَّة، وفي خلال هذه الرقعة المترامية الأطراف لا نقع على مجموعات بحرية
معينة الصفات والخِصِّيات. وبالرغم من أن قليلًا من الحيوانات البحرية تشيع في تلك
المجموعات الحيوانية الثلاث التي أشرنا إليها قبل، والتي تتقارب مناطقها في شرقي وغربي
أمريكا، وجزر المحيط الهادي الشرقية، فإنا نجد أن كثيرًا من الأسماك تنتشر من المحيط
الهادي إلى المحيط الهندي، وأن أصدافًا كثيرة بعينها تذيع في جزر الهادي الشرقية، وفي
شواطئ أفريقيا الشرقية، في مناطق تقع على خطوط زوال طولية تكاد تكون متناظرة.
ثالثة الحقائق الكبرى، حقيقة مضمَّنة جزئيًّا في العبارات السابقة، وهي الصلات
المتبادَلة بين أهليات القارة الواحدة أو البحر الواحد، ولو أن الأنواع تكون معينة
منفصلة في كثير من الاعتبارات، وفي المواضع المختلفة، وذلك قانون واسع من حيث المدى
التعميمي، وكل قارة تزودنا منه بأمثال لا تُعدُّ ولا تُحصى، ومع كل هذا فإن المواليدي
إذا سافر مثلًا من الشمال إلى الجنوب، فلا يتخلف عن أن يُؤخذ بتعاقب عشائر من الأحياء،
انفصلت نوعيًّا، وتقاربت نسبيًّا، يحل بعضها محل بعض، ولقد يطرق سمعه نغمات تتشابه
تقريبًا، تبعث بها طيور متقاربة اللُّحمة منفصلة النوعية، ويرى أعشاشها وقد تشابهت في
البناء من غير أن تتماثل، وبيضها يكون على صورة واحدة تقريبًا. ولقد نشهد أن السهول
الواقعة بمقربة من «خليج ماجلان» مأهولة بنوع من «الربة»
٥ (النعامة الأمريكية) وأنه إلى شمالي ذلك، وفي سهول «اللابلاتا» نوع آخر من
الجنس نفسه، ولكنها لا تأهل بنعام حقيقي كذاك الذي يقطن أفريقيا أو «الأمْوُ»
٦ ذاك الذي يسكن أستراليا في بقاع تقع عند خط العرض ذاته. في سهول
«اللابلاتا» التي سبق ذِكْرها، يوجد «الأغوط»
٧ و«الوسقاش»،
٨ وهما حيوانان لهما نفس عادات الخزاز
٩ والأرانب،
١٠ ومن نفس مرتبة القوارض،
١١ في حين أننا نستظهر فيها طرازًا تركيبيًّا أمريكي الصبغة، فإذا ارتقينا
جبال «الكودليرة» الشامخة، عثرنا على نوع ألبي
١٢ من «الوسقاش»، وإذا تحولنا إلى الماء ونظرنا فيه لم نجد «الحارود» ولا فأر
المسك، وإنما نجد «الكيب»
١٣ و«الخزيوم»،
١٤ وهما من قوارض أمريكا الجنوبية. ونستطيع أن نضرب على ذلك أمثالًا كثيرة.
أمَّا الجزر البعيدة عن الشاطئ الأمريكي، مهما يكن من أمر اختلافها اختلافًا كبيرًا في
التركيب الجيولوجي، فأهالها أمريكيون صرفًا، ولو أنهم جميعًا أنواع خاصة معينة، وقد
يرجع البصر كَرَّة إلى الدهور السالفة كما فعلنا في الفصل السابق، لنرى الطُّرز
الأمريكية سائدة في القارة الأمريكية، وفي بحارها، ويتضح لنا من هذه الحقائق أن هنالك
رابطة عضوية عميقة الجذور، ظلت قائمة في خلال الزمان والمكان، سائدة في باحات بذاتها
من
اليابسة ومن الماء، مستقلة عن الظروف الطبيعية، وإن مواليديًّا يغفل البحث في هذه
الرابطة، لشديد الغفلة.
هذه الرابطة هي «الوراثة»، ذلك السبب المؤثِّر الذي ينفرد — وذلك بقدر ما نعْلَم
إيجابيًّا — بتنشئة عضويات يماثل بعضها بعضًا جد المماثلة، وأخريات كما نرى في الضروب
قريبة التشابه. إن اختلافات الأهليات في الأصقاع المتفرقة قد يُعْزى حدوثه إلى التكيف
بتأثير التحول والانتخاب الطبيعي، وربما حدث أيضًا — ولكن بدرجة ثانوية — خضوعًا
للتأثير المحدود الذي تفرضه الظروف الطبيعيَّة المختلفة، وتتوقف درجات التباين على أن
هجرة الصور ذوات السيادة والغلبة من رقعة إلى أخرى، قد تتعذر قليلًا أو كثيرًا، وفي
عصور قريبة أو بعيدة، وذلك تبعًا لطبيعة عدد المهاجرين السابقين، وأثر السكان بعضهم في
بعض؛ إذ يسوق إلى الاحتفاظ بالتكيفات المختلفة، وإن علاقة بعض الكائنات العضوية ببعض
في
معركة التناحُرِ على البقاء، كما أبَنتُ عن ذلك مرارًا، هي أكبر العلاقات أثرًا وفعلًا.
أمَّا الأهمية العظمى للعوائق الطبيعية، فتظهر واضحة في صَدِّ الهجرة، شأنها في ذلك شأن
الوقت في عملية التكيف البطيئة عن طريق الانتخاب الطبيعي، والأنواع الواسعة الانتشار
الكثيرة عدد الأفراد، والتي سيطرت على كثير من المنافسين في مآهلِها الواسعة الرقاع،
تكون لها الفرصة المثلى في الاستيلاء على مراكز أخرى، عندما تنتشر في بلاد جديدة، وفي
مآهلها الجديدة سوف تتعرض لظروف جديدة، وسوف يتوارد عليها دراكًا كثير من صنوف التكيف،
والارتقاء، وبذلك تصبح أمعن انتصارًا، مكوِّنة عشائر من الأخلاف المتكيفة. وعلى هذه
السُّنَّة — سُنة الوراثة مشفوعة بظاهرة التكيف — نستطيع أن ندرك كيف أن أقسامًا من
أجناس أو أجناسًا برمَّتها أو حتى فصائل، تقتصر في البقاء على باحة واحدة، على النمط
الذي نراه واقعًا تحت أعيننا.
ليس ثَمَّةَ من بينة، كما بينا من قبل، على وجود أي قانون حتمي للنمو، فإن القدرة
التحولية الخاصة بكل نوع من الأنواع، إذ هي موهبة مستقلة خاصة به لا يستخدمها الانتخاب
الطبيعي إلا ابتغاء النفع الذي يعود على كل فرد في معركته القاسية المعقدة في سبيل
الحياة، كذلك مقدار التكيف في الأنواع المتفرقة، لا يكون متساوي المقدار، فإذا وقع لعدد
من الأنواع أن هاجرت جملة إلى رقعة جديدة معزولة، بعد أن نافس بعضها بعضًا، وتجالدت في
حدود مآهلها الأصلية، فإن استعدادها للتكيُّف يكون زهيدًا، ذلك بأن الهجرة أو العزلة
كلتاهما ليست بمؤثرة فيها شيئًا، فإن هذه العوامل لا تؤثر إلا من طريق أنها تعرض
الأحياء العضوية لأثر صلات جديدة، وبدرجة أقل، لأثر الظروف الطبيعية المحيطة بها. ولقد
رأينا في الفصل السابق أنَّ بعضًا من الصور قد احتفظت بخِصِّيات ثابتة منذ أحقاب
جيولوجية موغلة في القِدَم، وبذلك قد يتفق أن تكون أنواع قد هاجرت في باحات بالغة
الاتساع، من غير أن يصيبها التكيف أو أنها لم تتكيف البتة.
ووفقًا لهذه الاتجاهات يكون من الواضح أنَّ الأنواع المختلفة التابعة لجنس بذاته،
ولو
أنها تستوطن أصقاعًا بالغة التَّنائي عن بعضها البعض على سطح الأرض، لا بُدَّ أن تكون
قد انحدرت من نبع واحد، بحكم أنها تولدت من أصل أولي بذاته. أمَّا حالة تلك الأنواع
التي لم تتكيف إلا قليلًا في خلال أعقاب جيولوجية برمتها، فلا صعوبة في الاعتقاد بأن
هجرتها اقتصرت على الصُّقْعِ نفسه. فإنه في خلال تلك التغيرات الجغرافية والمناخية
الكبرى التي وقعت اتفاقًا منذ العصور القديمة، كانت الهجرة ممكنة على أي مقياس وبأي
مقدار. ولكن في تلك الحالات الكثيرة التي يحق لنا أن نعتقد معها أن أنواع أيِّ جنس من
الأجناس قد تولَّدت في عصر حديث نسبيًّا، فهنالك تكتنفنا صعوبة كبرى. وكذلك من البَيِّن
أن أفراد النوع الواحد، ولو أنها تأهل الآن برقاع بعيدة منعزلة، لا بد من أن تكون قد
بدأت هجرتها من نقطة تأصلت فيها أسلافها الأوالي، ولقد وضحنا قبلًا أنه ممَّا لا يمكن
تصديقه أن تكون الأفراد المتجانسة قد انحدرت من آباء مستقلة نوعًا.
(١) الدَّعوى بوجود مواطِن مستقِلَّة للخَلْق
نعرض الآن لمشكلة كثيرًا ما ناقش فيها المواليديون؛ إذ يتساءلون عما إذا كانت الأنواع
قد خُلقت في بقعة أو بقاع متفرقة من الأرض. ومما لا شك فيه أن هنالك حالات تعترضنا
بصعاب جمَّة إذا ما أردنا أن نفهم كيف أن نوعًا بذاته قد يسهل أن يكون قد هاجر من بقعة
إلى أخرى بعيدة منعزلة، حيث يوجد الآن. ومع ذلك فإن سهولة القول بأن كل نوع قد نشأ
بديًّا في حدود صقع معين، تستغرق العقل وتأثره. أمَّا ذاك الذي يرفضه، فإنه يرفض كذلك
السبب الحقيقي للتولد الأجيالي الطبيعي، وما يتبعه من ظاهرة الهجرة، ويدلف إلى القول
بفعل المعجزة. ومما هو مُسلَّم به على إطلاق القول أن الباحة التي يأهل بها كل نوع تكون
متواصلة في أغلب الحالات، وأنه إذا ما استوطن نبات أو حيوان بقعتين بعيدة إحداهما عن
الأخرى، أو تفصلهما مسافة هذه شاكلتها، حتى لقد يتعذر اجتيازها بسهولة عند الهجرة، فإن
هذه الحقيقة تلوح كأنما هي شاذة أو مذهلة. والعجز عن الهجرة عبر البحار الواسعة،
أَبْينُ عند النظر في الثدييات الأرضية، منها عند النظر في أي غيرها من الكائنات
العضوية، ووفقًا لذلك لا نقع على أمثال يتعذر تفسيرها عن ثدييات واحدة تقطن بقاعًا
مستقلة من الأرض، وما من عالِم جيولوجي يأنس أية صعوبة في تعليل أن بريطانيا تأهل بنفس
ذوات الأربع
١٥ التي تأهل بها أوروبا؛ لأنهما كانتا متواصلتين وقتًا ما بغير شك. ولكن إذا
كان من الممكن أن تتولد أنواع بعينها في نقطتين مستقلتين، فلِمَ إذن لا نجد حيوانًا
ثدييًّا بعينه ذائعًا في أوروبا وأستراليا وأمريكا الجنوبية؟
إن ظروف الحياة واحدة تقريبًا؛ ولذا فإن عددًا من حيوانات أوروبا ونباتاتها، قد
توطَّنت في أمريكا وأستراليا، وأن بعض النباتات الأرومية
١٦ المتماثِلة تذيع في بقع متباعدة من نصفي الكرة الشمالي والجنوبي. أمَّا
الجواب على هذا فينحصر — على معتقدي — في أن الثدييات غير قادرة على الهجرة، في حين أن
بعض النباتات — لاختلاف وسائل توزعها وانتشارها — قد استطاعت أن تهاجر عبر آفاق واسعة
منعزل بعضها عن بعض، وأن أعظم ما للحواجز الطبيعية بأنواعها من تأثير ملحوظ، لا يتسنى
لنا أن نفهمه حق الفهم إلا بأن نذهب إلى أن الغالبية العظمى من الأنواع قد تولدت في
جانب واحد، ثم عجزت عن الهجرة إلى الجانب الآخر، فإن قليلًا من الفصائل وكثيرًا من
الفصيلات، وعددًا وافرًا من الأجناس، وعددًا أوفر من فروع الأجناس، تقتصر مَواطِنُها
على صقع واحد.
