مشكلات النظرية
***
لا يكاد القارئ يبلغ هذا الموطن من البحث، حتى تكون قد قابلته مشكلات عديدة، ولا جرم، أن بعضًا من تلك المشكلات في الغاية القصوى من الشأن، حتى إني ما فكرت فيها إلا وداخلني شك، غير أن العديد الأوفر من تلك المشكلات ظاهري، لا مناقضة فيه لحقيقة مذهبي، والبقية الباقية، على فرض صحتها، لا تقوض دعائم المذهب، ولا تنفيه جملة، على ما أرى.
ولنعدد هنا تلك المشكلات؛ لنتخذها للبحث أساسًا:
- أولًا: إذا كانت الأنواع قد تدرجت، متسلسلة عن أنواع غيرها، متحولة في خطى من النشوء، فلمَ لا نرى في شُعب النظام العضوي تلك الصور الانتقالية الوسطى، التي تربط بين بعضها وبعض؟ ولماذا لا نرى الطبيعة في تهوش وتخالط، يقتضيهما تسلسل الصور، بل نرى الأنواع صحيحة متميزة، لا خلل في نظامها ولا التباس؟
- ثانيًا: هل من المستطاع أن حيوانًا له تركيب الخفاش وعادته مثلًا، قد يُستحدث بالتهذيب، وتحول الصفات من حيوان آخر، مختلف عنه اختلافًا بعيدًا في العادات والتركيب العضوي؟ وهل تقوى على الاعتقاد، بأن الانتخاب الطبيعي في مستطاعه أن ينتج من جهة عضوًا في الغاية الأخيرة من اتضاع المكانة، كذَنَب الزرافة الذي تستخدمه لدفع الهوام عنها؟ وأن يُحدث من جهة أخرى عضوًا غريب التركيب، دقيق التكون، متعدد المنافع، كالعين مثلًا؟
- ثالثًا: هل من المستطاع كسب الغرائز وتهذيبها بالانتخاب الطبيعي؟ وماذا نقول في تلك الغريزة العجيبة، التي تسوق النحلة إلى بناء خلياتها على صورة من الإتقان، بزت بالسبق إليها مستكشفات عظماء الرياضيين، وأهل الرأي منهم خاصة؟
- رابعًا: بم نعلل عقر الأنواع لدى تهاجنها، وإنتاجها أنسالًا عواقر لا تلد، بينما يزيد التهاجن من صبوة الضروب، ويضاعف من قوة الإنتاج فيها؟
وسأقصر البحث هنا على الاعتراضين الأولين، كما أني سأقصر الفصل السابع على بعض المعْترضات العامة، وسأفرد الفصلين الثامن والتاسع: أولهما للغريزة، وثانيهما التهجيين.
(١) فقدان الضروب الانتقالية الوسطى، أو ندرتها
الانتخاب الطبيعي مسوق — كما أسلفنا — إلى الاحتفاظ بأرقى التحولات المهذبة الحادثة خلال الأجيال، تلك سُنة تسوق الصور المستجدة في الطبيعة، إذ تحدث في بقاع شُحنت بصور الأحياء العضوية إلى احتلال مراكز أصولها الأولى، أو مراكز الصور الأخرى، التي تكون أحط مها منزلة في مراتب النظام العضوي، ثم استئصالها البتة، إذ تمضي تلك الصور المستجدة، متفوقة على غيرها في التناحر على البقاء؛ لذلك كان الانتخاب الطبيعي والانقراض، نِضوَيْ تأثير في طبائع العضويات، فإذا تدبرنا بعد ذلك أي نوع من الأنواع، على اعتقاد أنه الحلقة الأخيرة من سلسلة تطورات وقعت على صورة غير معروفة لدينا، كان لا مندوحة لنا من التسليم، بأن ذلك الأصل الأول الذي عنه نشأ النوع، مصحوبًا بالصور الوسطى، التي اشتُقت منه، وكانت تربط الأصل بفرعه الأخير، قد انقرض جماعها بتأثير سُنة الانتخاب الطبيعية ذاتها، تلك السُّنة التي تحدث بفضلها الصور، وتبلغ درجة الكمال التكويني.
تقضي هذه الحقيقة بأن صورًا انتقالية وسطى تربط بين كثير من العضويات، التي نلحظها في الطبيعة، لا بد من أن تكون قد عمرت الأرض في خلال الأزمان الأولى، فإذا كان الانقراض قد مضى بتلك الصور، فلم لا نجد هياكلها العديدة مطمورة في الطبقات، التي تؤلف سطح الكرة الأرضية؟
وكان الأجدر بنا أن نرجئ بحث هذه المسألة إلى ما سوف نكتبه في نقائص السجل الجيولوجي، لولا أن دفع هذا الاعتراض ينحصر في ضرورة الاعتقاد بأن السجل الجيولوجي، الذي يؤيد صحة مذهب النشوء، على حال من الاضطراب والنقص، قلَّ أن تسبق إلى حدس الباحثين، فطبقات الأرض، على أنها دار عاديات طبيعية، بعيد عن الوهم أن يصور فرط عظمها، فإن الصور المحفوظة فيها ناقصة مهوشة، ولم تطمر فيها إلا في خلال فترات متباعدة من الزمان.
يقول بعض المعترضين: إن مذهب النشوء، لا محالة قاضٍ، بأنه حيثما يوجد كثير من الأنواع المتقاربة الأنساب في بقعة محدودة من البقاع، فلا بد من أن نجد فيها، في الزمان الحاضر، كثيرًا من الصور الوسطى، التي تربط بينها، ولنأتِ بمثال ندفع به هذا القول.
