قوانين التباين
تغير الظروف وآثاره – استعمال الأعضاء وإغفالها، وحكم الانتخاب الطبيعي فيها – أعضاء الطيران والإبصار – التأقلم – التباينات المعللة – التعاوض واقتصاديات النمو – التراكيب العضوية المضاعفة والأثرية، والتراكيب الدنيا في النظام الحي، جماعها تقبل التحول – الأعضاء التي تظهر نامية نماء غير مألوف يكون استعدادها لقبول التحول كبيرًا – الصفات النوعية أكثر تحولًا من الصفات الجنسية – الصفات الجنسية الثانوية تقبل التحول – أنواع الجنس الواحد تتحول على نمط متشابهة – الرجعى إلى صفات فُقدت منذ أزمان بعيدة – الخلاصة.
***
(١) تغير الظروف وآثاره
تكلمنا في الفصول الأولى من هذا الكتاب في التحولات، وأثبتنا أنها كثيرة متعددة الصور، متنوعة الأشكال في الكائنات العضوية، إذ تحدث بتأثير الإيلاف، وأنها أقل حدوثًا وتشكلًا؛ إذ تنشأ بتأثير الطبيعة المطلقة، وغالبًا ما نسبنا حدوثها إلى الصدفة. على أن كلمة «الصدفة» هنا اصطلاح خطأ محض، يدل على اعترافنا بالجهل المطلق، وقصورنا عن معرفة السبب في حدوث كل تحول بذاته يطرأ على الأحياء، ويعتقد بعض المؤلفين أنه بقدر ما يكون في النظام التناسلي من الاستعداد لإنتاج التحولات الفردية والانحرافات التركيبية غير ذات الشأن، تكون مشابهة الأبناء للآباء، غير أن التحولات والشواذ الخلقية، وكثرتها إذ تنشأ بالإيلاف، وقلتها إذ تحدث بتأثير الطبيعة المطلقة، والأنواع التي يكثر انتشارها وتتسع مآهلها، إذ تكون أكثر تحولًا من الأنواع المحدودة المآهل، جماع هذه اعتبارات تسوقنا إلى القول باتصال التحولات، وحدوثها بمؤثرات البيئة وظروف الحياة، التي خضع لسلطانها كل نوع من الأنواع في خلال أجيال متلاحقة. وبيَّنَّا في الفصل الأول، أن لظروف الحياة طريقين: مباشرًا، بتأثيره في النظام العضوي برمته، أو في بعض أجزائه دون بعض، وغير مباشر بتأثيره في النظام التناسلي. وأن لذلك مصدرين: أولهما: طبيعة الكائن العضوي ذاته، وهو العامل ذو الأثر الأول، وثانيهما: الظروف البيئية المحيطة بالكائنات، وأن التأثير المباشر لظروف البيئة إما أن يسوق إلى ثمرات من التحول محدودة، أو غير محدودة، وأن النظام العضوي، إذ يمعن في التحول إلى غير حد بتأثير تلك الظروف، يصبح قابلًا للتشكل والتنويع، وينشأ فيه استعداد للتحول كثير التقلب غير ذي قياس مألوف، وإذ يمضي في التحول إلى حد محدود، تضحى العضويات بطبيعتها قادرة على تنشئة مختلف التحولات، حيث تخضع لتأثير حالات خاصة، وأن كل الأفراد أو جلها، تتهذب صفاتها بنفس الطريقة.
ومن الصعب أن نقرر إلى أي حد يؤثر تغير الظروف كالطقس، والطعام وغيره، ومن الاعتبارات ما يسوقنا إلى الاعتقاد بأن هذه العوامل كانت أبلغ أثرًا في خلال الدهور المتلاحقة، مما نستطيع إظهاره بالمشاهدات، وغاية ما نستطيع أن نجزم به، أن التجانس الذي نلحظه في تركيب الكائنات، وفي أطراف النظام العضوي وشعبه المختلفة، لا يمكن أن نردده إلى تلك المؤثرات الأولية. ومن المثل التالية، يظهر لنا أن الظروف الخارجية قد أثَّرت تأثيرًا محدودًا غير ذي شأن كبير. فقد حقق «مستر فوريس»، أن لون الأصداف في الأقاليم الجنوبية وفي ضحاضح الماء، أشد لمعانًا وأكثر صفاء، منها في الأقاليم الشمالية، أو في الماء البعيد الغور، وإن كانت من نوع واحد، ولكن لا يصح أن يُتخذ قاعدة يُقاس عليها، إذ لا يطرد في كل الحالات. ويعتقد مستر «جولد»، أن الطيور التابعة لنوع بعينه تكون ألوانها أكثر صفاء؛ إذ تعيش في مناخ صافي الأديم، منها إذ تقطن شواطئ البحار أو الجزائر. أما مستر «وولاستون»، فعلى اعتقاد أن البقاء بجوار البحار يؤثر في لون الحشرات. ووضع «موكن تاندون» جدولًا في نباتات، تكون أوراقها لحمية إلى حد ما، إذا نمت على شواطئ البحار، حيث تكون غير ذلك، إذا نمت بعيدًا عنها. وهذه العضويات إذ تتحول ذلك التحول الضئيل، تمثل لنا حالات مشابهة لما يلابس الأنواع المقصورة على البقاء في بقعة ما، متأثرة بظروف متشابهة.
فإذا طرأ تحول ضئيل الفائدة، لا نكاد نستبين وجه النفع فيه على كائن ما، نقصر دائمًا عن معرفة مقدار ما نعزوه لتأثير الاستجماع بالانتخاب الطبيعي، ومقدار ما نعزوه لتأثير الظروف البيئية المحدودة في إحداثه. ومن المعروف لدى تجار الفراء، أن النوع الواحد تكون فراؤها أجود صنفًا، وأغزر مادة، كلما ضربت إلى الشمال، ولكن أينا يستطيع أن يتبين مقدار ما في هذا التباين من أثر الاحتفاظ، احتفاظ الطبيعة خلال أجيال عديدة، بأقدر الأفراد تحملًا للبرد؛ لغزارة فرائها، ومقدار ما فيه من أثر المناخ ذاته؟ لأن من البين أن للمناخ تأثيرًا مباشرًا في فراء حيواناتنا الأليفة من ذوات الأربع.
ومن المستطاع أن نأتي بأمثال عديدة لضروب متشابهة، أنتجها نوع معين لابسه من تغير الحالات ظروف، بلغت من الاختلاف الغاية القصوى، وضروب غير متشابهة أنتجها نوع، لابسته ظروف نراها متباينة على ظاهرها. وغير خفي على الطبيعيين، أن أنواعًا كثيرة قد احتفظت بصفاتها الأصلية، فلم ينتبها التحول، ولو أنها تعيش في بقاع مختلفة من الأرض، يتباين المناخ فيها جهد التباين. وهذه الاعتبارات وما يشابهها تجعلني قليل الثقة فيما يُعزى لظروف الحالات الخارجية المحيطة بالكائنات وتأثيرها فيها، بقدر ما تزكي اعتقادي في استعداد العضويات للتحول، وخضوع ذلك الاستعداد لسنن طبيعية، لا نعلم من أمرها شيئًا.
إن ظروف الحياة قد تؤثر من طريق آخر غير إنتاجها، الاستعداد للتحول من طريق مباشر أو غير مباشر، على اعتبار أنها تشمل أثر الانتخاب الطبيعي، حيث كان لها الأثر الأكبر في الإبقاء على هذا الضرب أو ذاك، مما تنتجه صورة معينة، فإذا انتُخب الإنسان، فإن قوته تحد كلا الطريقين، التي بهما تؤثر ظروف الحياة في الكائنات؛ لأن تلك الظروف إن كانت السبب المباشر في إنتاج الاستعداد للتحول، فإن إرادة الإنسان هي التي تستجمع التحولات، وتسوقها متدرجة إلى غرض معين يحاول الوصول إليه، كما أنه لا يجدر بنا أن نغفل عن أن الاستجماع بالانتخاب الطبيعي، هو المؤثر الفريد الذي نفسر به معنى بقاء الأصلح في الطبيعة.