ولقد لاحظ كثير من المواليديين أن أكثر الأجناس أصالة الصفات الطبيعية؛ أي تلك
الأجناس التي تتصل أنواعها اتصالًا وثيقًا في النسب السلالي، هي في الأكثر مقصورة
المقام على رُقعة واحدة، فإذا كانت واسعة الانتشار، فانتشارها متواصل غير متقطع. وأي
تناقض أو شذوذ ذاك الذي نأنسه ونحسُّه، إذا ما سادت سُنَّة أخرى مناقضة لهذه السُّنة،
عندما ننحدر خطوة إلى أسفل المنظومة، وأعني بذلك أفراد النوع الواحد، أولئك الذين لم
يقتصروا في المقام على صقع واحد، ولو في أول الأمر على الأقل.
ومِنْ هنا يلوح لي — وعلى ما يرى كثير من المواليديين — أن القول بأن كل نوع من
الأنواع قد تولَّد في باحة واحدة لا غير، ثم هاجر بعد ذلك من هذه الباحة ضاربًا في
هجرته إلى أقصى ما تصل إليه قدراته ووسائل معاشه في ظل الظروف الطبيعية ماضية وحاضرة،
هو القول الأرجح في الغالب. وممَّا لا شك فيه أن هنالك حالات نقع عليها، لا نستطيع أن
نعلل معها كيف استطاع نوع بذاته أن ينتقل من موطن إلى آخر؟ غير أن التغيرات الجغرافية
والمناخية التي حدثت في خلال الأعصر الجيولوجية الحديثة، لا بد من أن تكون قد ردت تواصل
انتشار كثير من الأنواع، تقاطعًا وانفصالًا، ومن هنا نحمل على أن نكُبَّ على البحث فيما
إذا كانت الاستثناءات في تواصل الانتشار كثيرة العدد خطيرة الصبغة، بما يحملنا على
اطراح الرأي (الذي ترجحه لدينا اعتبارات عامة) القائل بأن كل نوع من الأنواع قد
استُحدِث في حدود باحة واحدة، ثم هاجر من ثم إلى أبعد ما أهلت به قدراته. بالرغم مما
يرجحه لدينا من الاعتبارات العامة، ومما لا مأمل فيه أن نتناول بالبحث كل الحالات
الاستثنائية التي تقلب فيها نوع بذاته، يقطن الآن مواطن متباعدة منفصلة، كما أني لا
أدعي أن من المستطاع أن نأتي بتعليل لحالات كثيرة، غير
أني — بعد تمهيد مبدئي — سأناقش في أروع ما نأنس من
حقائق الحالات، وأعني بها وجود أنواع بذاتها على قِسم سلاسل الجبال النائية، وفي مواطن
قَصيَّة من منطقتي الجمد، الشمالية والجنوبية، ثم أُعقِّبُ على ذلك (في الفصل التالي)
بالبحث في سعة انتشار أحياء الماء العذب، وثالثًا في وجود الأنواع الأرضية الواحدة في
الجزر، وفي أقرب الأرض القارة منها، ولو أنها تكون منفصلة بمئات الأميال من البحار
المفتوحة، فإذا أمكن تعليل كثير من حالات انتشار نوع بذاته في مواطن متنائية منعزلة من
ظهر الأرض، على قاعدة أن كل نوع قد هاجَر من مكان تأصُّله الأول، ووعينا مقدار ما نحن
عليه من جهل بالتغايرات المناخية والجغرافية وبوسائل الانتقال المختلفة التي تهيأت في
الماضي، فيلوح لي أن أسْلَمَ سبيل هو الاعتقاد بموطن تأصلي واحد.
سوف يتيسر لنا في أثناء بحث هذا الموضوع أن نتدبر — في الوقت نفسه — موضوعًا آخر
لا
يَقِلُّ أهمية، وينحصر هذا الموضوع في التساؤل عما إذا كانت جملة من أنواع جنس بذاته
وهي — بمقتضى نظريتي — ينبغي أنْ تكون منحدرة من أصل أرومي
١٧ عام، كانت قد استطاعت أن تهاجر من باحة ما متكيفة في أثناء هجرتها. فإذا
أمكننا أن نظهِر أن الهجرة من صقع إلى آخر قد يُحتمل أن تكون قد وقعت في عصر سابق لا
نعرفه؛ أي عندما كانت أكثر الأنواع القاطنة صقعًا ما مباينة لتلك التي هي في صقع غيره،
بالرغم من قرابتهما.
١٨ فإن وجهة نظرنا العامة سوف تصبح أكثر قوة، ذلك بأن تفسير ذلك واضح على
قاعدة النشوء عن طريق التكيف، فجزيرة بركانية مثلًا، إذا هي ارتفعت وتكوَّنتْ فوق الماء
بعد مئات قليلة من الأميال من قارة، فقد يتفق أن تتلقى من القارة على مر الزمن قليلًا
من المستعمرين، في حين أن أخلافهم، بالرغم من وقوع التكيف عليهم، يستمرون ذوي صلة في
النسب الوراثي بقُطَّان تلك القارة. والحالات التي هي من هذه الصبغة كثيرة، وهي على ما
سوف نرى بعدُ، يتعذر تفسيرها بنظرية الخَلْق المستقل. أمَّا نظرية التواصل بين أنواع
صقع معين بأنواع غيره، فلا تختلف كثيرًا عن تلك النظرية التي قال بها «مستر وولاس»
والتي أَجْمَلَها في قوله: «إن كل نوع إنما نشأ في الوجود مزاملًا في كل من الزمان
والمكان، أنواعًا موجودة قريبة الصلة به.» وإنه لمن المعروف الآن، أنه إنما عُزِيَ ذلك
إلى النشوء عن طريق التكيف والتحول.
إن القول بوجود مركز واحد أو مراكز كثيرة وقع فيها حدث الخلق، مسألة ذات اتصال بمسألة
أخرى، وإن كانت ذات اتصال بها، تلك هي البحث فيما إذا كانت أفراد النوع الواحد قد
انحدرت من زوج بذاته، أو من صورة خنثية
١٩ بذاتها، أو ما إذا كانت — على ما يذهب إليه بعض المؤلِّفين — من مجموع من
الأفراد خُلقت في وقت معين. ففي دنيا الكائنات العضوية التي لا تتراوح، ينبغي لكل نوع
أن ينحدر من ضروب متكيفة تظهر متعاقبة احتل بعضها مركز بعض، من غير أن تمتزج بأفراد أو
ضروب أخرى تابعة لنفس النوع، بحيث إنَّه في كل مرحلة تالية من مراحل التكيف، تكون كل
الأفراد التابعة لصورة قد انحدرت من أصل والدي واحد، ولكننا نشهد في الأغلب من
الحالات — وبخاصة العضويات التي تتزاوج عند كل ميلاد،
أو تلك التي تتزاوج اتفاقًا — أن أفراد النوع الواحد التي تقطن باحة معينة، تظل متجانسة
الصفات تقريبًا بفعل التزاوج فيما بينها، حتى إن كثيرًا من الأفراد تستمر متغايرة، وأن
مقدار التحول في كل مرحلة، لا يمكن أن يكون راجعًا إلى انحدارها من أصل والدي واحد،
ولنبين ذلك بمثل نضربه، فإن جِياد السباق الإنجليزية تختلف اختلافًا بينًا عن كل
الأنسال الأخرى، غير أن مبايناتها وتفوقها لا يرجع إلى انحدارها من زوج واحد بذاته، بل
يعود إلى العناية المستمرة في انتخاب أفراد مُنتَقاة، وتدريبها من كل جيل من
أجيالها.
وقبل أن نناقش تلك الحقائق الثلاث التي اخترتها لتكون عنوانًا على الصعاب التي تواجه
مذهب «وجود مراكز مفردة للخلق»، أرى من واجبي أن أمضي قليلًا في شرح وسائل
الانتشار.
(٢) وسائل الانتشار
لقد عالج «سير تشارلس لايل» وغيره هذا الموضوع بجدارة ومقدرة فائقة، وسأقصر القول
هنا
على ملخص وجيز عن أهم الحقائق.
إن تغير المناخ لا بُدَّ أنه كان ذا أثر قوي في الهجرة، فصقع من الأصقاع أصبح الآن
منيعًا على بعض العضويات، فلا يتيسر لها اجتيازه لطبيعة مناخه، قد يتفق إن كان في
الماضي مسلكًا سهلًا ذلولًا للهجرة عندما كان مُناخه غيره الآن، وسأتكلم في هذا الموضوع
بشيء من الإطناب. فتغير المستوى الأرضي لا بد أنه كان بالغ التأثير، فبرزخ ضيِّق قد
يفصل الآن بين مجموعتين من الحيوانات البحرية، دَعْهُ ينغمر الآن، أو افرِض أنه انغمر
في الماضي، فإن المجموعتين لا بد من أن تتخالطا وتندمجا، إن لم تكونا قد تخالطتا في
الماضي. وقد يتفق أنه حيثما يمتد البحر الآن، فإن الأرض اليابسة في ماضي العصور ربما
كانت قد وصلت بين جزر أو بين قارات، وبذلك تيسر لآهلات اليابسة أن تنتقل من إحداهما إلى
الأخرى، ولا ينكر واحد من الجيولوجيين حقيقة أن كثيرًا من تغايرات كبرى فجائية قد أصابت
مستوى الأرض في العصر الذي عاشت فيه العضويات الحاضرة. ويعتقد «إدوارد فوريس» أن كل
الجزر المتناثرة في المحيط الأطلسي، كانت متصلة منذ عهد قريب بأوروبا أو أفريقيا، وأن
أوروبا كانت متصلة بأمريكا، وذهب غيره من الكتَّاب مذهب الفرض، فعبروا جميع المحيطات
بمعابر ربطت تقريبًا بين كل جزيرة وأرض قارة، فإذا وثقنا بالبراهين التي أتى بها
«فوريس»، فلا مهرب لنا من أن نعترف بأنه قلَّما وُجِدت جزيرة لم تكن متصلة بقارة في
حدود العصر الجيولوجي الحديث. وهذا الرأي من شأنه أن يقطع «العقدة الجوردية»
٢٠ في تعليل انتشار النوع الواحد إلى رقاع متنائية أشد التنائي، ويقضي على
كثير من المشكلات.
غير أننا — على ما أرى — لا حق لنا في أن نسلِّمَ بحدوث مثل هذه التغايرات الجغرافية
الجُلَّى، في خلال العصر الذي عاشت فيه أنواعنا الموجودة، ويلوح لي أن لدينا كثيرًا من
الشواهد الدالة على كثير من الذبذبات التي أصابت مستوى البحر واليابسة، ولكنها لا تدلُّ
على مثل تلك التغيرات الواسعة في مقر القارات وامتدادها، بحيث تكون قد وحدت بينها في
خلال العصر الحديث، كما وحَّدت بين الجزر الأوقيانوسية العديدة الواقعة بينها. وإني
لأسلِّم غير متحفظ بوجود كثير من الجزر أصبحت الآن مغمورة تحت سطح البحر، وكانت في
الماضي بمثابة محطات انتقال للنباتات وكثير من الحيوانات في أثناء هجراتها. وفي البحار
التي يتولد فيها المرجان، نرى مثل هذه الجزر المغمورة مدلولًا عليها بحلقات من
المَرْجان؛ أي إن الأواطيل
٢١ بارزة من فوقها، وحينما نسلِّم غير
متحفظين — كما سوف نسلِّم في المستقبل — بأن كل نوع
قد نشأ في مكان واحد معين هو «مسقط رأسه»، وعندما نعرف على مر الزمن شيئًا ثابتًا
محدودًا عن وسائل الانتشار، فهنالك سوف نستطيع أن نتدبر — بأمان وثقة — مقدار امتداد
اليابسة، غير أني لست على اعتقاد بأنه سوف يقوم الدليل على أن أكثر قاراتنا الحاضرة
التي هي منفصلة الآن، كانت في أثناء العصر الجيولوجي الحديث، متواصلة مرتبطة، أو كادت
تكون كذلك بعضها ببعض، وبكثير من الجزر الأوقيانوسية الموجودة الآن، وإن كثيرًا من
حقائق الانتشار، ومثلها الفروق العظمى بين المجموعات الحيوانية البحرية المستوطنة على
جانبي كل من القارات تقريبًا، والصلات القريبة بين آهلات العصر الثالث في بقاع اليابسة
المتفرقة وحتى آهلات البحار وآهلاتها الحاضرة، ومقدار اللُّحمة بين الثدييات التي تقطن
الجزر، وتلك التي تقطن أقرب القارات إليها، وأنها خاضعة جزئيًّا (كما سنرى بعد) لعمق
الأوقيانوس الفاصل بينها. جماع ذلك، وغيره من الحقائق، تحُوْلُ دون التسليم بحدوث مثل
تلك الثورات الجغرافية الجُلَّى في حدود العصر الجيولوجي الحديث، أو أنها ضرورية على
ما
يقضي به الرأي الذي كونه «فوريس» وأيَّده أتباعه.
