الانتخاب الطبيعي أو بقاء الأصلح
الانتخاب الطبيعي – قدرته مقيسة بقدرة الإنسان في الانتخاب – تأثيره في الصفات القليلة الأهمية – تأثيره في كل دور من أدوار العمر وبيان ذلك في الزوجين: الذكر والأنثى – الانتخاب التناسلي – الكلام في المهاجنة بين أفراد النوع الواحد – الظروف الملائمة وغير الملائمة لنتائج الانتخاب الطبيعي كالمهاجنة والعزلة وعدد الأفراد – فعل الانتخاب بطيء – الانقراض راجع إلى الانتخاب الطبيعي – انحراف الصفات من حيث الصلة بتباين سكان بقعة من البقاع الصغيرة ومن حيث الرجون – فعل الانتخاب الطبيعي من طريق انحراف الصفات والانقراض في أخلاف أصل والدي واحد – تعليل وجود الكائنات العضوية في عشائر – ارتقاء النظام العضوي – حفظ الصور الدنيا وبقاؤها – تقارب الصفات – تكاثر الأنواع متتابع – الخلاصة.
***
كيف يؤثر التناحر على البقاء، الذي أوجزنا شرحه في الفصل السابق، في ظاهرة التحول؟ وهل يمكن لسُنة الانتخاب، وقد لمسنا أثرها الفعال واقعة بسلطة الإنسان، أن تؤثر في ظل الطبيعة؟ سوف يستبين لنا أن لها أثرًا ثابتًا فعالًا.
يجب أن نعي بادئ ذي بدء، ما يحدث في أنسال دواجننا، حيوانًا كانت أم نباتًا، من التحولات الطفيفة والتباينات الفردية، وأن نسبة ما يطرأ على الحيوانات والنباتات من التحول بتأثير الطبيعة الخالصة، أقل مما يطرأ عليها بتأثير الإيلاف، كذلك لا يغرب عن أفهامنا ما للملكات الوراثية من القوة والأثر البين، ولا جرم أن النظام العضوي يقبل التشكل إلى حد ما بتأثير الإيلاف، غير أن الإنسان بقوته المفردة لا يستطيع أن يكسب الدواجن، بطريق مباشر، ما نلحظه فيها من قابلية التحول، كما أبان «هوكر» و«آساجراي». كذلك ليس في مكنته أن يحدث الضروب، ولا أن يمنع حدوثها، بل هو قادر على أن يحتفظ بها ويضاعف عدد ما قد يحدث منها لا غير، فهو إذ يعرض الكائنات العضوية على غير عمد لتأثيرات أعراض الحياة المتغايرة المتجددة حالًا بعد حال، تتولد فيها من ثَم قابلية التحول، ولا جرم أن التحول الذي يقع في حالات الحياة لدى الإيلاف قد يحدث بتأثير الطبيعة الخالصة.
ولنعِ فوق ذلك أن الصلات المتشابكة والروابط المتبادلة بين الكائنات عامة، وتأثر هذه الكائنات بظروف حياتها الطبيعية، معقدة متخالطة تخالطًا غير محدود، وأن ذلك جوهري لحياتها، ولنتدبر ما قد يحدثه اختلاف صور الكائنات وتحولها غير المحدود؛ إذ تتأثر بحالات الحياة المتضاربة، من الفوائد الجلية. أيخامرنا الريب بعد أن ثبت لدينا حدوث تحولات ذات فائدة للإنسان، في أن تحولات أخرى ذات فائدة لكل كائن في معمعة الحياة الكبرى، قد حدثت على مر أجيال عديدة متعاقبة؟ فإذا ثبت لدينا ذلك، ووعينا أن ما يُولد من الأفراد العاجزين غير القادرين على البقاء، أكثر مما يقدر على البقاء، فهل تخالجنا الظنون في أن الأفراد التي تمتاز على غيرها، ولو بقليل من الامتياز، قد تفوز بحظ البقاء والتناسل، فيزيد عددها ويحفظ نوعها؟ وإنا لنعلم علم اليقين أنه لو كان في حدوث أي تحول، مهما كان طفيفًا، ضرر بالأنواع لَبادت ولَلحقت بما غبر خلال القرون، وحفظ تلك التباينات الفردية المفيدة، ثم إبادة الضار منها هو ما سميته «الانتخاب الطبيعي أو بقاء الأصلح». وأما التحولات التي لا تنفع ولا تضر، فلا أثر للانتخاب الطبيعي فيها، فإما أن تُهمل بوصفها عناصر غير ثابتة كما نشاهد أحيانًا في بعض الأنواع المتعددة الأشكال المتضاربة الهيئات، وإما أن تثبت أخيرًا على حال ما، وفاقًا لطبيعة ذلك الكائن وطبيعة حالات الحياة.
ولقد أخطأ بعض الكتاب فَهْم المقصود من «الانتخاب الطبيعي» أو اعترضوا عليه، وظن البعض الآخر أنه السبب الذي يُنتِج الاستعداد للتحول، مع أن تأثيره مقصور على حفظ التحولات التي تظهر في العضويات، وتكون مفيدة لها في حياتها الطبيعية، بيد أنهم لم يعترضوا على ما يقوله الزارعون من تأثير قوة الإنسان في الانتخاب؛ ذلك لأن التباينات الفردية التي تبدعها الطبيعة في صور الكائنات، والتي ينتخبها الإنسان لأمر ما، هي أول التباينات حدوثًا بحكم الضرورة، واعترض البعض على «الانتخاب» بأنه يدل على انتخاب الحيوانات التي تهذبت صفاتها انتخابًا مقصودًا بالذات لا غير، وبلغ بهم الإغراق إلى الاستدلال بأن النباتات إذ هي معدومة الإرادة والاختيار، فلا يكون للانتخاب الطبيعي عليها من سلطان، على أن اصطلاح «الانتخاب الطبيعي» ذاته ليس بصحيح من الوجهة اللفظية. بيد أنني لم أرَ من جهة أخرى اعتراضًا على علماء الكيمياء لدى كلامهم في «الخِصِّيات الانتخابية لكل عنصر من العناصر المختلفة»، في حين أنه لا يجوز أن يُقال: إن أي حمض من الأحماض يختار العنصر الذي يفضله للامتزاج به، ويكون الكلام صحيحًا من كل الوجوه! وقيل: إنني لم أتكلم في «الانتخاب الطبيعي» إلا باعتبار أنه قوة فاعلة غالبة، أو أنه مستمد من وراء الطبيعة، أفيعترض لهذا على أي من الكتاب لدى قوله: «إن جاذبية الثقل هي التي تضبط سير الأجرام السماوية وتحدد مقدارها؟» وغير خفي ما يُقصد بهذا الاصطلاح المجازي وما يُراد الاستدلال به، كذلك ليس من الهين أن تدع تجسيم لفظة «الطبيعة» في كل ذلك، ولست أقصد بالطبيعة سوى فعل الاستجماع مقرونًا بتأثير السُّنن الأخرى، كما أني لا أقصد بالسُّنن سوى تتابع وقوع الحوادث الكونية كما ثبتت حقائقها لدينا؛ لذلك ينبغي أن نغض الطرف عن هذه الاعتراضات الواهية وأمثالها، وإن كان لها بعض الشأن على اعتبارات عرضية صرفة.
ولا سبيل إلى تدبر الانتخاب الطبيعي ودرس مؤثراته إلا بالبحث في حالات إقليم يتغاير مناخه تغايرًا طبيعيًّا طفيفًا، فإن عدد الأفراد النسبي فيه يتغير تغيرًا سريعًا، ويغلب أن يذهب الانقراض ببعض أنواعه، ولقد تستنتج مما وعيناه من الاختلاط والترابط الذي يصل بعض سكان الأقاليم المختلفة ببعض، أن كل تغير يطرأ على نسبة عدد قطان بقعة من البقاع، بغير تأثير من تغاير المناخ ذاته، يؤثر فيما يأهل ببقعة أخرى تأثيرًا عظيمًا، فإذا كانت تخوم إقليم ما سهلة الاجتياز مفتوحة المسالك لكل طارق، فلا ريب في أن صورًا جديدة تهاجر إليه، فتتأثر بذلك علاقات بعض الأهلين الأصليين، وتضطرب صلاتهم اضطرابًا كبيرًا، وذلك بيِّن فيما فصلناه قبلُ من المؤثرات التي تترتب على إدخال شجرة أو حيوان ثديي في بقعة خلو منه. أما في الجزائر التي يحوطها الماء من كل صوب، أو الأقاليم التي تحدها تخوم طبيعية لا يسهل اجتيازها، بحيث لا تكون هجرة صور أجنبية أكثر ارتقاء وتهذيبًا مما هو متأصل فيها أمرًا سهلًا مستطاعًا، فلا نشك مطلق الشك في وجود مواضع في نظام أحيائها، يمكن أن تكون أكثر تكافؤًا وأضبط نسقًا إذا كانت أحياؤها الأصلية قد نالها شيء من التهذيب، أو انتابها نزر من تحول الصفات بشكل من الأشكال، ولو كان من المستطاع أن تهاجر إلى تلك البقاع صنوف من الكائنات، لتناسقت تلك المواضع غير المتكافئة، ولملأ فراغها كثير من الدخلاء. فإذا حدث تحول الصفات العرضي واقعًا لفائدة أفراد أي نوع من الأنواع، فتلك هي التي لا يتولاها الوهن، ولا تمتد إليها يد الزوال بحال؛ إذ إن ما يحدث فيها من التحولات يجعلها أتم عدة، وأكثر كفاءة لحالات حياتها المحيطة بها، ولا جرم يكون لتأثير الانتخاب الطبيعي غير المحدود في هذه الظروف وأمثالها، الأثر الأول في ارتقاء الكائنات وتهذيب صفاتها.
ولدينا من الأسباب ما يسوقنا إلى الإيمان بأن تغاير حالات الحياة التي أدلينا بها في الفصل الأول، تزيد من قابلية الاستعداد للتحول في الأنواع، بمثل ما تزيدها تأثيرات السُّنن التي ذكرتها في الأسطر السابقة في تغاير الحالات المحيطة بالكائنات؛ إذ تساعد الانتخاب الطبيعي على إبراز آثاره، وتهيئ للأنواع جمَّ الفرص للسيادة، بما تحدثه فيها من التحولات المفيدة، ولو لم تظهر تلك التحولات لما كان للانتخاب الطبيعي أثر ما، ولا يغرب عن أفهامنا أن بين ما نعنيه من «التحولات» و«التباينات الفردية» تضايقًا، وأن الأولى تشمل مدلول الثانية، فكما أن الإنسان يستطيع أن يحدث في الحيوانات والنباتات الداجنة آثارًا من التحول ذات بال، بما يزيده فيها بالوسائط العلمية، من التباينات الفردية في أي جزء من أجزائها، كذلك يفعل الانتخاب الطبيعي بالأنواع، وإن كان ظهور التباينات بتأثيره أقل صعوبة، فذلك لما يستغرقه في سبيل إبرازها من الزمان. ولست معتقدًا في أن أي تغير في الظروف البيئية المحيطة بالكائنات، كاختلاف المناخ، أو بُعد الشقة، أو انقطاع الصلات غير العادي الذي يحول دون المهاجرة ويقطع أسبابها، يكون ضروريًّا لإبراز آثار الانتخاب الطبيعي، حتى يسد — بما ينتجه من تهذيب، وما يحدثه من ارتقاء في بعض الكائنات المسوقة في سبيل التحول — النقصَ الذي تحدثه تلك المؤثرات في نظام العضويات. فكائنات إقليم ما، إذا مضت متناحرة بنسبة من القوة متوازنة توازنًا تامًّا، كان ما يطرأ على نوع من التحولات العرضية في التركيب أو العادات، من أكبر الأسباب التي تعده للتفوق على غيره، ولا جرم أن ازدياد هذا التحول في الصفات يضاعف من نتائج تلك الفوائد، ما دام النوع متأثرًا بحالات حياة واحدة، ممدًّا بما يحتاجه من ضرورات المعاش وعُدد الدفاع عن النفس. وليس من المستطاع أن نذكر إقليمًا واحدًا بقيت أنواعه الأهلية في هذا الزمان على حال من التناسق وموازنة بعضها لبعض، ولحالات حياتها الطبيعية التي تؤثر فيها، بحيث لا يتسنى لجزء منها أن يكون في المستقبل أكثر تناسقًا وتهذيبًا؛ ذلك لأن الكائنات الأهلية في كل بقاع الأرض قد هُوجمت بما نشأ في الطبيعة من صنوف الأحياء العضوية، حتى إنها أخلت السبيل لأنواع أجنبية استوطنت مواطنها الأصلية. وإذا كانت القاعدة أن يتغلب كل أجنبي على بعض الأهليات، لزمنا القول بأن لا بد من أن يطرأ على الآهلين الأصليين تكيف مفيد، حتى يتسنى لهم أن يقاوموا الدخلاء بحال من الأحوال.
وإذا ثبت لدينا أن الإنسان قد استحدث نتائج من التحول ذات شأن كبير بتأثير الانتخاب النسقي والانتخاب اللاشعوري (غير المقصود)، بل أحدثها فعلًا، فلمَ نحاول أن ننكر تأثير الانتخاب الطبيعي؟! على أن تأثير الإنسان مقصور على الصفات الظاهرة التي تقع تحت سلطان ما يجريه فيها من التجاريب، بيد أن الطبيعية — وأقصد بها بقاء الأصلح — لا تُعنى بالمظاهر الخارجية إلا بمقدار ما يكون فيها من الفائدة لأي كائن من الكائنات، تؤثر الطبيعة في كل عضو من الأعضاء الخفية، وفي كل الفروق التركيبية مهما ضعف شأنها واتضعت مرتبتها، بل في كل أجزاء الجسم الآلية التي تقوم عليها الحياة، بيد أن الإنسان لا ينتخب إلا ما يكون له فيه منفعة ذاتية. وأما الطبيعة فلا تأخذ بأسباب الانتخاب إلا لفائدة الكائن الذي تريد حفظه وبقاءه، وإن الطبيعة لتكاد تتخير كل صفة من الصفات المنتخبة، ويُستدل على ذلك استدلالًا قاطعًا بأنها تنتخب صفة دون سواها، والإنسان عدا ذلك يحتفظ بأهليات كثيرة من مختلف الأقاليم في بقعة واحدة، ويغلب أن يتخير كل صفة من الصفات المنتخبة بوسيلة من الوسائل الخاصة الملائمة له، وهو يغذي أنواع الحمام ذوات المنقار الطويل وذوات المنقار القصير بطعام واحد، ويغفل الانتفاع بالحيوانات الطويلة، المتون أو الطويلة السوق، كما يغفل تسخيرها بأية طريقة من الطرق الخاصة، ويعرض الأغنام طويلة الصوف وقصيرته لمؤثرات مناخ واحد، ولا يهيئ الأسباب للذكور ذوات القوة كاملة التركيب للتناحر في سبيل اختيار إناثها، ولا يعمل على استئصال الحيوانات المستضعفة المنحطة الصفات بما تقتضيه الحال من الخشونة والقسوة، بل يحفظ بكل الوسائل التي يصل إليها مبلغ اقتداره، كل صنوف الأنسال التي يحصل عليها خلال الفصول المتغايرة، وما كان لينتخب من الصور في الغالب إلا ما هو أقرب للشواذ الخلقية منه إلى التكافؤ الخلقي والوحدة القياسية، أو على الأقل تلك الصور التي يطرأ عليها من التغاير الوصفي ما يستبين للنظر المجرد، أو ما ينكشف له فيه منفعة خاصة. أما في الطبيعة فإن التحولات التي تلحق الشكل الظاهر أو التركيب تؤلِّف سببًا وجيهًا لحفظ التوازن في التناحر للبقاء، وبذلك يتعين حفظها ويتحتم بقاؤها، وما أسرع زوال رغبات الإنسان وانبتات تأثيره، بل ما أقصر أيامه، بل يجب أن نقول: ما أحقر شأن النتائج التي يُحدِثها وما أحط مكانتها، مقيسة بما استجمعته الطبيعة على مر الزمان التي تكونت فيها طبقات الأرض. أفنعجب بعد ذلك أن يكون ما تنتجه الطبيعة من الأنسال، وما تحدثه من التحولات، أثبت أساسًا وأمتن بناء مما ينتجه الإنسان، بل أتم تكيفًا لظروف البيئة المعقدة المحيطة به، وأنها جديرة بأن تُوسم بطابع أعظم من الدقة وحسن الصناعة؟!
