التناحر على البقاء
***
(١) صلة التناحر على البقاء بالانتخاب الطبيعي
ولقد يتساءل المتسائلون: كيف أن الضروب التي أطلقت عليها اسم «الأنواع المبدئية» قد تحولت على مر الزمان أنواعًا راقية مميزة بخِصِّياتها، في حين أن ما يقع بينها من التباين، في أغلب الحالات وعلى أخص الاعتبارات، أبين أثرًا مما يقع بين ضروب نوع معين، وكيف تجمعت الأنواع التي نسميها «أجناسًا مميزة» في حين أن بعضها يباين بعضًا أكثر مما تتباين أنواع الجنس الواحد، وطوعًا لهذا التناحر تنزع التحولات نحو العمل على الاحتفاظ بهذه الأفراد، ثم تمضي متوارثة في أنسالها مهما تكن هذه التحولات تافهة، ومهما يكن من أمر السبب المباشر لحدوثها، متى كانت مفيدة لأفراد نوع ما بصورة من الصور، من حيث علاقاتها الكثيرة المعقدة، بغيرها من الكائنات العضوية، وبحالات الحياة المحيطة بها، كذلك يكون لنسلها فرصة أنسب للبقاء؛ لأن ما يعيش من أفراد النوع، الذي وُلد دوريًّا نزر يسير. ولقد أطلقت اصطلاح «الانتخاب الطبيعي» على هذه السُّنة — سُنة تثبيت كل تحول مهما يكن تافهًا متى كان ذا فائدة — مشيرًا بذلك إلى علاقته بقدرة الإنسان في الانتخاب على أن الاصطلاح الذي أطلقه مستر «هربرت سبنسر» — وهو «بقاء الأصلح» — إن كان أكثر ضبطًا لتبيان ذلك المعنى من وجوه شتى، فهو مطابق له على بعض الاعتبارات. ولقد رأينا فيما سبق أنه من المستطاع أن يحصل الإنسان على نتائج من التحول ذات بال، وأن يجعل الكائنات العضوية ملائمة لاستيفاء مطالبه بما يستجمعه فيها من التحولات المفيدة التي تبدعها الطبيعة في صفات العضويات. أما الانتخاب الطبيعي كما سنرى بعدُ، فقوة غالبة دائبة التأثير في الأحياء، وأنها أعلى كعبًا بما لا يُقاس عليه من قدرة الإنسان، فإن آثار الطبيعة لا يطاولها فن الإنسان بحال من الأحوال.
وسأسهب الآن في شرح «سُنة التناحر على البقاء»، كما أني سأنيلها فيما بعد قسطها الأوفر من الإفاضة والتبيان، فلقد أظهر «ديكاندول» و«لايل» ومن ناحية فلسفية محضة، أن الكائنات العضوية مسوقة إلى تنافس شديد، ولم يتجشم بحث هذا الموضوع في عالم النبات أحد، فكان أقوى من مستر «و. هربرت» أسقف منشستر، بديهة أو أغزر مادة؛ ذلك لسعة اطلاعه على دقائق علم زراعة الأشجار، والتناحر على البقاء، إن كان من الهين أن نظهر بالكلم حقيقة ما يُعنى به على وجه الإطلاق دون التخصيص، فإن من المستصعب أن نعي في الذهن نتائجه الجُلَّى كما خبرت ذلك. فإذا لم نرقب الطبيعة ونظام الكائنات العضوية فيها، وما يتبع ذلك من الحقائق المتعلقة بالاستيطان، والندرة، والوفرة، والانقراض، والتحول، وإذا لم نعها وننزلها من أفئدتنا مكانًا عليًّا، استغلق علينا الأمر واستعجمت علينا أوجه النظر، وأخطأنا في الفهم خطأ كليًّا، فإننا إذ نبصر وجه الطبيعة باسمًا، نوقن بأن مواد الغذاء وفيرة بل فوق الحاجة، ومن ثم نغفل عن أن الطيور التي تغرد حولنا عبثًا تعيش على الحشرات أو الحب، فهي تفنى في معالم الحياة، ويغيب عن أذهاننا مقدار ما يفنى من هذه الطيور أو بيضها أو أفراخها، تقتلها طيور أخرى أو حيوانات مفترسة، كما أننا لا نلاحظ أن وفرة مواد الغذاء في زمن ما، لا تدوم وفيرة في فصول كل سنة من السنين في مستقبل الأيام.