إذا سافرنا في مقاطعة، متجهين من الشمال إلى الجنوب، فالغالب أن نقع في طريقنا على كثير من الأنواع المتقاربة الأنساب، وهي الأنواع الرئيسة السائدة، التي تمثل أخص صفات الجنس التابعة له، وقد نراها في غالب الأمر مالئة أطراف النظام الطبيعي في البقعة التي تقطنها، وكثيرًا ما نلحظ بعضها في خلال رحلتنا، وكلما أخذ شيء من هذه الأنواع في التناقص والاضمحلال، مضى غيره في الانتشار والذيوع، حتى يحتل الواحد مركز غيره في الوجود، فإذا وازنا بين هذه البقاع التي تختلط فيها صورها وتمتزج، رأينا في كل منها صفات وتراكيب تفرق بين بعضها وبعض، ولا تقل عما نجده من التباين والاختلاف بين أخص الصور، التي تقطن المآهل الأصلية، التي نشأت فيها الأنواع، ومذهب النشوء إذ يقضي بأن هذه الأنواع المترابطة الأنساب لم تحدث إلا بالاشتقاق من صورة أصلية واحدة، وأن كلًّا منها قد أصبح خلال درجات التحول والنماء التهذيبي، التي مضى ممعنًا فيها، ذا كفاءة تامة لحالات الحياة التي تحوطه في موطنه الذي تأصل فيه، وأن كلًّا منها قد ساد على أصله الأول بالتفوق عليه في التناحر على البقاء، حتى أفناه من الوجود، كما أفنى كل الضروب الوسطى، التي تربط بين صور الزمان الغابر وصور الزمان الحاضر؛ لذلك لا نتوقع أن نجد في نظام الطبيعة صورًا عديدة من الضروب الوسطى في كل بقعة من البقاع قائمة بذاتها، وإن كان لا محيص لنا من الاعتقاد، بأنها لا بد من أن تكون قد وُجدت في عصر ما من العصور الأولى، وأنها طُمرت في باطن الأرض، ولكن، لمَ لا نرى في البقاع التي تقع فيما بين مآهل نوعين من الأنواع، تلك البقاع التي تختص غالبًا بحالات حياة تتوسط بين حالات الحياة الخاصة بمآهل الأنواع الأصلية، كثيرًا من الضروب الوسطى المرتبطة الأنساب؟ ذلك إشكال كبير، استعصى بحثه زمانًا طويلًا، غير أنه في مستطاعي الآن أن أكشف عما عَمِي عليَّ فيه، لدى أولَ عهدي بالتأمل منه.
يجب أن نعي بداءة ذي بدء، أن مساحات الأرض الكبيرة، التي نراها في الزمان الحاضر كتلة واحدة، متماسكة الأطراف، متواصلة النواحي، لا يمكن أن تكون قد ظلت على ما هي عليه من الوحدة أزمانًا موغلة في القدم؛ فإن علم طبقات الأرض يسوقنا قسرًّا إلى الاعتقاد بأن أكثر القارات العظمى، التي تؤلِّف أرضنا الحاضرة، قد انقسمت جزائر عديدة خلال تكوُّن طبقات العصر الثالث، وأن أنواعًا معينة لا بد من أن تكون قد استُحدثت في كل من تلك الجزائر مستقلة بذاتها، من غير أن تظهر في البقاع التي تقع بين مآهل الأنواع المستحدثة، ضروب وسطى تربط بينها، والمساحات البحرية التي نراها في الزمان الحاضر دائمة الاتصال، لا يتيسر أن تكون قد ظلت على تواصلها وتجانس أطرافها، مدى الأزمان الأولى، ذلك لما يحدثه تغير شكل الأرض، واختلاف المناخات من الآثار الجُلَّى.
فإذا تأملنا من استيطان الأنواع، التي تأهل بها مناطق متسعة مترامية الأطراف، وجدنا أن عدد أفرادها يبلغ الغاية القصوى من الانتشار والذيوع في بقعة من البقاع، ثم يتناقص عددها شيئًا فشيئًا، حتى تفقد آثارها بتة؛ لذلك نرى أن «الأقاليم المحايدة» التي يتوسط موقعها بين المآهل الأصلية لنوعين من الأنواع الرئيسة صغيرة، إذا قسناها بالمساحات التي يكثر ذيوع هذين النوعين الرئيسين فيها.