(٢) أثر تزايد استعمال الأعضاء وإغفالها، وحكم الانتخاب الطبيعي فيها – أعضاء الطيران والإبصار
وقد نعزو إلى الإغفال في بعض الظروف تغايرات وصفية، تظهر في تراكيب العضويات، يكون الانتخاب الطبيعي السبب المباشر في حدوثها، أو يكون على الأقل أكبر المؤثرات التي أنتجتها. وذكر مستر «وولاستون» أن مائتي نوع من خمسمائة وخمسين من أنواع الجعلان التي تقطن «ماديرة» أجنحتها على حال من التشوه والنقص، حتى إنها لا تطير مطلقًا، ولاحظ أن في التسعة والعشرين جنسًا الخاصة بتلك الجزائر، ثلاثة وعشرين على الأقل فقدت أنواعها ملكة الطيران، حقائق عديدة تروعنا. فضروب الجعلان في بقاع مختلفة من الأرض، إذ تقذف بها الرياح إلى عرض اليم حيث تموت، وضروب أخرى إذ تبقى مختفية في مكانها، حتى يهدأ الريح وتشرق الشمس. كما لاحظ مستر «وولاستون» في جزر «ماديرة»، والصور التي فقدت أجنحتها في الشواطئ غير المهجورة، إذ تكون أكثر عددًا مما هي في تلك الجزر، وجموع خاصة من الجعلان التي تحتاج إلى استعمال أجنحتها كل الاحتياج، إذ نجدها كثيرة الذيوع والانتشار في غير ذلك من البقاع، تفقد آثارها البتة في تلك الشواطئ، وهي حقيقة ذكرها «مستر وولاستون»، وأيدها بكل ما وصلت إليه قدرته، جماع هذه الاعتبارات، تسوقنا إلى الاعتقاد بأن ضياع أجنحة كثير من الجعلان التي تقطن جزر «ماديرة» يرجع في غالب الأمر إلى تأثير عنصر الانتخاب الطبيعي، مع احتمال أن يكون للإغفال أثر فيه، فأفراد الجعلان التي تكون أقل تعودًا على الطيران من غيرها، قد كان لها الحظ الأوفر من البقاء خلال أجيال متلاحقة عديدة، بأن كانت أجنحتها أقل نماء من أجنحة بقية الأفراد، ولو بدرجة غير محسوسة، فلم تعتد كثرة الطيران، أو كان من عادتها الفتور والانزواء، في مستكن لها، فلم تقذف بها الريح إلى اليم، أو كانت أفراد الجعلان التي تكثر الانتقال طائرة من مكان إلى آخر، قد كثر اجتياح الريح إياها إلى البحر، فمضى بها العدم، وتولاها الانقراض.
إن ظاهرة الكَمَه في الحشرات مهما قلبنا وجوه الرأي فيها، لا يسعنا إلا اعتبارها من الظاهرات المحلية الخاصة ببقاع دون أخرى، وأما المشابهات، التي نلحظها ممثلة في قليل من الصور التي تقطن كهوف «المموث»، ومغاور «كورنيولا» وبين الصور الأوروبية، فليست سوى ملابسات جلية لما يقع من التماثل العام بين الحيوانات الخاصة بأوروبا، والحيوانات الخاصة بشمال أمريكا. وعندي أنه لا مندوحة من الفرض بأن حيوانات أمريكا، إذ كانت أبصارها في غالب الأمر معتدلة القوة محدودتها، أخذت في الهجرة شيئًا فشيئًا، خلال أجيال متلاحقة، مبتعدة عن نور هذه الطبيعة المبصرة، إلى ظلمات الكهوف في «كنتكي»، متدرجة في التوغل إلى أحشاء تلك المغاور، كما حصل لحيوانات أوروبا في كهوفها … ولدينا من المشاهدات ما يثبت التدرج في اكتساب هذه العادة.
(٣) التأقلم
العادة موروثة في النباتات، تظهر فيها جلية في دور الإزهار وساعات النوم، وفي كمية المطر اللازمة لإنبات بذورها، وذلك يسوقني إلى الكلام في التأقلم، ولما كان الواقع أن الأنواع الصحيحة التابعة لأي جنس من الأجناس، قد تأهل بأقاليم يختلف مناخها بين الحر والقر، فإن صح أن أنواع الجنس الواحد قد اشتُقت جميعها من أصل أولي واحد، فلا بد من أن يحدث فيها أثر للتأقلم، تكسبه خلال تدريجها في حلقات التسلسل على مر الزمان.
والاعتقاد السائد، أن الإنسان في بدائياته قد انتخب الحيوانات الأليفة للتربية والاستيلاد منها، مسوقًا بما وجده فيها من أوجه النفع، وما ألفاه من استعدادها للتناسل الصحيح حال أسرها، واعتزالها ظروف طبيعتها الأولى، على عكس ما يذهب إليه ثقات الطبيعيين، من أن سبب إيلافها راجع إلى ما رآه فيها الإنسان البدائي من مقدرتها على تحمل مؤثرات التنقل في أقطار شاسعة من الكرة الأرضية، شأن أهل البداوة في تنقلهم من بقعة إلى أخرى، فإن ما نراه في حيواناتنا الأليفة من الكفاية التامة، والمقدرة العجيبة على تحمل المناخات في مناكب الأرض، لدليل يجوز أن نستدل به على أن عددًا كبيرًا من الحيوانات الأخرى التي لا تزال في وحشيتها الطبيعية الأولى، قد يسهل التدرج في رياضتها، حتى تبلغ حدًّا تستطيع فيه أن تتحمل أشد المناخات وأبعدها تباينًا، فإذا أمعنا النظر في بحث هذه الاعتبارات، ولا سيما لدى التنقيب عما يعود إليه أصل قليل من حيواناتنا الداجنة، واشتقاقها من بعض الأصول البرية، فقد يُحتمل أن يكون ما يجري من الدم في عروق ذئاب المنطقة الحارة وذئاب المنطقة المتجمدة، مختلطًا بدم أنسال الكلاب المؤلفة في بلادنا مثلًا، وليس لنا أن نعتبر أنواع الجرذان الكبيرة أو الفيران العادية من الحيوانات الداجنة، رغم أنها انتقلت مع الإنسان في رحلاته إلى أنحاء عديدة من المعمورة، وذيوعها الآن لا يُقاس به ذيوع أي حيوان من مرتبة القواضم؛ لأنها تعيش في جزائر «فارو»، حيث بلغت أقصى الشمال، تقطن جزائر «فوكلاند»، حيث بلغت أقصى الجنوب، بل تعمر كثيرًا من الجزائر في المنطقة الحارة، يسوقنا هذا الاعتقاد إلى أن التأقلم، صفة تكسبها التراكيب العضوية بما قد تأصل في تضاعيف فطرتها من قابلية الكسب، شأن أكثر الحيوانات، أما كفاية الإنسان وحيواناته المؤلفة لتحمل أعاصير المناخات المختلفة، وغير ذلك من الحقائق، مثل كفاية الفيل والكركدن لتحمل المناخات الجليدية فيما مضى من العصور، بينما نراها الآن مقصورة في البقاء على المناطق الحارة أو ما يجاروها، فلا ينبغي أن تتخذ في هذا الاعتبار قياسًا يُقاس عليه، بل يجب أن تتخذ مثلًا، نستدل بها على ما هو موصل في تضاعيف الفطرة العضوية من قابلية الكسب، التي تحرك عواملها ظروف خاصة، تخضع لها الكائنات.
وما زال الغموض يكتنف أثر العادة في تأقلم الأنواع بالمناخات المختلفة، أو مقدار ما في التأقلم من أثر الانتخاب، انتخاب الطبيعة لأي ضرب من الضروب ذوات التراكيب العضوية الشتى، أو مقدار ما فيه من أثر العادة والانتخاب مجتمعين، وإني لعلى اعتقاد بأن للتحولات أثرًا كبيرًا في طبائع الكائنات، حقيقة يسوقني إلى الإيمان بها، ويزكي اعتقادي فيها، ما لحظته في النظام العام من الأقيسة، وما عرفته من دراسة الكتب الزراعية الحديثة، وما قرأته في كثير من دوائر المعارف الصينية، التي يبعد عهدنا بها؛ إذ هم يخشون بل يحظرون، نقل الحيوانات من مقاطعة إلى أخرى، ولا أثر في التأقلم غالبًا إلا للعادة؛ لأنه بعيد أن يُخيَّل إلينا، أن الإنسان في حالته الأولى قد نجح في انتخاب أنسال وعِتْرَات، كانت ذات تراكيب ملائمة بطبيعتها لظروف أقاليمها الأصلية، ذلك على أن الانتخاب الطبيعي لا محالة ماضٍ في الاحتفاظ بما ينتج من الأفراد، التي تكون تراكيبها أشد التراكيب ملاءمة لمناخ الإقليم الذي تأهل به. وجاء في كثير من المقالات التي كُتبت في طبائع النباتات، أن ضروبًا قد تكون أكثر مقدرة من غيرها على تحمل مناخات خاصة، ويظهر ذلك جليًّا مما كُتب في النباتات ذوات الثمار من المقالات، التي نُشرت في الولايات المتحدة بأمريكا، حيث وضح فيها أن ضروبًا خاصة تلائم مقاطعات الشمال، وأخرى تلائم مقاطعات الجنوب، وإذا كانت أكثر هذه الضروب جديدة لا تعود في نشأتها إلى أزمان بعيدة، فلا جرم أن تبايناتها التركيبية، لا ترجع إلى العادة المكتسبة من آثار التأقلم. انظر إلى نبات الخرشوف الأورشليمي، الذي لم نستطع استنباته بالبذور في إنكلترا، ولم نتوصل إلى استحداث ضروب جديدة منه بالوسائط العلمية، ترَ أنه آخذ في سبيل الانتشار والذيوع شيئًا بعد شيء، وهو الآن أكثر انتشارًا عما كان في كل الأزمان السالفة، لتعرف من بعد ذلك أنه ليس بمستطاع أن تقف تأثيرات التأقلم. وقد استشهد كثير من المؤلفين بما رأوا في اللوبياء من الحالات المشابهة لما مر ذكره، بل استشهدوا به في حالات أبعد من ذلك شأنًا. وما كان لنا أن ندعي إثبات هذا الأمر بالتجاريب، قبل أن يزرع بعض المستنبتين هذا الصنف عشرين جيلًا متلاحقة، مبادرين في زراعته قبل أوانه، حتى إن العديد الأكبر من ثماره يقتله الصقيع، ثم يعنون بجمع البذور القليلة التي تتبقى عناية تتوفر فيها الشروط الواقية من وقوع المهاجنة فيها بأي شكل من الأشكال، ومن ثَم يكررون هذه التجربة خلال عشرين جيلًا، مستمسكين بشروط الوقاية التي حددناها، ولا سبيل إلى الفرض بأن التحولات التركيبية لم تظهر في بادرات اللوبياء، بعد ما قد جاء في مقالة نُشرت حديثًا، وثبت فيها أن بعض بذور هذا النبات تكون أشد حلاوة من بعض، وتلك حقيقة يؤيدها عندي كثير من الشواهد، التي خبرتها بما لا يترك إلى إدحاضها سبيلًا.