(٢) إطلاق الاصطلاح إطلاقًا مجازيًّا أوسع معنى من ظاهره
وقبل أن أطلق اصطلاح «التناحر على البقاء» إطلاقًا مجازيًّا عامًّا، يتعين أن أبدأ القول بديباجة تساعد على فهم ما نود الإفاضة فيه، كاعتماد كائن على آخر في الوجود، وما يتعلق بحياة الأفراد الطبيعية، مشفعًا ذلك بالبحث فيما هو أكثر من ذلك شأنًا وأخطر مكانة، من الفوز في الأنسال.
إن وجود حيوانين من فصيلة السباع في مجاعة، يختلف جد الاختلاف عن حالة نبات في صحراء مقفرة، فإن الأولين إن كان تناحرهما على البقاء محتومًا، إلا أنهما سوف يجدان طعامًا يقومان به حياتهما، على العكس من الثاني فإنه يجالد الجفاف. ولا خفاء في أن النبات في مثل هذه الحال يعتمد في سبيل البقاء على الرطوبة، وثمة نبات ثمر ألف بذرة كل عام ينضج منها بذرة واحدة في المتوسط، أفليست الحقيقة أن هذا النبات يتناحر في سبيل البقاء، منافسًا غيره من نوعه، أو أنواع أخرى، مما يكسو وجه الأرض؟ فإذا نظرنا في عشب الدبق مثلًا، ووجدنا أنه يعتمد في الغالب على شجر التفاح وبعض أشجار أخرى، ثم أمعنا النظر وأطلنا البحث والاستبصار، حق علينا أن نقول — ويكون قولنا أقرب لمناهج الصواب — إن هذا العشب يجالد هذه الشجيرات التي يعتمد عليها؛ إذ إن نماء عدد كبير منه على شجرة بعينها لا يلبث أن يذيلها، ويميتها، وعند ذلك يصح القول بأن عشب الدبق بعضه يتناحر مع بعض، إذا نما كثير منه على فرع واحد من شجرة بعينها، وإذا كانت حياة هذا العشب وانتشاره في مختلف الأقاليم مقصورة على ما تنثر الطيور من بذره، كانت الطيور عدته الوحيدة في ذلك، وحينئذٍ يصح القول على سبيل المجاز، بأنه يتناحر مع أشجار أخرى من ذوات الثمار؛ إذ تنثر الطيور بذوره في أنحاء مختلفة لتتغذى بها، وعلى هذه الحالات المشتبكة الحلقات، المترابطة الصلات، أطلق اصطلاح «التناحر على البقاء» إطلاقًا مجازيًّا صرفًا؛ لدلالته عليها وملاءمته لها.
(٣) زيادة الأفراد بنسبة هندسية: الحيوانات والنباتات المؤلفة يزداد عددها سريعًا
إن التناحر على البقاء نتيجة محتومة لما في طبيعة العضويات من قابلية الازدياد والتكاثر. وكل كائن في الوجود، إن أنتج في حياته عددًا وافرًا من البيض أو البذور، فلا بد من أن ينتابه الهلاك في بعض أدوار حياته، أو في غضون بعض الفصول أو السنين اتفاقًا، وإلا فإن عدد أفراده يتكاثر بنسبة هندسية لا يتصورها الوهم، حتى لقد نقصر أية بقعة من البقاع دون أن تعضد نتاجه، وسنن الحياة تقضي بأن يربو عدد الأفراد الناتجة على العاجز منها على البقاء؛ لذلك يتعين أن تجري على الكائنات سُنة التناحر على البقاء، أفراد النوع الواحد بعضها إزاء بعض وأفراد الأنواع الخاصة، وحالات الحياة الطبيعية التي تحوط الأفراد، شرع في حكم هذه السُّنة؛ إذ لا يتسنى في مثل تلك الحال أن تزيد كمية مواد الغذاء بطرق عملية، وليس ثمة قيد ناتج عن باعث اضطراري يمنع التزاوج وإخلاف النسل، فإذا أمعن بعض الأنواع في التزايد بنسبة كبيرة أو قليلة، فإن كل الأنواع لا يتيسر لها أن تمضي خاضعة للنسبة ذاتها، وإلا ضاق عليها العالم بما وسع فضاؤه، تلك هي القاعدة التي عزاها «ملتاس» إلى عالمي الحيوان والنبات وثبتها عليهما تثبيتًا.