غير أننا إذا وعينا أن أغلب الأنواع لا بد من أن تمضي ممعنة في الزيادة العددية، حتى في أخص البقاع الأصلية التي نشأت فيها، ولو لم يكن هنالك ما يدعو إلى هذه الزيادة من الأسباب، كالحاجة إلى التفوق على غيرها من المنافسين مثلًا، وأن أفراد الأنواع كلها أو جلها إما أن تذهب فريسة غيرها، أو هي بذاتها تفترس غيرها من أفراد الأنواع الناشئة في الطبيعة حِفافيها، مضافًا إلى ذلك أن كل كائن عضوي، على إجمال القول، لا بد من أن يكون ذا صلة مباشرة أو غير مباشرة بغيره من العضويات في أدق الحالات، وعلى أخص الاعتبارات، فهنالك نوقن بأن استيطان آهلات أية بقعة من البقاع وتوزعها عليها، رهن بتقدير الحالات الطبيعية المحيطة بها، وبالأخص على وجود الأنواع التي تتخذها بالافتراس طعامًا، أو التي تذهب هي فريسة لها، أو الأنواع التي يعرض لها التنافس وإياها بحال ما، ولما كان الواقع أن كل نوع من هذه الأنواع يميز التركيب محدود الصفات، غير مختلط بغيره في حلقات من النشوء غير محسوسة، أصبح انتشار كل منها محدودًا تمام التحديد، لتوقفه على مقدار انتشار غيره، وفقًا لما يقع في الطبيعة، وفضلًا عن ذلك، فإن كل نوع بعينه يكون في حدود البقاع، التي ينتهي عندها ذيوعه وانتشاره، حيث تقل أفراده، ويتناقص عددها، أكثر خضوعًا لمؤثرات الانقراض، بمقتضى ما يكون في تلك الحال من تكاثر عدد أعدائه التي تفترسه، أو تناقص عدد فرائسه التي يتخذها طعامًا، أو تأثير المناخات المتغايرة خلال الفصول الدورية، وهنالك يصبح استيطان كل نوع وتوزعه على بقاع الأرض، أكثر تقييدًا، وأبعد تحديدًا.
ولا فرق في الحقيقة بين الأنواع والضروب، إلا في الاعتبار؛ لذلك كان ما يصدق على أحدهما من النواميس يصدق على الآخر، فإننا إذ نرى أن الأنواع المتقاربة الأنساب، أو الأنواع الرئيسة التي تقطن مساحات من الأرض المتماسكة الأطراف، تكثر أفرادها، ويذيع انتشارها في بقاع متسعة، يفصل بين بعضها وبعض بقاع صغيرة «محايدة»، وإذ نرى أن عدد الأفراد التابعة للأنواع الرئيسة يأخذ في التناقض كلما أوغلنا في تلك البقاع، التي تفصل بين مآهلها الأصلية، فإنا لا محالة نوقن بأن هذه السُّنة تصدق على الضروب صدقها على الأنواع، متابعة لما قدمناه من الاعتبارات.
إن كل الصور التي يقل عدد أفرادها، تكون كما قدمنا، أكثر خضوعًا لمؤثرات الانقراض، على العكس من الصور التي يكثر عدد أفرادها، وفي مثل هذه الحالة، تصبح الصورة الوسطى، التي يقع مأهلها بين مأهلي الصورتين الغالبتين، معرضة لغارات شعواء، تشهرها عليها الصور المتقاربة الأنساب، التي تعيش حِفافيها. تلك قضية على ما لها من الخطر والشأن، يفضلها عندي اعتبار ذو بال، ينحصر في أن ضربين مفروض وجودهما في خلال الفترة، التي تحدث فيها التحولات الوصفية، التي يجب أن تطرأ عليهما؛ ليبلغا من الكمال مبلغًا يسلم بهما إلى طبقة الأنواع، يكونان أكبر حظًّا من الغلبة والتفوق على الضرب الذي يربط بينهما، ذلك لاتساع المساحة التي يقطن بهما الضربان، وصغر المساحة التي يشغلها الضرب الأوسط، وكثرة عدد أفراد الأولين، وقلة عدد أفراد الثالث، وهو الذي يشغل المنطقة التي تتوسط بين مأهليهما؛ لأن الصور التي يكثر عدد أفرادها، لا بد من أن تكون في خلال أي زمن مفروض من الأزمان، أكثر إنتاجًا لوجوه من التحول، تساعد الانتخاب الطبيعي على إبراز نتائج مؤثراته فيها، على العكس مما تكون الصور النادرة الوجود، التي يقل عدد أفرادها المكونة لمجموعها. من هنا تُساق الصور الذائعة المنتشرة إلى الغلبة والتسوُّد، على الصور المستضعفة في التزاحم على البقاء، في خلال درجات تطورها البطيئة، التي تغيِّر من صفاتها، وتحسِّن من كفايتها.
ولقد بحثنا من قبل هذه القضية في الفصل الثاني، وأثبتنا من ناحيتها أن الأنواع ذوات الغلبة في كل بقعة من البقاع يكون لها من الضروب المعينة ذوات الصفات الصحيحة الثابتة، عدد زائد عما يكون لبقية الضروب والصور النادرة الوجود، القليلة الانتشار، ولنأتِ بمثال يوضح ما نعنيه من فرض ثلاثة ضروب من الغنم، يقطن أولها أرضًا جبلية، متسعة المساحة، مترامية الأطراف، ويعيش ثانيها في قطعة من الأرض ضيقة المساحة، تكسوها تلال، ويأهل ثالثها بمروج خصبة، متسعة، محاذية لمنحدرات التلال، التي يقطن بها الضرب الثاني، ومن ثَم نفرض أن هذه الضروب قد مضت ممعنة في تهذيب صفاتها بخطوات متكافئة، كان الانتخاب الطبيعي أكبر مؤثر في إبرازها، إذ ذاك تعضد الظروف البيئية المحيطة بها أحد ضربين منها، فإما الذي يقطن بتلك البقعة الجبلية المتسعة، وإما ذاك الذي يأهل به المرج الخصيب، المترامي الأطراف، فتهذِّب من صفات أنساله دون غيره تهذيبًا، يتسود به على أنسال الضرب، الذي يقطن البقعة الضيقة التي تتوسط بين مأهلي الضربين الكبيرين، وحينذاك تحتل أنسال الضربين اللذين فرضنا بقاءهما في الجبل والسهل، لإمعانهما في تهذيب الصفات، مركزَ الضرب الثاني الذي فرضنا وجوده في التلال المتوسطة بين الجبل والسهل، وبذلك تختلط أنسال الضربين الكبيرين، وتكون ضربًا واحدًا، مع أنهما لم يكونا من قبل سوى ضربين عظيمي الشأن، صحيحي الصفات، من غير أن يبقى للضرب الصغير، الذي كان يتوسط مأهله بين مأهليهما الأصليين، أثرٌ ما.