ومحصل القول: أن العادة، أو الاستعمال، والإغفال، قد لعب جماعها دورًا ذا شأن كبير في تهذيب الصور العضوية تكوينًا وتركيبًا، بيد أنها مع مضيها مؤثرة في الكائنات، قد عضدها الانتخاب الطبيعي جهد مستطاعه في إبراز آثارها الجُلَّى، التي نلحظها في التحولات المؤصلة في تضاعيف الغرائز العضوية
(٤) التحولات المعللة
ذلك تعبير شاكلته أن النظام العضوي ذو حلقات، بعضها متصل ببعض تمام الاتصال حال نشوئه وارتقائه، حتى إنه إذا ظهرت تحولات ضئيلة في أي طرف من أطرافه، يستجمعها الانتخاب الطبيعي على مر الأيام، فأجزاء أخرى غيرها لا بد من أن تمضي ممعنة في تحول الصفات، تلك مسألة على ما لها من الشأن فيما نحن بصدده، بعيدة عن الأذهان، ولم يوفها الكتَّاب حقها من البحث، ولا جرم أن كثيرًا من الحقائق بعضها قد يلابس بعضًا، حتى نصل في بحثها إلى الغاية المطلوبة، وسيتضح هنا، أن الوراثة الأولى غالبًا ما تزودنا من حالات التحول، بأمثال غير صحيحة قد يتشابه علينا أمرها. ومن الحقائق الثابتة أن كل تحول تركيبي يطرأ لصغار النسل أو للأجنة حال تكوينها، يُساق على الغالب إلى إحداث تحول فيها حال بلوغها، فكل أجزاء الجسم العضوي المتجانسة، تلك التي تكون في حالة التخلق الجنيني متناسقة التركيب، وتخضع بالطبيعة لمؤثرات حالات واحدة، تكون ذات استعداد للتحول على أسلوب بذاته، وعلى نمط خاص، نرى ذلك في جانبي الجسم، سواء أكان الأيمن أم الأيسر، وتحولهما على نموذج واحد، وذلك أمر نراه في أقدام الحيوانات الأمامية، أو في أقدامها الخلفية، وفي أفكاكها وأطرافها وتحولها معًا، حتى إن بعض المشرحين ليعتقدون اعتقادًا ثابتًا أن للأفكاك والأطراف صلات في التحول متناسقة، ولا ريب عندي في أن هذه الميول قد يؤثر فيها الانتخاب الطبيعي، وقد تخضع هي لتأثيره على درجات تختلف باختلافها، لذلك نرى أن فصيلة من الوعول برمتها، عرفنا آثارها في تاريخ العضويات، كانت ذات قرن جانبي واحد، ولا جرم أن وجود هذه الوعول على تلك الحال، لو كان ذا فائدة كبيرة لأنسالها في حالات حياتها، لغلب أن يكون الانتخاب الطبيعي قد لعب دورًا ذا شأن في تثبيت هذه الصفة في طبائعها.
والأجزاء المتجانسة — كما لاحظ بعض المؤلفين — تُساق إلى التلاحم والتضام، تظهر حقيقة هذه الحالة غالبًا في النباتات شاذة الخلقة، ولست أرى في الحالات الطبيعية حالة أكثر حدوثًا في النباتات من نماذج الأجزاء المتجانسة، كالتحام أوراق التويج في زهرة، وتكوينها أنبوبًا. والظاهر أن أجزاء الجسم الصلدة قد تؤثر في الأجزاء الرخوة، التي تلاصقها في التركيب العام، وإن بعض الكتاب لعلى اعتقاد، أن تغاير شكل التجويف الحوضي في الطيور يحدِث في الكلية تحولًا ذا بال، ويعتقد آخرون أن شكل التجويف الحوضي في المرأة قد يغير بالضغط، الشكل الطبيعي لرأس الطفل لدى الوضع. ويقول «شليجل»: إن نسق الجسم وتركيبه، وطريقة الازدراد في الأفاعي، تقضي حتمًا بتشكيل كثير من أحشائها ذات الشأن في بنيتها، وتحدد مواضعها.
(٥) التعويض والاقتصاد في النمو
أذاع جفروي سانتيلير الكبير، وجوته كلاهما في وقت واحد، سُنة توازن النمو والاقتصاد فيه، أو كما فسرها «جوته»؛ إذ قال: «إن الطبيعة إذ تُسرف في الضياع والاستهلاك من جهة، تُساق إلى الإمعان في الاقتصاد من جهة أخرى.» ولا شك عندي في أن هذه السُّنة تنطبق بعض الانطباق على حالات نشاهدها في مختلف المحصولات الأهلية، فإن كمية الغذاء إذا فاضت على جزء من أجزاء الجسم أو عضو منه، يندر على الأقل أن تكون نسبة فيضها على جزء آخر كنسبة فيضها على الأول، كذلك يندر أن تجد بقرة يكثر درها، ويشحم جسمها في وقت معًا، وقلَّ أن تنتج ضروب الكرنب المعروفة ورقًا كثيرًا وافر المادة، وكمية كبيرة من البذور التي يُستخرج منها الزيت، في وقت واحد، ونلاحظ دائمًا في صنوف الفواكه أن مادتها لا تجود وتكبر، إلا حيث تضمر البذور، ونشاهد في الدجاج أن كبر خصلة الريش التي تكون في أعلى الرأس، يصحبها عادة صغر العُرف، كما أن عِظم اللحية يصحبه صغر العلوج، ذلك ما نلاحظه في الضروب الأهلية. أما الأنواع في حالتها الطبيعية المطلقة، فليس من الهين أن نسلم بأن هذه السُّنة قد تصدق عليها صدقًا تامًّا، لولا أن فئة كبيرة من جهابذة العلماء وأهل النظر، ولا سيما من المشتغلين بعلم النبات، لا يداخلهم ريب في صحة هذه السُّنة، وخضوع الكائنات العضوية لآثارها، ولست بمورد من الأمثال ما يؤيد صحة هذه السُّنة أو ينفيها، ذلك لقصوري عن إدراك دستور محكم، يصح به التفريق بين تأثيرات الانتخاب الطبيعي، والإغفال في نمو بعض الأعضاء، وضمور بعض أعضاء أخرى ذات صلة بها من جهة، وبين فيض كمية الغذاء على بعض أعضاء، فيزيد نماؤها، وامتناعه عن أعضاء أخرى ذات صلة بها، فتفضي إلى ضمورها من جهة أخرى.
ولما تقدم، يُساق الانتخاب الطبيعي في سلسلة تأثيراته المتتابعة، وعلى مر الأزمان المتلاحقة، إلى استنفاد أي جزء من أجزاء النظم العضوية؛ إذ يصبح تحول العادات غير ذي فائدة رئيسة لحياة الكائنات، من غير أن تلزمه الحاجة إلى تنمية جزء آخر بدرجة تُوازن ضمور الجزء الأول. وعلى العكس من ذلك قد يفلح الانتخاب الطبيعي في تنمية أي عضو من الأعضاء، من غير أن يحتاج إلى استنفاد عضو آخر ذي اتصال هبه لضرورة الموازنة بينهما.
(٦) التراكيب العضوية المضاعفة الأثرية و«التراكيب الدنيا في النظام الحي، كلها تتباين»
وإذ كان تكرر الأعضاء في النباتات، أو «التكرار النباتي» كما يقول الأستاذ «أوين»، علامة، من علاقات الانحطاط في مراتب النظام، فإن ما سبق القول فيه ليصدق على ما يعتقد به الطبيعيون، من أن الكائنات المتضِعَة المرتبة، أكثر تغايرًا مما يعلوها في مراتب العضويات، والظن الغالب أن المقصود بالاتضاع هنا، أن الأعضاء العديدة التي يتركب منها النظام العضوي، لا تكون على حال من الرقي والاختصاص تستطيع معه القيام ببعض وظائف معينة. وما دام العضو الواحد ذا خِصِّية يتيسر له بها أن يقوم بوظائف مختلفة، استطعنا على ما أظن، أن ندرك لماذا يبقى ذلك العضو قابلًا للتحول؟ أي لماذا لم يحتفظ الانتخاب الطبيعي بانحراف من الانحرافات، التي تطرأ عليه، أو يستنفد غيرها على نمط من الدقة، تراه جليًّا في الأعضاء، التي اختُصت بوظائف معينة؟ مثل ذلك كمثل آلة قاطعة، أُعدَّت لقطع كل شيء من غير تخصيص، فتكون غير معينة الشكل والتركيب، وآلة غيرها أُعدت لعمل معين تكون ذات شكل خاص، وذلك يؤيد أن الانتخاب الطبيعي لا يؤثر في الكائنات الحية إلا من طريق فائدتها المطلقة.