وقد نستطيع أن نقول على سبيل المجاز: إن الانتخاب الطبيعي قوة دائبة الفعل كل يوم، بل كل ساعة في استجماع التحولات العرضية في العالم العضوي كافة، نافية كل ما كان منها مضرًّا، مبقية على كل ما كان منها مفيدًا صالحًا، تعمل في همودها وسكونها عملها الدائم، ما سمحت الفرص في كل زمان ومكان؛ لتهذيب كل كائن من الكائنات بما يلائم طبيعة حالات الحياة المحيطة به، ما اتصل منها بالموجودات العضوية وما اتصل بغير العضوية، غير أننا لا نلاحظ شيئًا من الترقي المنبعث عن هذا التحول البطيء، حتى يظهر لنا مر الزمان ما استدبر من الدهور في سبيل إبرازه. على أننا لا نعلم من الأمر شيئًا سوى أن صور الحياة في هذا العصر تغاير صور الزمان الماضي، ذلك ناشئ عن النقص والتخلخل الواقع في مواد النظر المستجمعة من البحث في أطوار تكوُّن الطبقات الجيولوجية التي عفت آثارها ودرست رسومها منذ أزمان موغلة في القدم.
فإذا أردنا أن نتدبر كثيرًا من الفروق الشتى الواقعة بين الأنواع التي نعتبرها غاية ما تنتهي إليه الفروق من الشأن والخطر، والتي لا نستطيع أن نحكم عليها إلا بقدر ما يسمح لنا مبلغ علمنا بها، فلا يجب أن نغفل عن أن المناخ والغذاء وبقية المؤثرات الأخرى قد أثَّرت في إنتاجها تأثيرًا مباشرًا، ومن الواجب أن نعي دائمًا أنه إذا تحول جزء من أجزاء كائن ما، واستجمع الانتخاب الطبيعي كل التحولات التي قد تطرأ عليه، فلا بد من أن تحدث فيه تحولات وصفية أخرى، ولو لم يكن من المنتظر حدوثها، وفقًا لقانون العلة والمعلول.
ويحول الانتخاب الطبيعي من تراكيب صغار الأنسال من طريق اتصالها بآبائها، ويحول من صفات الآباء من طريق اتصالها بصغارها، كذلك يؤثر في كل فرد من أفراد الحيوانات التي تعيش في بيئات اجتماعية، تأثيرًا يجعلها على تمام التناسق والكفاءة لحاجات الجماعة وفائدتها المطلقة. ومن الأمور التي لا يستطيع الانتخاب الطبيعي أن يأتي بها، أن يحول من صفات أنواع ما تحويلًا لا يكون فيه فائدة لأنواع أخرى غيرها، وإنه إن كان من الهين أن ننتزع من تاريخ الكائنات الطبيعي أمثلة كثيرة تؤيد ذلك، فلست أجد مثالًا واحدًا منها يحتمل أن يكون فيه من الغموض ما يوجب البحث والاستبصار، على أن تركيبًا ما من تراكيب العضويات إذا أصبح يومًا من التراكيب المفيدة لكائن من الكائنات الحية، بحيث يعضده في حالات حياته، أو أضحى من الأجزاء ذوات الشأن، فمن المرجح أن تتحول صفات هذا التركيب بتأثير الانتخاب الطبيعي. نجد لصنوف من الحشرات أفكاكًا كبيرة الحجم تستخدمها عادة لفتح الفيلجة (الشرنقة)، ولصغار الطيور عند أول نقفها قطعة صلبة من العظم في مقدمة المنقار تستخدمها لكسر البيضة عند النقف، ولقد حقق الباحثون أن متوسط ما يَنفُق بالموت من صغار الحمام القلب القصير الوجه في داخل البيض لعدم مقدرتها على كسر قشر البيضة، أكثر من متوسط ما يتيسر له الخروج منها؛ ولذا يساعد مربو الحمام صغاره على الخروج من البيضة لدى النقف. فإذا انقادت الطبيعة إلى تهذيب منقار هذا الطير حال بلوغه وجعله قصيرًا مسوقة بما يكون في ذلك من الفائدة له في حالات حياته، فإن تهذيب هذا العضو مما يوافق فائدة هذا الطير، لا بد من أن يكون بطيئًا متحولًا في درجات من التحول نحو هذا المرمى. ويستتبع ذلك أن الانتخاب الطبيعي يأخذ في تهذيبه بما يقتضي لذلك من العنف والقسوة، فيبقى من صغار هذا الطير التي لا تزال في دور تكوينها الجنيني، كل ما كان منسره صلبًا قويًّا، ويهلك كل ما كان منسره ضعيفًا لينًا، أو يبقى من البيض ما كان قشره سهل النقف؛ لأن سماكة قشر البيض قابلة للتحول الوصفي، شأن بقية التراكيب والصفات العضوية الأخرى.
ولقد يحسن بنا أن نعي في هذا الموطن أن الهلاك ينزل بالكائنات العضوية على اختلاف ضروبها خلال بعض الفصول، وأن هذا الهلاك لا يقف في حالة من الحالات فعل الانتخاب الطبيعي أو يمنع تأثيراته، فإن عددًا عظيمًا من البيض والبذور يهلك كل عام سواء باتخاذه طعامًا أو بغير ذلك من الأسباب، وليس للبيض والبذور أن تتحول صفاتهما بالانتخاب إلا من طريق واحد، هو أن يطرأ عليهما من التحولات الفردية، ما يدفع عنهما غائلة أعدائهما بشكل من الأشكال، ومما لا يبعد احتماله، أن يكون من بين ما يذهب به الفناء من بيض وبذر، ما هو أوفق لإنتاج أنسال أكثر كفاية لتحمل أعاصير الحياة، من الأفراد التي يُقدَّر لها البقاء. على أن عددًا عظيمًا من النباتات والحيوانات البالغة لا بد من أن تهلك كل عام بتأثير أسباب طارئة، سواء أكانت الأكثر كفاية لتحمل أعاصير الحياة المحيطة بها، أم كانت غير ذلك، والراجح أن تكون صفاتها غير منحطة على الأقل عن بقية صفات نوعها بما يحتمل أن يطرأ عليها من تحول آلي، جائز أن يكون ذا فائدة للنوع من جهات أخرى. ولندع ذلك، ثم لنفرض أن متوسط الفناء في الأفراد التي بلغت حد النماء يكون كبيرًا، إذا كان عدد القادرين على البقاء في أية بقعة من البقاع، لا يستطيع أن يحتفظ بكيانه متأثرًا بحالات طبيعية مثل التي مر ذكرها، أو نقول: إن متوسط الفناء في البيض والبذور يبلغ درجة لا يدركها الوهم، بفرض ألا يفرخ منها إلا بضع مئات أو آلاف فقط، فإنك لتجد من بعد هذا كله أن من الأفراد التي يتيسر لها البقاء، ما هو أكثر كفاية لتحمل أعاصير الطبيعة المحيطة بها من غيرها، ويحتمل أن يكون فيها استعداد لقبول التحول بكيفية مفيدة لبقائها، فيتكاثر عددها ويزيد على عدد الأفراد التي تكون صفاتها أقل من ذلك كفاية لحالات الحياة. فإذا احتفظت الطبيعة بكل الأفراد الناتجة، فقد تقصر يد الانتخاب دون إنتاج تحولات مفيدة في أنحاء خاصة، غير أن ذلك لا يصح أن يُعترض به على تأثير الانتخاب الطبيعي في حالات وظروف أخرى؛ إذ لا ينبغي أن يسوقنا ذلك إلى الزعم بأن أنواعًا كثيرة قد أخذت يومًا من الأيام في التحول والارتقاء دفعة واحدة ضمن حدود بقعة معينة.
(١) الانتخاب الجنسي٤
وإني لأعتقد الآن اعتقادًا لا يوهنه الشك بأنه إن كانت ذكور الحيوانات وإناثها تتفق في العادات الخصيصة بها في حالات حياتها، فإنها تختلف في تراكيبها وألوانها وأشكالها الظاهرة، وإن أمثال هذه الفروق لا يمكن أن تُعزى لغير مؤثرات الانتخاب الجنسي، وتعليل ذلك مقصور على أن بعض الذكور كان لها من أسلحتها، أو عُدد الدفاع عن أنفسها، أو جمال أشكالها، ما اجتذب إليها الإناث فتفوقت على غيرها من الذكور وخلفت نسلًا ينزع إليها دون غيرها في أوصافها تلك. غير أني لا أقطع بأن كل الفروق الجنسية كانت نتيجة لمؤثرات هذا الضرب من الانتخاب، فإن في حيواناتنا الداجنة خِصِّيات ظهرت في ذكورها لا نستطيع أن نعزوها حسب ما يظهر لنا منها إلى أثر الانتخاب الصناعي الذي هو غرس يد الإنسان، فإن خصلة الشعر التي تنبت في صدور الديكة الرومية في حالتها الوحشية، ليس فيها من فائدة لهذا الصنف من الطير، ولو أن هناك شكًّا فيما إذا كان لها فائدة ما في استخلاص الإناث، ولا شك في أن هذه الخصلة لو ظهرت في الديكة الداجنة لعدها الناس من شواذ الخلق.
(٢) أمثال لفعل الانتخاب الطبيعي أو بقاء الأصلح
نأتي هنا بإيجاز على مثل تبين عن تأثير الانتخاب الطبيعي في الكائنات العضوية، وليسمح لي القارئ بإيراد مثل أو مثلين مفترضين، لاستجلاء حقيقة تلك القاعدة الطبيعية، وليكن الذئب مثالنا الأول: فإن هذا الحيوان يعيش على ضروب مختلفة من الحيوان يتغلب عليها طورًا بدهائه ومكايده، وطورًا آخر بقوته الجسمانية وسرعة عدوه، ولنفرض أن أسرع الحيوانات عدوًا، كالغزال مثلًا، قد زاد عدده في البقاع التي يقطنها الذئب زيادة كبيرة، وفاق ما يكون قد طرأ على ظروف الإقليم المحيطة به من المؤثرات التي تعين على زيادة عدده، وأن غيره من الفرائس قد تناقص، ولنفرض أيضًا أن هذه الزيادة قد طرأت على الغزال خلال فصل من الفصول تشتد وطأة الجوع على الذئاب فيه، ففي مثل هذه الظروف، تكون أشد الذئاب عدوًا، وأخفها أجسامًا، وأمتنها بنية، هي أكبر المجموع حظًّا من البقاء، وبهذا تحفظ نوعها وتنتخبها الطبيعة للبقاء فيها؛ إذ تكون قد استعادت في تلك الضائقة المعيشية قوتها التي بها تتغلب على فرائسها، سواء في هذا الفصل أو في غيره من الفصول، عندما تضطر إلى اقتناص فرائس أخر غير الغزلان.
ولست أرى في ذلك ما يحملنا على الشك في صحة هذه النتائج، وهي لا تختلف عما يتذرع به من الوسائل لتقوية عدو كلاب الصيد، بما يُبذل في سبيلها من العناية، وما يُنتخب من أفرادها المنتقاة انتخابًا منظمًا، أو بما يقع عليها من مؤثرات ذلك الضرب من الانتخاب الذي سميناه باللاشعوري، أو غير المقصود؛ إذ يُساق الإنسان إلى تربية أرقى أفراد الكلاب، ولو لم يكن مقصده الأول أن يحسِّن من صفات أنسالها شيئًا، ولنزد على ذلك ما قاله مستر «بيرس»؛ إذ ذكر أن ضربين من الذئاب يقطنان جبال «الكاتسكيل» في الولايات المتحدة بأمريكا، يشابه أحدهما كلاب الصيد العادية في خفة الجسم والشكل، وفرائسه الغزلان، والآخر أثقل جسمًا وأبطأ حركة وأقصر أرجلًا، وكثيرًا ما يهاجم قطعان الأغنام.
ولنعِ فوق ما تقدم أنني قصرت الكلام على أخف أنسال الذئاب عدوًا وأرشقها حركة، من غير أن أذكر شيئًا عما يكون فيها من التحولات ذوات الصفات المعينة الخصيصة بها دون غيرها، وتكلمت في طبعات هذا الكتاب الأولى مقتنعًا بأن مثل هذه التحولات مستمر الحدوث في العضويات، وانكشف لي إذ ذاك ما للتحولات الفردية من الخطر، وساقني ذلك إلى شرح قواعد الانتخاب اللاشعوري أو غير المقصود الذي هو غرس يد الإنسان، وتبيان نتائج تلك المؤثرات التي لا تخرج عن الاحتفاظ بأرقى الأنسال المنتقاة، أو الاحتفاظ بالأنسال التي تتوسط مرتبتها بين أرقى النوع وأدناه، وإفناء بقية الأنسال المستهجنة الصفات المنحطة المرتبة، واستبان لي أن الاحتفاظ بأي انحرافات تطرأ على تراكيب العضويات اتفاقًا في حالتها الطبيعية المطلقة، تلك الانحرافات التي تشابه شواذ الخلق في خروجها عن الجادة العامة ومخالفة القياس، أمر نادر الحدوث، وأن العضويات، إن احتفظت بها بادئ ذي بدء، فإنها لا محالة تفقدها على مر الزمان بما ينتج من مهاجناتها مع بقية الأنسال التي لم يطرأ عليها شيء من هذه الانحرافات التركيبية، ومع ذلك لم أقف على مقدار ثبات «التباينات الفردية» واستمرارها، سواء أكانت تافهة أم ذات أثر واضح في صفات العضويات، إلا بعد أن قرأت مقالًا قيمًا ظهر في مجلة «نورث رفيو» (عام ١٨٦٧)، فلقد جعل الكاتب أساس الكلام زوجًا من الحيوانات أنتج خلال حياته مائتي فرد لم يعش منها سوى اثنين فقط؛ ليحفظا ذلك النسل بعد أبويهما، وهلك الباقي بما أحاط به في الطبيعة من مسببات الهلاك. وهذا التقدير على ما به من المبالغة بالنسبة للسواد الأعظم من الحيوانات العليا، كثير الانطباق على العضويات الدنيا، وأظهر الكاتب من بعد ذلك أن هذا الزواج الذي فُرض بقاؤه من مجموع النسل، إذا لم يكن قد أنتج سوى فرد واحد حدثت فيه تحولات مفيدة تجعل حظه من الحياة والبقاء مضاعف ما يكون حظ بقية الأفراد الناتجة من هذا الزوج، فإن ذلك لا يكون معوانًا له على البقاء، بل على الضد من ذلك، مقدِّرًا أنه إذا فُرض وبقي هذا الفرد وتكاثر نسله، وأن نصف نسله هذا قد يرث عنه ذلك التحول الذي يساعده في حالات حياته، فإنه لا يكون لذلك النسل من حظ الحياة والقدرة على البقاء ما يكون لسلفه، وأن لذلك الحظ وتلك القدرة، تنضبان من صفات نسله شيئًا فشيئًا على مر الأجيال.