- أولًا: أن الضروب الجديدة بطيئة التغير؛ ذلك لأن سُنة التحول لا تظهر نتائجها إلا في خلال درجات من التحول بطيئة جهد البطء، والانتخاب الطبيعي لا يبدأ تأثيره في طبائع العضويات إلا بعد ظهور تحولات فردية، أو تباينات عامة مفيدة للأفراد، أو بعد أن تخلو في النظام الطبيعي الخاص ببقعة من البقاع مراكز يمكن أن تكون أكثر تكافؤًا، إذا سد فراغها تحول وصفي يطرأ على بعض ما تأهل به تلك البقعة من الأحياء، وتلك المراكز التي تخلو في نسق النظام الخاص بكل بقعة من بقاع الأرض، يرجع سببه إلى تغاير المناخات المختلفة تغايرًا بطيئًا على مر الأزمان، أو إلى هجرة بعض الكائنات المستجدة من بقعة إلى أخرى، أو إلى مضي بعض الصور المقصورة في البقاء على بقاع ما، في سبيل التحول الوصفي والتهذيب البطيء وتأثير بعض الصور في بعض، خلال تلك الخطى التي تمضي فيها الصور القديمة، أو الصور المستحدثة، ممعنة في التحول؛ ولهذا وحده يستعصي علينا أن نقع، إذا ما قلبنا الطرف في كل إقليم بعينه، أو إذا مضينا، باحثين في صور زمان مفروض من الأزمان، إلا على بضعة أنواع قليلة، نالها نزر من التحول الوصفي الثابت في تراكيبها ثبوتًا ما، وذلك ما قد ثبتت صحته.
- ثانيًا: أن المساحات المتسعة المترامية الأطراف، التي نراها في الزمان الحاضر كتلة واحدة، يغلب أن يكون قد مر بها زمان، لا يبعد عن زماننا هذا كثيرًا، كانت فيه قطعًا متفرقة بعضها بمنأى عن بعض، وأن الحالات الطبيعية التي أحاطت بها، قد ساعدت على استحداث صور عديدة، خُصت الآن بصفات معينة، وهي التي ندعوها بالأنواع الرئيسة، وأن هذه الحالات قد بلغت من التأثير في الأنواع المزاوجة، والأنواع الآفاقية الجوابة، مبلغًا لم تبلغ إليه في بقية الأنواع، وأن الضروب الوسطى التي تربط بين كل من الأنواع الرئيسة، وبين أصلها الأول الذي نشأت عنه، لا بد من أن تكون قد وُجدت في عصر من العصور الفارطة، وحلَّت في البقاع الغفل، التي كانت تفصل بين مآهل الأنواع الأصلية، ولكنها انقرضت بما أثر فيها الانتخاب الطبيعي والتناحر على البقاء من تسوُّد غيرها من الأنواع عليها، فلا نجدها الآن ممثلة بين الكائنات الحية.
- ثالثًا: إذا نشأ ضربان أو أكثر في بقعتين مختلفتين من إقليم بعينه متصل الأطراف، فالغالب، ألا تحدث الضروب الوسطى، التي تربط بين هذين الضربين إلا في المناطق، التي تتوسط بين البقعتين، اللتين يقطنهما الضربان الأولان، وأن سُنن التحول ذاتها تجعل بقاء الضروب الوسطى قصير المدى، وهذه الضروب الوسطى، خضوعًا للسُّنن التي أدلينا بها من قبل، كاستيطان الصور المتقاربة الأنساب، أو استيطان الأنواع الرئيسة أو الضروب المعينة الصحيحة، لا تكون إلا قليلة العدد مقيسة بالضروب التي تصل بينها، ولا تحل بغير المناطق الوسطى التي تقع بين مآهلها، ذلك على الرغم من أن الصور ذوات الضخامة، إذ تكون كثيرة عدد الأفراد، تنتج في مجموعها ضروبًا أكثر مما تنتج الصور الوسطى، فتصبح أكثر تهذيبًا، بما يحدثه فيها الانتخاب الطبيعي من تحول مفيد لها، فتمعن في الغلبة والتسود على غيرها من الصور المستضعفة، حتى تسلم بها إلى الانقراض التام.
وأخيرًا إذا نظرنا في التاريخ العضوي للأرض، ولم نقصر النظر على عصر معين، فلا بد من أن نجد، متابعة لظاهر مذهبي — إن ثبت صحته — ضروبًا وسطى لا عداد لها تربط بين أنواع كل مجموع بعينه، ولكن الانتخاب الطبيعي إذ يُساق، كما بيَّنا من قبل إلى إفناء كل الصور الأولى، التي اشتُقت منها أنواعنا الحالية، بل أنواع كل عصر معين من العصور مع ما يتبعها من الحلقات الوسطى، فلذلك لا نجد ما يثبت سابق وجود تلك الحلقات، إلا بين بقايا العضويات التي نعثر عليها مستحجرة في باطن الأرض، تلك البقايا التي لا نجدها إلا على حال من النقص والفساد، بُعيد أن تسبق إلى حَدْس الباحثين، كما سنبينه في فصل آتٍ.