إن كل النباتات التي تصل حد البلوغ في حالتها الطبيعية، تنتج بذورًا في كل عام، وقلَّ أن يوجد من أنواع الحيوان ما لا يلد زوجًا كل حول، ومن ثَم لا يداخلنا خلجة من الريب في أن أجناس الحيوان والنبات كافة، تُساق إلى الازدياد بنسبة هندسية، بيد أن كلًّا منها يُعد لنفسه البيئة، ويهيئ الظروف المناسبة التي يتيسر له فيها أن يحتفظ بكيانه كيفما كانت الحال. وهذا التكاثر الهندسي يجب أن يقف الفناء تياره في دور خاص من العمر. ويغلب على ظني أن وفرة ما نعلمه من طبائع الحيوانات المؤلفة قد يسوقنا إلى الزلل؛ فإننا إذ نبصر أن تأثير الفناء فيها قليل، لا نذكر أن الألوف تُقتل منها بالذبح كل حول، عدا ما تفنيه منها مؤثرات طبيعية أخرى، وأن ما تهلكه هذه المؤثرات لا يقل عما يُستهلك منها بالذبح عدًّا.
إن نظرة واحدة في النظام الطبيعي تقضي بأن نجعل الاعتبارات السابقة في أذهاننا، وألا نغفل عن أن كل كائن حي يُساق للزيادة إلى حد بعيد، وأن كل فرد من أفراده لا يتسنى له البقاء إلا بعد تناحر شديد ينتابه في بعض أدوار حياته، وأن الفناء ينزل بكبار الأفراد وصغارها في غضون كل جيل، أو خلال فترات الزمان المتتالية، فإذا خفت تلك المؤثرات التي تحول دون تزايد العضويات أو قلَّت أسباب الفناء الذي ينزل بها، فإن عدد الأنواع يزداد دفعة واحدة إلى أبعد الغايات.
(٤) طبيعة المؤثرات التي تحول دون التكاثر – قيام التنافس – مؤثرات المناخ – الوقاية من عدد الأفراد
إن الأسباب التي تصد ذلك المؤثر الطبيعي الذي يسوق أي نوع من الأنواع إلى الزيادة العددية، منهم في غالب الأمر. انظر إلى أشد الأنواع قوة، تجد أنها بالرغم من تكاثرها تُساق إلى التضاعف العددي تضاعفًا مطردًا، غير أننا لا نعرف ضابطًا لطبيعة تلك المؤثرات التي تصد سير نمائها الطبيعي، ولم تهيئ لنا الظروف أن نكتنهها في مثال واحد من المثل التي نشاهدها، ولا ينبغي أن يُعاب علينا جهلنا هذه المسألة، حتى فيما يتعلق ببني الإنسان، ولو أن معرفتنا بأحوالهم لا تُقاس بها معرفتنا بأي كائن آخر في الوجود، ولقد بحث هذه المسألة كثير من الكتاب بحثًا ممتعًا، وآمل أن أنيلها في كتاب آخر حقها من البحث، ولا سيما ما يتعلق منها بالحيوانات الوحشية في جنوب أمريكا، وسأورد الآن ملاحظات قليلة تعطي القارئ فكرة من النقاط الهامة.
من البين أن البيض أو الصغار من نتاج الحيوان هي التي تشتد عليها وطأة المؤثرات، غير أن هذه القاعدة لا تصدق في بعض الظروف، فإن الذي يفسد من بادرات النبات لا يحصيه عد، غير أنه استبان لي من بعض المشاهد، أن أشد ما يكون تأثر البادرات، في أرض قد تكاثفت بما تأصل فيها من الأنواع الأخرى، وكثيرًا ما تفني أعداء مختلفة طبائعها، العدد الأوفر من البوادر، فقد استفلحت قطعة من الأرض لا تربو على ثلاث أقدام طولًا واثنتين عرضًا، وجهزتها بالحرث والنقاء بحيث لا ينافس ما ينبت فيها أي منافس آخر، ثم تعهدت ما نبت فيها من أعشابنا الأهلية، فوجدت أن متوسط ما أفنته الدويبات الزاحفة والحشرات على الأخص، لا يقل عن ٢٩٥ من ٣٥٧ بادرة، على أننا إذا تركنا النباتات العشبية تعاود نماءها بعد حصادها، أو بعد أن ترعاها ذوات الأربع — والتأثير واحد في كلتا الحالتين — لوجدنا أن الأكثر قوة يمحو بالتدريج ما كان أقل منه قوة وأضعف جلدًا، ولو كان بالغًا حد نمائه الطبيعي، والدليل على ذلك أن تسعة أنواع من عشرين نوعًا، قد فنيت في بقعة من الأرض لا تربو مساحتها على ثلاث أقدام عرضًا وأربع طولًا، اجتُثت منها الأعشاب النامية فيها حتى تهيأت الأسباب لنماء البقية الباقية منها نماء طبيعيًّا.