والحقائق التي بُنيت عليها هذه الاعتبارات لا يمكن المجادلة أو التشكك فيها بحال؛ لأننا إذا فرضنا أن نوعًا من الطير كان في منسره عقفة تساعده على تحصيل غذائه، وظهر من أنساله فرد منسره أكثر تعقفًا من مناسر بقية أفراد نوعه، وترتب على ذلك أن يزيد نسل هذا الفرد، فبالرغم من هذا يكون قليل الحظ من الإمعان في التناسل والبقاء حتى يتغلب على نوعه العام ويشغل مركزه من الوجود. أما حال تأثر هذا الفرد بمؤثرات الإيلاف، فلا يداخلنا الريب في أن سلالاته تأخذ مكان النوع الأصلي في الوجود، بما ينتج من حفظ عدد كبير من نسله، تكون مناسرها شديدة التعقف، أو عوانًا بين ذلك وبين مناسر النوع الأصلي، أو بما ينتج من إفناء العديد الأوفر من الأفراد التي لا يكون فيها من تلك الصفات شيء.
ولنرجع بعد إذ فصَّلنا ما فصلناه، إلى الكلام في ذلك النبات الذي فرضناه، لنُظهر للباحث فعل الانتخاب الطبيعي، فإن ذلك النبات إذ يصبح أكثر جاذبية لأنواع الحشرات وصنوفها، لا تقتصر العوامل المؤثرة فيه على نقل لقحه من زهرة إلى أخرى، كلا بل يرجح أن تتعدى هذا الحد إلى طور آخر من أطوار التأثير، ولم يرْتَب أحد من الطبيعيين في صحة السُّنة التي اصطُلح الباحثون على تسميتها بقاعدة «توزيع العمل الفسيولوجي». ومن هذا نُساق إلى الاعتقاد بأنه من الفائدة لنبات ما، أن يثمر أعضاء تذكير في زهرة بعينها لا غير، أو أن تنفرد أشجار منه مجمل هذه الأعضاء، وينفرد غيرها من الأزهار أو الأشجار بإنتاج أعضاء تأنيث. فإننا نرى في نباتات مستزرعة تقع تحت تأثيرات حالات حياة طارئة، أن أعضاء التذكير — وفي بعض الأحيان أعضاء التأنيث — يزيد فيها القصور أو يقل، فإذا فرضنا أن هذا قد يحدث لنباتات بصفة غير محسوسة في حالتها الطبيعية، فإن الأفراد التي تتضاعف فيها مؤثرات تلك الخِصِّية، خِصِّية وجود أعضاء التذكير وأعضاء التأنيث فيها منفصلة بعضها عن بعض في أزهار أو أشجار معينة، تصبح أكثر ملاءمة لمقتضيات الحالات المحيطة بها، ومن ثَم تعضدها الطبيعة للبقاء فيها حتى ينتهي الأمر وقتًا ما إلى انفصال الجنس في النبات وتمايزه من حيث الذكورة والأنوثة انفصالًا تامًّا، طالما كان انتقال اللقاح بصورة مطردة من زهرة إلى أخرى ذا فائدة لهذا النبات، وما دمنا قد علمنا أن تمام الفصل بين جنسي النبات، من حيث الذكورة والأنوثة، يعضد النبات في حالات حياته، خضوعًا لسُنة «توزيع العمل الفسيولوجي» ولا جرم أنه من المتعذر في هذا الموطن أن نظهِر تلك الخطى العديدة التي تمضي النباتات في الوقت الحاضر متدرجة فيها نحو التمايز في الجنسية من حيث الذكورة والأنوثة، أو أن نعدِّد كل المؤثرات التي نسوقها في هذه السبيل؛ لأن ذلك يستغرق فراغًا كبيرًا، وكل ما تصل إليه استطاعتي أن أضيف إلى ما سلف ذكره، أن بعض أنواع السنديان في شمال أمريكا، كما قال «آساجراي» قد بلغت الحلقة الوسطى من هذا التحول.
وإني لعلى يقين من أن سُنة الانتخاب الطبيعي التي صورناها للقارئ ممثلة في الفرض السابق، قد تصدق عليها ذات الاعتراضات التي اعتُرض بها من قبل على آراء «ليل» في «اتخاذ التغايرات الحديثة التي لا تزال تؤثر في السيار الأرضي أمثالًا تتبين بها تاريخ تكون طبقاته في سالف الأزمان»، ذلك على الرغم من أننا قلما نسمع الآن أن الأعاصير الطبيعية التي لا تنفك ماضية في عملها الدائم، والتي يُعزى إليها تكوُّن الأودية السحيقة وتجاويف الأرض، أو تكوُّن سلاسل الجبال الصخرية في بقاع هذا السيار، هي من توافه الظاهرات.
على أن تأثير الانتخاب الطبيعي لا يعدو الاحتفاظ بالتحولات العرضية الموروثة واستجماعها، إذا ما كانت ذات فائدة ما للكائن العضوي المحتفظ به. وكما أن علم الجيولوجيا الحديث قد نقض القول بأن الأودية السحيقة، وتجاويف الأرض العظيمة، قد تكونت دفعة واحدة من جرف سيل طوفاني، كذلك ينقض الانتخاب الطبيعي القول بخلق الكائنات خلقًا مستقلًّا خلال فترات الزمان، ويتعذر وقوع تغاير فجائي على تراكيبها الطبيعية طفرة.
(٣) مهاجنة الأفراد
لقد استجمعت كثيرًا من الحقائق الثابتة لأول عهدي ببحث هذا الموضوع، وأجريت تجاريب عديدة للتثبت من صحة اعتقاد جل المشتغلين بمسائل التربية والاستيلاد في أن تهاجن الحيوانات يزيد من صبوة توالداتها، ويضاعف من قوة الإنتاج فيها، سواء أتى ذلك من تزاوج أفراد ضروب بعض الحيوانات ببعض، أو اختلاط ضروب النباتات بتلقيح بعضها بعضًا، أو وقوع ذلك بين أفراد ضرب تختلف أنساب سلالاته وأصوله، وأن استيلاد ذوي القربى يضعف تلك الصبوة، وينضب قوة الإنتاج في تولداتها، فساقتني هذه الحقائق وحدها إلى الاعتقاد بسُنة عامة محصلها أنه لا يوجد كائن عضوي يستطيع أن يحتفظ بقوة تناسله مخصبًا نفسه بنفسه مدى أجيال عديدة متعاقبة، كما أن تهاجنه اتفاقًا مع غيره من الأفراد، ضروري للاحتفاظ بتلك القوة، ولو حدث ذلك في فترات متباعدة من الزمان.
فإذا مضينا في البحث على اعتقاد أن تلك قاعدة طبيعية عامة، تيسَّر لنا، على ما أرى، أن نفقه حقائق جمة مثل ما سأذكره بعد، ما كنا لنعلم لولا ذلك الاعتقاد من مفصلاتها شيئًا. إن كل المهجنين ليعلمون حق العلم مبلغ التأثيرات السوأى التي تقع على قوة إنتاج زهرة ما لدى تعرضها للرطوبة، كما أنه لا يجدر بنا أن ننسى أن عددًا وفيرًا من الأزهار تتعرض متكها ومياسمها، إلى مؤثرات المناخ، فإذا كان وقوع التهاجن أمرًا محتومًا، بالرغم من أن متك النبات وكرابله تكون متقاربة الوضع بحيث يتيسر حدوث التلاقح الذاتي في الزهرة، فإن السهولة التامة التي بها يمكن دخول لقاح فرد آخر، تفسر لنا الحقيقة في تعرض أجهزة التناسل لمؤثرات المناخ.
إذا استُنبتت ضروب من الكرنب والفجل والبصل، وبعض النباتات الأخرى، كل ضرب منها بمفرده، بحيث يجاور بعضها بعضًا، فإن العديد الأكبر من نباتاتها يكون شاذ الخلقة، مثال ذلك: استُنبت ٢٣٣ شتلة من الكرنب، تابعة لضروب متفرقة بعضها يجاور بعضًا، فلم يبقَ منها صحيحًا مماثلًا لضروبه الأولى سوى ٧٨ شتلة، بيد أن بعضًا منها لم يكن يماثل ضروبه الأصلية مماثلة تامة، رغم أن زهرة الكرنب يحوطها من كل جانب مدقات (كرابل) الشجيرات المزروعة فيما يجاورها، مضافًا إليها ست أسدية لا غير، بل أسدية غيرها من الزهرات في النبتة الواحدة، واللقاح الناتج من كل زهرة من الأزهار ينتقل من تلقاء ذاته إلى المياسم بدون أن يحتاج إلى حشرات ما لإتمام ذلك، ومن الثابت أن النباتات التي يُحتفظ بها ويُحال بينها وبين الحشرات، تنتج عددًا كاملًا من القرون، فكيف يشذ هذا العدد الوفير عن الجادة الطبيعية والحال ما علمنا؟ لا مندوحة لنا إذن من الإذعان للقول بأن لقاحًا من ضروب معينة أخرى، قد أثَّر تأثيرًا عمليًّا في لقاح الزهرة، وأن هذا الأثر ليس إلا مظهرًا من مظاهر قاعدة طبيعية عامة، محصلها أن فائدة الكائنات العضوية من المهاجنة مقصورة على تخالط الأفراد المعينة من كل نوع بصورة مطردة. أما في تهاجن الأنواع المعينة وتخالطها، فالأمر على العكس من ذلك، لما تقرر لدينا من أن الأنواع المعينة عندما تتهاجن يمحو اللقاح الأصيل الذي يختلط بأجهزة الإنتاج في كل زهرة من الأزهار، أثر اللقاح الدخيل محوًا تامًّا، ولسوف نعود إلى هذا الموضوع في فصل آتٍ.
ومما يأخذ بلب الباحث أن توجد أنواع من فصيلة واحدة، وربما كانت من جنس واحد، متصلة في أنسابها، متقاربة في صفاتها، متحدة في نظامها التركيبي ويكون بعضها من الخناثى، والبعض الآخر من الحيوانات الوحيدة الجنس، ولا جدال في أن الطبيعيين قد اعتبروا ذلك تهوشًا وخللًا سادا طبائع الكائنات، فإذا علمنا أن الخناثى تتهاجن اتفاقًا، كان الفرق بينها وبين الحيوانات الوحيدة الجنس ضئيلًا، على قدر ما يتعلق ذلك بوظائفها العملية، وهنا تنقشع عن أبصارنا غياهب تلك الريب التي تحوطنا.
ولقد ينكشف لنا من كثير من الاعتبارات الصحيحة، والحقائق الجمة التي استجمعتها، أن مهاجنة أفراد معينة من الحيوان والنبات اتفاقًا، قاعدة كثيرة الانطباق على طبائع الكائنات، إن لم تكن من السُّنن الطبيعية العامة التي تخضع لآثارها العضويات.
(٤) الظروف الملائمة لنشوء صور جديدة بتأثير الانتخاب الطبيعي
يعتبر هذا البحث من أكثر البحوث اشتباكًا وأشدها تعقيدًا وإشكالًا، ونرى أن من أكبر الأسباب التي تسوق إلى استحداث الصور، أن في العضويات استعدادًا كبيرًا لقبول التحول، الذي يشمل مدلوله التباينات الفردية في كل الحالات فإذا هيأت الفرص والأسباب جمعًا عظيمًا من الأفراد لقبول تحولات مفيدة تظهر في تراكيبه، نجد في هذه الحال أن تلك الظروف قد جعلت استعداد كل الأفراد متوازيًا، حتى لقد تصبح الأفراد التي هي غير كاملة الاستعداد، تماثل أكثرها قبولًا لتلك الصفة، وإني لأعتقد أن هذه السُّنة من أكبر أسباب النجاح، على أن الطبيعة إن كانت تترك للانتخاب الطبيعي دهورًا طوالًا لكي يتم نتائجه، فقد جعلت لإتمام تلك النتائج حدودًا مرهونة بأزمانها، ولما كانت الكائنات مسوقة إلى التناحر والمنافسة في سبيل الاستيلاء على كل مرتبة من مراتب النظام الطبيعي واحتلالها، فلا بد من أن ينقرض استتباعًا لذلك أي نوع من الأنواع لا تتحول خِصِّياته، ولا تتهذب صفاته، تهذيبًا يضارع ما يطرأ على منافسيه في حياتهم. والتحولات المفيدة إن لم تكن معدة لأن تنتقل بالوراثة إلى نزر يسير من الأعقاب على الأقل، بطل فعل الانتخاب الطبيعي، وقصرت يده عن التأثير في نظام الأحياء. والعضويات إذ كانت مسوقة إلى الرجعى إلى صفات أصولها الأولية، فربما يزعم البعض أن هذه الخِصِّية عقبة تمنع الانتخاب الطبيعي عن إتمام عمله وإبراز أثره، غير أن العضويات إذ هي مسوقة في هذه السبيل، لم يمتنع على الإنسان أن يستحدث فيها بالانتخاب العملي، الجم الوفير من السلالات الداجنة، فلمَ يمتنع ذلك على الانتخاب الطبيعي والحال ما علمنا؟
نرى في الانتخاب النظامي أن المشتغل بالتربية والاستيلاد ينتخب تربية صور معينة ونصب عينيه غرض محدود يحاول الوصول إليه، فإذا تيسر للأفراد إذ ذاك أن تملك حريتها المطلقة في التهاجن، أخفق سعيه وضاعت جهوده هباءً، ونجد من وجهة أخرى أن الناس إذ تجمع بين مخيلاتهم فكرة الوصول إلى حد الكمال، يحتفظون بأرقى الحيوانات المنتقاة ويستولدونها، فتتهذب صفات أفرادها تهذيبًا متتابعًا درجة درجة، وحالًا على حال، بما ينجم من آثار مقومة الانتخاب اللاشعوري أو غير المقصود، ولو لم يكن مقصدهم أن يحسنوا من صفاتها شيئًا، ذلك على الرغم من أنهم لا يفصلون بين أكثرها رقيًّا وبين بقية الأفراد التي يحتفظون بها. كذلك حال الكائنات متأثرة بمؤثرات الطبيعة الخالصة، فإذا نظرنا في بقعة محدودة من البقاع، في موضع من مواضع نظام الكائنات التي تأهل بها وتتسق مراتبها فراغًا ما، نجد أن كل الأفراد الممعنة في سبيل التغاير على النحو المفيد لها في حياتها تُساق إلى البقاء، وإن اختلف تغايرها كمًّا وكيفًا. غير أن تلك البقعة إذا كانت كبيرة المساحة، مترامية الأطراف، غلب أن يختص كل إقليم من أقاليمها المتعددة بحالات حياة تباين حالات الإقليم الآخر، وعلى ذلك فإن الضروب المستحدثة تتهاجن في أطراف من حدود كل إقليم، إذا سيق نوع بذاته إلى تحول الصفات في أقاليم مختلفة، ولسوف نرى في الفصل السادس كيف أن الضروب التي تربط بعض الأنواع ببعض، والتي تقطن أقاليم تتاخم إقليمًا ما، لا بد من أن يخلفها في كل الحالات ضرب من الضروب المتصلة بها في النسب. على أن التهاجن غالبًا ما يكون تأثيره مقصورًا على الحيوانات التي تتزاوج تزاوجًا مطردًا لكل ميلاد، والتي تكثر من الهجرة وارتياد الأماكن المختلفة، فلا يزداد نسلها بنسبة كبيرة، فالحيوانات التي تكون لها هذه الصفات، كالطيور مثلًا، تختص ضروبها بالبقاع المنفصلة مواقعها الجغرافية، غير المتصلة الحدود، ولقد صدقت تلك السُّنة على كل الحالات التي خبرتها. أما العضويات الخناثى، والتي لا يقع التهاجن بين أفرادها إلا اتفاقًا، والحيوانات التي تتزاوج تزاوجًا مطردًا لكيل ميلاد، إذا كانت قليلة الارتحال والتنقل، وكان عدد أنسالها يزداد بنسبة كبيرة على العكس من الحال الأولى، فقد يمكن أن تحتفظ بعنصرها وتؤلف جماعة مستقلة تأخذ فيما بعد في الانتشار والذيوع، حتى إن أفراد الضرب الجديد قد تتهاجن في الغالب بعد مضي زمن ما، واتباعًا لهذه القاعدة يفضل المشتغلون بتربية النبات أن يحتفظوا ببذور يجمعونها من مجموع نباتات عديدة؛ لأن الظروف المهيئة للمهاجنة تضعف ويقل عملها بتأثير ذلك.