والأعضاء الأثرية، كما يعتقد كل الباحثين، قد تمضي ممعنة في قبول التحول، ولسوف نعود إلى بحث هذه المسألة بعد، غير أنه لا يجدر بي أن أتم الكلام هنا قبل أن أذكر أن قابلية الأعضاء الأثرية للتحول، راجعة — على ما يظهر — إلى عدم فائدتها المطلقة للعضويات، وإلى الانتخاب الطبيعي، حيث يعجز عن أن يقف سير الطبيعة في استحداث الانحرافات التركيبية فيها.
(٧) الأعضاء التي تظهر نامية نماء غير مألوف، أو بنسبة غير متباينة في نوع ما، مقيسة فيه بما في غيره من الأنواع القريبة منه، يكون استعدادها لقبول التغاير كبيرًا
لقد لاحظ «مستر ووترهوس» منذ عدة أعوام خلت، ملاحظة في هذا المقصد طالما أخذتُ بحججها، والغالب أن يكون الأستاذ «أوين» قد بلغ في بحوثه إلى نتيجة تقاربها، ولا سبيل إلى إقناع أحد بصحة هذه النظرية، وانطباقها على الواقع، من غير أن نأتي على ذكر مختلف الحقائق، التي استجمعتها في خلال بحوثي في هذا الباب استطرادًا، تلك الحقائق التي لم أرَ وجهًا لذكرها في مجال هذا البحث، ومعتقدي أن هذه السُّنة ثابتة الأركان، كثيرة الانطباق على حالات عديدة نلحظها في النظم العضوية، ولطالما حذرتُ أسباب الخطأ، وتنكبت سبيلها، وآمل ألا أكون قد أفسحت لبعضها مجال التغلغل في طيات بحثي. ولا يغيب عن أذهاننا أن هذه السُّنة يخضع لها كل عضو من أعضاء الكائنات الحية، مهما بلغ درجة غير مألوفة من النماء، ومهما قلَّت منفعته للأحياء، ومهما كان نماؤه في نوع ما، أو عدة أنواع كبيرًا، لدى قياسه بذات العضو في أنواع أخرى، تمتُّ إليه بحبل النسب القريب، فإن جناح الخفاش تركيب من التراكيب غير القياسية في طبقات ذوات الثدي، ولا جرم، أن هذه السُّنة لا تصدق على الخفافيش؛ لأن فصائل الخفَّاشيات برمتها ذوات أجنحة تعدها للتحليق، وإنما تصدق، لو كان لبعض أنواعها أجنحة قد خرجت بكبرها عن القياس العام، مقيسة ببقية الأنواع التابعة لجنس معين، ولقد تصدق هذه السُّنة على «الصفات الجنسية الثانوية» صدقًا تامًّا، لو ذاعت تلك الأوصاف في صور ما إلى حد غير عادي.
وهذا الاصطلاح — اصطلاح «الصفات الثانوية» — الذي صرفه «هنتر» على هذه الحالات، يختص بالصفات التي تكون لأحد الزوجين — الذكر والأنثى — وليس لها اتصال مباشر بالتناسل، وهذه السُّنة كثيرة الانطباق على حالات الذكور والإناث معًا، ولكنها أكثر حدوثًا في الذكور منها في الإناث؛ ذلك لأن الإناث قلما يكون لها من «الصفات الجنسية الثانوية» شيء ذو شأن، وقد نرُّد انطباق ذلك الناموس على حالات «الصفات الجنسية الثانوية» إلى كثرة ما تقبل هذه الصفات من ضروب التحول، سواء أكان ذيوعها في الصورة العضوية كثيرًا أم قليلًا، وتلك حقيقة قلما تخالجنا فيها الريب، على أن المئات في الحيوانات السلكية الأرجل (السلكيات)، طالما تحدو بنا إلى الاعتقاد، بأن هذه مقصورة التأثير على الصفات الثانوية.
كذلك الحال في الطيور، فإن أفراد النوع الواحد إذ تقطن الإقليم نفسه يكون تحولها ضئيلًا، كما لاحظت ذلك بصفة خاصة، وإن هذه القاعدة لَتَصدق على هذه الطائفة من الحيوان، وما كنت لأعتقد بتأثيرها في النبات، مع أن عدم صدقها على حالات النبات قد يزعزع اعتقادي في صحتها، لولا أن قابلية النباتات لقبول مختلف حالات التحول، جعلت مقارنة درجات تغايرها المتشابكة، بعضها مقيس ببعضه، من أكبر الصعاب.
فإذا رأينا جزءًا أو عضوًا من نوع ما، قد بلغ من النماء حدًّا بعيدًا، وثقنا بأنه من الأجزاء ذوات الشأن في حياة هذا النوع، ورغم ذلك نجد أن هذه الأعضاء في حالاتها تلك شديدة الخضوع لآثار التحول، فما السبب في ذلك؟ لا جرم، أننا إذا اعتقدنا بأن كل نوع من الأنواع قد خُلق مستقلًّا بذاته بين فترات الزمان، كامل الأعضاء والأوصاف، لما وصلنا إلى معرفة سبب ذلك بحال ما.
أما إذا تابعنا البحث، مقتنعين بأن عشائر الأنواع ليست إلا سلسلة مشتقة حلقاتها من أنواع أخرى، وأن ما طرأ على أوصافها من التحول لم يحدث إلا باستجماع التحولات العرضية بتأثير الانتخاب الطبيعي، فالغالب أن تنقشع عن أبصارنا بعض الريَب التي تغشاها، وإليك بعض الأمثال.
فإننا لو فرضنا أن الانتخاب الطبيعي قد أنكر التحول على جزء من أجزاء حيواناتنا الأهلية، فإن هذا الجزء، أو ذلك النسل الذي تطرأ عليه هذه الحال، قد يصبح غير ذي صفات متجانسة، ويرجح لدينا حين ذاك، أن النسل آخذ في سبيل التدهور والانحطاط، كذلك الحال في الأعضاء الأثرية، والأعضاء التي لم تختص بأداء وظيفة من الوظائف المعينة، إلا قليلًا، بل في العشائر ذوات الصور الواحدة، أو الموحدة الصورة، قد نلحظ مثالًا آخر لا يقل عما سبق شأنًا؛ ذلك لأن الانتخاب الطبيعي لم يتسع له مجال العمل، ولم يبلغ من التأثير مبلغه النهائي، فظل النظام على حال من التخلخل والتقلب نشاهدها جلية الآثار، على أن ما تدور من حوله نقطة البحث في موضوعنا هذا، أن تلك الأجزاء التي نلحظها في حيواناتنا الأهلية ممعنة في التحول والاختلاف من طريق الانتخاب، تكون كذلك شديدة الخضوع لقبول التحول الوصفي حال إمعانها في هذا السبيل، انظر إلى أفراد نسل معين من أنسال الحمام، ترَ مقدار التحول الكبير في مناسر القلب ومناسر الزاجل وعساليجه، وفي أقدام الهزاز وذيله، إلى غير ذلك. تلك من مواضع التحول التي لاحظها مربو الحمام في بلادنا في هذه الأنسال. ولقد أمعنت النظر في هذه السبيل، حتى إنه ليصعب في القلب القصير الوجه، وهو نسل تابع للأول، أن ينتج طيورًا حائزة لأجمل الأوصاف الأصلية لهذا النسل، كما أن أغلب صوره المعروفة تباين صفاتها الطابع الأصلي الذي كان معروفًا به.
والظاهر أن هناك تنازعًا مستمرًّا، قائمًا بين الجنوح إلى الرجعى إلى حال من التحول ليست بذات كمال ثابت في صور العضويات، مشفوعًا بالنزعة إلى قبول التحولات الطارئة من جهة، وبين تأثير الانتخاب الهادئ في سبيل الاحتفاظ بطابع الأنسال الأصلي من جهة أخرى، ومهما يكن لهذا التنازع من الأثر، فالانتخاب الطبيعي لا محالة بالغ على مدى الأزمان النتائج النهائية، التي تؤدي إليها نواميسه العديدة.
ولا جرم، أننا لا نتوقع أن نحقق إخفاقًا تامًّا في استحداث طير، بلغ من الخشونة مبلغ الحمام القلب، من طائر قصير الوجه يشبهه، وما دام الانتخاب الطبيعي جادًّا في استحداث آثاره، فلا بد من أن نتوقع حدوث كثير من النزعة إلى قبول مختلف حالات التباين في الأجزاء الممعنة في تحول الصفات.