(٢) في أصل تحول العضويات، وعلاقة ذلك بالعادات الخاصة والتركيب
كثيرًا ما تساءل منكرو مذهب النشوء: كيف أن حيوانًا بَريًّا من الحيوانات المفترسة قد يتحول حيوانًا بحريًّا مفترسًا؟! وكيف يتيسر لهذا الحيوان أن يحتفظ ببقائه في خلال هذا الانقلاب النشوئي الكبير؟!
ولو أنهم تركوا هذا السؤال إلى سؤال آخر، كما لو تساءلوا: كيف أن حيوانًا ذا أربع مما يأكل الحشرات، قد تدرج في النشوء، حتى صار خفاشًا طائرًا، لصح إذن، أن يكون دفعنا لاعتراضهم أكثر صعوبة، وأبعد عن متناول البحث، ولو أني مقتنع تمام الاقتناع بأن هذه المعترضات وأمثالها لا وزن لها، اللهم إلا إذا أُخذت على ظاهرها.
وفي هذه الحال، كما في غيرها من الحالات، أجدني محوطًا بكثير من المصاعب والمشكلات، حيث لم أعثر في مجمل ما جمعت من المشاهدات والأسانيد الشتى، إلا على مثال أو مثالين، منهما استطعت أن أثبت التدرج الانقلابي، واقعًا في العادات والتراكيب الخاصة بالأنواع المتقاربة الأنساب، المتدانية اللحمة، وكذلك الحال في العادات المتنافرة المتباينة في النوع الواحد، سواء أكانت هذه العادات ثابتة في طبيعة النوع، أم طارئة متحولة، ذلك بالرغم من أني مقتنع بأن ذكر كثير من المشاهدات والأسانيد، خير وسيلة نتخطى بها تلك الصعاب، التي تعترض بحوثنا في بعض الحالات الخاصة، تلك الحالات التي مثلنا لها بحالة الخفاش، التي مر ذكرها.
وإني لعلى يقين من أن تركيب كل نوع من أنواع السنجاب قائم بذاته، يكون ذا فائدة له، طالما اعتبرت الفائدة بحسب نفعها للنوع في مآهله الأصلية، كأن يجد بها في الهرب من الحيوانات والطيور المفترسة، أو يسارع بها إلى التقاط غذائه، أو يتقي بها مهلكات الطوارئ الطبيعية، التي تحوط به في الحياة، كما يعتقد الكثيرون، وكما هو معتقدي. ولكن ذلك لا يدل على أن تركيب كل نوع من السنجاب في حالته الحاضرة، هو أكمل تركيب عضوي يمكن أن يحصل عليه كل نوع، تحت تأثير مختلف الظروف التي تحف به، فإن في أقل تغير يطرأ على المناخ، أو على طبيعة النباتات، التي تأهل بها البقعة التي يقطن بها السنجاب، أو مهاجرة بعض أنواع من الحيوانات القواضم، أو غيرها من الحيوانات المفترسة، أو تهذيب صفات بعض الأنواع الأصلية، التي توجد في تلك المواطن، لأسبابًا يسوقنا جماعها متابعة لما تعيَّن لدينا من النواميس، إلى الاعتقاد بأن بعض ضروب السنجاب لا بد من أن تمضي، ممعنة في التناقص العددي، أو يذهب بها الانقراض بتة، ما لم تتحول طبائعها، وتتهذب صفاتها التركيبية والتكوينية، تهذيبًا يعادل ما يطرأ على الآخرين كمًّا وكيفًا، ومن أجل ذلك، لا أرى صعوبة تحول دون القول بأن تأثير حالات الحياة المتحولة في الاحتفاظ بالأفراد، التي ينمو جلدها الجانبي نماءً كبيرًا، وتكرار ذلك خلال الأجيال، يسوق إلى استحداث سنجاب طائر، مستكمل كل الصفات اللازمة له، بشرط أن يكون كل تحول منها ذا فائدة للأفراد، وبشرط أن ينتقل كل منها بالوراثة إلى الأعقاب الناشئة، مشفوعًا ذلك بتأثير الانتخاب الطبيعي في استجماع هذه التحولات، ثم تثبيتها في طبائع الأحياء.
فإذا رأينا في حيوان من الحيوانات المركبة تركيبًا عضويًّا ذا كفاية تامة لحالة من الحالات، التي يحتاج إليها ذلك الحيوان، مثل جناح الطير الذي يؤهل به إلى التحليق، لزمنا أن نعي دائمًا أن الحيوانات التي وقع لها في العصور الخالية شيء من التطور الانقلابي في تراكيبها، قلما تعمر إلى هذا الزمان الذي نعيش فيه، بل غالبًا ما تنقرض متأثرة بما يتغلب عليها من أعقابها، التي تهذبت صفاتها تدرجًا على مر الأزمان، وقارب بها الانتخاب الطبيعي منزلة ما من الكمال، وفضلًا عن هذا فإن حالات النشوء الانقلابي التي حدثت في التراكيب العضوية الشتى، وكانت موافقة لكثير من العادات المختلفة التي اتصفت بها العضويات في الحياة، قلما تهذبت متكاثرة، خلال عصر من العصور الأولى في كثير من الصور التابعة للمراتب العليا في النظام العضوي، فإذا ألقينا بعد ذلك نظرة في الفرض التمثيلي، الذي سقت القول فيه على «الأسماك الطائرة»، وضح لنا أنه مما يبعد عن بديهة العقل، أن تكون أسماك ذوات قدرة تامة على الطيران قد استطاعت أن تبرز إلى عالم الوجود بتأثير النشوء الانقلابي، متشكلة في كثير من الصور التابعة للطبقات العليا من الأسماك، قبل أن تكون قد هيأت لها الظروف معداتٍ الغلبة على أنواع كثيرة غيرها، تتخذها بالافتراس طعامًا بطرق مختلفة، سواء أكانت في الماء أم على اليابسة، أو قبل أن تبلغ أعضاء الطيران فيها مبلغًا كبيرًا من التهذيب والارتقاء، حتى تتم لها السيادة على كثير من الحيوانات الأخرى في التناحر على البقاء. ومن هنا نُساق إلى الاعتقاد بأن استكشاف أنواع أحفورية، حائزة لكثير من صفات النشوء الانقلابي، أمر نادر وفقًا لقلة عددها، وندرة وجودها في الطبيعة الحية، على العكس من حالة الأنواع إذ تبلغ من التهذيب التركيبي والارتقاء مبلغًا كبيرًا.