وخليق ألا يسبق إلى حدسنا أن حرية التهاجن في الحيوانات التي تتزاوج تزاوجًا مطردًا لكل ميلاد، والحيوانات البطيئة التوالد، قد تعطل في كل الحالات، تأثير الانتخاب الطبيعي، ففي مكنتي أن أذكر كثيرًا من الحقائق الثابتة لكي أظهِر أن ضربين من الضروب، تابعين لنوع من الحيوان، قد يظلان متميزين غير مختلطين ضمن حدود بقعة بعينها، وقد يرجع ذلك إلى بقائهما في مكان واحد لا يبرحانه ولا ينشطان منه، أو إلى توالدهما في فصلين من فصول العام مختلفين اختلافًا يسيرًا، أو إلى أن أفرادهما مسوقة إلى المزواجة، كل ذكر منها بأنثى من نوعه.
إن المهاجنة لتؤثر في الطبيعة العضوية تأثيرًا كبيرًا، فهي توازن بين صفات الأفراد، أفراد كل نوع من الأنواع أو ضرب من ضروبها، وتساوي بينها حتى يتم تكافؤها، ولا خفاء في أن فائدة تأثيرها في الحيوانات المزاوجة يكون أبين مما هي في غيرها. ولكن لدينا من الاعتبارات الصحيحة ما يسوقنا إلى الاعتقاد بأن التهاجن الاتفاقي قد يقع للحيوانات والنباتات كافة كما مر ذكره، وإن كان وقوعه خلال فترات متباعدة من الزمان، وإن كان وقوعه يزيد من قوة إنتاج الأنسال الناشئة في تلك الحال ويضاعف صبوتها على صبوة الأنسال التي تنتج بوساطة الإخصاب الذاتي مدى أزمان طويلة، فيكون لها من البقاء وحفظ النوع حظ كبير ونصيب موفور، يتضح من ذلك أن استمرار هذا التأثير — تأثير التهاجن — كبير، وإن طرأ على العضويات خلال فترات متباعدة من الزمان. أما الكائنات الدنيا المعتبرة أحط مراتب النظام العضوي، وهي التي لا تتوالد بالتكاثر الجنسي — أي اختلاط عنصر التذكير بعنصر التأنيث في الحيوانات والنباتات الراقية — أو تلك الكائنات العضوية التي لا تتزاوج والتي لا يتيسر لها بحال أن تتهاجن، فجائز أن نعزو توازن صفاتها، وتكافؤ بعضها لبعض، متأثرة بحالات حياة واحدة، إلى سُنة الوراثة وإلى الانتخاب الطبيعي؛ إذ يفنى كل الأفراد التي تنحط صفاتها عن صفات الصور الكاملة بشكل ما، فإذا تنافرت حالات الحياة أو تغيرت، وأمعنت صورة من الصور في تحول الصفات، فإن توازنها ومساواة صفات بعض الأنسال لبعض، لا يحصل إلا من تأثير الانتخاب الطبيعي؛ إذ يُساق إلى حفظ التحولات المتشابهة المفيدة للكائنات في حالات حياتها.
كذلك لا يجدر بنا أن ننسى أن «العزلة» وانقطاع بعض البقاع عن المعمور من الأرض، عامل ذو شأن في تحول صفات الأنواع بتأثير الانتخاب الطبيعي. نرى في البقاع المنعزلة النائية، إذا لم تكن متسعة مترامية الأطراف، أن حالات الحياة العضوية وغير العضوية تكون على وجه عام متعادلة بعيدة عن الانحراف، فيُساق الانتخاب الطبيعي إذ ذاك إلى تغيير صفات الأفراد — أفراد النوع الواحد — إذ تمضي ممعنة في سبيل التهذيب والارتقاء على نمط واحد ودرجة معينة، والانفراد والعزلة، على ما مر ذكره، يمتنع معها على الأفراد أن تتهاجن مع الكائنات القاطنة بأقاليم أخرى. ولقد وضع «موريتز فجنر» رسالة قيمة في هذا الموضوع — طُبعت أخيرًا — أظهر فيها أن التأثير الذي يحدثه الانفراد والعزلة عن بقية الأطراف المعمورة — كالجزائر النائية والبقاع المحدودة بتخوم طبيعية يتعذر اجتيازها، أو الخصيصة بحالات حياة يغلب فيها الانحراف — لا يقف عند الحد الذي سبق إليه حدسي في تهاجن أفراد الضروب الناشئة في الطبيعة حديثًا، بل يتخطى أثره تلك الحدود التي ظننت أنها المدى الأخير لما يمكن أن تبلغ إليه من التأثير في طبائع الكائنات.
غير أني لا أتفق مع هذا العالم الطبيعي؛ إذ يعتبر أن هجرة الكائنات الحية من جهة، أو أن انقطاعها عن المعمور من البقاع من جهة أخرى، مؤثران ضروريان لتكوين الأنواع المستحدثة، أما أن ذلك يناقض كثيرًا من الاعتبارات الثابتة، ورأيي الذي لن أتبدل به رأيًا آخر، أن تأثير الانفراد لا يعظم شأنه، ولا يشتد خطره، إلا حينما يطرأ تغاير طبيعي على الحالات الظاهرة المحيطة بالأحياء كالمناخ أو ارتفاع الأرض وانخفاضها أو غير ذلك؛ إذ تحول مثل هذه العوائق من بُعد الشقة وانقطاع الأسباب دون مهاجرة عضويات هي أكثر مناسبة لطبيعة تلك المواطن من غيرها، فيبقى في نظام الكائنات العام في هذا الإقليم فجوات خالية تحتلها على مدى الزمان صور الأحياء الخصيصة بذلك الإقليم بمضيها متدرجة في تحول الصفات، ولا مشاحة في أن انقطاع البقاع عن المعمور في بعض الأحيان، يكون ذا شأن كبير في تهذيب الضروب تهذيبًا بطيئًا على مر الأجيال، وقد يكون ذلك وقتًا ما في الغاية القصوى من الشأن والخطر، فإذا فرضنا وجود بقعة صغيرة المساحة من البقاع النائية المنقطعة الأسباب، إما لإحاطة الحواجز الطبيعية بتخومها، أو لاختصاصها بحالات طبيعية شاذة غير مألوفة، نجد أن عدد الأحياء الآهلة بها قليل، وهذه الظروف بالطبع تؤجل استحداث الأنواع الجديدة بوساطة الانتخاب أزمانًا متطاولة؛ إذ تنقص معها مهيئات تلك القوة الطبيعية التي تحدِث التحولات المفيدة للكائنات في حالات حياتها.
إن مضي الأزمان المتتابعة وحده لا يُحدِث في الانتخاب الطبيعي أثرًا ما، إيجابًا أو سلبًا، ولقد اضطررت إلى الكلام في هذا المبحث؛ لأن بعض الطبيعيين أيقن خطأ بأني أعتقد أن لمضي الأزمان وترادف الأعصار الأثر الكلي في تحويل صفات الأنواع، على قاعدة أن صور الأحياء عامتها كانت ممعنة في تحول الصفات بتأثير سُنة طبيعية مؤصلة في تضاعيف فطرتها، بيد أن مضي الأعصار وتلاحق الدهور لا يتعدى تأثيره تهيئة الظروف لظهور التغيرات المفيدة للكائنات، وانتخابها انتخابًا طبيعيًّا، واستجماعها ثم تثبيتها في طبائع الصور العضوية. ولا جرم أن لذلك أثرًا بينًا، غير أنه بعيد عما يتوهمون، كذلك يهيئ مضي الوقت طبائع الكائنات، من حيث تركيبها الآلي؛ لقبول تأثير حالات الحياة الطبيعية قبولًا مباشرًا.
فإذا رجعنا إلى الطبيعة لنعرف مبلغ هذه الاعتبارات من الصحة وانطباقها على الواقع، ونظرنا في أية بقعة من البقاع صغيرة المساحة كجزيرة من الجزائر التي لفظتها الطبيعة في جوف محيط زاخر، تبين أنه إن كان عدد الأنواع الآهلة بها صغيرًا، كان جلها من الأنواع المستحدثة في تلك البقعة الخصيصة بها دون بقية البقاع، كما سنرى في الفصل الثاني عشر المقصور على التوطن وتوزيع الكائنات على بقاع الأرض. من هنا يظهر للباحث لأول عهده بالبحث أن تلك الجزيرة مهيأة تمام التهيؤ لإحداث الأنواع، غير أننا كثيرًا ما نخدع أنفسنا؛ لأننا إذا أردنا أن نبحث عن أي البقاع أكثر إنتاجًا لصور الأحياء العضوية واستحداثها، أهي تلك البقاع الصغيرة المنعزلة عن المعمور من الأرض، أم القارات المتسعة المترامية، لزمنا أن نقصر المقارنة على ما استغرقه تكوين تلك الأنواع من الزمان في كلتا البقعتين، وهذا ما ليس في استطاعتنا أن نصل إليه.
وانعزال البقاع عن المعمور إن كان ذا شأن كبير في استحداث أنواع جديدة، فإني مسوق إلى الاعتقاد بأن اتساع المساحة التي تقطن بها الأنواع أكبر شأنًا وأبعد خطرًا، لا سيما في استحداث أنواع أكثر قدرة على البقاء أجيالًا طويلة متعاقبة، والانتشار انتشارًا كبيرًا، ضاربة فيما يجاورها من البقاع، واتساع تلك المساحة التي تأهل بها الأنواع، وسهولة اجتياز تخومها الطبيعية، لا يقتصر تأثيره على تهيئة الظروف التي تنتج التغايرات المفيدة المستحدثة في الأنواع بتأثير ائتلاف عدد عظيم من أفراد النوع الواحد في بقعة معينة تلائمها الحالات الطبيعية فيها، بل إن حالات الحياة ذاتها تكون إذ ذاك مختلطة الأطراف مشتبكة الحلقات جد الاشتباك، وفاق يترتب على كثرة عدد الأفراد التابعة لأنواع شتى في بقعة ما، فإذا وقع لعدد معين من الأنواع التي تأهل بها تلك الأرض تحول مفيد لها، أو تهذيب في صفاتها، يكسبانها قوة جديدة، فإن الأنواع الأخرى يجب أن تتحول تحولًا يعادل كمه وكيفه ما طرأ على الآخرين، وإلا فالانقراض نصيبها المحتوم. على أن أية صورة من الصور إذا تحسنت صفاتها أو تهذبت غرائزها الطبيعية تهذيبًا ذا شأن، فإنها تصبح قادرة على الانتشار في البقاع التي تجاور منبتها الذي تأصلت فيه ونمت، وبذلك تقع في تنافس شديد مع كثير من الصور الأخر، وفوق ذلك فإن البقاع المترامية الأطراف التي تظهر لنا في الوقت الحاضر قطعة واحدة بعضها متصل ببعض تمام الاتصال، يغلب أن يكون قد مضى عليها في الأزمان الغابرة عهد كانت فيه من البقاع المنعزلة عن بقية المعمور من الأرض، بنسبة ما كان يعتور سطح سيارنا هذا من التغايرات الطبيعية الشتى، مما يحملنا على التسليم بأن التأثيرات الجُلَّى التي يحدثها الانعزال، قد طرأت على الأنواع التي كانت تقطن تلك الأقاليم بصفة محدودة، ومعتقدي أن البقاع الصغيرة المنقطعة في أطراف الأرض، على بعض الاعتبارات، ذات خصوصيات معينة في استحداث أنواع جديدة، بيد أن تحول صفات الأنواع أو تهذيب صفاتها وغرائزها الطبيعية المفيدة لها في حياتها، كان أبين أثرًا، وأسرع حدوثًا في الأنواع التي تأهل بها الأقاليم المترامية الأطراف. على أن ما هو أبين من ذلك في تهذيب صفات الأنواع أثرًا، أن الصور المتأصلة في الأقاليم الكبيرة المتسعة، والتي تم لها الانتصار والغلبة على كثير من المنافسين الآخرين، هي التي يكثر انتشارها وتتسع الأقاليم التي تأهل بها، وتنتج العديد الأكبر من الضروب والأنواع. وبذلك يكون لها الخطر الأول في حدوث التقلبات التي نلحظها في تاريخ العضويات في حالاتها الطبيعية.
ولنخلص الآن، بقدر ما يسمح به هذا الموضوع المتشابك إلى الإحاطة بتلك الظروف الموافقة وغير الموافقة لاستحداث أنواع جديدة، عن طريق الانتخاب الطبيعي.