ولنرجع إلى الطبيعة، فإننا إذ نرى جزءًا من التراكيب الطبيعية الخاصة بنوع من الأنواع، قد أمعن في النماء حتى بلغ منه مبلغًا أخرجه عن القياس العام، إذا وزنا مقدار نمائه في هذا النوع بمقدار نمائه في نوع آخر من الجنس عينه، لا نشك في أن هذا الجزء لا بد أن يكون قد خضع لتحول وصفي كبير منذ ذلك الزمان، الذي انشعبت فيه أنواع ذلك الجنس من منشئها الأصلي، والنادر أن يرجع هذا الزمان إلى عهد موغل في القدم منذ الأعصر الأولى؛ لأن الأنواع قلما تبقى حافظة لصفاتها الأصلية زمانًا أطول من عصر جيولوجي بذاته، وتحول الصفات غير القياسي، لا بد من أن تنتجه قابلية تحول كبيرة، استُحدثت على مر دهور متطاولة، استجمع آثارها الانتخاب الطبيعي لفائدة النوع الذي تقع له. غير أننا إذ نرى أن قابلية التحول في الأجزاء أو الأعضاء، التي تخرج بنمائها عن القياس كبيرة، أو نجد أنها استمرت مؤثرة في العضويات زمانًا غير قليل، فيغلب أن يرجح لدينا، أن قابلية التحول في هذه الأجزاء لا بد من أن تمعن في سبيل التأثير فيه لأكثر من تأثيرها في أجزاء النظام، التي ظلت على حال نسبية من الثبات أزمانًا أطول مما استغرقته الأولى ممعنة في التحول، تلك هي سُنة التحول في معتقدي.
فإن التنازع الذي يقوم بين مؤثرات الانتخاب من جهة، وبين سُنن الرجعى وقابلية التحول من جهة أخرى، لا محالة آتٍ إلى نهاية معلومة يقف عندها، ولا شك عندي في أن أبعد الأعضاء إمعانًا في الخروج بنمائها عن القياس العام، يرجح أن تصبح ثابتة في صفات الأنواع ثبوتًا نسبيًّا، ومن هنا يتعين أن عضوًا من الأعضاء مهما كان خروجه عن الجادة العامة كبيرًا، فلا بد من أن ينتقل إلى كثير من الأنسال المهذبة الصفات على مر الدهور، كما هي الحال في جناح الخفاش، فيثبت في صفات العضويات عصورًا طويلة على حال واحدة، وعندما يصبح تحوله، أو قابليته للتحول ذا نسبة قياسية لما لبقية التراكيب، فلا يفوتها إمعانًا في هذه السبيل، وفي هذه الحالات دون سواها، تلك هي حالات خروج التهذيب الوصفي بالنماء عن القياس، وحدوثه في أزمان نعدها قريبة العهد بالقياس على الأعصر الجيولوجية الأولى، نجد أن «قابلية التحول التكويني» لا تزال جلية الآثار في صفات العضويات، ذلك إلى أنه في هذه الحالات وأمثالها، قلما تكون قد بلغت حدًّا ثابتًا من التباين والانحراف بتأثير الانتخاب في الاحتفاظ بالأفراد الممعنة في سبيل التحول على النمط المفيد لها في الحياة، وإفناء الأفراد التي تنزع إلى الرُّجعَى، إلى حالات من التحول، أقل كفاءة لما يحوطها في الطبيعة.
(٨) الصفات النوعية أكثر تحولًا من الصفات الجنسية
الصفات النوعية، والصفات الجنسية، موضوع كبير الصلة بسُنن التحول، والرأي السائد أن الصفات النوعية أكثر تحولًا من الصفات الجنسية، ولنورد مثالًا نعبر به عما نقصد إليه من البحث، فإننا إذ نجد في جنس كبير من النباتات أن بعض أنواعه زُرق الأزهار، والبعض الآخر تكون أزهاره حمراء، نُلحِق تحول اللون في الشطرين بالصفات النوعية، ولا جرم أن تحول الأزهار الزُّرق، إلى حُمرٍ أو بالعكس، لا يصح أن يكون سببًا لحيرة الباحثين، ولكن إذا كانت الأنواع كلها زُرقَ الأزهار، فاللون إذ ذاك يصح أن يعتبر من الصفات الجنسية الخاصة، ويكون تحول الأزهار حدثًا غير عادي. وما كان اختياري هذا المثال إلا لضرورة ألجأتني إليه؛ لأن الأمثال التي يضعها أكثر الطبيعيين لتلك الظاهرة، لا تصدق هنا، صدقًا تامًّا، فهم يقولون: إن السبب في أن تحول الصفات النوعية أكثر وقوعًا من تحول من الصفات الجنسية، مقصور على أن ما يضعه الباحثون حدًّا للصفات الجنسية، مأخوذ من أجزاء من التراكيب العضوية أقل شأنًا مما يجب أن يُعزى في الحقيقة لصفات الأجناس، وهذا، إذا لم يصح من كل ناحية، فهو — فيما أرى — صحيح على بعض الاعتبارات، ولسوف أعود إلى الكلام في هذا المقصد، فيما سأكتبه في تصنيف العضويات. ولست أرى من حاجة تدعو إلى الاستفاضة في شرح كثير من الأمثال؛ لأؤيد نظرية أن الصفات النوعية أكثر تغايرًا من الصفات الجنسية، غير أن للصفات الثابتة ذات الأثر الأول في حياة العضويات لشأنًا غير هذا الشأن، ولطالما لاحظت في كتب التاريخ الطبيعي، أن كثيرًا من المؤلفين قد تأخذهم الروعة إذ يجدون أن عضوًا، أو تركيبًا في النظام العضوي يشاهدونه ثابت الأثر في طبائع مجموع كبير من الأنواع، قد أمعن في سبيل التحول في الأنواع المتقاربة الأنساب، وأن هذا العضو أو ذلك التركيب، قد يغلب أن يكون متحولًا في أفراد النوع الواحد.
تلك حقيقة، تبين لنا أن صفة من الصفات معتبرة من الصفات الجنسية على إطلاق القول، إذا ارتدت في أدوار التطور إلى رتبة الصفات النوعية، فيغلب أن تصبح متحولة، قابلة للمباينة والتشكل، وإن احتفظت بمركزها الأصلي من ناحية ما تؤديه من الوظائف العامة في حياة الأنواع، وقد يقع شيء من ذلك التحول لشواذ الخلق، فإن «جفروي سانتيلير» لا يداخله كبير شك في أنه كلما كان اختلاف عضو من الأعضاء في أنواع متفرقة من العشيرة نفسها قياسيًّا، رأيناه في الأفراد أكثر تعرضًا للانحراف والشذوذ.
فإذا مضينا في البحث، مقتنعين بصحة الاعتقاد السائد بأن كل نوع من الأنواع قد خُلق مستقلًّا عن غيره، لما استطعنا أن نفقه لمَ يكون هذا الجزء من التركيب العام أو ذاك — على مغايرته لذات الجزء في الأنواع الأخرى المستقلة التابعة لجنس معين — أكثر قبولًا للتغاير والانحراف من الأجزاء المتقاربة التكوين في أنواع متعددة؟ أما إذا تابعنا البحث، على اعتقاد أن الأنواع ليست سوى ضروب، ذوات صفات أثبت من صفات غيرها من صور العضويات، فهنالك نجد أن تلك الأجزاء لا تزال آخذة في تحول تراكيبها المستحدثة في خلال أعصر قريبة العهد، مقيسة بالأعصر الجيولوجية الأولى، فتدرجت من هذه السبيل إلى الإمعان في قبول التحول.
ولنمضِ في شرح هذا المثال على شكل آخر، يزيدنا بتلك الحالات علمًا، فإن الأجزاء التركيبية التي تتشابه في أنواع الجنس الواحد، ونعتبرها موضع المباينة بين هذه الأنواع، وبين الأجناس المتقاربة الأنساب، ندعوها «الصفات الجنسية» عادة، والراجح أن هذه الصفات تتوارثها الأعقاب، منتقلة إليها من أصل أوَّلي لها؛ لأنه يندر أن يحول الانتخاب الطبيعي من صفات أنواع عديدة معينة، تتباين عاداتها بدرجة ضئيلة أو كبيرة، على نمط واحد.
وتلك الصفات التي ندعوها «الصفات الجنسية»، إذ يغلب أن تكون قد ورثت خلال عصر أبعد عهدًا من الزمان الذي انشعبت فيه الأنواع العديدة من أصلها الأول، وإذ نجد أن التحول لم ينل منها بأثر، أو لم تتهيأ لها أسباب التحول من بعد ذلك، أو بنزر يسير من التحول على الأكثر، رجح عندنا القول، بأنها لا تقبل التحول في الزمان الحاضر. هذا في الصفات الجنسية، وأما الصفات النوعية، فتلك الأجزاء التي تتباين في أنواع تُلحَق بجنس بعينه، ولما كانت هذه الصفات قد ظلت متحولة متباينة منذ انشعبت تلك الأنواع من أصلها الأول، فيغلب علينا الاعتقاد ترجيحًا، بأنها قابلة لأن تمضي متحولة إلى حدٍّ ما، وقد يكون تحولها على الأقل، أبين أثرًا من تحول تلك الأجزاء التركيبية، التي بقيت ثابتة على حالة واحدة، فترات متطاولة من الزمان.