إن لمؤثرات المناخ لأثرًا كبيرًا في وضع حد لمتوسط العدد الذي يجوز أن ينتهي إليه عدد أفراد النوع، فاختلاف فصول السَّنة الدورية التي تكون مصحوبة ببرد شديد أو جفاف عام، لمن أبلغ تلك المؤثرات، ولقد قدرت ما فني من الطير في مقاطعتنا (مقاطعة داون) بإنكلترا خلال شتاء عامي ١٨٥٤، ١٨٥٥ بأربعة أخماسها، مستدلًّا على ذلك بكثرة ما شاهدت من أعشاشها في فصل الربيع، ونسبة هذا الفناء مريعة، إذا وعينا أن فناء عشرة في المائة من النوع الإنساني، بتأثير بعض العلل الوبائية أو النزلات الوافدة، نسبة بعيدة عن القياس، وإنه ليخيل إلينا أن تأثير المناخ مستقل استقلالًا تامًّا عن سُنة التناحر على البقاء. غير أنه بمقدار ما يكون تأثير المناخ في إقلال مواد الغذاء، تكون شدة التناحر على الحياة. أفراد الأنواع المعينة، أو الأنواع الخاصة التي تعيش على طعام واحد، شرعًا في حكم تلك السُّنة، فإذا برد الطقس فتأثيره المباشر لا يلحق سوى الأفراد الضعيفة التركيب الواهية البنية، أو الأفراد التي لم تحصل على غذاء كافٍ خلال فصل الشتاء مثلًا؛ لأن هذه المؤثرات بالطبع تكون أكثر تأثيرًا فيها مما هي في بقية الأفراد. وإذا سافرنا من الجنوب إلى الشمال، أو انتقلنا من إقليم رطب إلى آخر جاف، فإننا نلاحظ أن بعض الأنواع يقل شيئًا فشيئًا حتى تفقد آثاره، وإذا كان اختلاف المناخ في مثل هذه الحالات محسوسًا، عزونا هذه الظواهر بكلياتها إلى تأثيره المباشر، وهذا خطأ محض؛ لأننا نغفل أو نتغافل عن أن كل نوع من الأنواع يعاني دائمًا قسوة ما ينزل به من الفناء الدائم خلال دور من أدوار حياته، حتى في البقاع التي يكثر فيها انتشاره، يجالده فيها أعداء مختلفة صنوفها، يحاولون الاستيطان بأرضه أو الاغتذاء بما فيها من الأرزاق، فإذا ساعد هؤلاء «المستعمرين» تغاير في الطقس يوافق طبائعهم بعض الشيء، فإنهم يزدادون في العدد، وإذا كانت كل بقعة من البقاع مشحونة بادئ ذي بدء بما تأصل فيها من الأنواع، فلا مندوحة من أن تضمحل فيها، أو تتلاشى منها بعض الأنواع ويبقى البعض الآخر، فإذا اقتبلنا الجنوب ولاحظنا أن نوعًا ما آخذ في التناقص، نتحقق أن السبب مقصور على أن الحالات الطبيعية توافق غيره من الأنواع، بيد أنها تلحق به الضرر. وهذه وإن كانت الحال إذا اقتبلنا الشمال، غير أنها أقل درجة منها في الحال الأولى؛ لأن عدد الأنواع قاطبة يقل إذا اتجهنا شمالًا، وكذلك عدد منافسيها وأعدائها. فإذا ضربنا في الأرض مقتبلين الشمال، أو ارتقينا ذروة جبل شامخ، نجد أن الصور العضوية التي قصرت دون النماء بمؤثرات المناخ المباشرة، أكثر مما هي إذا ضربنا إلى الجنوب أو انحدرنا من ذروة حالق، فإذا بلغنا الأقاليم القطبية أو وصلنا إلى قسم الجبال المثلوجة، أو ضربنا في جوف الصحارى العارية، أصبح التناحر على البقاء مقصورًا على مجالدة العناصر الطبيعية.