إن نجاد الأرض وسهولها المتسعة التي تعاورتها تغيرات كثيرة على سطحها، لهي أكثر المواطن ملاءمة لظهور كثير من صور الحياة المختلفة، كما وأنها كانت في الأعصر الغابرة أكثر الأماكن المعمورة إنتاجًا للعديد الأوفر من صور عضويات جديدة مهيأة تمام التهيؤ للبقاء مدى أزمان طويلة، والانتشار انتشارًا ذا بال. فإن قطعة الأرض إذ تكون قارة كبيرة منفردة قائمة بذاتها، لا بد من أن تكون كثيرة الأنواع وافرة الصور، وبذلك تخضع أهلياتها لتأثيرات تناحر شديد، يزيده التزاحم شدة، واشتباك المنافع قسوة، فإذا تقطعت تلك القارة العظيمة جزرًا منفصلًا بعضها تمام الانفصال عن بعض، بتأثير التغايرات الشتى التي كانت تنتاب الأرض ولا تزال تنتابها، يكون قد بقيت أفراد كثيرة من كل نوع بعينه في كل جزيرة من تلك الجزر، ولا مشاحة في أن المهاجنة بين الأنواع الجديدة فيها تمتنع امتناعًا كليًّا ضمن حدود البقاع التي أهلت بها تلك الأنواع. ومما لا خفاء فيه أن التغايرات الطبيعية التي كانت تنتاب الأرض، قد يعقبها وقوف الهجرة من بقعة إلى أخرى، فتصبح الأنواع محصورة في بقعة معينة من البقاع، فيتجدد في كل جزيرة من تلك الجزر مراكز خالية في نظامها الطبيعي ومراتب العضويات فيها، يجب أن يكون قد سد فراغها تحولات طرأت خلال الدهور الأولى على الصور القديمة التي قطنتها، وأن الضروب التي كانت فيها قد تحولت وتهذبت صفاتها على مر الأزمان، فإذا تجمعت تلك الجزر تارة أخرى بتأثير التغيرات الجيولوجولية، وأصبحت وقتًا ما قارة واحدة، فلا بد من أن يكون قد وقع بين الصور التي كانت تقطنها تناحر فاقت شدته حد التصور، فالضرب التي كانت خِصِّياتها أكثر ملاءمة للإقليم، وصفاتها أكثر تهذيبًا وأتم تكوينًا، أمست بالطبيعة أتم عدة وأكبر قدرة على الانتشار والذيوع، ولا بد من أن يكون قد انقرض عدد وافر من الصور التي هي أحط مرتبة منها في التكوين، وأقل درجة في الصفات، وأنه قد طرأ تفارق في عدد الأفراد في تلك الجزائر بعد أن أصبحت قارة بتمامها متصلة الأطراف. بذلك يتسع المجال للانتخاب الطبيعي للإمعان في تهذيب الصور الحية التي تكون في تلك البقعة، ونشوء أنواع جديدة حينًا بعد حين.
وإني لأقرر أن تأثير الانتخاب الطبيعي بطيء جهد البطء، على أن تأثيره لا يقع إلا حيثما يكون في إقليم ما نقص في نظام الكائنات الطبيعي يمكن أن يسد فراغه تهذيب ما يطرأ على صفات العضويات الآهلة به، وما ذلك الفراغ الذي نراه في ترتيب الكائنات في بعض الأقاليم، وذلك التهوش الذي نلحظه سائدًا في تناسق مراتبها ونسب بعضها إلى بعض، إلا نتيجة التقلبات البطيئة التي تطرأ على طبيعة الإقليم ذاته، وتعذر المهاجرة إليه، بامتناعها على عضويات تكون أتقن تركيبًا، وأرقى صفات مما يشغله، فإذا طرأ على بعض الكائنات القديمة الخصيصة بذلك الإقليم تهذيب ما في صفاتها، فلا بد من أن يقع اضطراب في علاقات ما بقي منها محتفظًا بحاله الأولى، وهذا مما يخلي في نظامها الطبيعي مراكز تصبح بطبيعة الحال معدة لأن تحتلها صور أرقى من تلك في مراتب الوجود العضوي، وهذه العوامل عامة، بطيئة التأثير، يقتضي إبراز نتائجها الزمان الطويل، فأفراد النوع الواحد، إن كانت تتباين تباينًا لا يُدرك، فإن هذا التباين يطرأ على الأفراد قبل أن يحدث في نظام الأنواع العام تحولات يعتد بها بأزمان مديدة. وهذا التأثير ناتج في غالب الأمر من حرية التهاجن، بين أفراد أنواع شتى، ويقول البعض: إن هذه الأسباب عامتها كافية للاعتقاد بأن الانتخاب الطبيعي قوة غريزية في الكائنات تلازم فطرتها على مر الأجيال، غير أني لا أرى ذلك الرأي، ورأيي أن تأثير الانتخاب الطبيعي على وجه الإطلاق بطيء لا يظهر إلا خلال فترات متباعدة من الزمان، ولا يطرأ إلا للنزر اليسير من سكان بقعة بذاتها دون غيرهم، ومعتقدي أن هذه النتائج البطيئة المنقطعة تتفق وما أثبته علم الجيولوجيا من الحقائق المتعلقة بما وقع لسكان الكرة الأرضية من التطورات والتقلبات كمًّا وكيفًا.
على أن تأثير الانتخاب مهما كان بطؤه، فإن ما ظهر من مقدرة الإنسان، على ضعفه وعجزه، في إبراز ما أبرز من روائع النتائج بالانتخاب الاصطناعي؛ ليدل واضح الدلالة على أن مقدار التحولات لا يتناهى في إحداث تلك الصور الجميلة التي نراها، ومشتبك تلك الحقائق والنسب التي نلحظها في نظام الكائنات، وتكافؤ بعضها لبعض، ولما يحيط بها من ظروف الحياة، تلك الروائع التي يرجح أن تكون قد طرأت على الكائنات بتأثير انتخاب الطبيعة الذاتي، تأثيرًا بطيئًا على مر أزمان متعاقبة، بحفظها الأصلح من أفراد العضويات للبقاء فيها.
(٥) الانقراض نتيجة للانتخاب الطبيعي
الانقراض موضوع سنفصله فيما سوف نكتبه في الجيولوجيا، وما حدا بنا إلى ذكره هنا إلا أن له صلة بالانتخاب الطبيعي لا انفكاك لها.
وقد عرفنا مما فصلناه أن تأثير الانتخاب الطبيعي مقصور على الاحتفاظ بضروب التحولات التي تكون بحال ما ذات فائدة للصور الحية، احتفاظًا يجعلها فيما بعد من الصفات الخاصة بتلك الصور الراسخة في طبائعها، والكائنات العضوية إذ كانت بطبيعتها تزداد زيادة مستمرة بنسبة هندسية كبيرة، فإن كل بقعة من البقاع تصبح مشحونة بما يأهل بها، يستتبع ذلك أن الصور المهذبة المنتقاة تزداد في العدد، حيث ينقص عدد الصور المنحطة المستضعفة، فإذا استبان لنا أن الندرة أول درجة من درجات الانقراض الظاهر، كما يُستدل عليه من علم الجيولوجيا، استطعنا أن نستنتج أن صورة ما من صور العضويات إن قل عدد أفرادها، فذلك شوط بعيد تقطعه في سبيل انقراض محتوم يهيئ أسبابه تقلب الأعاصير الطبيعية خلال فصول السَّنة، أو تضاعف عدد أفراد منافسيها الذين ينازعونها مركزها الطبيعي في الوجود. وليست المسألة مقصورة على ذلك، فإنه إذا ثبت لدينا أن الصور النوعية تستطيع أن تزداد في العدد زيادة غير محدودة، فإن كثيرًا من صورها القديمة ينقرض عند ظهور صور جديدة في عالم الحياة، وعلم الجيولوجيا خير دليل يثبت لنا أن الصور النوعية لم يزد عدد أفرادها زيادة غير محدودة في حالة من الحالات، وسنظهِر الآن كيف أن عدد أفراد الأنواع لم يبلغ النهاية القصوى في الازدياد في أي بقعة من بقاع العالم.
استبان لنا من قبل أن أكثر الأنواع أفرادًا أكبرها حظًّا في إنتاج تحولات مفيدة في زمن معين، ودليلنا على ذلك حقائق أوردناها في الفصل الثاني من هذا الكتاب، أثبتنا فيها أن الأنواع العامة السائدة، أوفر الأنواع إنتاجًا للضروب، وعلى ذلك تكون الأنواع النادرة أقل قبولًا للتهذيب واستحداثًا لضروب الارتقاء خلال زمن ما، فيضرب عليها الاستضعاف في معمعة التناحر على الحياة مستهدفة لغارة شعواء تشنها عليها أعقاب الأنواع المحسنة.
تسوقنا هذه الاعتبارات إلى التسليم بأنه كلما جد الانتخاب الطبيعي في استحداث أنواع جديدة خلال تعاقب الأجيال، مضت أنواع غيرها ممعنة في سبيل الندرة درجة بعد درجة، حتى يأتي عليها الانقراض. والصور التي تكون أشد احتكاكًا في المنافسة بتلك الأنواع المهذبة الراقية، أكثر الصور معاناة لتلك المؤثرات. ولقد رأينا في الفصل الذي عقدناه في التناحر على البقاء أن التنافس أشد ما يكون بين الصور المتقاربة الأنساب كضروب النوع الواحد، أو أنواع جنس بعينه، أو الأجناس ذوات اللحمة الطبيعية، وذلك لتشابه أشكالها وتراكيبها وعاداتها واشتباك مصالحها. كذلك الضروب أو الأنواع الجديدة؛ إذ تكون ممعنة في سبيل التكون، تتناحر مع أقرب الصور لحمة لها في النسب الطبيعي، وتمضي مؤثرة في سبيل إعدامها من الوجود، وإننا لنرى الانقراض دائم الأثر في محصولاتنا الأهلية؛ إذ ينتخب الإنسان دائمًا أرقى الصور ويعدم ما دونها. وفي مكنتنا أن نورد من الأمثال ما نستدل به على أن أنسالًا من الماشية والأغنام وغيرها من الحيوانات وضروبًا من الزهور، قد تحل من الاعتبار والنفع محل القديمة المنحطة، فتغلب عليها، والتاريخ يدلنا على أن نوع الماشية طويلة القرون قد حل محل الماشية السوداء في مقاطعة «يورك»، وأن القصير القرون «قد اكتسحت الأولى كما يكتسحها وباء قتال»، كما قال بعض الكتاب.
(٦) انحراف الصفات
إن القاعدة التي يشير إليها اصطلاح «انحراف الصفات» لذات شأن كبير، عدا ملابستها كما أعتقد لكثير من الحقائق الأخرى، فإن الضروب إذا كانت متميزة وكان لها فوق ذلك شيء من صفات الأنواع يحوط تعيين مرتبتها الحقة بالشك، فمن المحقق أن يكون تباين بعضها عن بعض أقل كثيرًا من تباين الأنواع الصحيحة الممتازة بصفاتها الخاصة، ومع هذا فليست الضروب على ما أرى غير أنواع آخذة في سبيل التكون، أو كما دعوتها «أنواع أولية»، ونريد أن نعرف الآن كيف أن ما يقع من التباين القليل بين الضروب، قد يستحيل بالازدياد إلى تباين كبير يفرق بين الأنواع؟ أما أن ذلك قد يحدث بالفعل، فدليلنا عليه تباين تلك الأنواع الصحيحة المتميزة بصفاتها الخاصة التي نلحظها في النظام العضوي مما يخطئه العد، بينما نرى أن الضروب — وهي التي نعتبرها الصور الأولية لأنواع صحيحة معينة سيشهدها في المستقبل النظام الطبيعي — لا يباين بعضها بعضًا إلا بفروق ضئيلة من المستصعب تعريفها، والمصادفة العمياء — تلك السُّنة المبهمة المستغلقة التي ندعوها مصادفة — ربما تسوق ضربًا من الضروب إلى التحول عن صفات أصوله، ومن ثم تمعن أنساله من بعده في التحول عن صفات آبائها، كما تحولت أسلافها عن صفات أصولها الأقدمين، غير أن التحول وحده، لا يؤدي بها إلى بلوغ درجة من التباين تعدل تباين أنواع الجنس الواحد.
ولقد تدبرت هذا الأمر قليلًا، شأني في كل تجاريبي وبحوثي، وطبَّقته على محصولاتنا الأهلية، فوضح لي فيها أشياء مماثلة لما تقدم. ولنعِ بادئ ذي بدء أن إنتاج أنسال يبلغ ما بينها من التباين مبلغ ما بين البقر القصير القرون، وبقر مقاطعة «هيرفورد» الطويل القرون، أو ما بين خيل السباق وخيل العجلات، أو ما بين أنسال الحمام المختلفة من التباين، لا يمكن بحال أن يكون نتيجة تأثير المصادفة المطلقة في استجماع التحولات المتشابهة خلال تعاقب أجيال عديدة، هذا مربٍ للحمام عُني مثلًا بفرد من الحمام منقاره أقصر قليلًا عن متوسط ما يبلغ قصر المنقار في نوعه، وذلك آخر عُني مثلًا بفرد من الحمام منقاره أطول قليلًا عن ذلك المتوسط، فهما بالطبع يمعنان في اختيار أنسال هذين الفردين ويستولدانهما لينتجا نسلًا مناقيره أعظم طولًا، وأشد قصرًا عن متوسط ما لضربهما الأصلي، كما حدث ذلك كثيرًا في تولدات الحمام القلب، وذلك استنادًا على ما يُعرف عن الهواة، فإنهم لا ينتخبون من الأفراد ما توسطت أوصافه حدي الإبداع: فإما قصر غير عادي، وإما طول خارج عن القياس. ولنفرض أيضًا أنه في عصر من أعصر التاريخ احتاجت أمة من الأمم، أو جماعة من الجماعات، تقطن مقاطعة ما خيلًا سريعة العدو، واحتاجت أخرى خيلًا قوية الأساطين كبيرة الأحجام، فلا نشك في أن الفروق بين ما يربيه كل من الجماعتين من الخيل، تكون بداءة ذي بدء حقيرة لا يُعتد بها، ثم تزداد تلك الفروق على مر الزمان، ولا تلبث أن تتكون ضروب من الخيل، باستمرار العناية بها والاحتفاظ بأنسال خيل سريعة العدو في الحال الأولى، وأنسال قوية كبيرة الأحجام في الثانية، حتى يصبح هذان الصنفان باستمرار ذلك التأثير، نسلين معينين مختلفين بعد مضي عدة قرون، وكلما أمعنا في سبيل التباين وازداد تحولهما، انقطع بالطبع استيلاد ما يبقى من نسلهما محتفظًا بشيء من صفات أصوله الأولى، بأن يكون أبطأ عدوًا، أو أصغر جسمًا، أو أقل قوة، من بقية أفراد النسلين في ذلك العصر، بذلك تُساق تلك الصور الوسطى إلى الانقراض على مر الأيام، ومن هنا نرى صلة تلك السُّنة — سُنة «انحراف الصفات» بما ينتجه الإنسان من المدجنات وتأثيرها فيها — أنها تستحدث الانحرافات الوصفية فتكون في أول الأمر ضئيلة قليلة الظهور، ثم تزداد من بعد ذلك درجة، حتى تتحول أوصاف الأنسال تحولًا يفرق بين بعضها وبعض وبين أصولها القديمة.
وقد يسأل سائل: كيف يكون تطبيق هذه السُّنة، أو ما يشابهها من السُّنن، على ما تحدث الطبيعة من تحول؟ ولقد لبثت رَدَحًا من الزمان استغلقت دوني فيه وجوه الرشد حتى استبان لي أنها تؤثر في الطبيعة تأثيرًا بينًا، كما أعتقد الآن؛ إذ انكشف لي أنه كلما أمعنت سلالة نوع من الأنواع في تحول الصفات، من حيث التكوين والتركيب الآلي والعادات، ازدادت مقدرتها على الذيوع والانتشار في النظام الطبيعي، وأصبحت أقدر على ذلك من غيرها من السلالات، فتتهيأ لها أسباب الازدياد والتكاثر.