(٩) الصفات الجنسية (التناسلية) الثانوية تقبل التحول
وأخيرًا، فإن التحولات النوعية التي تفرِّق بين نوع ونوع، وخضوعها الكبير لقبول مختلف حالات التباين أكثر من خضوع التحولات الجنسية التي تفرِّق بين جنس وجنس، أو التي تكون شائعة في أنواع الجنس الواحد — وكثرة ما يُرى من حالات الخروج بالنماء عن القياس العام في أي عضو من الأعضاء، التي تزيد نماء في أي نوع من الأنواع بصفة غير عادية، مقيسة بنظائرها في أنواع أجناس أخرى — ثم ضآلة مختلف التحولات، التي تطرأ على جزء من الأجزاء، التي تبلغ بنمائها حدًّا كبيرًا؛ إذ تذيع في جموع الأنواع المختلفة — مضافًا إلى ذلك إمعان الصفات الثانوية في قبول التحول، واختلاف هذه الصفات في أنواع تتقارب أنسابها — مقرونًا بما تقدم من القول، في أن الصفات الجنسية والتحولات النوعية لا تذيع إلا في أجزاء واحدة من النظام العضوي — جماع هذه الحالات تتلازم صلاتها جد التلازم.
- أولًا: أن الأنواع التابعة لعشيرة معينة من العشائر إذا كانت متسلسلة من أصل أوَّلي مفروض، فلا بد من أن ترث عنه كثيرًا من الصفات الشائعة فيه.
- ثانيًا: أن الأجزاء التي طرأ عليها التحول منذ أزمان حديثة، بالقياس إلى الأزمان الجيولوجية الأولى، تكون أكثرها قبولًا لضروب التحول من غيرها من الأجزاء التي ورثت منذ أزمان موغلة في القدم، ولم يطرأ عليها تحوُّل ما.
- ثالثًا: أن الانتخاب الطبيعي وتأثيره على مر القرون الأولى قد نجح نجاحًا تامًّا في حالات، ونسبيًّا في حالات أخرى، في الإجهاز على النزعة إلى الرجعى إلى صفات الأصول الموغلة في القدم، والسيطرة على ما يطرأ على العضويات من التحول في المستقبل.
- رابعًا: أن الانتخاب الجنسي كان أقل قوة في إفناء الصور المستضعفة من الانتخاب الطبيعي.
- خامسًا: أن التحولات التي تطرأ على الأجزاء الواحدة، قد استجمعها الانتخاب الطبيعي، والانتخاب الجنسي، وبذلك تمت كفايتها للقيام بوظائف بذاتها، سواء أكانت عامة، أم خاصة بصفاتها الجنسية الثانوية.
(١٠) التحولات المتجانسة تكون في الأنواع المتحدة، حتى إن ضربًا تابعًا لنوع بذاته، فيه صفة خاصة بنوع آخر متصل بالنوع الذي يتبعه، قد يرتد إلى صفات أصوله الأولى
أما الحمام، فلا أدلَّ على خضوعه لهذا الناموس، من ظهور صفات عديدة متناظرة في تولداته، كأفراد أردوازية اللون إلى زرقة يقطع جناحيها حبيكتان سوداوان وبياض الظهر، وخط ذو لون ما يقطع مؤخر الذيل، وبياض أطراف الريش الخارجي، تلك نتائج يسوقنا إليها، ويزيدنا إيمانًا بها، ما رأيناه من أن هذه العلاقات الخاصة بألوان الحمام، قد تظهر جلية في أمثال نسلين معينين مختلفي اللون لدى تهاجنهما. وفي هذه الحال لا نتبين أثرًا للحالات الخارجية المحيطة بالأنسال في معاودة إنتاج أنسال أردوازية اللون، إلى زرقة تمتاز بعدة علامات أخرى، أجلى من أثر التهاجن وتأثيراته في سُنن التحول.
ولا ريبة، في أن الصفات إذ تعاود ظهورها على هذا النمط، بعد أن تكون الأنسال قد فقدتها منذ أجيال لا تقل عن مائة غالبًا، لحقيقة تأخذ بالألباب، غير أنه عند حدوث التهاجن بين نوعين، أحدهما لم يتهجن من قبل إلا مرة واحدة مع نسل الآخر، فصفات أنساله عادة ترجع إلى صفات النسل الغريب الذي تهاجن وإياه، ويبقى نزوعه إلى صفاته ثابتًا اثني عشر جيلًا على قول البعض، وعشرين جيلًا على قول الآخرين، وأنه بعد مضي هذه الأجيال الاثني عشر، لا يبقى في الأنسال من دم أحد أبويها الأولين إلا بنسبة ١ إلى ٢٠٤٨، ورغم كل ذلك فإن الطبيعيين عامة على اعتقاد أن هذه البقية الباقية من الدم الأصيل في الأنسال تدفعها إلى النزوع إلى الرُّجعى إلى صفات آبائها الأولين. أما نسل مفروض لم يتهجن مطلقًا، وفقد أبواه كلاهما صفة كانت لأصلهما الأول، الذي منه اشتُق، فالراجح أن نزعته إلى الرجعى لهذه الصفة، سواء أكانت كبيرة أم ضئيلة، تبقى كامنة في طبيعته عددًا من الأجيال، وما ساقنا إلى المضي في القول هنا على صيغة الترجيح، إلا أن كثيرًا من المشاهدات تناقض هذا الزعم.
فإذا عادت صفة من الصفات فقدها نسلٌ ما، إلى الظهور بعد أجيال متطاولة، فأكثر ما يكون تعليلها معقولًا إذا رُدت، إلى أن هذه الصفة قد بقيت كامنة في تضاعيف الفطرة العضوية، ثم أظهرتها في ثوبها الأخير، حالات موافقة لظهورها لم نتبين من ماهياتها شيئًا، وبقدر ما يكون من انطباق هذا التعليل على الواقع، تكون منزلة القول بإنكار النزعة الكامنة في فطرة الأنسال من البعد عن الحقيقة، فالحمام المغربي مثلًا، نسل قلما ينتج فردًا أزرق اللون، ولكن مما لا ريب فيه، أن نزعة كامنة في كل جيل من أجياله تدفعه إلى إنتاج اللون الأزرق، وما الريب الذي يداخلنا في ثبات هذه النزعة، وتناقلها في الأنسال خلال أجيال عديدة، بأكثر مما يخامرنا في انتقال الأعضاء المعدومة المنفعة أو الأعضاء الأثرية من جيل إلى جيل، بالرغم من أن النزوع إلى ظهور الأعضاء الأثرية، قد يورث بعض الأحيان، خضوعًا لهذه السُّنة.
ولما كانت كل الأنواع التابعة لجنس معين قد تدرجت في التسلسل من أصل أولي واحد، فالغالب أن نتوقع أن يكون تحولها نظيريًّا في شاكلته، حتى إن ضروب نوعين أو أكثر من الأنواع، لا بد من أن تشابه بعضها بعضًا، أو أن ضربًا تابعًا لنوع بعينه، قد يشابه في بعض صفاته، دون بعض، نوعًا آخر مستقلًّا عنه تمام الاستقلال، وما هذا النوع المستقل في نظرنا إلا ضربًا، صفاته أقل تحولًا وأكثر ثباتًا من صفات غيره، غير أن الصفات التي ترجع نشأتها العامة إلى التحول النظيري، غالبًا ما تكون طبيعتها غير ذات شأن للعضويات؛ لأن الصفات ذوات الوظائف الرئيسة في حياة العضويات لا بد من أن يُحدَّد وجودها بالانتخاب الطبيعي دون غيره، بحيث يجعلها ملائمة للعادات المختلفة للنوع، وقد نتوقع أن أنواع جنس واحد قد يبلغ فيها النزوع إلى الرجعى لصفات فقدتها منذ أجيال عديدة خلت، وإذ كنا لا نعلم بالضبط الأصل الأولي الذي اشتُق منه أي صنف من صنوف العضويات، تعذر علينا التفريق بين الصفات المكتسبة بالتغاير النظري، والصفات المستمدة من الرجعى.
فإذا كنا لا نعرف مثلًا أن لحمام الصخور ريشًا في قدميه، أو هالة ريشية في رأسه، لتعذر علينا أن نحكم على هذه الصفات حال ظهورها في أنسالنا الداجنة، أهي من نتائج التحول النظيري أم الرجعي؟ وغالبًا ما كنا نعزو ظهور اللون الأزرق إلى حالة من حالات الرجعى، قياسًا على ما نراه فيها من الندوب الزرق الأخرى، تلك الندوب التي لا نستطيع أن نرد ظهورها لمجرد التحول الأولي، ناهيك باتخاذ هذه الندوب، إذ يزيد ظهورها لدى التهاجن، دليلًا على أن سببها الرجعي. وعلى كل حال، فإنه إن كان من الواجب، لدى البحث في العضويات في حالتها الطبيعية الصرفة، أن نترك تلك الحالة وشأنها من الشك، من غير أن نقطع في أيها يئول إلى سُنن الرجعى إلى الصفات الأولى، وأيها يُرد إلى التحول النظيري، فإن مذهبي على كلتا الحالتين، يقتضي أن نجد بين آن وآن أنسالًا قد كسبت صفات، نرها ذائعة في جمٍّ غفير من الفصيلة ذاتها، وذلك مما لا سبيل إلى الارتياب فيه بحال، على أن الصعوبة في التفريق بين الأنواع المتحولة، غالبًا ما ترجع إلى ما يقع من المشابهة بين الضروب والأنواع التابعة لجنس معين، ومن الهين أن أذكر كثيرًا من الصور تربط بين صورتين أخريين، يصعب أن نضعهما في رتبة الأنواع، وفي ذلك من الدلالة على أن هذه الصور العديدة قد كسبت خلال أدوار التحول التي قطعتها، من صفات الصور الأخرى بمؤثر من المؤثرات، ما ينفي القول بخلق هذه الصور المترابطة الأنساب مستقلة منذ بدء الخليقة.