وإن طبيعة الأحياء الآهلة بالجزر الأوقيانوسية ونسبتها، كذلك تتعارض والاعتقاد بسابق
تواصلها القارِّيِّ. أضف إلى ذلك أن الغالب الماثل من التركيب البركاني لمثل هذه الجزر،
لا يجيز لنا التسليم بأنها حطام قارات انغمرت وابتلعها البحر، أمَّا إذا كانت قد وُجِدت
في صورة سلاسل من الجبال القاريَّةِ، فإن بعضًا من الجزر قد يُحتمل أن تكون قد تكوَّنت
كما تتكوَّن غيرها من رءوس الجبال من الجرانيت
٢٢ والمرو المتحول
٢٣ والصخور الأحفورية
٢٤ وغيرها من الصخور، بدلًا من أن تتألف أعمدة من المادة البركانية.
ومن واجبي الآن أنْ أتكلم بإيجاز عما سُمِّي «الأسباب الطارئة»، والأصح أن تُسمى
«الأسباب العرضية» للتوزيع، قاصرًا بحثي على النبات، فقد نقع في كثير من المؤلَّفات في
النبات، أن هذا النبات، أو ذاك، أقلُّ تهيؤًا للانتشار الواسع، غير أن ميسرات الانتقال
عبر الأوقيانوس، سواء أكانت كبيرة أو ضئيلة، قد ظلت مجهولة تمامًا، وحتى بدأت
أجري — بمعاونة «مستر بركلي» — تجارب قليلة، لم يكن
يُعرَف إلى أي حَدٍّ يمكن للبذور أن تقاوم الأثر الضار لماء البحر. ولشد ما كان عجبي
إذ
استبنتُ أنَّ من ٨٧ صنفًا، أنبت ٦٤ بعد أن غُمِرت ٢٨ يومًا، وقليل منها استطاعت أن
تقاوم أثر الانغمار ١٣٧ يومًا، ومما يستحق النظر أن بعض رُتَب النبات قد أصابها الضرر
أكثر كثيرًا من غيرها، فقد جربت في تسعة من «القرنيات»،
٢٥ فوجدت أنها شديدة التأثر بالماء الملح ما عدا واحدًا منها. وسبعة أنواع من
مرتبتين قريبتي الصلة هما: «الإدروفلية»
٢٦ و«الفُلَّامونيَّة»،
٢٧ قُتلت جميعًا بعد غمرها شهرًا واحدًا، ومن أجل أن أطمئن إلى البحث جربت في
بذور صغيرة مجردة من حوافظها والثمر، فلما شهدت أنها غطست في الماء جميعًا في خلال بضعة
أيام، استبنت أنها لا يمكن أن تكون قد عامت عبر باحات واسعة من البحر، سواء أضرَّ بها
البحر أم لم يضرها، جرَّبتُ بعد ذلك في ثمار علبية أكبر حجمًا، فوجدت أن بعضها قد
استطاع أن يعوم زمنًا طويلًا، ومن المعروف أن هنالك فَرقًا بين قدرة العوم في الخشب
الأخضر والخشب الجاف. ومن هنا خطر لي أن الفيضانات قد يغلب أن تكون قد جرفت إلى البحر
نباتات جافة أو أغصانًا تحمل حوافظ البذور أو الثمار العالقة بها، ومن ثمة مضيت أجفف
أفرعًا وأغصانًا تحمل ثمارًا ناضجة، اخترتها من ٩٤ نباتًا، لألقي بها في ماء
البحر.
ولقد غطس أكثرها بسرعة، غير أن بعضها كانت خضرًا قد عامت مدة قصيرة، في حين عامَ
الجافُّ منها مدة أطول كثيرًا، فالبندق مثلًا غطس سراعًا، غير أنه عندما جَفَّ استطاع
أن يظل عائمًا ٩٠ يومًا، فلما زرعت أنبتت، وبعض من نباتات الهليون بها ثمار ناضجة عامت
٢٣ يومًا، فلما جُفِّفت عامت ٨٥ يومًا، ثم أنبتت بذورها بعد ذلك، والبذور الناضجة لنبات
«اللسَريون»
٢٨ غطست في خلال يومين، فلما جفت عامت أكثر من ٩٠ يومًا، ثم أنبتت. والجملة
أنه من ٩٤ نباتًا جافًّا، عام ١٨ أزيد من ٢٨ يومًا، وبعض من هذه الثمانية عشر، عامَ
مدةً أزيد بكثير. ولكن بما أن ٦٤ / ٨٧ صنفًا من البذور أنبتت بعد أن غُمرت ٢٨ يومًا،
وبما أن ١٨ / ٩٤ من أنواع مستقلة تحمل بذورًا ناضجة (وليست من الأنواع التي سبق ذكرها)
عامت بعد أن جُففت أكثر من ٢٨ يومًا، حق لنا أن نقضي، وذلك بقدر ما يحق لنا أنْ نستنتج
من هذه الحقائق، أن حبوب ١٤ / ١٠٠ من صنوف النبات في أي صقع من الأصقاع، يمكن أن تنجرف
عائمة بتيارات البحر مدة ٢٨ يومًا، محتفظة بقدرتها الإنباتية، ووفقًا للخرائط الطبيعية
التي وضعها «جونستون» نعرف أن متوسط سرعة كثير من تيارات المحيط الأطلسي هي ٣٣ ميلًا
كل
يوم (وبعض التيارات تجري بمتوسط ٦٠ ميلًا في اليوم)، وعلى هذا فبذور ١٤ / ١٠٠ من
النباتات المتوطنة في صقع بذاته، يمكن أن تعوم قاطعة ٩٢٤ ميلًا من باحة البحر إلى صقع
آخر، فإذا جنحت إلى بقعة صالحة بفعل عاصفة أرضية، أنبتت.
وتعقيبًا على تجاربي هذه، مضى «مسيو مارتنس» يُجري تجاريب أخرى أدق وأشمل؛ إذ عمد
إلى
وضع البذور في صندوق قَذفَ به في البحر فعلًا، حتى يتناوب عليها البلل والتعرض للهواء،
كما يحدث للنباتات العائمة تمامًا، واختار للتجربة ٩٨ بذرة، أكثرها يختلف عن البذور
التي أَجريتُ عليها تجاربي، غير أنه اختار ثمارًا كبيرة جدًّا، وكذلك ثمارًا من الأشجار
التي تعيش بمقربة من البحر، وأنَّ هذا لا بُدَّ من أنْ يكون قد ضاعف كلًّا من متوسط
قدرتها على العوم، ومقاومتها الأثر الضار الذي يحدثه ماء البحر. كذلك هو لم يجفف مقدمًا
النباتات ولا الفروع بثمارها، وهذا على ما رأينا مما يمكن أن يجعلها قادرة على العوم
مدة أطول. وكانت نتيجة ذلك أن ١٨ / ٩٨ من بذوره المختارة من صنوف مختلفة عامت ٤٢ يومًا،
ثم كانت صالحة للإنبات غير أني لا أشك في أن النباتات المعرضة لحركة الأمواج، تعوم مدة
أقل من تلك التي تُحْمى على الطريقة التي أجرينا بها هذه التجارب. لهذا كان من الأحكم
أن نفرض أنَّ ١٠ / ٩٠ نباتًا من مجموعة ما، بعد أن تكون قد جفت، يمكن أن تعوم قاطعة ٩٠٠
ميل في عرض البحر، ثم تنبت من بعد ذلك. أمَّا حقيقة أن الثمار الكبيرة قد تعوم مدة أطول
مما تعوم الثمار الصغيرة، فجديرة بالنظر، فإن النباتات كبيرة البذور أو الثمار، على ما
أظهر «ألفونس دي كاندول» محدودة مدى الانتشار، وقلما يتيسر لها الانتقال بوسيلة
أخرى.
وقد تنتقل البذور بعض الأحيان بوسائل أخرى، فالخشب المنجرف مع التيار يرسو على كثير
من الجزر، حتى الجزر التي تقع في جوف المحيطات الواسعة. وسكان الجزر المرجانية في
المحيط الهادي، يحصلون على الأحجار الصلدة لأدواتهم من جذر الأشجار المنجرفة، وليس من
غيرها، وهي عندهم من الإتاوات الملكية الثمينة، ولقد وجدتُ مع الأحجار غير المنتظمة
الشكل المندفنة في جذور الأشجار، أجزاء صغيرة من التربة كثيرًا ما تنطوي بين أجزائها
ومن داخلها، بحيث لا يمكن أن تكتسح — بحال من الأحوال — في أثناء سفرة انتقالية مهما
طال مداها، ومن جزء صغير من هذه التربة المندفنة في جذور بلوطة لا يقل عمرها عن خمسين
سنة فرخت ثلاث نباتات من ذوات الفلقتين، وإني لعلى يقين من صحة هذه المشاهَدَة، كذلك
في
مستطاعي أن أثبت أن جثث الطيور إذا طفتْ فوق البحر، فقد تفلت من أن تُلتهم مباشَرَةً
في
بعض الأحيان، وأن كثيرًا من أنواع البذور التي تكون في حواصل الطيور الطافية، قد تحتفظ
بحيويتها مدة طويلة، فالبسلة
٢٩ والجُلبْان
٣٠ مثلًا تُقتَل بذورها إذا انغمرت في ماء البحر أيامًا قليلة. ولكن أُخذ
بعضها من حوصلة حمامة، ظلت عائمة في ماء البحر ٣٠ يومًا، فأنبتت جميعها، مما أثار
عجبي.
والطيور الحية لا تني عن أن تكون عاملًا ذا أثر بالغ في نقل البذور، وفي استطاعتي
أن
أضرب كثيرًا من الأمثال التي تظهرنا على أن كثيرًا ما تَقذِف العواصف أنواعًا مختلفة
من
الطير عبر مسافات شاسعة من المحيط، ولقد نفرض آمنين، أنه في ظل مثل هذه الظروف غالبًا
ما تصل سرعة طيرانها ٣٥ ميلًا في الساعة. على أن بعض المؤلِّفين قَدَّر ذلك بنسبة أكبر
كثيرًا، ولم يقع لي أن رأيت بذورًا غذائية مارة في أمعاء طير، ولكن البذور الصلدة في
الفواكه تمر غير ممسوسة بضررٍ في خلال الأعضاء الهضمية للدجاج الرومي، والتقطتُ من
حديقتي في خلال شهرين ١٢ نوعًا من البذور، مبرزة مع ذرق طيور صغيرة، وكان عليها جميعًا
علائم الصحة، وأنبت بعض مما عُنيت بزرعه منها، غير أن الحقيقة التالية لأكبر قيمة من
ذلك، فحواصل الطير تفرز عُصارةً معدية، ولا تضر، وذلك بمقدار ما جربت بقدرة الإنبات في
البذور أقل ضرر، وطير ما إذا وجد كمية كبيرة من البذور وازدردها، فمن الثابت يقينًا أن
البذر لا يمر جميعه إلى القانِصة في خلال اثنتى عشرة أو حتى ثماني عشرة ساعة على الأقل.