وإذ تدلنا المشاهدات أحيانًا على أن أفرادًا ما قد تتبع عادات مخالفة للعادات القياسية، التي تكون لنوعها، بل مخالفة لعادات الأنواع التابعة للجنس نفسه، فلا جرم، نتوقع في مثل هذه الحالات أن تلك الأفراد سوف تنتج في بعض الظروف أنواعًا جديدة، ذوات عادات متجانسة، وتراكيب تختلف عن تراكيب أصولها التي نشأت عنها، اختلافًا ضئيلًا أو كبيرًا، بمقتضى ما يكون من تأثير الظروف التي تحيط بها، وتكون سببًا في نشوئها. وفي مستطاعنا أن نقتطع من المشاهدات الطبيعية ما يثبت ذلك، وهل في الحالات الطبيعية كلها حالة تثبت التكافؤ الخلقي للظروف المحيطة بالعضويات أبلغ مما نشاهده في «ثقاب الخشب»، وكفاءته التامة على تسلق جذوع الأشجار، والتقاطه الحشرات وهي تحت لحاء الشجر؟ ومع كل هذا، فإن في شمالي أمريكا ضروبًا من ثقاب الخشب تتخذ من الفاكهة غذاء، وهنالك صنوف غيرها طويلة الجناح تقتنص الحشرات، مستعينة بأجنحتها.
(٣) الأعضاء التي بلغت حد الكمال
إذا ادعى أحد الباحثين بأن العين، على ما فيها من الخصائص والتراكيب الغربية، ونظام بُؤْرتها في كشف المسافات البعيدة، وتحديد الأبعاد، وإدخال كميات مختلفة من الضوء، وتصحيح الانحراف الدائري واللوني، يمكن استحداثها بتأثير الانتخاب الطبيعي، لظهر قوله بداءة ذي بدء، منافيًا لبديهة العقل.
لقد اهتزت أوتار العقل البشري من صميمها، إذ أُعلن لأول مرة في تاريخ الدنيا أن الشمس ثابتة، وأن الأرض هي التي تدور من حولها، ولم يسلم الناس بهذه الحقيقة الواقعة، ولكن المثل القديم القائل: «بأن كل ذائع، لا بد من أن يكون صحيحًا»، لا يمكن الأخذ به في مباحث العلوم، كما اتفق كل الفلاسفة.
يقول العقل: إذا كان من المستطاع أن نتتبع درجات كثيرة من التحول في تركيب العين، وأمكننا أن نثبت هذا التحول في العين منذ كانت على غرارتها الأولى، حتى بلغت كمال تركيبها وتعقيدها، وأن هذا التحول واقع بالفعل، وأن تركيب العين خاضع للتحول، وأن تحوله موروث، كما هو الواقع المشاهد، وأن هذا التحول لا بد من أن يكون عند وقوعه ذا فائدة لأي حيوان حال تأثره بمختلف ظروف الطبيعة التي تحيط به، فإن الصعاب التي تقف حائلًا، دون القول بأن العين الكاملة التركيب التامة النظام، قد تكونت بفضل الانتخاب الطبيعي وتأثيره، لا يمكن أن تظل من المستعصيات الغامضة على نظرية النشوء والتطور، وإن كان تصورنا لا يُسلِّم بها لأول وهلة.
أما بحث الكيفية، التي يصبح بها تركيبٌ عصبيٌّ ما، ذا قدرة على كشف الضوء، فأمر لا نُعنى به إلا بقدر ما نُعنى بالبحث في تأصل الحياة ذاتها فوق الأرض، ولكنا مع هذا، لا يجب أن ننسى أن بعض العضويات الدنيا، التي لا نستطيع أن نستبين في تكوينها لدى البحث أي تركيب عصبي، قد تكون قادرة على كشف الضوء، ومن هنا لا يستعصي أن تتجمع فيها بعض عناصر الحساسية وتنمو، حتى تصبح مراكز عصبية فيها من قوة الحس ما تقتدر به على كشف الضوء.