ومما يزيدنا إيمانًا بصحة هذه السُّنة — سُنة التحولات النظيرية وخضوع العضويات لها — ما نراه في بعض أجزاء النظام أو بعض الأعضاء التي يُخيل إليك أنها ثابتة في أوصافها منذ أزمان غابرة، من النزعة إلى المضي في التحول، حتى تشابه، إلى حدٍّ ما، ذات الأجزاء أو الأعضاء في أنواع أخرى، مرتبطة بها في النسب، ولديَّ من المشاهدات التي تثبت هذه الحالات ما يملأ المجلدات الضخام، ولكني مسوق إلى التزام جانب الإيجاز، لما أن الإفاضة في شرح هذه المشاهدات يملأ فراغًا كبيرًا، غير أني أكرر القول، إن هذه الحالات وأمثالها، كثيرة الحدوث في الطبيعة الحية، وأنها من أكبر المباحث الطبيعية شأنًا، وأبعدها خطرًا.
أما الخيل فقد استجمعت حالات لما يحدث فيها من هذه الظاهرات، شاهدتها في أخص الأنسال المستولدة في إنكلترا على اختلاف ألوانها، فثبت لدي أن الخطوط المتقاطعة قد تحدث في بعض الأنسال الشهباء اللون، الصافية منها والقاتمة، وشاهدتها في نسل آخر كستنائي اللون مرة واحدة، ورأيت في النسل الأول خطوطًا كتفية غير جلية الظهور، وفي نسل آخر من الخيل الضاربة إلى الحمرة، آثارًا تدل على نزعة إليها. ولقد بحث أحد أبنائي حصانًا بلجيكيًّا من خيول العربات، ينزع إلى نسل بريطاني أشهب، وصوَّره صورة دقيقة، فكان له خط طولي على كل من كتفيه، وخطوط في قوائمه، ورأيت بنفسي حصانًا من خيل مقاطعة «ديفون»، وحصانًا آخر من خيل «وايلس»، كلاهما من الخيل الصغيرة الأحجام، في كل منهما ثلاثة خطوط واضحة الظهور على كلا الكتفين.
ولا ريبة عندي، في أن «الكولونيل هاملتون سميث» قد مضى في بحث هذا الموضوع، على اعتقاد أن أنسال الخيل المختلفة قد تسلسلت من عدة أنواع أولية، النوع الأشهب منها كان مخططًا، وأن هذه الظاهرات التي لاحظناها ترجع برمتها إلى تهاجن بقية الأنواع مع النوع الأشهب، ولكن هذا الرأي من الهين نقضه، فمما لا سبيل إلى إثباته أن تكون خيل العجلات البلجيكية، وخيل وايلس، وأحصنة «نرويج» ونوع القِطْوار في بلاد الهند، على اختلاف أحجامها وأوصافها، وعلى بعد مآهلها وتشتتها في بقاع مختلفة من الأرض، قد تم تهاجنها جميعًا في غابر الأزمان، بأصل أولي واحد لم تَعْدُه.
ولنرجع بعد إذ قطعنا ما قطعناه من البحث، إلى الكلام في تهاجن أنسال الخيل المختلفة، فلقد أيقن «رولين» أن البغال المولدة من مهاجنة الحمير بالخيل، تكون عادة ذات نزعة إلى ظهور خطوط متقاطعة في قوائمها، ولاحظ «مستر جوش» في بقاع خاصة من الولايات المتحدة بأمريكا أن تسعة أعشار البغال مخططة القوائم، ورأيت بغلًا قوائمه مخططة، بحيث لا يتسرب إليك شك، عند مجرد النظر إليه، في أنه من هجن حمير الزرد، حادث بالتوليد، وفقًا لما ذكره «مستر و. س. مارتن» في مقاله على الخيل، عن فرد البغال فيه هذه الظاهرة. وشاهدت في أربع صور متقنة لهجن حادثة بالتوليد من الحمير العادية وحمار الزَّرد، فلاحظت أن الخطوط أكثر ظهورًا وأجلى في قوائمها، منها في بقية أجزاء البدن، وكان في أحدها خطان على كلا الكتفين، لم يكونا للثلاثة الآخرين. ولقد أحدث «لورد مورتون» بغلًا بالتوليد من فرس كستنائية وذكر «الكَواجة» فكان مخططًا، وكذلك كان نتاج هذه الفرس من بعد استيلادها من حصان عربي أدهم، كامل الأوصاف، صحيح النسب، إذ كانت قوائم نتاجها مخططة بخطوط أظهر فيها من «الكَواجة» الصحيحة، وأحدث «دكتور جراي» هجنًا من الحمار العادي وحمار الوحش التبتي، فكانت قوائمه الأربع مخططة، مقرونة بثلاثة خطوط على كلا الكتفين، كما لخيل مقاطعة «ديفون» و«وايلس» الصغيرة الأحجام، فضلًا عما كان لها من الخطوط على جانبي الوجه مثل ما لحمار الزرد. وهي حالة على ما لها من الشأن في مباحث التاريخ الطبيعي، قد زكاها «دكتور جراي» بحالة أخرى شاهدها لهذه الظاهرة، مما ساقني إلى الاعتقاد، استنادًا على هذه الحقائق وأمثالها، بأن ظهور هذه الخطوط اللونية غير حادثة بالمصادفة كما يعتقد الناس، حتى أدى بي ظهور الخطوط اللونية في جانبي الوجه في الهجين المولد في البغل العادي وحمار الوحش التبتي، لأسأل الكولونيل «بول» عما إذا كان قد شاهد هذه الظاهرة في بلاد الهند، فحقق لي وجودها.
ماذا نستنتج من هذه الحقائق المختلفة؟ نستنتج أن في أنسال الخيل الجَنِيسَة ظاهرات تحدث بمجرد التحول الأولي، كظهور الخطوط اللونية في القوائم كحمار الزرد، وخطوط على الأكتاف كما للحمير العادية، ونلاحظ أن هذه النزعة تزداد في الخيل وضوحًا كلما كانت ألوانها أقرب إلى الشُّهبَة، ذلك اللون الذي يكاد يكون اللون العام لأنواع مختلفة غير الخيل تابعة للجنس عينه، كما أن ظهور هذه الخطوط اللونية، لا يكون مصحوبًا بتحول ما في الصور العامة، أو في بقية الصفات الأخرى، وأن النزعة إلى ظهور هذه الخطوط تكون في الهجن المولدة من نسلين معينين من أنسال هذا الجنس أمعن في التباين فيها من غيرها.
ولنعد بعد إذ أتينا على ذكر هذه الاعتبارات إلى تدبر أنسال الحمام العديدة، وتسلسلها من أصل أولي، ضارب اللون إلى الزرقة، مقرون بخطوط وعلامات أخرى، مع ما يتبعه من الأنواع الإقليمية وهي اثنتان أو ثلاثة — أي لواحق حدثت لذلك الأصل الأول بتأثير المناخ، وغيره من المؤثرات الطبيعية العامة — نرَ إذ ذاك أن أي نسل من أنسال الحمام الداجن، إن نزع لونه إلى الزرقة بتأثير حالة ما من حالات التحول الأولي، فحدوث هذه الخطوط، وتلك العلامات، يكون لزامًا لظهور هذه النزعة فيه، من غير أن يحدث فيه اختلاف في الصورة العامة أو تحول في صفة من الصفات الأخرى. كذلك نرى أن الأنسال الصحيحة الثابتة لدى تهاجنها على اختلاف ألوانها وتضارب أشكالها، تنزع صغارها المولدة إلى اللون الضارب إلى الزرقة، مقرونًا بتلك الخطوط والعلامات، التي نراها في الأصل الأول، وما سبب هذه الظاهرة جماعها — تلك التي نراها في عودة صفات، فقدها النوع منذ أزمان بعيدة — إلا نزعة في صغار الأنسال الناتجة على تعاقب الأجيال إلى الرجعى إلى صفات فقدتها أصولها الأولية منذ أزمان موغلة في القدم، وإن هذه النزعة قد تزكيها في بعض الظروف أسباب طبيعية لا علم لنا بها، يؤيد ذلك ما لاحظناه في أنسال الخيل، من أن ظهور الخطوط اللونية في صغارها أكثر حدوثًا وأجلى وضوحًا، مما يكون في الأفراد البالغة.
فإذا صرفنا على أنسال الحمام الداجن، بعد أن توالد بعضها توالدًا صحيحًا قرونًا عديدة، اسم «الأنواع» انكشف لنا إذ ذاك عن حالة تكافؤ حالة أنسال الخيل، فإذا ما رجعت النظر كرة إلى آلاف عديدة من الأجيال مرت على تاريخ العضويات، وعندما رأيت حيوانًا مخططًا كحمار الزرد، على اختلاف كبير بينهما في التكوين، كما يغلب أن تكون الحال، فذلك الحيوان هو الأصل العام، الذي تسلسلت عنه أنسال الخيل المؤلفة، والحمير، وحمار الوحش التبتي، والكواجة، وحمار الزرد، بصرف النظر عما إذا كان تسلسلها قد حدث في عصورها الأخيرة من أصل واحد، أو أصول وحشية أكثر من ذلك عدًّا.