وقد يتفق أن تحمل الرياح هذا الطير في أثناء هذه الفترة، مسافة لا تقل عن ٥٠٠ ميل. كما
أن المعروف أن البواشق تمضي باحثة عن مثل هذه الطيور المُتعَبة، وقد يتفق أن تتناثر
بقايا أشلائها الممزقة توًّا، وبعض البواشق والبومات تبتلع فرائسها، وبعد فترة تتراوح
بين اثنتي عشرة أو عشرين ساعة، تمُجُّ كرُيات صغارًا تحتوي على بذور ذات قدرة على
الإنبات، كما خبرت ذلك بتجارب أجريتها في حديقة الحيوان، وبعض من بذور القرطم
٣١ والحنطة
٣٢ والدُّجن
٣٣ والكنري
٣٤ والتيل
٣٥ والبرسيم
٣٦ والبنجر،
٣٧ قد أنبتت بعد أن ظلت في مِعدات طيور مختلفة من الجوارح مدة تراوحت بين
اثنتي عشرة وإحدى وعشرين ساعة، بذرتان من البنجر أنبتتا بعد أن ظلتا كذلك يومين وأربع
عشرة ساعة. ولقد وقعتُ على أسماك من الماء العذب تتغذى ببذور كثير من النباتات الأرضية
والمائية، والأسماك كثيرًا ما تلتهمها الطيور، وبذلك قد تنتقل البذور من مكان إلى آخر،
وقد أدخلتُ كثيرًا من أصناف البذور في معدات سمك ميت، ثم أعطيت جثتها للعقبان
٣٨ السَّمَّاكة واللقالق
٣٩ والبجع،
٤٠ فرأيت أن هذه الطيور، بعد بضع ساعات، إمَّا أن تمُجَّ البذور في صورة
كريات، وإمَّا أن تخرجها مع مبرزاتها، كما أن كثيرًا من هذه البذور قد احتفظت بالقدرة
على الإنبات، على أن بعض البذور تقتلها هذه التجربة.
وقد يكتسح الجراد في بعض الأحيان مسافات شاسعات من الأرض، ولقد عثرت على جرادة في
مكان يبعد ٣٧٠ ميلًا من شاطئ أفريقيا، وسمعت أن غيرها قد عُثِر عليه على مسافات أبعد
من
ذلك. ولقد ذكر المحترم «ر. ت. لو» «لسير شارلس لايل» أنه في نوفمبر من سنة ١٨٤٤، زارت
أرجال من الجراد جزيرة «ماديرة»، وكانت الأرجال مما يعدو الحصر، ومن الضخامة بحيث كانت
كصفائح الجليد في أضخم العواصف الثلجية، وتمتد إلى أبعد ما يمكن لمنظار مُقرِّب أن يكشف
من نواحي الأفق، وفي أثناء يومين أو ثلاثة مضت تتقدم ملتفة شيئًا بعد شيء في صورة
إهليلج، لا يَقِّلُّ قطره عن خمسة أو ستة أميال، ثم حطَّت في أثناء الليل على الأشجار
العالية فكستها تمامًا، ثم اختفت من بعد ذلك ضاربة في عرض البحر فجأة، كما ظهرت فجأة،
ولم تزر أرجال الجراد الجزيرة من بعد ذلك. ويعتقد بعض المزارعين في أطراف من «ناتال»
أن
البذور الضارة قد انتقلت إلى مكالئهم (أرض الحشائش) في الذرق الذي تخلفه أرجال الجراد
الكبيرة، وكثيرًا ما تحطُّ ببلادهم — وهو اعتقاد لا يؤيده كثير من الشواهد — ووفقًا
لهذا المعتقد، أرسل إليَّ «مستر ويله» قليلًا من ذلك الذرق الجافِّ في ظرفٍ، فاستطعت
أن
أستخرج منه — بمساعدة المجهر — بذورًا مختلفة،
واستنبتُّ منها سبع نبْتات من الحشائش تتبع نوعين من جنسين مختلفين، ومن هنا نرى أن
سربًا من الجراد كذلك الذي زار جزيرة «ماديرة»، قد يتفق أن يكون السبب في إدخال عدة
صنوف من النباتات في جزيرة تقع على بُعْدٍ كبير من الأرض القارة.
وبالرغم من أن مناقير الطير وأقدامها تكون في العادة نظيفة، فإن شيئًا من التربة
قد
يظل لاصقًا بها، ولقد استطعت في حالة امتحنتها أن أفْرِز إحدى وستين حبة، وفي حالة أخرى
اثنتين وعشرين حبة، من تربة طَفْيلة عَلِقت بقدم «حجل»،
٤١ وكان فيها حصاة في حجم بذرة «الجلبان».
٤٢ وإليك مثلًا أروع من ذلك، فمن قَدَمِ طير من «الودقوق»
٤٣ (دجاجة الأرض) أرسل إليَّ بها صديق، علق بقصبة الساق منها، قرص جامد من
التربة، يزن تسع قمحات لا غير، فوجدتُ أن القرص يحتوي على حبة من نبات «التدروش»
٤٤ نوع من الأسل أنبتت وأزهرت. أما «مستر سوايسلاند»، وقد عكف على دراسة
طيورنا المهاجِرَة في خلال أربعين سنة، فقد أخبرني أنه كثيرًا ما قنص «دُغَرات»
٤٥ و«أبالق»
٤٦ و«قلَيْعات»
٤٧ قبل أن تستقر على الأرض. وقد وُجد في كثير من الحالات أن أقراصًا من التربة
عالقة بأقدامها، ومن المستطاع أن أذكر حالات كثيرة تثبت أن هذه التربة تتضمن بذورًا،
ومن ذلك أن الأستاذ «نيوتن» قد أرسل إليَّ رِجل حجل أحمر القدم
٤٨ (واصطلاحًا الكابيس الأحمر) جُرِحَ ولم يستطع الطيران، وقد علقت برجله كُرة
من الثَّرى المتصلد تزن ست أوقيات ونصف أوقية، وقد احتفظت بهذه الكرة من التربة ثلاث
سنوات، ولما كُسِرت ثم رويت بالماء تحت ناقوس زجاجي، نبت منها ما لا يقل عن ٨٢ نباتًا،
١٢ من ذوات الفلقة
٤٩ منها الشوفان العادي ونوع من الحشائش و٧٠ من ذوات الفلقتين
٥٠ تتألف، بقدر ما أمكن معرفتها من الأوراق النابتة الصغيرة، من ثلاثة أنواع
مختلفة. أما وهذه الحقائق ماثلة أمامنا، فهل لنا أن نشكَّ في أن الطيور التي تقذفها
العواصف كل سنة عبر باحات شاسعة في المحيطات، والتي تهاجر كل سنة — شأن ملايين طير
«السِّمان» التي تعبر البحر المتوسط كل سنة — لا بد من أن تنقل معها بعض البذور عالقة
بالتربة التي تكون في أقدامها أو مناقيرها؟ غير أني سأعود إلى معالجة هذا الموضوع
بعدُ.
لما كان من المعروف أن أنهار الجليد
٥١ قد تكون في بعض الأحيان مشحونة بأجزاء من الثري وكتل من الصخر، وأنها قد
تحمل فوق ذلك قطعًا من خشب الفريعات والعظام وعشوش الطيور الأرضية، فقلما يخامرنا الشك
في أنها لا بد من أن تكون في بعض الظروف قد نقلت — على ما يذهب إليه «سير لايل» —
بذورًا من مكان إلى مكان حاملة ذلك من المناطق المتجمدة، شمالية وجنوبية، وفي أثناء
العصر الجليدي،
٥٢ من باحة في المنطقة المعتدِلة الآن، إلى باحة أخرى، عندما كنت في جزر
«أزورس»، قام في ذهني أن هذه الجزر قد استُعمرت جزئيًّا بنباتات حملت الثلوج حبوبها في
أثناء العصر الجليدي، مستنتجًا ذلك مما شهدت من كثرة عدد النباتات الشائعة في أوروبا
بالقياس إلى عدد أنواع النباتات التي في غيرها من جزر الأطلنطي القريبة من الأرض القارة
(كما أشار إلى ذلك «مستر ﻫ. س. واطسون»)، ومن صفاتها التي تكون لنبات الشمال بالنسبة
إلى خطوط العرض، وعند طلبي كتب «سير لايل» إلى «مسيو هارتنج» يستنبئه عما إذا كان قد
رأى «سِهاءً ضوالَّ»
٥٣ — أي صخورًا غريبة — في تلك الجزر، فأجاب بأنه عثر على قطع كبيرة من
الجرانيت فيها، ولا يوجد لها مثيلات في بقية الأرخبيل، ومن هنا قد نطمئن إلى القول بأن
أنهار الجليد قد أفرغت حمولاتها الصخرية فيما سبق من الأعصر على شواطئ هذه الجُزُر
القائمة في وسط المحيط، وأنه من الممكن — على الأقل — أن تكون قد حملت معها قليلًا من
بذور النباتات الشمالية.
إذا وعينا أن هذه الوسائل المتفرقة للانتشار وغيرها من الوسائل، التي — ولا شك —
سوف
تُكشف عنها في المستقبل، قد ظلت تعمل عملها المستمر سنة بعد أخرى في خلال آلاف السنين،
فمما لا يتفق وطبيعة الأشياء أن تكون نباتات قد تخلفت عن أن تنتشر انتشارًا واسعًا، وقد
توصف وسائل الانتشار هذه في بعض الأحيان بأنها عرضية أو اتفاقية، غير أن هذا الوصف غير
مُنطبِق عليها تمامًا، فتيارات المحيط ظواهر غير عرضية، وكذلك اتجاه عواصف الرياح، ومما
يجب أن يلاحظ أنه قلما توجد وسائل للانتشار تحمل البذور مسافات بعيدة، ذلك بأن البذور
لا تحتفظ بحيويتها عندما تتعرَّض زمنًا طويلًا لفعل ماء البحر، كما أنها لا يتيسر أن
تُحمل مدة طويلة في حواصل الطير أو أمعائها، فإن هذه الوسائل تكون كافية لنشر البذور
عبر باحات من البحر، لا تزيد على بضع مئات من الأميالِ اتساعًا، ومن جزيرة إلى أخرى،
أو
من قارة إلى جزيرة مجاورة، وليس من قارة بعيدة إلى أخرى، وبذلك يتعذر أن تتخالط
المجموعات النباتية
٥٤ الآهلة بقارات متقاصية، بل تظل كل منها مستقلة على الحالة التي نراها عليها
الآن، وكذلك التيارات في مجاريها لا يمكن أن تنقل بذورًا من شمالي أمريكا إلى بريطانيا،
في حين أنها قد تنقل بذورًا من جزر الهند الغربية إلى شواطئنا حيث تعجز عن أن تقاوم
تأثير مناخنا، إذا فُرِض ولم يقتلها الماء الملح الذي تظل مغمورة فيه.
وقد يتفق أن تحمل الرياح طائرًا أو طائرين من طيور الأرض كل سنة عبر المحيط الأطلنطي
من شمالي أمريكا إلى شواطئ أيرلندا وإنجلترا، غير أن البذور التي تُنقل بهذه الوسيلة
إنما تعتبر من الآفاقيات النادرة بوسيلة واحدة، هي أن تعلق بالأكدار التي تلتصق بالأرجل
أو المناقير، وهي أحداث اتفاقية ولا شك، وكم يكون مدى الفرصة ضئيلًا في مثل هذه الحال
في أن تقع البذور على أرض صالحة لإنباتها ونمائها! ولكن مما لا شك فيه أنه من الخطأ
الكبير أن نقول بأن جزيرة من الجزر لأنها اكتظت بآهلاتها كبريطانيا مثلًا، لم تتلقَ على
ما وصل إليه علمنا — ومن الصعب جدًّا أن نثبت ذلك — في خلال بضعة القرون السابقة، وعن
طريق وسائل الانتشار الاتفاقية، مهاجرين من أوروبا أو من أية قارة أخرى، وأن جزيرة
نحيفة الآهلات واقعة على بعد أكبر من بُعْد بريطانيا عن الأرض القارة، لا تتلقى مهاجرين
يستعمرونها منتقلين إليها بالوسائل نفسها، ومن مائة نوع من البذور أو الحيوان تنتقل إلى
جزيرة ما، ولو كانت أقل اكتظاظًا بآهلاتها من بريطانيا، قد لا يفوز بالبقاء منها غير
واحد فقط في مستقره الجديد، بحيث يتوطن فيه. غير أن هذا القول لا يقوم دليلًا ناقضًا
لما يمكن أن يكون قد حدث عن طريق الانتقال الاتفاقي، في خلال العصور الجيولوجية
المتطاوِلة، حيث تكون الجزيرة في حالة تشامخ، وقبل أن تكون قد اكتظت فعلًا بقطانها، وفي
الأرض التي تكاد تكون خاوية قاحلة، حيث لا توجد حشرات أو طيور مدمرة تعيش فيها، تنبت
كل
بذرة يتفق أن تصل إليها إذا لاءمها المناخ.