ولقد ندرك حقيقة ذلك، إذا بحثنا حالة صنف من الحيوانات ذوات العادات لنفرض حيوانًا مفترسًا من ذوات الأربع بلغ عدد أفراده غاية ما يمكن أن يبلغ في بقعة من البقاع على أكبر متوسط، فإن احتفظ بقوته الطبيعية في التناسل والتكاثر العددي، وكانت تلك البقعة لا تتغير ظروف البيئة فيها، فذلك الحيوان لا يستطيع أن يستمر في الازدياد العددي، إلا إذا احتلت سلالاته التي تكون إذ ذاك ممعنة في تحول الصفات مراكز غيرها من الحيوانات التي تشغل النظام الطبيعي في تلك البقعة، وتنافسها بما يُحتمل أن يحدث في تلك السلالات، من جموع تعتاد الاغتذاء على ألوان من الرزق حية كانت أو ميتة، غير التي كانت تغتذي بها من قبل، وأخرى تقطن مواطن جديدة، وثالثة تتعود تسلق الأشجار أو ارتياد مناقع الماء، ورابعة تقل فيها غريزة الافتراس، وكلما تحولت أوصاف سلالات ذلك الحيوان وتبدلت تراكيبها وعاداتها تهيأت لها سبل الغزو والاستعمار، وما يصدق تطبيقه على حيوان ما، يصح تطبيقه كذلك على بقية الحيوانات في كل الأزمان، فإذا تحول حيوان، كان التحول سُنة تخضع لها بقية صنوف الحيوانات كافة، ولو وقع غير ذلك لما كان للانتخاب الطبيعي من سلطان، كذلك الحال في النباتات، فقد أثبتت التجارب أنه إذا زُرعت قطعة صغيرة من الأرض نوعًا من الحشائش، وزُرعت قطعة أخرى تساويها في المساحة عدة ضروب مختلفة، أنتجت الثانية من النباتات عددًا أوفر، وأثمرت من المواد الجافة كمية أكبر زنة مما تنتجه الأولى، وهكذا القمح إذا زرعته في قطعتين متساويتين من الأرض، ضرب منه في واحدة، وعدة ضروب مختلطة في أخرى، ومن ثم نجد أنه إذا زُرع نوع من الحشائش موغل في تحول الصفات مع ضروب انتُخبت انتخابًا مستمرًّا، بحيث يباين بعضها بعضًا بدرجة واحدة وعلى نمط معين، فإن هذا النوع وما يتبعه من السلالات المتحولة الأوصاف التي تكون مختلطة بالضروب، تفوز بحظ البقاء والسيادة في تلك البقعة مهما كانت المباينة بين تلك الضروب المزروعة حقيرة، شأن أنواع الحشائش وأجناسها، ونحن نعلم من جهة أخرى أن كل نوع من الحشائش أو ضرب منها تنتج من الحب كل عام ما لا يحصيه عد، تجالد بذلك في سبيل التكاثر العددي إلى الغاية القصوى، ويستتبع ما تقدم أن أخصَّ ضروب الحشائش التابعة لنوع ما وأرقاها صفات، هي التي تفوز بحظ البقاء والتكاثر بعد مضي بضعة آلاف من الأجيال، بذلك تتغلب على بقية الضروب التي تنزل عنها مرتبة في التكوين، حتى إذا ما بلغت الضروب من الامتياز بصفات معينة صحيحة مبلغًا كبيرًا، أضحت في طبقة الأنواع.
إن الغالبية من صور الأحياء لا يؤيد بقاءها إلا تحول كبير يطرأ على صفاتها التركيبية، قول يثبته كثير من المشاهدات الطبيعية العامة، خذ بقعة من الأرض بلغت غاية ما يمكن أن تبلغ قطعة أرض من ضيق المساحة بحيث يصح مع ذلك اعتبارها مثالًا تُطبق فيه مشاهدات التاريخ الطبيعي، ولم يقم من تخومها عوائق تحول دون الهجرة إليها، فكملت للأفراد التي تأهل بها مهيئات المنافسة، واشتدت قسوة تناحرهم على الحياة فيها، تجد أن الصور التي تقطنها قد بلغت من تحول الصفات، الشأو الأبعد، مثال ذلك: وجدت أن قطعة أرض مساحتها ثلاث أقدام عرضًا في أربع طولًا، ظلت الظروف الطبيعية التي تحوطها على حال واحدة بضع سنين متتابعة، قد عضدت عشرين نوعًا من النباتات تابعة لثمانية عشر جنسًا ملحقة بثماني مراتب من النظام النباتي، وحال النباتات والحشرات في الجزيرات وضحاضح الماء العذب لا تختلف عن ذلك شيئًا. ومن القواعد المعروفة عند الزراع أنهم يستطيعون أن يحصلوا على أكبر كمية من المحصولات الغذائية بالتناوب في زراعة نباتات تابعة لمراتب مختلفة، قاعدة يصح أن نصرف عليها اصطلاح «التناوب المشترك الدورات»، على أن أكثر الحيوانات والنباتات التي تعيش متجاورة في بقعة صغيرة من بقاع الأرض، قد تعضدها فتعيش فيها، مع احتمال أن تكون طبيعة تلك البقعة ليست بذات خصائص معينة، ويجوز أن يُقال فضلًا عن ذلك إن هذه الحيوانات والنباتات قد تكافح بأقصى ما يصل إليه جهد استطاعتها في سبيل الاحتفاظ بهذا الموطن. بيد أن المشاهد أنه حيثما تبلغ المنافسة بين صور الأحياء أقصى غايتها، تكون نتائج التحول الذي يطرأ على أوصافها، وما يقع من تحول في عاداتها ودقائق تكوينها، السبب الذي يحدد مراكز أشد الصور مزاحمة بعضها لبعض ضمن حدود تلك البقعة، ويكون لها الحكم المطلق فيها إذا كانت تلحق بما ندعوه الأجناس، أو الرتب في النظام العضوي.
تنطبق هذه القاعدة على النباتات لدى ارتدادها إلى حالة طبيعية صرفة في بقاع أجنبية عن مواطنها الأصلية، تُنقل إليها بالوسائط العملية، وقد يسبق إلى حدسنا أن النباتات التي تفلح بشكل ما في التوطن نباتات دخيلة في بقعة ما من البقاع، يجب أن تكون قريبة النسب بأهليات تلك البقعة، وذلك لاعتقادنا بأن هذه النباتات قد خُلقت خلقًا خاصًّا، موافقًا لطبيعة الإقليم الذي توطنت فيه، وربما نتوقع أن النباتات التي تتوطن في أي إقليم تدخله كانت نبعتها الأصلية من عشائر فطرتها أكثر موافقة لحالات بقاع مخصوصة، مما هي لبقاع أخرى في موطنها الجديد، والحقيقة تختلف عن ذلك جهد الاختلاف؛ فقد أظهر «مسيو ألفونس دي كاندول» في كتابه القيم، أن ما تحرزه أجناس الأزهار الحديثة من الفوائد بواسطة التوطن، أبين أثرًا فيها مما هي في الأنواع، إذا قسنا ذلك بنسبة عدد الأجناس والأنواع الأهلية في البقعة التي تتوطن فيها، وإليك مثالًا واحدًا: فقد أحصى الأستاذ «آساجراي» في آخر طبعات كتابه الذي وضعه في نباتات الولايات المتحدة ٢٦٠ نباتًا تتبع ١٦٢ جنسًا قد وطنت في تلك البقاع. من هنا نجد أن طبائع هذه النباتات تختلف الاختلاف كله، وهي على اختلاف بعضها عن بعض تباين نباتات البقعة التي وطنت فيها مباينة عظمى نستدل عليها بأن هذه الأجناس، إن بلغت ١٦٢ جنسًا، فإن منها ما لا يقل عن ١٠٠ جنس لا تمت بحبل النسب للنباتات الأهلية في تلك الأقاليم، بذلك يكون عدد كبير من الأجناس قد أُضيف إلى ما كانت تأهل به الولايات المتحدة، كما يتضح مما سبق القول فيه.
فإذا رجعنا إلى النباتات أو الحيوانات التي مضت في التناحر متفوقة على أهليات أية بقعة من البقاع حتى توطنت، تيسر لنا أن ننتزع من فكرة عامة عن مقدار ما يجب أن يطرأ على بعض الأهليات من تحول الصفات حتى تنال من قوة الغلبة على منافسيها ما يضمن لها البقاء، وذلك دليل على أن تحول الصفات التركيبي الذي يضاعف مقدار ما يقع بين الأجناس من الفروق والمباينات، ذو فائدة جليلة لأهليات هذه الأقاليم.
(٧) المؤثرات التي يحتمل أن يحدثها الانتخاب الطبيعي بالتحول الوصفي، والانقراض في السلالات التي تنحدر من أصل مشترك
يحق لنا بعد الذي قطعناه ولخَّصناه من البحث، أن نقول: إن السلالات المتحولة التابعة لنوع من الأنواع، تكون أكبر حظًّا من النجاح في الحياة كلها أمعنت في تحول الصفات والتركيب العضوي، فتمضي في الذيوع ضاربة فيما يجاورها من بقاع تأهل بها ضروب أخرى من الكائنات العضوية. ولنعمل الآن جهد المستطاع لكي نعرف كيف تؤثر تلك السُّنة الطبيعية، سُنة ما تحرزه العضويات من الفوائد العظمى المستمدة من تحول صفاتها، مقرونة بسنن الانتخاب الطبيعي والانقراض.
والجدول الذي أتينا به خير ما يكفل لنا فَهم هذا الموضوع، على ما فيه من تعقيد وما نلحظه خلال سطوره من روعة، فلنفرض أن الحروف التي وضعناها في أسفل الجدول من حرف «أ» إلى «ك» يدل كل حرف منها على نوع من أنواع جنس يعتبر من الأجناس الكبرى ضمن حدود مواطنه الأصلية، مع اعتبار أن مماثلة بعض هذه الأنواع لبعض غير متوازنة، كما هو الواقع في الطبيعة العضوية، وكما يظهر للقارئ ممثلًا له في الجدول بوضع الأحرف ذاتها بحيث يفصل بين أحدها والآخر مسافات غير متساوية. ولنفرض أن الجنس الذي تلحق به هذه الأنواع يكون من الأجناس الكبرى، وفقًا لما رأينا في الفصل الثاني من أن متوسط ما يلحق بالأجناس الكبرى من الأنواع الممعنة في التحول، أكثر من نسبة ما يلحق بالأجناس الصغرى، وأن ما يلحق بأنواع الأجناس الأولى المتدرجة في أسباب التحول من الضروب، أكثر عددًا مما يلحق بأنواع الأجناس الثانية، مضافًا إلى ذلك ما قد ثبت لنا من قبل من أن الأنواع الكثيرة الذيوع والانتشار ذوات السيادة، تكون أكثر تحولًا من الأنواع المستضعفة المحدودة المآهل.
وإذن فلنجعل «أ» نوعًا من الأنواع المنتشرة ذوات الغلبة ضمن حدود بقعة بعينها تابعًا لجنس من الأجناس الكبرى في موطنه الذي يأهل به، والخطوط المنقطة المتساوية الأبعاد المتفرعة من «أ» تمثل سلالات ذلك النوع الآخذة في أسباب التحول والنماء. ولنفرض أن طبيعة التحولات التي مضت هذه السلالات متدرجة فيها ليست بذات شأن كبير من الوجهة النوعية الصرفة، وإن بلغت غاية ما يمكن أن تبلغ التحولات من التنوع والاختلاف، وأنها لم تظهر طفرة، بل حدثت خلال فترات متباعدة من الزمان، ولم تمكث في صفات السلالات أعصرًا متساوية، فالتحولات التي تكون بحال ما ذات فائدة للأفراد هي التي تبقى في صفاتها أو تُنتخب للبقاء فيها انتخابًا طبيعيًّا.
من هنا يتضح لنا خطر ما تحرزه العضويات من الفوائد المستمدة من التحول الوصفي؛ إذ تُساق بذلك أشد التحولات اختلافًا وأكثرها نفعًا، وهي المعرفة بالخطوط المنقطة المتفرعة من الخط الأصلي، للبقاء في صور الأحياء ليستجمعها الانتخاب الطبيعي استجماعًا مطردًا على مر الزمان، فإذا بلغ خط من الخطوط المنقطة آخر من الخطوط الأفقية، نوَّهنا عن نقطة تقابلهما بحرف معرَّف بعدد مخصوص للدلالة على أن كمية من التغاير الوصفي قد استجمعت على مر الزمان، كافية لاستحداث ضرب من الضروب الراقية، جدير باعتبار الباحث في تبويب الصور العضوية.
ولا يفوتني أن أذكر أن النظام العضوي لا يمكن أن يمضي في سبيل الارتقاء، متبعًا ذلك النمط الذي نلحظه في الجدول، ولا أن العضويات يطرد تحولها من غير انقطاع، ولو أني بذلت ما في وسعي لأضع الجدول بحيث يظهر فيه بعض التفاوت والاختلاف، وفاق ما رجح عندي من أن كل صورة من الصور تبقى زمانًا طويلًا محتفظة بصفاتها، فلا يطرأ عليها تحول ما، ثم تأخذ في تحول الصفات من بعد ذلك. ولا أقول بأن الضروب التي بلغت من التحول الحد الأقصى تبقى محتفظة بصفاتها فلا تتحول بعد بلوغ تلك الغاية، فلقد تُعَمَّر صورة من الصور الوسطى عهدًا مديدًا ولا تعقب إلا سلالة واحدة، وقد تعقب سلالات عديدة نالها شيء من التهذيب، وانتابها نزر من الارتقاء، والانتخاب الطبيعي لا يؤثر في النظم العضوية إلا بحسب طبيعة المراكز التي تشغلها الأحياء في البقاع التي تأهل بها، فالبقاع إما أن تكون غير مستعمرة البتة، وإما أن يكون في نظامها العام مراكز خالية لم تحتلها عضويات ما، وبنسبة ذلك يكون تأثير الانتخاب الطبيعي، والعمدة في كل ذلك على الصلات المختلطة غير المتناهية التي تقع بين صور الأحياء في حياتها الطبيعية، والقاعدة العامة أنه كلما أمعنت السلالات في الاستعداد لقبول التحول التركيبي أكثر من أي نوع من الأنواع، اتسعت المناطق التي تأهل بها، وازداد عدد أعقابها المتحولة على مر الأحقاب. وترى في الجدول أن خط التعاقب قد ينقطع خلال فترات متلاحقة نعينها بحروف معرفة بأعداد مخصوصة؛ للدلالة على أن صورًا متعاقبة في التكوين قد بلغت من التحول حدًّا يكفي لوضعها في مرتبة الضروب الصحيحة، غير أن هذه التقاطعات تصورية محضة، أدمجناها في الجدول على أبعاد تدل على مضي أحقاب تكفي لاستجماع كمية كبيرة من التحولات الوصفية في الصور الحية.