إذا بحثنا مدارج النشوء، التي طرأت على أي عضو من أعضاء نوع ما، حتى بلغ أقصى حد مستطاع من الكمال النسبي، فلا مندوحة لنا من أن نُرجع البصر كرة إلى سلسلة نسبه وصفات آبائه الأقربين، ولكن هذا الأمر مستعصٍ علينا، إلا في النادر القليل، والنادر لا حكم له؛ ولذا ترانا مرغمين على أن نبحث أنواعًا أو أجناسًا غيره، من المجموعة نفسها، أو بمعنى أوسع، إلى بحث أنداده النابتين بالنشوء وإياه من أصل أولي واحد، حتى لا يفوتنا أن نعرف أي مدرج من مدارج التطور قد لحق بصفاته، وأيها استعصى عليه، أو أيها قد لحقه التحول لدى انتقاله من الأصل إلى الفرع، وأيها لم يَنْتَبْه تحول ما؛ ذلك لأن الحال التي يكون عليها عضو من الأعضاء في مرتبة بعينها، قد يزودنا بشيء من مهيئات البحث متى تمكنَّا من استكشاف خطى النشوء، التي تنقَّل فيها، حتى بلغ درجة نسبية من الكمال.
إن أدنى تركيب عضوي يمكن أن يُطلق عليه بحق اسم «العين»، يتكون من تركيب عصبي كاشف للضوء، تحوط به خلايا ملونة، ويحجبه غشاء شفاف، ولكن هذا التركيب، لا يحتوي على عدسة، أو أي جهاز يكسر أشعة الضوء، فإذا ما رجعنا إلى البحث في عضويات أكثر انحطاطًا وأدنى مرتبة، مما يكون له مثل هذا التركيب، كما يقول «مسيو جوردان»، فعثر على ركام من الخلايا الملونة، تلوح للباحث على ظاهرها، كأنها أعضاء للإبصار، مستقرة على أنسجة (بروتوبلازمية) من غير أن فيها نستبين أي تركيب عصبي.
فإذا تدبرنا هذه الحقائق، التي أوجزنا القول فيها وماشيناها، حتى نبلغ بها تلك التراكيب المتغايرة المتخالطة في خطى التدرج، التي نلحظها في تكوين العين في الحيوانات الدنيا من النظام العضوي، ووعينا أن عدد الصور التي تعمر الأرض الآن ضئيل، لدى قياسه بعدد الصور التي عمرت الأرض في سالف الأزمان، ثم انقرضت، فهنالك تُزاح كثير من الصعاب، التي تقوم حائلًا دون الاعتقاد بأن من الجائز أن يكون الانتخاب الطبيعي، بما له التأثير البين في تراكيب الصور الحية، قد هذَّب من تكوين الجهاز العصبي المبصر، المحوط بتلك المادة الملونة، المهيأ بذلك الغشاء المضيء، ومضى به ممعنًا في سبيل التهذيب والارتقاء، حتى أصبح في زمان ما آلة مبصرة، تبلغ من حيث الكمال ودقة التركيب مبلغ أمثالها في أية صورة من صور الحيوانات المفصلية.
أما إذا وصل باحث هذا الحد ولم يقنع به، فليس له أن يقف دونه، بل الواجب عليه أن يتخطى حدوده إلى أبعد منها، يدعوه الواجب العلمي، بعد أن يتم قراءة هذا ويستوعبه، أن يرجع النظر كرة إلى حقائق عديدة، قد تبلغ من التعقيد والبعد عن مألوف النظر مبلغ هذه، فيجد أنه لم يستعصِ علينا أن نكشف عن مغمضاتها وحقائقها، مستنيرين في ظلمات بحوثنا الغامضة بسُنة تحول الصفات بتأثير الانتخاب الطبيعي، وإذ ذاك ينبغي له أن يوقن بأن تركيبًا ما، حتى لو كان في منزلة عين النسر من الكمال وحسن التكوين، قد يمكن أن يُستحدث من طريق تلك السُّنة، وإن تعذر عليه أن يستبين خطى الانقلاب والنشوء التدرجي، التي مضى ذلك التهذيب، ممعنًا فيها طوال الأعصر.
ولقد اعترض بعض الكتَّاب اعتراضًا، مؤداه أن العين إن قُدِّر لها أن ترتقي وتتهذب، بشرط أن تبقى حافظة لمَلَكاتها بوصفها آلة تامة للإبصار، فلا بد من أن ينتابها أشكال من التحول كبيرة، تتناسب وما يطرأ عليها من الارتقاء والتهذيب، زاعمين أن ذلك الأمر لا يمكن حدوثه بتأثير الانتخاب الطبيعي، غير أنني أظهرت فيما كتبت في تحول الحيوانات لدى إيلافها، أن ما يجتمعون وقوعه من حفظ النسبة بين التحول ودَرَجَات الارتقاء والتهذيب الوصفي، غير ضروري، إذا كانت التحولات الوصفية ذاتها قد مضت في سبيل الرقي، متدرجة في خطى ضئيلة غير محسوسة، إلا قليلًا، على أن أوضاع التحول المختلفة، قد يكون اختلافها وتغيرها مفيدًا للغرض الأصلي، الذي وُجدت من أجله، فقد قال «مستر وولاس»: إذا فرضنا أن عدسة ما كان لها بؤرة طويلة أو بؤرة قصيرة، فإن من المستطاع تهذيبها وإصلاحها، إما بتغيير درجة تحدبها، وإما بتغيير ثقلها النوعي، فإذا كان تحدبها غير منتظم، بحيث تكون غير قادرة على جمع الأشعة في نقطة معينة، فإن كل تهذيب في درجة تحدبها يكون لا محالة باعثًا على ارتقاء ما في التركيب ذاته، وكذلك الحال في العين المبصرة، فإن انقباض الحدقة ومقدار حركة العضلات فيها، كلاهما ليس بشرط ضروري للإبصار، بل إن الشرط الأساسي محصور فيما يدخل عليها من التهذيب التركيبي، الذي قد يمكن أن يزيد إلى حسن تكوينها ودرجتها من الكمال، خلال كل الأدوار التي تمر بها تلك الآلة المبصرة حال تكوينها وبنائها.