(٣) الانتشار في أثناء العصر الجليدي
إن هوية النباتات والحيوانات في رءوس الجبال التي يفصل بينها مئات الأميال من السهول
المنخفضة، حيث لا يتيسر أن تعيش الأنواع الألبية،
٥٥ لحالة من أعجب الحالات المعروفة عن أنواع بذاتها تعيش في بقاع متباعِدَة،
من غير أن يقوم أي احتمال بأنها قد هاجرت من باحة إلى أخرى، فإن من الحقائق الباهرة أن
نرى كثيرًا من النباتات التابعة لنوع بذاته تعيش في الأصقاع الجليدية من أصقاع الألب
والبرانس، وفي أقصى الأجزاء الشمالية من أوروبا، ولكن الأعجب من ذلك أنَّ النباتات في
جبال «وايت» بالولايات المتحدة الأمريكية، هي بذاتها النباتات التي نشهدها في
«لبرادور»، وتكاد تكون واحدة، على ما يقول «آساجراي»، مع تلك التي تعيش في جبال أوروبا.
ولقد كانت هذه الحقائق سببًا في أنْ يستنتج «جميلن» أنَّ هذه الأنواع لا بُدَّ من أنْ
تكون قد خُلِقت مستقلة في بقاع متفرقة، وربما نكون قد مضينا على هذا الاعتقاد، لو لم
يوجِّه «آساجراي» وغيره من العلماء، انتباهنا إلى العصر الجليدي، ذلك العصر الذي — على
ما سوف نرى — يزودنا بتعليل بسيط لهذه الحقائق، فإن بين يدينا من البينات الجلية، عضوية
وغير عضوية، أنه في عصر جليدي قريب العهد، عانت أوروبا وشمالي أمريكا موجة قاسية من
مناخ جليدي، وأن أنقاض بيت أكلته النار لا يمكن أن يقُصَّ عليك من حاله، أكثر مما تُقص
عليك جبال «إيقوسيا» و«وايلسر» بجوانبها المخمشة وسطوحها المصقولة وسِهائها الجاثمة
٥٦ وغدرانها الجليدية التي أفعمت أوديتها في نهاية ذلك العصر. ولقد كان التغير
الذي أصاب مُناخ أوروبا إذ ذاك من العِظم والقسوة، بحيث إنَّ شمالي إيطاليا قد أفُعم
بغدرات
٥٧ هائلة خلفتها المخاشف، تكسوها الآن زروع الكرم والحنطة، وفي باحة كبيرة من
الولايات المتحدة تحدثنا السهاء الضالة
٥٨ والصخور المحزَّزة
٥٩ بلسان فصيح، عن دور من الجليد مر بها.
إن التأثير السابق في المناخ الجليدي في توزيع قطَّان أوروبا، على ما وصفه «إدوارد
فوريس» كان كما سنقص عليك، غير أننا نكون أقدر على تتبع التغيرات بصورة أوضح، لو أننا
فرضنا أن عصرًا جليديًّا جديدًا قد يحل متباطئًا، ثم يمر زمنه، كما حدث من قبل. فعندما
يتقدم المناخ البارد، وتصبح المناطق المعتدلة أكثر مُلاءمةً لحياة أهال الشمال، فإنها
تحتل مراكز الأهال القاطنين في تلك المناطق. أما هؤلاء فيرحلون في الوقت نفسه، ضاربين
إلى الجنوب شيئًا بعد شيء، ما لم يصُدُّهم عن ذلك عائق، وهنالك يهلكون. أما الجبال
فتصبح مكسوَّة بالثلج والجليد، فينزل قطانها إلى الأودية، وفي الوقت الذي يبلغ الجليد
أقسى مبالغه، نجد أن مجموعات نباتية وحيوانية من مجموعات مناطق الجمد تغشى أواسط أوروبا
حتى جبال الألب والبرانس، وربما امتد انتشارها إلى إسبانيا. أما البقاع المعتدلة الآن
في الولايات المتحدة، فتكون قد اكتست بنباتات وحيوانات من أهالِ مناطق الجمد الشمالي،
وتكون مشابهة لتلك التي تعيش في أوروبا، ذلك بأن الأحياء القاطنين في المناطق الحافة
بالقطب، والتي نفرض أنها تكن قد هاجرت نحو الجنوب جملة، متشابهة حيثما كانت في تلك
البقاع.
فإذا عاد الدِّفء ارتدَّت أحياء مناطق الجمد إلى الشمال، وتابعها في ارتدادها أهَّال
المناطق الأكثر اعتدالًا. وعندما يذوب الثلج من سُفوح الجبال، تحتل صور مناطق الجمد تلك
البقاع التي تطهرت وماعَ جليدها، ضاربة في أعالي الجبال، كلما زاد الدفء، وأخذ الجليد
في الاختفاء، مستمرة في تصعيدها، في حين أن الصور الأخريات تكون آخذة في أعقابها، ومن
ثمة، وعندما يكون الدفء قد عمَّ وانتشر واستقر، نجد أن الأنواع نفسها التي عاشت متجاورة
في أوروبا وشمالي أمريكا، في الأراضي الخفيضة والأودية، تعود إلى الظهور في مناطق الجمد
بالعالمين القديم والجديد، وفي كثير من قِمم الجبال المنعزلة التي يبعد بعضها عن بعض
بُعْدًا شاسعًا.
من هنا نفقه السبب في تشابه كثير من النباتات التي تقطن بقاعًا يشتد تباعدها كجبال
الولايات المتحدة، وجبال أوروبا، وكذلك ندرك الواقع من أن النباتات الألبية التي تختصُّ
بها كل سلسلة من سلاسل الجبال، هي أقرب نسبًا لصور نباتات الجمد الشمالي التي تعيش في
شمالي مواطنها أو قريبًا من ذلك، ذلك بأن الهجرة الأولى التي وقعت عندما حل الجليد،
وهجرة العودة عندما عاد الدفء، كانت على وجه العموم حركتينِ نحو الجنوب ثم نحو الشمال.
فنباتات إيقوسيا الألبية مثلًا، كما أشار إلى ذلك «ﻫ. س. واطسون»، وكذلك نباتات
«البرانس» كما أشار إلى ذلك «راموند» هي أقرب آصرة ونسبًا بنباتات شمالي «إسكانديناوة».
وكذلك نباتات الولايات المتحدة هي أقرب إلى نباتات «ليرادور»، ونباتات «سيبرية» أقرب
إلى نباتات الجمد الشمالي في ذلك الصقع، وهذه الحقائق القائمة على أحداث طبيعية ثابت
أنها وقعت في العصر الجليدي السابق، تفسر بصورة صريحة الخطة التي اتخذها ذلك العصر لغرس
الأحياء الألبية والجمدية في أوروبا وأمريكا، فإذا ما وقعنا في أصقاع أخرى على أنواع
في
رءوس جبال متباعدة المواقع، حملنا على أن نقضي — بغير حاجة إلى دلالات أخرى — أن مناخًا
باردًا اضطر هذه الأنواع في عصر سابق، إلى أن تهاجر مُخترقَةً الأودية الخفيضة، التي
أصبحت الآن من الدفء بحيث تلائم وجودها.
ولما كانت صور الجمد الشمالي قد تحركت أولًا نحو الجنوب ثم نحو الشمال من بعد ذلك
مطاوعة لتغير المناخ، فإنها لم تكن لتتعرض في أثناء هجراتها الطويلة إلى تبايُن كبير
في
درجة الحرارة. وإذ كانت هجرتها جماعية، فإن علاقاتها المتبادلة لم تكن لتتأثر بصورة
بينة، ومن ثمة، ووفقًا للمبادئ التي أثبتها في هذا الكتاب لا تكون هذه الصور قد مضت
خاضعة لكثير من التكيُّف، ولكن حال الآهلات الألبية
٦٠ التي تخلَّفت منعزلة منذ أن عادت موجة الدفء، في سفوح الجبال أول الأمر، ثم
في رءوسها، تختلف عما قدمنا بعض الاختلاف. فمما هو غير محتمل أن كل أنواع منطقة الجمد
قد تخلفت برمتها على سلاسل من الجبال متباعدة بعضها عن بعض، وأنها ظلت تعيش هنالك منذ
ذلك العصر. كذلك مما هو راجح كل رجحان أن تكون قد اختلطت بأنواع ألبية قديمة، كانت قد
ظلت تعيش في الجبال قبل بداءة العصر الجليدي، ولا بد من أن تكون قد اضطرت إلى الانحدار
نحو السُّهول والأودية في أثناء الفترة التي كان فيها البرد على أشده، كما أنه لا شك
في
أنها تعرضت فيما بعد إلى تأثيرات مناخية مختلفة عن ذلك شيئًا ما، وهذه العلاقات
المتبادلة لا بد من أن تكون قد اختلَّت واضطربت إلى درجة ملحوظة، ومن ثمة أصبحت هذه
العلاقات خاضعة للتكيف، ولقد تكيفت بالفعل، فإننا إذا وازنا بين النباتات الألبية
والحيوانات التي تقطن سلاسل الجبال الكبرى في أوروبا، وقِسنا بعضها على بعض فبالرغم من
أن كثيرًا من الأنواع تبدو متجانسة تقريبًا، فإن بعضها يكون في صف الضروب، وبعضها في
صف
النويعات، وبقية منها في صف الأنواع المستقلَّة وإن اتصلت أنسابها، لتظل هنالك ممثِّلَة
لتلك الصور في سلاسل الجبال المتفرقة.
فرضتُ فيما ذكرت من الأمثال السابقة، أن آهلات الجمد الشمالي عند بداية العصر الجليدي
الذي فرضناه، كانت متجانسة في مآهلها من حول الأصقاع القُطبية، على نفس الصورة التي
نلحظها الآن، غير أنه من الضروري أنْ نفرض إلى جانب ذلك، أنَّ كثيرًا من الصور تحت القطبية،
٦١ — وبعضها من صور المنطقة المعتدلة — كانت متماثلة من حول الكرة الأرضية؛
لأن بعض الأنواع التي تعيش الآن في سفوح الجبال القليلة الارتفاع وفي سهول أمريكا
الشمالية وأوروبا متماثلة، وقد يسأل البعض كيف أعلل وجود هذا التماثل في الصور تحت
القطبية، وصور المناطق المعتدلة من حول الأرض عند بداءة العصر الجليدي. ففي العصر
الحاضر يفصل المحيط الأطلنطي كله والجزء الشمالي من المحيط الهادي بين آهلات المناطق
القطبية والمعتدلة في الدنييين القديمة والحديثة. أما في أثناء العصر الجليدي، عندما
كان قطان الدنييين القديمة والحديثة، قد عاشت في مناطق أكثر ضربًا نحو الجنوب مما تفعل
الآن، فلا بُدَّ إذن من أنْ تكون مآهلها أشد انفصالًا منها الآن بباحات أوسع من البحار.