ولقد لعب الانقراض دورًا ذا شأن عظيم، خلال الفترات التي وقعت فيها تلك التحولات الوصفية، وقد مثلنا لها في الجدول؛ إذ لا يغرب عن أفهمانا أن الانتخاب الطبيعي في كل البقاع المشحونة بصور الأحياء العضوية، لا يفتأ يعمل على تفوق الصور ذوات الصفات العليا التابعة لأي نوع من الأنواع على غيرها، فتزيد مقدرتها، وتعظم كفاءتها لسيادة أسلافها وإعدام أصولها الأولية من الوجود، خلال خطى التسلسل المطردة على مدى الأزمان، وظاهر مما تقدم أن المنافسة الحيوية أبلغ ما تكون من الشدة والقسوة بين أكثر الصور تقاربًا في اللحمة والعادات والتكوين والشكل، فيسارع الانقراض بكل الصور الوسطى التي تربط بين الأصول وآخر الفروع ظهورًا في عالم الحياة؛ أي بين أحط صور النوع وأرقاها، كما يقع النوع الأصلي الذي تسلسلت عنه بادئ ذي بدء، ولقد يغلب وقوع الانقراض لكثير من سلالات الأحياء ذوات اللحمة الطبيعية فتغزوها سلالات أخرى أكثر منها جِدَّة في التعاقب الزماني، وأعلى منها مرتبة في سلم الارتقاء، فإذا احتل نسل من أنسال نوع من الأنواع الراقية إقليمًا بعينه، أو طرأ عليه من الصفات ما هيأ له سبيل البقاء في بقعة ما لم يألفها من قبل، كان بقاء الأصل الأوَّلي والنسل الجديد معًا في تلك البقعة وحياتهما فيه، مرهونًا على امتناع البواعث التي تدعوهما إلى المنافسة بحال ما.
غير أنه ينبغي لنا أن نتدرج بالبحث إلى أبعد من ذلك، فقد فرضنا أن الأنواع الأصلية التي اعتبرناها متسلسلة عن الجنس الأول يشابه بعضها بعضًا كما هي الحال في الطبيعة عامة، مشابهة غير متكافئة في الكَم والكَيف، آتية من أن النوع «أ» مثلًا أقرب في اللحمة الطبيعية إلى «ب» و«ج» و«د»، وأن النوع «ط» أقرب إلى «ز» و«ح» و«ي» من غيرهما من الأنواع، ثم اعتبرنا أن النوعين «أ» و«ط» كانا أكثر الأنواع انتشارًا لاتصافهما بصفات خاصة أتمت لهما الغلبة والتفوق على غالب أنواع الجنس الأخرى، وعلى هذا الأساس يغلب أن ترث أعقابهما المهذبة في الألف الرابع من أجيالها الأربعة عشر، بعض تلك الصفات المفيدة التي بها تفوقت أصولها على أقرانها في معركة الحياة، ناهيك بما يطرأ عليها من ضروب التغاير وصنوف التهذيب المختلفة في مشتبك حلقات التدرج على مضي الأحقاب، حتى تتوطن في كثير من البقاع المتجاورة ضمن نظام الطبيعة الذي يشمل الإقليم الآهل بها. ومما سبق يظهر للباحث غالبًا أن هذه الأجيال لم تقتصر نتيجة تفوقها على إعدام أصولها الأولية «أ» و«ط» فقط، واحتلال مركزها في الوجود، بل تعدت دائرة تفوقها وانتصارها إلى بعض الأنواع الأصلية التي تشتد لحمتها بأصول تلك الأجيال فساقتها إلى الانقراض؛ لذلك يكون ما اختلط بالتهاجن من دم هذه الأصول بجيل الألف الرابع من هذه الأجيال قليلًا، على اعتبار أن نوعًا واحدًا هو النوع «و» من النوعين الأصليين «ﻫ» و«و» وهما أقل الأنواع صلة بالتسعة الأنواع الأصلية الأخرى، قد تسنى له أن يختلط من طريق التهاجن بآخر مراتب التدرج المعروفة في جدولنا.
أما الأنسال الستة الناتجة من النوع «ط» فتكونُ جُنَيْسين أو جنسين مستقلين، غير أن النوع الأصلي «ط» إن كان شديد المباينة للنوع «أ» لوجوده في آخر السلسلة المتحولة عن الجنس الأصلي، فستُّ السلالات الناشئة عن «ط» تباين ثماني السلالات الناشئة عن «أ» التباين كله، بفضل سُنة الوراثة وحدها، أما العشيرتان معًا فقد اعتبرتا ماضيتين في سبيل التباين الوصفي متبعتين مناحي مختلفة مشعبة، كذلك الأنواع الوسطى التي تربط النوعين الأصليين «أ» و«ط» ما عدا النوع «و» فقد انقرضت من غير أن تعقب من الأنسال شيئًا. وإذا تدبرنا ذلك وضح لنا كيف أن ستة الأنواع الجديدة المتسلسلة عن «ط» وثمانية الأنواع المتسلسلة عن «أ» يجب أن تُوضع في مرتبة الأجناس المعينة، أو على الأقل في مرتبة الفصيلات المميزة بصفاتها الخاصة.
ومعتقدي أن هذه الطريقة التي أتممنا شرحها هي بعينها قاعدة التحول الوصفي المثلى التي يتكون بتأثيرها جنسان أو أكثر من الأجناس ينتجها نوعان أو أكثر من أنواع جنس بعينه. أما النوعان الأصليان أو الأنواع الأصلية، كيفما تكون الحال، فمفروض أنها متسلسلة من نوع آخر تابع لجنس أعرق من هذه قدمًا، ولقد مثلنا لذلك في الجدول بخطوط مبتورة وُضعت تحت الأحرف الكبيرة مشعبة في عدة خطوط ثانوية آخذة في الانحدار إلى نقطة واحدة، عندها ينتهي التدرج إلى النوع الأصلي الذي اشتُقت منه مختلف الأجناس والجنيسات.
فرضنا في الجدول أن كل مسافة تقع بين خطين من الخطوط الأفقية تمثل ألف جيل. غير أنه من المستطاع أن نجعل كلًّا منها تمثل مليونًا أو أكثر من الأجيال، وقد تصطلح على أن تمثل شطرًا من طبقات الأرض المتعاقبة تتضمن كثيرًا من بقايا العضوية المنقرضة. ولسوف أعود إلى هذا المبحث في الفصل الذي سأعقده في وصف طبقات الأرض، وأرى أن هذا الجدول سوف يكشف لنا عن صلات العضويات المنقرضة بالعضويات التي تعمر وجه الأرض في الزمان الحاضر، ويوضح لنا أن ما انقرض من الأحياء، على تبعيته لشعوب وفصائل وأجناس واحدة وبالذات، فالغالب في أوصافها أن تصل بين كثير من العشائر الحية، تلك حقيقة تزداد في أذهاننا رسوخًا، إذا عرفنا أن الأنواع المنقرضة عاشت خلال دهور شتى عريقة في القدم، كانت شعب التسلسل فيها أقل تشابكًا منها اليوم.
ولقد رأينا من قبل أن الأنواع التابعة للأجناس الكبرى في كل إقليم بعينه، هي التي يغلب نشوء الضروب أو الأنواع المبدئية منها، وكان ينبغي لنا أن نمثل لذلك، فإن الانتخاب الطبيعي، إذ يظهر أثره في الصور التي يكون لها من القوة والغلبة ما تستظهر به على غيرها من الصور في التناحر على البقاء، فإن نتيجة فعله لا تقع إلا على صور تكون قد حازت في أول نشوئها من القوة قسطًا ومن الغلبة نصيبًا، وضخامة أية فصيلة من فصائل الأحياء، تبين لنا أن أنواعها قد ورثت عن آبائها الأولى مميزات مشتركة، وعلى ذلك كانت المنافسة في سبيل إحداث أنسال مهذبة راقية، غير واقعة إلا في الفصائل الكبرى المدفوعة بفضل قوتها الطبيعية إلى الازدياد والتكاثر، فجماعة كبرى تُساق إلى السيادة على جماعة أخرى تقاربها في القوة والغلبة، وتمضي عاملة على إنقاص عددها درجة بعد درجة، حتى تسد في وجهها أبواب التحول والارتقاء، ونرى في العشائر الكبرى أن أحدث الفُصيلات إذ تكون أقرب إلى الكمال وأدنى إلى القوة بكثرة شعبها، وامتلاكها أكثر المراكز خطرًا في نظام الطبيعة العام ضمن حدود مواطنها، تتدرج في السيادة على غيرها من الفصيلات القديمة التي هي أقل منها كمالًا حتى تمحوها من الوجود، فيُمحى بذلك كل أثر للفصائل الصغيرة المستضعفة ولواحقها.
فإذا نظرنا إلى المستقبل أمكننا أن نتنبأ بأن مجاميع الكائنات العضوية الحائزة لصفات السيادة في الزمان الحاضر، بحيث لا تستبين في مراكز نظامها الطبيعي أي تخلخل أو انشعاب، هي أقل الجموع تأثرًا بعوامل الانقراض، وأنها سوف تمضي ضاربة في الازدياد والتكاثر العددي أزمانًا طويلة، ولكننا لا نعرف أي الفصائل سيكون لها ذلك الحظ الموفور استنادًا على ما رأينا من تاريخ العضويات، فإن بعض العشائر التي حازت في الماضي أكبر الحظ من الانتشار والذيوع قد انقرضت، فإذا أوغلنا في النظر إلى طيات المستقبل، أمكننا أن نتنبأ استنادًا على ما نراه من تكاثر العشائر الكبرى، ومضيها متدرجة في التكاثر العددي بأن كثيرًا من العشائر الصغرى سوف تنقرض انقراضًا تامًّا غير معقبة من السلالات الراقية شيئًا مذكورًا، ويكون القياس في هذه الحال أن الأقليات العظمى من الأنواع التي تعيش في أي عصر من العصور هي التي تفوز بأعقاب سلالات راقية تبقى ثابتة في الطبيعة إلى مستقبل بعيد.
(٨) درجة النزعة إلى الارتقاء في التعضي
إذا اتفقنا على أن مقياس النظام العضوي ينحصر في مقدار تخلق الأعضاء في كل كائن بالغ، وتخصصها (ويتضمن ذلك ارتقاء الدماغ تحقيقًا للمقاصد العقلية) فمن الواضح أن الانتخاب الطبيعي يسوق نحو هذا المقياس، فإن جميع الفسيولوجيين يقرون بأن تخصص الأعضاء، بحيث تؤدي وظائفها أداء أدق وبالصورة التي بيناها، هو من فائدة كل كائن حي، ومن ثمة يكون استجماع التحولات التي تنزع نحو إقرار التخصص، أمرًا في متناول الانتخاب الطبيعي ومراميه، وقد نرى من جهة أخرى إذا ما وعينا أن الكائنات العضوية تجاهد في سبيل التزايد بنسبة هندسية عالية، وتحتل من نظام الطبيعة فراغات غير مشغولة، أو فراغات لم تشغل حتى الامتلاء في نظام الطبيعة، إنه من الممكن للانتخاب الطبيعي أن يهيئ كائنًا حيًّا وبصورة تدرجية حتى يحتل مركزًا تصبح فيه كثير من أعضائه قليلة الغناء أو معدومة الفائدة كلية. أما أن النظام العضوي في مجموعة قد أخذ في الارتقاء فعلًا منذ أبعد العصور الجيولوجية حتى اليوم، فسوف نطنب في البيان عنه في الفصل الذي نعقده عن تعاقب الطبقات الجيولوجية.
إذا ألقينا نظرة على فجر الحياة، عندما كانت كل الأحياء العضوية على ما نعتقد من غرارة التركيب، فلا مندوحة لنا من أن نتساءل: كيف تنشأت خطوات الارتقاء الأولى؟ وكيف تخلقت الأعضاء؟ من الجائز أن يكون قد أجاب «هربرت سبنسر» على هذا السؤال؛ إذ قال: «إنه بمجرد أن تحول الكائن البسيط ذو الخلية الواحدة، فصار بالتنامي أو بالانقسام حيًّا مركبًا من خلايا كثيرة، أو أصبحت حياته متعلقة بشيء يتشبث به، فهنالك يبدأ بالتأثير فيها قانون محصله أن الوحدات المتجانسة التالية لأية مرتبة، تتخلق بنسبة الاختلاف الذي يقع على علاقاتها بالقوى العرضية التي تحيط بها.» أما وإن الحقائق التي نستهدي بها مفقودة، فإن التأمل في هذا الموضوع يصبح معدوم الجدوى. وعلى أية حال، فإنه من الخطأ أن نفرض أنه لم يقع هنالك تناحر على البقاء، ومن ثمة ينتفي الانتخاب الطبيعي، قبل أن تنشأ صور عديدة، فإن التحولات التي تصيب نوعًا ما يأهل بموطن منعزل، قد تكون مفيدة، وبذلك تتكيف جميع الأفراد، أو ينشأ عن ذلك صورتان متميزتان، غير أني قد أشرت في نهاية مقدمة هذا الكتاب، بأنه لا يعجبن أحد من أن كثيرًا مما يتعلق بأصل الأنواع لا يزال غامضًا خفيًّا، إذا ما اعترفنا بجهلنا المطبق بالعلاقات المتبادلة بين أحياء الأرض في العصر الحاضر، وأننا أكثر جهلًا بعلاقاتها فيما سبق من الأزمان.
(٩) تقارب الصفات
زعم مستر «واطسون» أنني بالغت في تقدير ما لنظرية تحول الصفات العضوية من الشأن، وفيما نسبته لتلك السُّنة من التأثير في طبائع الأحياء لدى انحرافها، رغم أنه يعتقد أن لها أثرًا ما، فإذا فرضنا أن نوعين تابعين لجنسين مستقلين يمتان لبعضهما بحبل النسب البعيد، قد أنتج كلاهما عددًا كبيرًا من صور تتقارب صفاتها وتراكيبها العضوية، فمن البين أن بعضها في غالب الأمر يماثل بعضًا مماثلة تسوقنا إلى إلحاقهما بجنس دون آخر، وبذلك تندمج أنسال جنسين، فتلحق بجنس واحد كأنها صادرة عنه صدورًا مباشرًا، غير أنه من الحمق أن ننسب إلى تأثير هذه السُّنة حدوث المماثلات المتقاربة في تراكيب الأنسال المهذبة الراقية التابعة لصور معينة مستقلة، تتباعد أنسابها الطبيعية، فإن قوة الدقائق المادية هي التي تشكل قطعة الصدف التي تقلبها بين يديك، وليس من الغريب أن تأخذ مواد مختلفة شكلًا واحدًا، ولكنك إذا تدبرت الكائنات العضوية وجب عليك أن تعي أن شكل كل منها مرهون بصلات متشابكة لا نهاية لها، نلحظ بعضها في التحولات الجمة التي طرأت عليها خلال أدوار النشوء، وتعود برمتها إلى أسباب لا نطمع أن نستبين مغمضاتها، مهما أوتينا من بسطة العلم، ونرى شيئًا منها في طبيعة التحولات التي كانت أصلح للبقاء، أو بالحري التحولات التي أنتجتها الطبيعة لتثبت في طبائع الصور العضوية، وقد ترجع إلى مؤثرات الظروف المحيطة بالكائنات في حالات حياتها، ناهيك بتشابك العضويات وصلاتها في التناحر على البقاء. ثم ارجع إلى الوراثة، ذلك العنصر المضطرب الذي لا يخضع عمله لأي تأثير معروف أو دستور محكم، وتدبَّر ما توارثته العضويات من خِصِّيات أسلافها الأُول التي خضعت لسُنن التحول، فكان لتلك السُّنن ولهذه الصلات المتشابكة الأثر الأول في حدوثها وتحديد صفاتها في غابر الأزمان. وليس من المعقول أن تتقارب أنسال صورتين من صور العضويات بعد أن تكون قد تحولت تحولًا محسوسًا من قبل، تقاربًا يؤدي إلى تماثل تام في كل أجزاء تكوينها، ولو وقع ذلك لرأينا — بقطع النظر عن الصلات الوراثية — أن صورة بعينها قد يتكرر وجودها في طبقات مختلفة من طبقات الأرض تتباعد أزمنة تكوينها، غير أن المشاهدات تضاد ذلك، بل تنفيه نفيًا تامًّا.