أما القول بأن المناخ يؤثر في بقعة بعينها تأثيرًا غير مباشر أو يساعد أنواعًا دخيلة على البقاء، فبين في كثرة عدد النباتات المستثمرة في حدائقنا، وفي قدرتها على تحمل مؤثراته، كما أنه في حكم المستحيل أن ترجع هذه النباتات إلى حالة وحشية صرفة؛ وذلك لقصورها على التناحر إزاء النباتات البرية، وعدم مقدرتها على مقاومة أسباب الفناء والتلف الذي تحدثه الحيوانات الأهلية فيها.
إن انتشار الأوبئة والنزلات الوافدة، لأُولى النتائج التي تنجم عن نسبة ازدياد عدد نوع من الأنواع في بقعة معينة من الأرض ازديادًا كبيرًا، كما يُشاهد كثيرًا في حيوانات الصيد في بلادنا. ذلك هو المثل الأول للمؤثرات التي تقف نماء الأنواع وتؤثر فيها مستقلة عن سُنة التناحر على البقاء. وقد تكون تلك الأوبئة والنزلات الوافدة ناشئة من وجود ضرب من الديدان الحلمية التي يعرض لها أن تتكاثر، ولا يبعد أن ترجع أسبابها إلى سهولة انتشار هذه الدويبات في قطعان الحيوانات المتزاحمة، وهذا ضرب من التناحر على البقاء بين الكائنات الطفيلية وفرائسها.
وإذا نظرنا نظرة تأمل، أيقنا بأن أدعى الضرورات لبقاء نوع بعينه، تنحصر في تفوقه على منافسيه، بأن تزداد نسبة عدده على نسبة عددهم، الأمر الذي به نستطيع أن نزيد محصول الذرة وبذور الشلجم وغيرها مما يُنتج في حقولنا؛ لأن كمية البذور الناتجة منها تربو كثيرًا على عدد الطيور التي تقتات بها، كما أن الطيور لا يتيسر أن تزداد في العدد بنسبة توافر مواد الغذاء؛ لما يتولاها من الوهن وقلة التوالد خلال فصل الشتاء، وإن زادت هذه المواد على حاجتها في أي فصل من الفصول الأخرى. وكل مَن تجشم مئونة البحث في ذلك، يوقن بأنه من المستبعد استنبات القمح أو غيره من النباتات التي تماثله في حديقة ما، فقد خسرت في مثل هذه الحال كل حبة بذرتها، فحاجة كل نوع بعينه إلى إنتاج عدد كبير من النسل ليحفظ بذلك كيانه، حقيقة تكشف لنا عن بعض ما يلابسها من الحقائق الطبيعية العامة، مثل تكاثر نبات نادر الوجود تكاثرًا غير عادي في البقاع التي يستنوخ فيها، وإيلاف بعض النباتات وكيفية إيلافها، ووفرة عدد الأفراد، وفي مثل هذه الحالات وما يماثلها، ينبغي أن نتحقق أن نباتًا ما لا يبقى إلا حيثما توافقه حالات الحياة المحيطة به، حيث تؤدي تلك الحالات إلى بقاء كثير من أفراده بعضها مؤتلف ببعض، حتى ينجو النوع من الانقراض. وليس من الواجب أن أطيل القول في ذلك، وإن كان من ألزم الواجبات أن نعي أن للمؤثرات البينة التي تنجم عن خصب الأنواع لدى تهاجنها، وأن للمؤثرات السوأى التي تحدث من التزاوج لجولة واسعة فيما ينجم من تأثير هذه الحالات عامتها.
(٥) الصلات المعقدة التي تربط الحيوانات والنباتات في تناحرها على البقاء
وهكذا نستبين كيف تتعقد الحلقات بعضها في إثر بعض. وليست هذه حال الصلات العضوية من حقارة الشأن في الحالة الطبيعية دائمًا، فإن استمرار التناحر وتتابع المواقع إحداها وراء الأخرى، يتبعه عادة نجاح متغاير الماهية، غير أننا نرى في هذه الحالات عامة، أن القوى الطبيعية متوازنة توازنًا تامًّا، حتى إنه ليُخيل إلينا خطأ أن مظاهر الطبيعة غير متغايرة على تتالي الأجيال ومر الدهور، في حين أن أقل ظرف من الظروف تأثيرًا، يكون سببًا في انتصار كائن عضوي على آخر في الوجود، ومهما يكن من الأمر، فإن جهلنا وخبطنا في مهاوي الظنون والفروض، ليقذفان بنا إلى التطوح في لجج الحيرة والعجب، إذا خبرنا أن كائنًا عضويًّا قد انقرض من وجه الأرض، وإذ كنا لا نعرف السبب أخذنا نتلمسه، فزعمنا من قبل أن تتابع الفيضانات الطوفانية سيفني عالم الحياة، ثم عقبنا على ذلك بأقوال صورها لنا الوهم، عزونا إليها السبب في بقاء صور الأحياء في هذا الوجود.