وهنا يعرض سؤال آخر: كيف أنَّ نوعًا بذاته يكون قد تمكن إذ ذاك — أو تمكَّن من قبل —
أنْ يدخل القارَّتين؟ أمَّا تفسير ذلك، فينحصر على ما أعتقد في طبيعة المناخ عند بداءة
العصر الجليدي، فحينذاك — أي في العصر الأجدد (البليوسين)
٦٢ — كانت أكثرية آهلات الدنيا من حيث النوعية كما هي الآن، بل إن لدينا من
الأسباب الحقَّة ما يحملنا على الاعتقاد بأن المناخ كان أدفأ منه في العصر الحاضر. ومن
هنا نقول بأن العضويات التي تعيش تحت خط العرض ٦٠ ْ، كانت تعيش في العصر الأجدد
(البليوسين) في مناطق أكثر ضربًا نحو الشمال بمقربة من الدائرة القطبية، على خط العرض
٦٦ ْ-٦٧ ْ، وأنَّ آهلات الجمد الشمالي الحالية قد عاشت على قطع الأرض المتفرقة القريبة
من القطب. فإذا نظرنا الآن إلى الكرة الأرضية، فإننا نرى الأرض فيما يلي الدائرة
القطبية تمتَدُّ متواصلة من غربي أوروبا مخترقة سيبريا إلى شرقي أمريكا، وأن هذا
التواصل الأرضي حول القطب،
٦٣ مع ما ترتب عليه من حرية الهجرة في ظل مناخ أكثر ملاءمة لذلك، يعلل لنا تلك
المجانسة المفروضة بين آهلات البقاع تحت القطبية والمعتدلة في الدنييين القديمة
والحديثة، في عصر متقدم على العصر الجليدي.
ومطاوعة للأسباب التي أشرتُ إليها قبلُ من أن قاراتنا قد ظلت أزمانًا طوالًا في
أماكنها الحالية، بالرغم مما اعتور مستواها من ذبذبات، أراني أميل إلى أن أتوسَّعَ في
تطبيق هذه الحالة، مستنبطًا أنه في أثناء دور أبكر وأكثر دفئًا، كذاك الذي ساد في أوائل
العصر الأجدد (البليوسين) استوطن عددٌ كبيرٌ من النباتات والحيوانات الأرض «حول القطب»،
وكانت متواصلة تقريبًا، وأن هذه الحيوانات والنباتات في كل من الدنييين، القديمة
والحديثة، بدأت تهاجر ببطء عندما أخذ المناخ يتناقص دفؤه، قبل أن يبدأ العصر الجليدي
بزمن طويل. ولقد نرى الآن أخلافها، وأكثرها قد غَشِيته حالة من التكيف في أواسط أوروبا
والولايات المتحدة، ووفقًا لهذا الرأي نستطيع أن نفقه حقيقة الصلة، مع قلة تماثلها، بين
آهلات شمالي أمريكا وأوروبا، وهي صلات على جانب عظيم من الأهمية، إذا وعينا المسافة
الفاصلة بين الباحتين، وانفصالهما بمساحة المحيط الأطلنطي كله، وكذلك نفهم — فضلًا عن
ذلك — تلك الحقيقة الفريدة التي أشار إليها كثير من الباحثين؛ إذ قضوا بأن آهلات أوروبا
وأمريكا في خلال العصر الثالث المتأخر، كانت أكثر قرابة بعضها ببعض، عمَّا هي في الوقت
الحاضر؛ لأنه في أثناء هذه العصور — وهي أكثر دفئًا — كانت كل من الدنييين، القديمة
والحديثة، أكثر ترابطًا بوصلات أشبه بالجسور، ومن ثمة أصبحت غير صالحة لأن تكون معابر
مُذلَّلة بسبب البرد الشديد، فعاقت تَهاجُر
٦٤ الأحياء منها وإليها.
في أثناء التناقص البطيء للدفء في العصر البليوسيني، ومنذ أن أخذت الأنواع التي
استوطنت الدنييين، القديمة والحديثة، تهاجر جماعيًّا إلى جنوب الدائرة القطبية،
٦٥ لا بد من أن تكون قد تفرقت تفرُّقًا تامًّا بعضها من بعض، وهذا التفرق،
وبقدر ما يتصل منه بآهلات المناطق الأكثر اعتدالًا، قد وقع — قطعًا — في أزمان موغلة
في
القِدَم، فلما أخذت النباتات والحيوانات تهاجر نحو الجنوب، انبغى لها أن تكون قد اختلطت
في باحة كبيرة معينة، بغيرها من الآهلات الأمريكية الأصلية، ومضت تنافسها وتُنازِعها
البقاء، كما حدث ذلك في باحة شاسعة أخرى من باحات الدنيا القديمة، وبذلك نقع على كل ما
هو مُواتٍ لكثير من التكيفات، إلى تكيفات أشد أثرًا من تلك التي انتابت الآهلات الألبية
التي تخلفت منعزلة وغيرها، وفي عصر أكثر حداثة من الآهلات في سلاسل الجبال العديدة، وفي
الأراضي القطبية في أوروبا وشمالي أمريكا، ومن ثمة يترتب على ذلك أنه عندما نوازن بين
الآهلات الحالية في المناطق المعتدلة في الدنييين القديمة والحديثة، نجد نزرًا يسيرًا
من الأنواع المتماثلة (ولو أن «آساجراي» قد أثبت أن هنالك نباتات متماثلة أكثر مما كان
يُظنُّ قبلًا) غير أننا نجد في كل طائفة من الطوائف الكبرى صورًا يضعها بعض المواليديين
في منزلة السلالات الجغرافية، وغيرهم في منزلة الصور الرئيسة، وجميعها عند بقية
المواليديين صور مميزة النوعية.
بمثل ما حدث في اليابسة، كذلك حدث في باحات البحر، هجرة جنوبية بطيئة مارستها مجموعة
الأحياء المائية، التي كانت في أثناء العصر البليوسيني أو أبكر من ذلك، متجانسة الصفات
تقريبًا على طوال الشواطئ المتواصلة امتدادًا من المنطقة القطبية، مما يُعلِّل، وفقًا
لنظرية التكيف، السبب في وجود صور متآصرة النسب تعيش الآن في باحات مائية متقاصية كل
التقاصي؛ لهذا أرى أننا نستطيع أن نفقه السبب في وجود بعض الصور المتآصرة، مما لا يزال
موجودًا ومما انقرض، على الشواطئ الشرقية والغربية من أمريكا الشمالية المعتدلة، وكذلك
نَفْقَه ما نعلل به حقيقة أبهر من تلك؛ إذ نرى أن كثيرًا من القشريات المتآصرة النسب
(على ما قرر ذلك الأستاذ «دانا» في كتابه الفريد) والأسماك وغيرها من الحيوانات البحرية
تعيش في كل من البحر المتوسط وفي بحار اليابان، وهما باحتان متقاصيتان كل التقاصي؛ إذ
تفصلهما قارة برمتها وباحات شاسعة من البحار.
هذه الحالات — حالات التآصر القريب بين الأنواع، سواء في الزمن الحاضر أو في زمن
سابق، وكانت ظاهرة في البحار الحافة بأمريكا الشمالية شرقًا وغربًا، وفي البحر المتوسط،
وفي بحار اليابان، والبقاع المعتدلة في أمريكا الشمالية وأوروبا — لا يمكن أن تُفسر
وفقًا لنظرية الخلق؛ ذلك بأننا لا نستطيع أن نستمسك بفكرة أن هذه الأنواع قد خُلقت
متشابهة، طوعًا لتشابُه الحالات المناخية في هذه الباحات؛ إذ إننا لو قابلنا مثلًا
أصقاعًا من أمريكا الجنوبية، بأصقاع من جنوبي أفريقيا وأستراليا، نقع على أقطار متشابهة
جهد التشابه في حالاتها الطبيعية، في حين أن آهلاتها متباينة كل التبايُن.
(٤) تَناوُب العصور الجليدية في الشمال وفي الجنوب
والآن، يجب أن نعود إلى موضوعنا الذي هو أكثر اتصالًا ببحثنا، فإني أعتقد أن مذهب
الأستاذ «فوريس» يمكن أن يُتوسَّعَ فيه كثيرًا، ففي أوروبا نستطيع أن نعثر على أنصع
البراهين الدالَّة على العصر الجليدي، من الشواطئ الغربية لبريطانيا إلى سلسلة جبال
«أورال»، وجنوبًا «البرانس»، ومن اليسير أن نستنبط من بقايا الثدييات التي حفظها
الجليد، ومن طبيعة الزروع الجيلية، أن «سيبريا» قد تأثرت بمثل ما تأثرت به أوروبا،
وكذلك لبنان على ما يقول دكتور «هوكر» حديثًا على «غُدَرات» في المستويات المنخفضة على
سلسلة جبال «أطلس» في شمال أفريقيا، وعلى امتداد جبال هملايا، وفي بقاع يبعد بعضها عن
بعض ٩٠٠ ميل، تركت المخاشف آثارًا تدل على هبوطها السابق، وفي «سكيَّم» رأى دكتور
«هوكر» نبات الذرة ناميًا على غدرات عملاقية قديمة، وعند الناحية الجنوبية من القارة
الآسيوية، وعلى الناحية المقابلة لخط الاستواء، أظهرت لنا بحوث دكتور «هاست» ودكتور
«هكتور» أنه في زيلندة الجديدة هبطت قديمًا مخاشف عظيمة القدر إلى مستويات منخفضة. أما
النباتات التي عثر بها دكتور «هوكر» في جبال بعضها قَصيٌّ عن بعض في هذه الجزيرة، فتروي
لنا تلك القصة نفسها، قصة عصر جليدي قديم. ويظهر من حقائق أرسل إليَّ بها المحترم «و.
ب. كلارك»، أن هنالك آثارًا من فعل مخاشف قديمة في الجبال القائمة في الركن الجنوبي
الشرقي من أسترالية.
ولنرجع إلى أمريكا، فقد وُجِدَ في النصف الشمالي منها قطع من الصخر حملها الجليد،
وأودعها الجزء الشرقي من القارة، ممتدًّا ذلك نحو الجنوب إلى درجة ٣٦ ْ-٣٧ ْ من خطوط
العرض، وعلى شواطئ المحيط الهادي؛ حيث يختلف المناخ الآن اختلافًا بَيِّنًا، ممتدًّا
ذلك جنوبًا إلى درجة ٤٦ ْعرضًا. وعثر على سِهاء ضالَّة
٦٦ على جبال «روكي»، كذلك امتدت المخاشف في سلسلة جبال «كوردليرة» بجنوبي
أمريكا إلى ما بعد خط الاستواء، إلى بقاع أقصى بكثير من مستواها الآن، وبحثت في وسط
«شيلي» تَلًّا واسعًا من الأنقاض به سِهاء كبيرة، ويمتد عابرًا وادي «بورتيلو»، فلم أشك
— أقل شك — في أن هذا التل كان من قبلُ غدارة عظمى. وأخبرني دكتور «فوربس» أنه عثر في
بقاع مُتفرِّقة من جبال «كوردلِّيرة» واقعة بين خطي العرض ١٣ ْ و٣٠ ْ جنوبًا، وعلى
ارتفاع يبلغ حوالي ١٢٠٠٠ قدم، على صخور ذات أنفاق عميقة، تُشابِه تلك التي عرفها في
بلاد النرويج، وكذلك وجد ركامًا عظيمة من الأنقاض تحتوي على حصوات محززة، ولا يوجد الآن
في كل تلك الباحة الشاسعة من جبال «كوردليرة» مخاشف حقيقة حتى في مرتفعات أشمخ من ذلك
كثيرًا. وأبعد من ذلك جنوبًا على جانبي القارة، نقع على أفصح الشواهد على فعل مخاشف
قديمة، تتجلى في عدد كبير من السهاء الضِّخام، انتقلت مع الجليد من أماكنها
الأصلية.
من هذه الحقائق المتفرِّقة، وأعني بها امتداد التأثير المخشفي إلى نصفي الكرة الشمالي
والجنوبي، وأن العصر الجليدي عصر حديث جيولوجيًّا في نصفي الكرة، وأنه استمر في كلا
النصفين زمنًا طويلًا جدًّا، مُستدلِّين على ذلك من الآثار التي خلفها فعله، وأن
المخاشف قد هبطت في عصر حديث نسبيًّا إلى مستوى منخفض على طوال سلسلة جبال «كوردليرة»،
لاح لي من هذا كله، أنه لا مهرب لنا من القول بأن درجة الحرارة في جميع أنحاء الكرة
الأرضية قد انخفضت في آنٍ واحد في أثناء العصر الجليدي. غير أن «مستر كرول» قد حاول في
مجموعة من مقالات متتابعة أن يُظْهِر أن حالة المناخ الجليدي إنما هي نتيجة أسباب
طبيعية، أخذت تؤثر أثرها بتزايد اللامركزية
٦٧ في فلك الأرض، وأن جميع هذه الحالات تتجه نحو غاية واحدة، ولكن أشدها قد
نتج عن تأثير انحراف فلك الأرض، في التيارات المحيطية.