فإذا اعتقد معتقِد أن هذه الأنواع قد خُلق كل منها مستقلًّا، فلا يسعني إلا أن أعتقد أن كلًّا منها خُلق وفيه نزعة إلى التحول، سواء أكان بتأثير الإيلاف، أم بتأثير الطبيعة الخالصة، حتى يعلل ظهور هذه الخطوط اللونية في بعض الأنواع بمثل ما يراه في الأنواع الأخرى، أو يركن إلى الاعتقاد بأن هذه النزعة لا بد من أن يتضاعف فعلها لدى تهاجن أنواع ما بغيرها، مما يقطن بقاعًا مختلفة من الكرة الأرضية، حتى تحدث هجنًا تشابه في تحول ألوانها وتخططها، أنواعًا أخرى غيرها من الجنس عينه، مغايرة بذلك لصفات آبائها. وما هذا الزعم إلا تبديل غير ثابت بثابت، أو على الأقل غير معروف بمعروف، فهم يشوِّهون صِبغة الله وخلقه، وما قول الكونيين القدماء، الذين نظروا في خلق العالم، بأن صور الأصداف الأحفورية في بعض الصخور لم تُخلق إلا عبثًا، ابتغاء تشبيه باطن الأرض بأحياء البحار، بأبعد من قول القائلين بالخلق المستقل في الزمان الحاضر منزلة في السقوط والاتضاع.
الخلاصة
إن جهلَنا بسنن التحول كبيرٌ، ولا نستطيع أن نعيِّن في حالة من مائة، السببَ الصحيح في تحول هذا العضو أو ذاك. أما إذا تهيأت لدينا أسباب الموازنة بعض الحالات ببعض، وضح لنا أن سننًا طبيعية ثابتة، قد أثَّرت في استحداث تحولات، نراها ضعيفة الأثر في ضروب النوع الواحد، وتحولات نراها أكبر شأنًا في أنواع كل جنس معين، واختلاف الحالات قد يُحدث نتائج من قابلية التحول متقبلة، غير معينة المشاكلة، ولكنها تنتج بعض الحالات تأثيرات محدودة مباشرة، قد تصبح ذات أثر واضح على مر الأزمان، ذلك بالرغم من أننا لا نستبين أسبابها في غالب الحالات، كما أن تأثيرات العادة في استحداث خِصِّيات تكوينية، وتأثيرات الاستعمال في تنمية بعض الأعضاء، والإغفال في إضعاف البعض الأخرى، والإقلال من شأنه، جماعها حالات تحقق لدينا تأثيراتها الثابتة في طبائع العضويات، والأعضاء المتجانسة تجنح إلى التحول على نمط واحد، والأجزاء المتجانسة كذلك تنزع إلى الاندماج والتضام، والتغاير الوصفي في الأجزاء الصلبة، والشكل الظاهر، قد يغير من صفات الأجزاء الرخوة، والتركيب الباطن، وإذا أمعن جزء من الأجزاء في النماء، فالراجح أن ينزع إلى الاستيلاء على أغلب مواد الغذاء، يستمدها من بقية الأجزاء المتصلة به، وأن كل جزء من أجزاء التركيب العضوي، إن تيسرت نجاته من أسباب التلف والفناء، فلا بد من أن يُقدَّر له البقاء، والتحول التركيبي الذي يطرأ على العضويات في أزمان أولى قد يؤثر في صفات جائز أن تطرأ عليها خلال العصور المتلاحقة، ذلك على ما نشاهده من حالات تبادل التحولات وحدوثها في الأحياء، تلك الحالات التي لا نستبين من أسبابها شيئًا، كذلك الأجزاء التي يتضاعف عددها في الفرد الواحد، قد يلحقها التحول في العدد والتركيب. وأغلب ما يعود ذلك التحول إلى أن هذه الأعضاء لم تختص بأداء وظيفة معينة، فأوقف الانتخاب الطبيعي حدوث أي تحول وصفي فيها، ناهيك بما يتبع ذلك من أن العضويات المتضعة في النظام العضوي، تكون أكثر تحولًا، وأقل ثباتًا من العضويات الممعنة في الارتقاء في رتب النظام؛ إذ يكون تكوينها العضوي قد بلغ حدًّا من الاختصاص للقيام بوظائف معينة، بحيث يجعل حدوث التحول الكبير فيها غير ذي فائدة مباشرة لها، والأعضاء الأثرية إذ هي غير مفيدة لصور الأحياء، لا يكون للانتخاب الطبيعي بها من شأن؛ ولذا نراها كثيرة التحول والتقلب، ليس لها من ضابط خاص، «والصفات النوعية»: تلك الصفات التي أخذت في التحول منذ انشعبت أنواع كل جنس من أصله الأول، أكثر تحوُّلًا من «الصفات الجنسية» ونعني بها الصفات التي توارثتها الأجناس منذ أزمان بعيدة، ولم تتحول على مدى تلك الأزمان التي مضت هذه الصفات موروثة في خلالها.
ولقد عرفنا من قبل، أن أجزاء خاصة من أعضاء العضويات، إذ لا تزال قابلة للتحول، نراها تحولت منذ أعصر قريبة، فحدث فيها كثير من الانحراف.
وأثبتنا في الفصل الثاني، أن هذه السُّنَّة عامة تخضع لها كل أجزاء الأفراد وأعضائها، واستدللنا على ذلك بأنَّه حينما توجد أنواع عديدة لجنس صحيح في إقليم ما، فهنالك تحدث ضروب كثيرة تابعة لهذه الأنواع، وما ذلك الإقليم الذي نعنيه إلا البقاع التي حدث لأحيائها كبير التحول والتباين خلال عصور غابرة، أو تلك الأقطار التي كانت أكثر البقاع إحداثًا لصور نوعية جديدة، والصفات الجنسية الثانوية تقبل التحول، وإن هذه الصفات وأمثالها أكثر ما تكون تحولًا في أنواع تتبع مجموعًا بعينه، وقابلية التحول في أجزاء واحدة من النظام العضوي، كانت عاملًا من أشد العوامل تأثيرًا في إحداث الصفات الجنسية الثانوية في كلا الزوجين — الذكر والأنثى — وكذلك في إحداث التحولات النوعية في أنواع الجنس الواحد. كذلك كان نماء كل جزء من أجزاء العظام أو عضو منه، نماء خارجًا عن الجادة العامة لدى قياسه بذات الجزء أو العضو في أنواع تقاربه نسبًا، سببًا يجعلنا نعتقد بمضي هذه الأعضاء في درجات من التحول، مختلفة المقدار منذ برز جنسه في عالم الوجود، ونفقه كيف أن هذه التراكيب لا تزال قابلة للتحول لأكثر من تحول بقية الأعضاء؛ ذلك لأن التحول له نظام خاص، ولا تتم نتائجه إلا ببطء على مر أزمان طويلة متعاقبة، كما أن الانتخاب الطبيعي خلال تلك الأجيال، يكون قد تغلب على ما في طبيعة العضويات من النزعة إلى الإمعان في قبول التحول والرُّجعى إلى صفات أصولها الأولى، التي تكون أحط مما لها. فإذا حدث أن نوعًا من الأنواع خرج بنماء عضو من أعضائه عن الجادة والقياس، قد أصبح أصلًا أوليًّا لسلسلة صور عديدة، نالها شيء من التهذيب والتحول الوصفي درجة بعد درجة، خلال أجيال طويلة متلاحقة، فلا بد من أن يكون الانتخاب الطبيعي قد أعطى لكل من هذه الصور صفة خاصة بها، ثابتة في تكوين ذلك العضو الذي ورثته عن أصلها الأول، أدى بهذا العضو إلى الإمعان في النماء، نماء خارجًا عن مألوف العادة، والأنواع التي ترث على وجه التقريب خِصِّيات تكوينية عن أصلها، الذي انشعبت منه، ظلت متأثرة بمؤثرات بيئية واحدة، تُساق بالطبيعة إلى اكتساب «تغايرات نظيرية» تظهر فيها، أو تجنح في ظروف دون أخرى إلى الرجعى لبعض صفات أصلها الأول، الذي يكون قد انقرض منذ أزمان موغلة في القدم، والتحولات الحديثة ذوات الشأن، التي تظهر في الرجعى أو التحول النظيري، فإن صفات العضويات — إن لم تُعدُّ في صفاتها إلى هذه التحولات وأمثالها — إنما تزيد إلى جمال الطبيعة، وتنسِّق مواضع عديدة من أوصافها المشاكلة.
ومهما تكن الأسباب التي تسوق الأنسال إلى التباين والانحراف عن صفات آبائها، تلك الأسباب التي نوقن بوجودها، ولا ندرك لها كنهًا، فإن ما لدينا من الاعتبارات الصحيحة، لينزع بنا إلى الاعتقاد بأن فعل الاستجماع، استجماع التغايرات المفيدة للعضويات شيئًا فشيئًا خلال أجيال، كان السبب الأكبر في استحداث أكثر الصفات التركيبية نفعًا، وأبعدها للعضويات خطرًا، من طريق اتصالها بعادات كل نوع من الأنواع في الحياة.
tardus: Latrin = slow, sluggish, Tardy. Smith’s Lat. Gng. Eiet 1107.