ولقد أشار البعض إلى أن البعوض يستطيع أن يُعد البرسيم للخصب، غير أن كونها تقدر على ذلك في نوع البرسيم الأحمر، أمر تخالجني فيه الريب؛ ذلك لأن ثقلها غير كافٍ للضغط على بتلات الزهرة في هذا النبات. ومن ثَم نُساق إلى القول بأنه مما يغلب حدوثه أن جنس النحل الطنان إذا انقرض أو قلَّ عدده إلى حد الندرة في إنكلترا، فإن البانسي والبرسيم الأحمر، تضحى قليلة العدد، إن لم تنقرض انقراضًا تامًّا. ونرى من جهة أخرى أن عدد النحل الطنان في أي إقليم، يتوقف غالبًا على عدد أفراد «فأر الغيط» فيه، فإن هذا الفأر يحدث بخلياته وبيوتها ضررًا بالغًا.
قال كولونيل «نيومان»، وهو من الذين درسوا طبائع النحل الطنان: «إن ما يهلك في إنكلترا منه يربو على ثلثي عدده.» وعدد أفراد فأر الغيط متوقف على عدد أفراد «السنور» في كثير من الاعتبارات، كما يعرف ذلك كل إنسان. وقال «نيومان»: «ولقد تبين لي أن بيوت أنواع النحل الكبير تكثر حول القرى والضياع الصغيرة، وذلك راجع إلى كثرة عدد السنانير حيث تفنى كثيرًا من فأر الغيط.» فمن المحقق أن كثرة وجود حيوان سنوري في مقاطعة بعينها ضروري في تعيين حد لتكاثر زهور خاصة؛ بسبب ما يقع من التأثير على فأر الغيط، وما يتبع ذلك من تزايد النحل.
فإذا نظرنا نظرة عامة في كل نوع من الأنواع، رجح لدينا أن مختلف المؤثرات المعطلة التي تؤثر فيها خلال أدوار مختلفة من العمر، أو خلال فصل من الفصول المتباينة، أو سَنة من السنين، قد أحدثت فيها تأثيرًا معينًا، من هذه المؤثرات، ما له القوة الغالبة والأثر الأول بصفة عامة، غير أن النتيجة التي يشترك في إحداثها مختلف هذه المؤثرات عامة هي وضع حد لمتوسط عدد الأفراد أو بقاء نوع معين.
ونستطيع أن نثبت بالبراهين الحسية، أن أشد المؤثرات التي تقف النماء اختلافًا وأكثرها تباينًا، تتشابه نتائجها التي تطرأ على النوع الواحد في بقاع مختلفة، ولقد نعزو إلى المصادفة وتأثيرها عادة، تكاثف النباتات والأعشاب التي تكسو بعض الشواطئ وتحديد عددها النسبي، على أن هذا محض ادعاء لا تؤيده القرائن ولا الأدلة القاطعة؛ إذ كلنا يعرف أنه عندما تُقطع أشجار بعض الغابات في أمريكا، ينشأ من ذلك نماء بعض الزروع. وشُوهد أخيرًا في خرائب بعض الغابات الهندية القديمة في القسم الجنوبي من الولايات المتحدة — ولا بد من أن تكون أشجارها قد استُؤصلت من قبل — أنها تشارك غيرها من الغابات البكر المجاورة من حيث الصفة والجمال والنسبة النوعية، وكم من مناحرة اشتد أوارها بين صنوف النباتات المختلفة خلال قرون متطاولة، وكم تناثرت بذورها بالألوف في بقاع متفرقة! وكم من حرب استعرت بين حشرة وحشرة، أو بين الحشرات والحلازين وغيرها من الحيوان والطير والمفترسات، فهي مسوقة بطبيعتها إلى التكاثر، مغتذية بعضها ببعض أو بالشجيرات النامية، أو البذور أو البادرات أو غيرها مما يكون قد اكتسى به وجه الأرض من قبل، فعاقت نماء ما يستجد من الأشجار الأخرى. خذ قبضة من الريش واقذف بها في الهواء، فإنها تهبط إلى الأرض ثانية، خضوعًا لسنن طبيعية محدودة ماهياتها، غير أن السُّنن التي تخضع لها كل ريشة في هبوطها إلى الأرض لتستبين لنا جلية ظاهرة، على غموضها، عند مقارنتها بسنن الفعل والانفعال التي تقع على الحيوانات والنباتات العديدة غير المتناهية، التي حددت عدد الأشجار التي تعمر خرائب تلك الغابات الهندية القديمة نسبتها إلى غيرها خلال قرون عدة.