ووفقًا لما يقول «مستر كرول»، تتكرر تلك العصور الجليدية كل عشرة آلاف سنة أو خمسة
عشر ألف، وأنها تكون على أشُدِّها في أثناء فترات طوال، خضوعًا لعوامل معينة، أهمها كما
يقول «سير لايل» هي المواقع النسبية للأرض وللماء. ويعتقد «مستر كرول» أن آخر عصر جليدي
وأعظمه، قد حدث منذ حوالي ٢٤٠٠٠٠ سنة مضين، وأنه استمر مع تغيرات قليلة التفاوت في
المناخ قُرابة ١٦٠٠٠٠ سنة. أما فيما يتعلق بالأدوار الجليدية الأكثر قِدَمًا، فإن
كثيرًا من الجيولوجيين يعتقدون — استنادًا إلى مشاهدات واقعية — أن هذا قد حدث في
تكاوين العصر الأوسط (الميوسين) أو العصر الأيوسيني، غير ذاكرين غيرها من التكوينات
الأبعد منها ِقِدَمًا، غير أن أحق نتيجة وصل إليها «مستر كرول» بانتباهنا، فالقول بأنه
حينما يمر نصف الكرة الشمالي بعصر جليدي، فإن درجة الحرارة في نصف الكرة الجنوبي ترتفع،
وتكون الأشثية فيه أكثر اعتدالًا، وفقًا لأثر التغيرات التي تقع في اتجاه التيارات
المحيطية، وعلى العكس من ذلك تكون الحال في نصف الكرة الشمالي، عندما يمر النصف الجنوبي
لعصر جليدي. وهذا مما يساعدنا على استيضاح الكثير من عوامل التوزُّع الجغرافي، أراني
كثير الميل إلى الاقتناع بها، وهنا أبدأ القول بذكر الحقائق التي تتطلب شيئًا من
البيان.
أظهر دكتور «هوكر» أن من الأنواع الكثيرة الوثيقة الآصرة في جنوبي أمريكا، عددًا
يتراوح بين أربعين وخمسين من النباتات الزَّهرية بجزائر «تيراد لفوبيجو» (جزائر أرض
النار)، وهي تولف عددًا غير قليل من الفلورة
٦٨ الصغيرة فيها، تشيع في أمريكا الشمالية وفي أوروبا، بالرغم من تباعُد
الباحتين بعضهما من بعض تباعدًا كبيرًا، ووجودهما في نصفين متناظرين من الكرة الأرضية،
وفي الجبال الشامخة في أمريكا الاستوائية توجد زُمرة كبيرة من الأنواع الخاصة التابعة
للأجناس الأوروبية. وفي جبال «الأورجان» بالبرازيل، وجد «جاردنر» أجناسًا بعضها من
أوروبا المعتدلة، وبعضها من منطقة الجمد الجنوبي، بله أجناسًا «أنديزية»،
٦٩ ولا وجود لها في البقاع المنخفضة التي تتوسط بين هذه البقاع. وعثر «همبولد»
في «سيلا كراكاس» منذ أزمان بعيدة على أنواع تتبع أجناسًا خصيصة بمنطقة
«الكوردليرة».
وفي أفريقيا تعيش صور مختلفة من المجموعة النباتية الأوروبية، وبعض مما هو خاص بمنطقة
رأس الرجاء الصالح، في جبال الحبشة، وفي رأس الرجاء الصالح قليل من الأنواع الأوروبية
لا يُظنَّ أن الإنسان قد نقلها إليها، وعلى الجبال صور أوروبية رئيسة لم يُكشف لها عن
أثر في الباحات بين المدارية
٧٠ في أفريقيا. ولقد أبان دكتور «هوكر» أيضًا أن جملة من النباتات التي تعيش
في البقاع الشامخة من جزيرة «فرناندو-بو»، وفيما يجاورها من جبال الكمرون وخليج غينيا،
تربطها آصرة قريبة بتلك التي تستوطن جبال الحبشة، وكذلك بالبقاع المعتدلة في أوروبا.
وكذلك يظهر الآن على ما سمعت من دكتور «هوكر» أن بعضًا من هذه النباتات الخاصة بالمنطقة
المعتدلة، وأغلبها تحت خط الاستواء، ووجودها عبر القارة الأوروبية كلها، وفي جبال
أرخبيل الرأس الأخضر، إنما هي من أكثر الحقائق المروية عن توزُّع النباتات، إثارة للعجب
والتأمل.
وفي جبال «هملايا» وسلاسل الجبال المعزولة في شبه الجزيرة الهندية وفي مرتفعات سيلان،
وعلى المخروطات البركانية في جاوة، توجد كثير من النباتات، إما متماثلة تمامًا أو
متشابهة، وفي الوقت ذاته تمثل نباتات أوروبية غير موجودة في البقاع المنخفضة الواقعة
بينها، وإن قائمة بأجناس النبات في القِمم الشامخة في جاوة، تعطينا صورًا من قائمة
الأجناس في تلال أوروبا، وهنالك حقيقة أبلغ من هذه دلالة، محصلها أن صورًا أسترالية
خاصة، تمثلها فئة من النباتات النامية على رءوس الجبال في «بورنيو»، وبعض من هذه الصور
الأسترالية، على ما سمعت من دكتور «هوكر» يمتد انتشارها على طوال المرتفعات في شبه
جزيرة «ملاقة»، وهي موزعة أشتاتًا في الهند من جهة، ثم إلى اليابان من جهة أخرى.
واستكشف دكتور «ف. مولر» أنواعًا أوروبية متعددة في جبال أستراليا الجنوبية، وأنواعًا
أخرى لم ينقلها الإنسان في البقاع المنخفضة. وأخبرني دكتور «هوكر» أن قائمة طويلة
بأجناس أوروبية تتوطن أستراليا يمكن حصرها، ولكنها غير موجودة في البقاع الحارة
المجاورة، وأتى دكتور «هوكر» في المقدمة القيمة التي قدَّم بها كتاب «مجموعة نيوزيلندة
النباتية» على حقائق مشابهة أو مماثلة لهذه الحقائق عن النباتات النامية في هذه الجزيرة
الكبيرة. ومن هنا نرى أن نباتات معينة على أشمخ الجبال في المنطقة المدارية
٧١ في جميع الكرة الأرضية، وفي السهول المعتدلة في الشمال وفي الجنوب، إمَّا
أنها أنواع أو ضروب تتبع نوعًا بذاته، على أنه ينبغي لنا أن نعي أن هذه النباتات ليست
صورًا جمدية شمالية بكامل المعنى، فقد لحظ «مستر ﻫ. س. واطسون» أنه مع الارتداد عن خطوط
العرض القطبية إلى خطوط العرض الاستوائية، تمضي مجموعة النباتات الألبية والجبلية،
منحرفة شيئًا فشيئًا عن صفاتها الجمدية، وبالإضافة إلى هذه الصور المتماثلة القريبة
الأواصر، نرى أن كثيرًا من الأنواع المستوطِنة في هذه الباحات المتقاصية، تتبع أجناسًا
لا توجد الآن في البقِاع الاستوائية المنخفضة الكائنة فيما بينها.
إن ما سُقنا القول فيه إنما ينطبق على النباتات لا غير، وهنالك حقائق مشابهة لهذه
يمكن ذكرها عن حيوانات أرضية. فقد نلحظ في آهلات بحرية مثل هذه الحالات، وأذكر على سبيل
المثال عبارة أنقلها عن عالم ثقة هو الأستاذ «دانا» يقول فيها: إنه من الحقائق الباهرة
أن يكون بين قِشريات «نيوزيلندة»، وبريطانيا على تشاطحهما، تشابه أقرب مما نلحظ في أية
بقعة من الأرض. وكذلك يذكر «سير ج. رتشاردسون» عودة ظهور صور من أسماك الشمال، على
شواطئ نيوزيلندة وطسمانية وغيرها. وأخبرني دكتور «هوكر» أن خمسة وعشرين نوعًا من
الطحالب شائعة في نيوزيلندة وفي أوروبا معًا، وغير موجودة في البحار المدارية الواقعة
بينهما.
من الحقائق السابقة الخاصة بوجود صور من أحياء البقاع المعتدلة على طول المرتفعات
في
أفريقيا الاستوائية، وعبر شبه الجزيرة الهندية إلى سيلان، وأرخبيل الملايو، وأقل من ذلك
درجة عبر فجاج أمريكا الجنوبية، قد نمضي مقتنعين بأنه في عصر سابق من العصور، لا نشك
أنه يقع في أثناء فترة في العصر الجليدي أشد بردًا، ظلت منخفضات القارات العظمى بجميع
أنحائها، فيما وراء خط الاستواء، مأهولة بعدد كبير من صور الأحياء الخاصة بالمناطق
المعتدلة، وفي تلك الأثناء كان المناخ الاستوائي عند مستوى البحر — في غالب الأمر —
أشبه بذاك الذي نلمسه الآن في المرتفعات المتراوحة ارتفاعًا بين خمسة آلاف وستة آلاف
قدم عند خط عرض معين، أو ربما كانت أكثر بردًا من ذلك، في تلك الفترة التي كانت أشد
الفترات بردًا، لا بد من أن تكون المنخفضات تحت خط الاستواء، قد اكتست بزروع استوائية
كبيرة نمت مُتخالطِة، كتلك التي وصفها «هوكر» وشهدها نامية بنضارة فائقة في السفوح غير
شامخة الارتفاع من جبال هملايا، ولكن يتسود فيها بعض التسود صور المناطق المعتدلة.
وكذلك الحال في جزيرة «فرناندو-بو» الجبلية بخليج غينيا، فقد وجد «مستر مان» في هذه
الجزيرة صورًا من مناطق أوروبا المعتدلة بدأت تظهر على ارتفاع حوالي خمسة آلاف قَدَم.
وفي جبال «بناما»، وعلى ارتفاع ألفي قدم لا غير، وجد دكتور «سيمان» أن الزروع تشابه
زروع المكسيك، مع صور من المناطق الحارة موزعة توزيعًا متناسقًا بين صور المناطق
المعتدلة.
والآن نعيد النظر كَرَّةً فيما ذهب إليه دكتور «كرول» من أنه عندما غَشِيَ البرد
القارص نصف الكرة الشمالي في أثناء العصر الجليدي، كان نصف الكرة الجنوبي أقلَّ برودة،
وهل يلقي هذا المذهب بعض الضوء على تلك الناحية الغامضة في توزيع الكائنات المختلفة في
البقاع المعتدلة في كل من نصفي الكرة وفي جبال المنطقة المدارية؟ فالعصر الجليدي
مُقدَّرًا بالسنين، لا بد من أن يكون بالغ الطول، وعندما نتذكَّر في كم من شاسع البقاع
توطنت النباتات والحيوانات منتشرة في قليل من الأماكن، فإن هذا العصر كان دافعًا إلى
ما
شئت من هجرات. وعندما مضى البرد يشتد شيئًا بعد شيء، غزت صور الجمد البقاع المعتدلة كما
نعرف. ومن الحقائق التي ذكرنا، قلما يساورنا الشك في أن بعضًا من صور البقاع المعتدلة
التي اختصت بقسط من العنُفوان والسيادة والانتشار، قد غزت البقاع الاستوائية المنخفضة،
في حين أن أهالي هذه المناطق المنخفضة الحارة، قد هاجرت إلى البقاع المدارية تحت المدارية
٧٢ التي في الجنوب؛ لأن نصف الكرة الجنوبي كان أكثر دفئًا وأقل برودة من النصف
الشمالي. وعندما أخذت شِدَّة العصر الجليدي في التطامُن، وأخذ نصفا الكرة شمالًا
وجنوبًا يستردان تدريجيًّا مناخهما الأول، اندفعت الصُّور التي عاشت في المنطقة
المعتدلة، والتي عاشت في المنخفضات وراء خط الاستواء، عائدة إلى مآهلها الأولى، وحلت
محلها الصور الاستوائية الآتية من الجنوب.