صور لنفسك بعد ذلك كم تكون قوة الانقراض في إعدام ملايين الأنواع في أول فصل يشتد قرُّه، أو يعظم حرُّه، إذا توهمنا أنه أصبح في «إنكلترا» من الأنواع بقدر ما فيها من الأفراد في الزمان الحاضر. على أن كل نوع من الأنواع ليصبح نادر الوجود قليل الذيوع، إذا سيقت الأنواع في الزيادة العددية إلى حد غير محدود في إقليم بعينه. والأنواع النادرة لا يحدث فيها من التحولات التي تعضدها في حالات حياتها، إلا النزر اليسير؛ خضوعًا لما بيناه قبيلًا من القواعد الثابتة. فيكون استحداث الصور النوعية في مثل هذه الحالات بطيئًا، فإذا أصبح نوع من الأنواع شديد الندرة، عجَّل به التهاجن مع أنواع أخرى إلى الانقراض.
ولقد ظن بعض المؤلفين أن ذلك هو السبب في تناقص «الأرْخُص» في «ليتوانيا» و«الغزال الأحمر» في «إيقوسيا»، و«الدب» في «نرويج» إلى غير ذلك. وإني لأعتقد أن ذلك هو السبب الأول الذي يؤهل بالأنواع الثابتة ذوات السيادة، التي تفوقت على كثير من منافسيها ونظرائها ضمن حدود مواطنها، إلى الذيوع وإخضاع أنواع كثيرة غيرها واستضعافها. ولقد أظهر «ألفونس دي كاندول» أن الأنواع التي يعم انتشارها تُساق إلى الذيوع لأكثر من ذيوعها، فتمعن إذ ذاك في إخضاع أنواع تأهل ببقاع كثيرة وإفنائها من الوجود، فتقف الصور النوعية برمتها دون أن تبلغ من الزيادة حد الإفراط في كل بقاع الأرض. وأبان دكتور «هوكر» في العهد الأخير، أن عدد الأنواع الخصيصة بالجزء الجنوبي الشرقي من أستراليا قد قل كثيرًا؛ لأن أنواعًا عديدة من مختلف بقاع الأرض، قد غزت تلك البقعة، أما مقدار هذه الاعتبارات من الصحة، وانطباقها على الواقع، فذلك ما سأبينه بعدُ. غير أنني أقول استطرادًا: إن هذه الاعتبارات، هي التي تضع لكل إقليم بعينه، الحد الذي تنتهي إليه الصور النوعية فيه من ناحية الزيادة العددية.
الخلاصة
إذا عرفنا أن حالات الحياة المحيطة بالكائنات العضوية قد تحدث تحولات فردية في كل جزء من أجزاء تراكيبها الطبيعية في غالب الأمر، وإذا كان التناحر على البقاء واقعًا بالفعل خلال طور خاص من أطوار العمر، أو فصل من الفصول، أو سُنة مفروضة من السنين، بتزايد العضويات بنسبة هندسية كما بينا قبل، وكلا الأمرين ثابت لا سبيل إلى إدحاضه، ومن ثَم تدبرنا هذه الاعتبارات وما يتبعها من الصلات التي تربط بعض الكائنات الحية ببعض وتشابكها في حلقات من الروابط تعم حالات حياتها، وما تنشئه تلك الصلات من تنوع الأشكال، وتباين التراكيب وتنافر العادات، بحيث تصبح في مجموعها مفيدة للكائنات، ووجدنا من بعد ذلك أنه لم يحدث بتأثير تلك الحالات عامتها تحولات مفيدة لمطالب العضويات في حالات حياتها بالذات، بمثل ما حدث فيها من التحولات الجُلَّى المفيدة للإنسان ومطالبه وحاجاته؛ إذن لظللنا ننظر إلى الأمر نظر الموقن بشذوذه عن مألوف السُّنة، ومخالفته للقياسات الطبيعية. غير أننا إذ ننظر في الطبيعة نجد أن التحولات المفيدة للعضويات، قد تحدث ويتكرر حدوثها فيها، تتحقق دائمًا أن الأفراد التي تخصها الطبيعة بتلك التحولات تصبح قادرة دون غيرها على الاحتفاظ بكيانها في التناحر على البقاء، وتعقب من الأنسال ما ينفرد بنفس تلك الفوائد التي خصتها بها الطبيعة، خضوعًا لسُنة الوراثة، وتلك السُّنة — سُنة الاحتفاظ بالتحولات المفيدة للعضويات أو بقاء الأصلح منها — صرفت عليها اصطلاح «الانتخاب الطبيعي»، وهي سُنة طبيعية تسوق إلى تهذيب الكائنات الحية من طريق اتصالها بالمؤثرات العضوية وغير العضوية المحيطة بها في الحياة، وتدفع النظام العضوي برمته إلى التقدم والارتقاء في فترات الزمان. على أن أثرها هذا لا يمنع الصور الدنيا من البقاء محتفظة بكيانها أعصرًا طوالًا، إذا كانت ذات كفاية لما يحوط بها من ظروف الحياة البسيطة الملائمة لها.
والانتخاب الطبيعي، على أساس اتصاله بتوارث الخِصِّيات في العصور المقابلة، يسامت نفس الدور الذي ظهرت فيه الخِصِّيات أولًا في آباء الأنسال، يغيِّر من صفات البيض أو البذور أو صغار النسل، بقدر ما يغيِّر من صفات الأفراد البالغة، أما الانتخاب الجنسي فيمد ضروب الانتخاب الأخرى بمهيئات الاحتفاظ بأقوى الذكور وأعظمها كفاية لملاءمة الظروف، فتنتج أكبر عدد يُستطاع إنتاجه من الأنسال القوية، ويغيِّر من صفات الذكور من طريق تناحرها مع غيرها، فتنتقل صفاتها إلى الزوجين، الذكر والأنثى من أعقابهما، أو إلى أحدهما لا غير، وفقًا لما يكون من تأثير الوراثة في إنتاجها.
فإذا أردنا أن نزن تلك الاعتبارات التي نعزوها إلى الانتخاب الطبيعي بميزان الحكمة؛ لنعرف مقدار انطباقها على الواقع وتأثيرها في تهذيب الصور الحية حتى تصبح ذات كفاية تامة لما يحيط بها من ظروف الحياة المختلفة الملائمة لمراكزها التي تشغلها في الطبيعة، فذلك ما يجب أن نرجع إليه في الفصول التالية، ولو أنه قد ثبت لدينا أنها السبب المباشر في حدوث الانقراض. أما ما أحدثه الانقراض من أثر في تاريخ العضويات، فعلم طبقات الأرض خير شاهد عليه، ولقد أقمنا الأدلة فيما سبق على أن الانتخاب الطبيعي يسوق دائمًا إلى تحول الصفات وتباينها، وأنه كلما أمعنت الكائنات العضوية في تحول الصفات، ازداد عدد الصور التي تعضدها أية بقعة من البقاع، مستدلين على صحة ذلك بتدبر آهلات أية بقعة صغيرة المساحة، وبالصور التي توطنت في أرض أجنبية غير أرضها التي تأصلت فيها، والأنسال التي تنال الحظ الأوفر من التحول في خلال تحول أي نوع من الأنواع، والتي تبلغ من الزيادة العددية حدًّا كبيرًا في التناحر على البقاء تفوز وحدها بالسيادة في معمعة الحياة، فالتباينات التي تفرق بين الضروب التابعة لنوع معين، تُساق إلى التضاعف العددي درجة درجة، حتى تبلغ من التحول مبلغ ما بين أنواع الجنس الواحد، أو الأجناس المتميزة المتباعدة الأنساب.
ولقد رأينا من قبل أن أكثر الأنواع ذيوعًا وأوسعها انتشارًا في بقاع مختلفة من الأرض، مع تبعيته للأجناس الكبرى في كل مراتب النظام العضوي، هي أبعد الأنواع إمعانًا في التحول وأكثر حظًّا في إنتاج أعقاب مهذبة ترث عن آبائها من مهيئات القوة ما يجعلها تحتفظ بالسيادة المطلقة في المآهل التي تأهل بها، والانتخاب الطبيعي كما بينا من قبل، مسوق إلى تحويل صفات العضويات، موكل بإفناء صور الحياة المنحطة، صفاتها والحلقات الوسطى التي تصل بعض الصور ببعض، وهذه القواعد تكشف لنا عن طبيعة الروابط التي تقع بين العضويات وتعين لنا الفروق التي تفصل بين الكائنات على اختلاف مراتبها في العالم الحي. ومن الحقائق التي تبعث على التأمل والعجب، أننا نجد الحيوانات والنباتات خلال الأعصر، وفي الأقاليم كافة، مشتبكة في صلاتها، بحيث تكون عشائر تسودها عشائر غيرها، على نمط نلحظه متجانسًا في كل طرف من أطراف النظام العضوي.
فبينا تكون ضروب النوع الواحد متقاربة في صفاتها متدانية في صلاتها، نرى أن أنواع الجنس الواحد أقل تكافؤًا في الروابط وأبعد عن التوازن في الصلات، فتؤلف ما ندعوه فصائل وأجناسًا، ونلحظ من جهة أخرى أن أنواع الأجناس المعينة أكثر إمعانًا في انفكاك الروابط وتراخي الصلات، ونلفى أن روابط الأجناس تباين روابط الأنواع، فتحدث الرتب والطوائف وتوابعها والفصائل ولواحقها. أما الصفوف التابعة لغيرها في كل طبقة من الطبقات؛ إذ نلحظها مجتمعة حول نقطة معينة في النظام العضوي، وأن تلك الصفوف وما تتراكم حوله من المراكز، يلتف برمته حول مواضع أخرى متتابعة في حلقات بعضها يضم بعضًا، فلا نستطيع أن نفرد لها شطرًا خاصًّا بها قائمًا بذاته، بل تلحق بغيرها على وجه الإطلاق، فإذا كانت الأنواع قد خُلقت مستقلة منذ بدء الخليقة؛ لما تيسر لنا أن نفسر مغمضات النظام العضوي هذا التفسير، أو أن نستقرئ فيه ذلك التقسيم المحكم. أما إذا رجعنا إلى قواعد الوراثة ومؤثرات الانتخاب الطبيعي، على تخالطها وتشابك حلقاتها، وعقبنا عليها بالانقراض وتحول الصفات، استطعنا أن نعلل كيف أصبح النظام على الحال التي نراه عليها اليوم، كما مثلنا له في الجدول الذي وضعناه من قبل.
إن خِصِّيات الأحياء التابعة لطائفة بذاتها قد مثل لها في بعض الأحيان بشجرة كبيرة، وهذا أقرب ما يمثل به للإفصاح عن هذه الحقيقة، فالفروع الغضة الخضراء والغصون النابتة تمثل الأنواع الموجودة الآن، وأما الفروع الكبيرة التي ظهرت في خلال أزمان ماضية، فتمثل تعاقب الأنواع المنقرضة على طول عهدها. فالأغصان النامية خلال كل دور من أدوار النماء في هذه الشجرة، قد جاهدت لكي تتشعب في نواحٍ مختلفة وتضعف كل ما عداها من الأغصان التي تنمو حفافيها حتى تقتلها وتفنيها من الوجود، كما أضعفت بعض الأنواع والصفوف غيرها في كل أعصر الحياة لتنفرد بالبقاء في معمعة التناحر. وأما الجذوع الكبيرة التي تتشعب منها فروع تنقسم بدورها طوائف أقل شأنًا، فقد كانت في أول أدوار النماء التي تدرجت فيها هذه الشجرة أغصانًا لدنة. أما ما ترتبط به هذه الأغصان اللدنة في حالتي غرارتها وبلوغها من الروابط المتشعبة، فنمثل به لترتيب الأنواع المنقرضة والحية على السواء في عشائر تسودها عشائر غيرها من حلقات النظام، وإن من تلك الأغصان اللدنة التي حدثت في طور النماء الأول لغصنين أو ثلاثة، قُدر لها البقاء، فأصبحت فروعًا عظيمة تعضد كثيرًا من الأغصان الصغيرة، شأن الأنواع التي عاشت خلال الأعصر الجيولوجية الموغلة في القدم، ولم يعقب منها تولدات مهذبة إلا النزر اليسير، ومنذ دبت الحياة في تلك الشجرة مات من أغصانها اللدنة وفروعها الكبيرة على السواء عدد كبير، نمثل له في العالم العضوي بتلك الرتب والفصائل والأجناس التي لم تعقب في الزمان الحاضر صورًا تمثلها في النظام الحي، ولا نعرفها إلا بآثارها التي نجدها مستحجرة في باطن الأرض. وإذ نرى في أجزاء مختلفة من كثير من الأشجار أغصانًا ضئيلة تجالد في سبيل البقاء، نابتة في بعض الطوائف؛ إذ ساعدتها ظروف خاصة على الاحتفاظ بكيانها، ولا تزال باقية في أصل الشجرة، كذلك نرى في عالم الحيوان صورًا كالنفطير (خلد الماء) واليردوغ، قد احتفظت بكيانها خلال معمعة التناحر على البقاء باقتصارها في الوجود على بيئة محصنة من مؤثرات الانقراض، فبقيت حتى الآن لتربط بخِصِّياتها، إلى درجة ما فرعين كبيرين من فروع الحياة، وكما أن العيون الصغيرة والأغصان اللدنة قد تعقب أمثالها، وأن أكثرها قوة قد يسود على غيره من فروع الشجرة، كذلك كانت الحال في شجرة الحياة العظمى التي تملأ بما انقرض من صورها ودرجات تحولها المبتورة الطبقات الجيولوجية، وتعمر الأرض بشعبها الحية في هذا الزمان.
Lobelia: After matthias De Lobel (1538–1616) Webster 493.
Fulgens: L, = shining, glittering smith’s Latin-English Dict 459.
جنس من النباتات، سُمي نسبة إلى العالم «ماتياس دي لوبيل» والصفة المعينة للنوع عنه اللاتينية، ومعناها الوضيء أو الوضاح.
Botany: matucation of stamens and pistils at different periods, insuring cross. Fertilisation. Pp. to Homogamy.
Teleostei From: cor. Teleos = perfect + osteon = bone عشائر الأسماك ذوات العظام، وتضم أكثر الأسماء العائشة، تفريقًا لها من الإصديفيات Ganoids والبردوغيات Dipnoans والغضروفيات Elasmobranchs.
From Gr. rhiza = root + pod = fool.
شعب كبير من البرزويات من خِصِّيات أفراده أن لها شوى كواذب (مفردها شواة كاذبة) Psendopodia أشبه بالجذور النباتية.
ويتقدم هذا الدور دور آخر هو الدور الثنياوي Secondary period.