إن اعتماد كائن عضوي على آخر كاعتماد حيوان طفيلي على فريسته مثلًا، يقع عادة بين الكائنات المتجافية الصلة في النظام التصنيفي الطبيعي؛ ولذا نقول قولًا حقًّا: إن الكائنات العضوية تتناحر على البقاء كما يتناحر الجراد وما يغتذي بالحشائش من ذوات الأربع، وإن كان هذا التناحر لا يبلغ منتهى شدته في أغلب الاعتبارات، إلا بين أفراد النوع الواحد، فهي على تكاثرها تكاثرًا مطردًا، تقطن بقعة محدودة حيث تتصل بينها حلقات الانتفاع، وتحتاج إلى غذاء واحد، وكلها يقع تحت تأثيرات خطر بعينه. والتناحر بين ضروب النوع الواحد لا يقل عن ذلك شدة وعنفًا، وما أسرع ما يقف هذا التناحر عند حد معين، كما استبان لنا في بعض الحالات، فإننا إذا زرعنا خليطًا من ضروب الحنطة في حقل، وأخذنا الناتج من حبوب هذا الخليط بعد حصاده، وأعدنا زراعته تارة أخرى، وكررنا هذه التجربة عدة أجيال متوالية، فلا شك في أن يتغلب ضرب منها على بقية الضروب، بما في طبيعته من قوة الإثمار، أو موافقة عناصر الأرض له، أو طبيعة المناخ، وما نتيجة ذلك إلا انقراض بقية الضروب وتفرده بالبقاء، فإذا أردت أن تحفظ أصلًا مختلطًا من ضروب البازلاء مثلًا، مختلفة الألوان، وجب أن يُزرع ويُحصد كل منها قائمًا بذاته، ثم تُخلط حبوبها حينئذٍ بنسبة ملائمة، وإلا فإن عدد بعض الضروب يتناقص شيئًا فشيئًا حتى ينقرض من الوجود، وكذلك الحال في ضروب الأغنام، فقد ثبت أخيرًا أن بعض ضروبها الجبلية تفني ضروبًا غيرها من نوعها، إذا تناحرت على البقاء وإياها، وبذلك لا يتسنى تعايشها في بقعة واحدة.
ولقد فحصت عن ذلك في ضروب مختلفة من الدود الطبي حفظت معًا، فلم تتخلف النتيجة عما تقدم، ومما يداخلني فيه الريب، إمكان حفظ النسب الأصلية التي تكون لضروب نباتاتنا وحيواناتنا الأهلية المتكافئة في قواها وعاداتها وتركيب بنيتها عند اختلاط بعضها ببعض (مع امتناعها عن التهاجن) فترة لا تقل عن ستة أجيال مثلًا، ووجودها بحيث يتسنى لها أن تتناحر كما تتناحر في حالتها الطبيعية المطلقة، مضافًا إلى ذلك عدم الاحتياط في الاحتفاظ ببذورها أو صغارها بنسبة ملائمة لحالتها الطبيعية.
(٦) التناحر على البقاء بين أفراد كل نوع بعينه، هو أشد ضروب التناحر قسوة، ويغلب أن تشتد وطأته بين أنواع الجنس الواحد – الصلات التي تربط الكائن العضوي بغيره هي أشد الصلات خطرًا
إن ادخار العناصر الغذائية في بذور كثير من النباتات، لتظهر بادئ ذي بدء وكأن ليس لها علاقة بأية نباتات أخرى. على أن ما نشاهده من قوة الشجيرات الصغيرة التي تنتجها حبوب الحمص والفول مثلًا عند زراعتها في أرض، تكاثفت فيها أنواع حشائش بالغة حد النماء، لتسوقنا إلى الاعتقاد بأن الفائدة التي تنتجها هذه العناصر، تنحصر في أنها تعضد بادراتها الصغيرة عند تناحرها مع غيرها من النباتات القوية النامية حولها.