على أن بعضًا من الصور الشمالية الخاصة والمناطق المعتدلة، لا بُدَّ من أن تكون قد
تسلَّقت أية مرتفعات مجاورة، فإن كانت على ارتفاع مناسب، فإن هذه الصور لا شك تبقى
عائشة هنالك، مثل ما تعيش صور الجمد في جبال أوروبا، وربما كان يتسنى لها العيش
والبقاء، حتى ولو لم يكن المناخ مواتيًا لها تمام المواتاة؛ لأن تغير درجات الحرارة،
كان بلا شبهة بطيئًا جهد البطء، كما أن للنباتات خِصِّية القدرة على التأقلم، بدليل
قُدْرتها على أن تنقل على أجيالها قدرات تكوينية مختلفة تُمكِّنها من مقاومة البرد
والحرارة.
وفي مجرى الأحداث الطبيعية، لا بدَّ من أن يعترض نصف الكرة الجنوبي دورة جليدية
قاسية، في حين يرتد نصف الكرة الشمالي أقل بردًا وأكثر دفئًا، ومن ثمة تغزو صور المناطق
المعتدلة الجنوبية المنخفضات الاستوائية، أما الصور الشمالية التي تخلفت من قبل على
الجبال، فتعود هابطة لتختلط بالصور الجنوبية، وهذه الصور الجنوبية، لا بدَّ من أن ترتد،
عندما يعود الدفء، إلى مآهلها الأصلية، تاركةً بضعة أنواع تستوطن الجبال، حاملةً معها
نحو الجنوب بعض صور المناطق المعتدلة الشمالية التي تكون قد انحدرت هابطة من مجاهلها
الجبلية، وبذلك يتبقى لدينا قليل من الأنواع المتماثلة في المنطقتين المعتدلتين
الشمالية والجنوبية، وعلى الجبال التي تتوسط الأصقاع المدارية. غير أنَّ الأنواع التي
تتخلف عصرًا طويلًا في هذه الجبال، أو في نصفي الكرة المتناظرين، تقع في معركة تنافسية
مع صور جديدة، كما تتعرض إلى حالات طبيعية مختلفة عما ألفته بعض الشيء، ومن ثمة تكون
خاضعة للتكيف خضوعًا مباشرًا، مرتقية إلى طبقة الضروب أو الأنواع الرئيسة، ولا شك في
أن
ذلك واقع. هذا، وينبغي لنا ألَّا نغفل عن حدوث عصور جليدية سابقة في كل من نصفي الكرة؛
لأن حدوث هذه الأعصر يعلل لنا، طوعًا للسنن نفسها التي سبق شرحها، وجود تلك الأنواع
المعينة التي تستوطن تلك الباحات المنفصلة نفسها، وتتبع أجناسًا لا توجد في المناطق
الوسطية الحارة.
من الحقائق المثيرة التي يستمسك بها «هوكر» فيما يتعلق بأمريكا، و«الفورنس دي كاندول»
فيما يتعلق بأستراليا، أن عددًا وفيرًا من الأنواع المتماثلة، أو تلك التي تكيفت تكيفًا
قليلًا، قد هاجرت من الشمال إلى الجنوب أكثر من تلك التي هاجرت في اتجاه عكس ذلك. وعلى
أية حال، نرى عددًا أقل من الأنواع الجنوبية في جبال بورنيو والحبشة، وقد يتبادر إليَّ
أن زيادة الهجرة من الشمال إلى الجنوب، إنما ترجع إلى زيادة امتداد الأرض في الشمال،
وإلى أن الصور الشمالية كانت في مآهلها أكثر عددًا في الأفراد، ومن ثمة ارتقت بفعل
الانتخاب الطبيعي والمنافسة الحيوية إلى درجة أعلى من الكمال أو القدرة على التسود، عما
كان للصور الجنوبية، فلما تمازجت في المناطق الاستوائية في أثناء تناوب العصور
الجليدية، كانت الصور الشمالية أشد قوة، واستطاعت أن تحتفظ بمراكزها التي احتلتها على
الجبال، ثم هاجرت من بعد ذلك متجهةً إلى الجنوب مع الصور الجنوبية، ولكن ذلك لم يتح
للصور الجنوبية إزاء الصور الشمالية، وعلى غرار ذلك في العصر الحاضر، نرى أن كثيرًا
جدًّا من آهلات أوروبا تغشى سهول «اللابلاتة» و«نيوزيلندة» و«أستراليا» بدرجة أقل،
وأنها هزمت أصحاب الأرض الأصليين، في حين نرى أن عددًا صغيرًا جدًّا من الصور الجنوبية،
قد استوطنت في أية بقعة من نصف الكرة الشمالي، بالرغم من أنَّ الجلود والأصواف وغيرها
من الأشياء التي يمكن أن تعلق بها البذور، ظلت تستورد بكثرة إلى أوروبا في خلال القرنين
أو ثلاثة القرون الماضية في منطقة «اللابلاتة»، ومن أستراليا في خلال أربعين أو خمسين
السَّنة الحالية. غير أن جبال «تلغيري» في الهند تزودنا باستثناء جزئي لهذه الظاهرة،
فقد سمعت من دكتور «هوكر» أن الصور الأسترالية آخذة في الاستقرار هنالك، ومضت تستوطن.
ومما لا شك فيه أنه في خلال العصر الجليدي الأكبر، أهلت الجبال بين المدارية
٧٣ بصور ألبية
٧٤ خاصة، غير أن هذه الصور قد انهزمت حيثما كانت أمام الصور ذوات الغلبة التي
تأصلت في الباحات الأكثر سعة في الشمال. وكذلك نجد في كثير من الجزر أن الآهلات الأصلية
قد تتساوى عددًا، كما قد تقل بعض الأحيان عن الصور التي استوطنتها، وإن ذلك لدليل على
أول خطواتها نحو الانقراض، وما الجبال إلا جزائر الأرض القارة، أما أهالها فقد انهزمت
أمام تلك التي تأصلت في باحات أوسع وأرحب في الشمال، على نفس الطريقة التي انهزمت بها
أهال الجزر الحقيقة جميعًا، ولا تزال مستمرة في هزيمتها أمام صور الأرض القارة التي
وطنت فيها بفعل الإنسان.
وتنطبق هذه القواعد نفسها على توزيع الحيوانات الأرضية وأحياء البحار في كل من
المنطقتين المعتدلتين في الشمال والجنوب، وفي الجبال بين المدارية.
ولما كانت التيَّارات البحرية في خلال المد الأعلى للعصر الجليدي، مختلفة عما هي الآن
اختلافًا كبيرًا، فإن بعضًا من أحياء البحار المعتدلة قد يتفق أن تكون قد وصلت خط
الاستواء. على أن قليلًا من هذه الأحياء كانت قادرة على الهجرة نحو الجنوب، بأن تظل
ملتزمة التيارات الأبرد حرارة، في حين يعرض لغيرها أن تظل باقية حيَّة في الأعماق
الباردة، إلى أن تعرض نصف الكرة الجنوبي لغائلة المناخ الجليدي، فسمح لها ذلك بالتقدم
إلى أبعد مما بلغت. وبما يشابه ذلك القرار على ما يقول «فوريس»، توجد باحات منعزلة
تسكنها آهلات الجمد الشمالي حتى اليوم في الأجزاء الأعمق غورًا من البحار الشمالية
المعتدلة.
وما كنت لأدَّعي أن كل المشكلات المتعلقة بتوزيع الأنواع المتآصرة، أو المتماثلة
وعلاقاتها، والتي تعيش الآن في باحات متقاصية متباعدة في الشمال وفي الجنوب، وفي باحات
تتوسط سلاسل الجبال، قد تُمحى وفقًا للتعليلات التي ذكرت، فإن خطوط الهجرة الصحيحة لا
يمكن اكتناهها، كما لا نستطيع أن نقول لماذا هاجرت بعض الأنواع، ولم يهاجر البعض الآخر؟
أو لماذا تكيفت بعض الأنواع وأعقبت صورًا جديدة، بينما ظل غيرها ثابتًا لم يتغير ولم
يتكيف؟ وليس بي من أمل في أن نعلل السبب في هذه الوقائع، حتى ندرك لماذا يتوطن نوع
ينقله الإنسان في أرض أجنبية ولا يتوطن الآخر؟! ولماذا ينتشر نوع انتشارًا يبلغ مداه
ضعفي أو ثلاثة أضعاف انتشار غيره في نفس مآهلهما الأصلية؟
يتبقى لدينا بعد ذلك مشكلات خاصة مختلفة تتطلب تعليلًا، ولنضرب لها مثلًا بما يشير
إليه دكتور «هوكر» من وجود نباتات واحدة في باحات متقاصية أشد التقاصي مثل أرض «كرجيلن»
و«نيوزيلندة» وجزر أرض النار؛ غير أن أنهار الجليد — على ما يقول «لايل» — قد تكون
السبب في توزيعها هذا، وإن وجود أنواع، بالرغم من أنها مستقلة النوعية، فإنها تتبع
أجناسًا مقصور انتشارها على نصف الكرة الجنوبي، في تلك البقاع وغيرها من البقاع
الجنوبية المتنائية، لحقيقة أبهر مما تقدمها، فإن بعضًا من هذه الأنواع يدلنا إمعانها
في الاستقلال بعضها عن بعض، على أنه من العسير أن نفرض أنه مضى عليها زمن منذ بداءة
العصر الجليدي المتأخر، تمكنت فيه من الهجرة، ومن التَّكيُّف بعد ذلك تكيفًا بلغ بها
الدرجة الضرورية من الرُّقي. غير أنَّ الحقائق الواقعة تدلنا على أنَّ الأنواع المستقلة
التي تتبع أجناسًا واحدة، قد هاجرت متبعة خطوطًا متشعبة بادئة من نقطة مركزية. وإني
لأميل إلى الظن بأن عصرًا من الدفء قد سبق بدء العصر الجليدي المتأخر في الشمال وفي
الجنوب، كانت فيه باحات الجمد الجنوبي التي يغطيها الثلج الآن، مفعمة بمجموعات نباتية
خاصة بقيت منعزلة هنالك. ولقد يظهر أنه قبل أن تنقرض هذه المجموعات في أثناء العصر
الجليدي الأخير، قد انتشرت منها بضع صور انتشارًا واسعًا في مناطق من نصف الكرة
الجنوبي، بوسيلة ما من وسائل النقلة، وعن طريق محطات، هي في الواقع جزائر أصبحت الآن
منغمرة. ومن هنا يجوز أن تكون شواطئ أمريكا وأستراليا ونيوزيلندة، قد أهلت بنزر يسير
من
تلك الصور الخاصة.
وفي عبارة من عبارات «سير تشارلس لايل» الباهرة، وفي تعبير قريب من تعبيري، وصف تأثير
التغيرات الجُلَّى التي تصيب المناخ على سطح الكرة الأرضية في ظاهرة التوزع الجغرافي.
ولقد رأينا أخيرًا أن ما قال به «مستر كرول» من حدوث دورات جليدية متتابعة في أحد نصفي
الكرة، مع التسليم بتكيف الأنواع تكيفًا بطيئًا، يفسر لنا عددًا كبيرًا من الحقائق في
توزع الصور الحية على وجه الأرض، سواء أكانت صورًا معينة أم صورًا بعضها يمت بآصرة
لبعض. إن المياه التي تحمل الأحياء قد ظلت تتدفق في خلال عصر من العصور من الشمال، ثم
تتدفق في خلال عصر آخر من الجنوب، وفي كلتا الحالتين وصلت تياراتها إلى خط الاستواء.
أما نهر الحياة فقد كان اندفاعه من الشمال ذا قوة أعظم كثيرًا من اندفاعه من الاتجاه
المقابل، فكان غمره للجنوب بناءً على ذلك كبيرًا. ولما كان المد يترك مخلفاته في خطوط
أفقية، متساميًا على الشواطئ كلما كان ارتفاعه أكبر، كذلك كان شأن الماء الدفاق، ترك
مخلفاته على رءوس الجبال، في تدرج يتسامى بلطف من منخفضات الجمد الشمالي، إلى مرتفعات
شامخة تلي خط الاستواء. أما الأحياء التي تخلفت منقطعة عن غيرها، فيمكن تشبيهها بسلالات
همجية من البشر، أُزيحت عن مآهلها، فتسلقت مجاهل الجبال في جميع بقاع الأرض، وظلت هنالك
كأنها المسجلة الدالة على الأحياء الأولين، الذين سكنوا المنخفضات المحيطة بتلك
الجبال.