انظر إلى نبات ما يأهل المنطقة المركزية من موطنه الذي تأصَّل فيه، واكشف لي عن السبب الذي يؤثر فيه فلا يتضاعف أو يبلغ ثلاثة أضعاف عدده! ولا مرية في أن هذا النبات يتحمل تأثير مقدار محدود من الحرارة أو البرودة أو الجفاف أو الرطوبة، ومن المستطاع أن ينتشر في مواطن أخرى تزداد فيها مؤثرات تلك العوامل تزايدًا عرضيًّا. ولقد يتبين لنا في مثل هذه الحالات إذا أردنا — وذلك على سبيل الفرض والاحتمال — أن نهيئ لهذا النبات أسباب الزيادة والنماء، أن نعد له من الصفات ما يتفوق به على منافسيه، ونهيئ له من الصفات ما يمتاز به على الحيوانات التي تتغذى به. ومن المحقق أنه إذا طرأ على نباتنا هذا تغاير تركيبي حال وجوده في موطنه الذي ينتشر فيه، لكان هذا التغاير من الظروف التي تفيده في حال حياته، ولا نخطئ إذا اعتقدنا أن السبب المباشر في هلاك بعض النباتات التي تتعدى الحد الأقصى لما يمكن أن تبلغ إليه من الانتشار في بقاع من الأرض، راجع إلى تأثير الطقس، فإذا ألقينا عصا الترحال في الطرف الأقصى من المعمور كأقاليم المناطق المتجمدة أو جوف الصحارى القاحلة، حيث ينتهي عند حدودها انتشار الأنواع الحية عادة، خُيل إلينا أن التناحر قد تقف تأثيراته في الكائنات، والأمر على عكس ذلك، فإن هذه الأقاليم إما أن تكون ذات برد قارس أو قيظ محرق، فيقع التناحر بين بعض أنواع معينة أو غير معينة، ليفوز بعضها بالبقاء في البقاع الأكثر دفئًا أو الأشد اعتدالًا.
ومن ثم نرى أنه إذا وجد حيوان أو نبات ما في إقليم من الأقاليم بين أعداء لم يألفها، تتغير حالات حياته العامة تغيرًا تامًّا، ولو كانت طبيعة المناخ إذ ذاك لا تختلف عنها في موطنه الأصلي شيئًا، فإذا زاد متوسط عدد أفراده، نوقن دائمًا بأن صفاته الطبيعية قد تغايرت حتى أصبحت مباينة لصفاته التي كان معروفًا بها لدينا في موطنه الأصلي، ويكون قد حدث فيه من الخِصِّيات ما تغلب به على صنوف أخرى من أعدائه.
على ذلك، ينبغي لنا أن نعي دائمًا أن لكل نوع من الأنواع خِصِّية يتفوق بها على غيره من الكائنات، ولو على سبيل الترجيح، وغالبًا ما نعجز في كل الحالات عن معرفة الصراط السوي الذي يجب أن نسلكه في هذه السبيل، مما يجعلنا نعتقد اعتقادًا ثابتًا أننا نجهل الجهل كله سُنن تبادل الصلات بين الكائنات العضوية عامة، ويكاد يكون هذا الاعتقاد من الضرورات، ولو أن التسليم به من المعضلات، وكل ما نستطيع الأخذ به هو: أن نعي دائمًا أن الكائنات العضوية كافة، مهما كانت صفاتها وطبائعها، مسوقة إلى التكاثر بنسبة هندسية ذات نظام خاص، وأن كلًّا منها لا بد من أن يتناحر للبقاء مع غيره، وأن ينزل به الهلاك في بعض أدوار حياته الطبيعية، أو خلال الفصول أو الأجيال أو الفترات الزمانية المتتالية.
فإذا نظرنا في سُنن التناحر على البقاء، نظرَ المتأمل، فلا نلبث أن نوقن بأن هذه الحروب الطبيعية غير متناهية، أو هي غير قابلة للانتهاء، وأنه ليس هناك من خطر على الأنواع من جراء ما يعتورها من الهلاك، وأنه لا يبقى حيًّا منها أو يتضاعف عدده إلا الأنواع التي تهيئ لها قوتها، أو كمال بنيتها الطبيعي، سبيل الاحتفاظ بكيانها.