وليس من الهين أن نتنكَّب مقارنة، نضعها بين العين والمنظار المقرب (المِقْراب أو المِرْصاد)، فإننا نعلم أن هذه الآلة لم تصل إلى ما هي عليه من الكمال، إلا بعد أن أفنى كثير ممن نعتبرهم صفوة العقول البشرية جهوده في سبيل تحسينها، ونحن بالطبع مسوقون إلى القول: بأن العين قد تكونت بطريقة مشابهة لتلك الطريقة، ولكن ألا يكون ذلك القول محض اعتبار تصوري؟ وهل لنا أن نخطر بعقولنا أن الخالق العظيم، يدبِّر الكائنات بقوة عقلية مشابهة لقوة الإنسان؟ أما إذا لم يكن بد مما ليس منه بد، ومضينا في موازنة العين بآلة مبصرة، انبغى لنا أن نؤلف بقوة الوهم صورة طبقات متراكمة من أنسجة مشفة، بين بعضها وبعض مادة سائلة، ومن وراء ذلك جهاز عصبي كاشف للضوء حساس له، ثم نفرض من بعد هذا كله أن كل جزء من أجزاء هذه الطبقات ماضٍ في سبيل التحول، من حيث ثقله النوعي وكثافته، مستمر فيه ببطء عظيم، متجهة تلك الأجزاء نحو التمايز بالانفصال بعضها عن بعض إلى طبقات مستقلة، يختلف ثقلها النوعي، كما تختلف كثافتها، ثم تأخذ أوضاعًا في أبعاد مناسبة، في حين أن سطح هذه الطبقات يكون ممعنًا في سبيل التحول، من حيث الصورة والشكل، ثم نقول: إن من وراء ذلك كله قوة، نمثلها لأنفسنا باصطلاحات نضعها، كالانتخاب الطبيعي، أو بقاء الأصلح، ملاحظة بعين المجاز، كل تحسين، أو تهذيب وصفي يطرأ على تلك الطبقات المشفة، ماضية، حين تأثرت هذه الطبقات بمختلف الظروف التي تحوطها، في الاحتفاظ بكل شكل من أشكال التحول، أيًّا كانت وسيلته، ومهما كانت درجته، متى كان من شأنها الكشف عن الصور بصورة أكثر دقة، ومن ثم نفرض أن كل حالة تتمشى فيها تلك الآلة نحو الكمال، قد تتكرر مليونًا من المرات، تبقى في كل مرة منها محتفظة بكيانها زمانًا، ثم تزول، بعد أن يجد في التراكيب العضوية غيرها أقرب إلى الكمال، فإن التحول في الأجسام الحية، ينتِج ارتقاء ضئيلًا، يتضاعف أثره جيلًا بعد جيل، إلى ما لا نهاية له، في حين أن الانتخاب الطبيعي يكون إذ ذاك مجدًّا دائبًا على الاحتفاظ بكل تهذيب يحدث، بعين لا تأخذها سِنة وهمة، لا يعرفها الكلال، دع تلك القوة تؤثر في هوادتها وسكونها تأثيرها الدائم مليونًا من السنين، متخذة في كل سنة ملايين من أفراد العضويات المختلفة موضعًا تبرز فيه نتائجها، أفلا نعتقد بعد هذا أن آلة مبصرة حية، من المستطاع أن تكون قد استحدثت على مر العصور، بحيث تكون نسبة الفرق بينها وبين العدسة الزجاجية، كنسبة الفرق بين تدبير القوة الخالقة العظيمة، وبين الصناعات البشرية؟
(٤) صور الانقلاب والتحول
إذا استطاع أحد أن يثبت، أن أي عضو من الأعضاء المهذبة التركيب والراقية التكوين، قد أمكن أن يُستحدث من غير أن يكون لتحول الصفات التدرجي، على مدى الأزمان، يد في استحداثه، فإن مذهبي لا محالة ينهار من أساسه، ولكن لحسن الحظ قد أعياني البحث، ولم أعثر على حالة واحدة تثبت ذلك. ومما لا شك فيه، أنه توجد أعضاء كثيرة، نلحظها ذائعة في التراكيب العضوية، من غير أن نستبين خطى التدرج، التي تمشت فيها حتى بلغت حالتها، التي نراها عليها، وتلك ظاهرة نلحظ أنها أكثر ذيوعًا، وأشد وضوحًا في الأنواع المنقطعة في بقاع بعيدة، نائية عن عمارية الطبيعة الحية؛ حيث يحيط بها في عزلتها ومنقطعها، كما يثبت مذهبي، كثير من بقايا الصور، التي فنيت وانقرضت على مر الزمان.
وإليك حالة أخرى، فإننا إذا مضينا في بحث عضو، نراه ذائعًا في صور طائفة بعينها من طوائف العضويات، نعتقد دائمًا أن هذا العضو لم تشترك فيه صور الطائفة كلها، إلا لحدوثه في صور أفرادها أصلًا منذ أزمان غابرة بعيدة، نشأ خلالها كثير من صور الطائفة على تتابع الأحقاب، ومن أجل أن نستكشف خطى التدرج الأولية، التي حدثت خلال الأزمان الأولى، والتي مضى ذلك العضو متقلبًا فيها، ينبغي لنا أن نرجع البصر كرة إلى أسلافه الأولى المنقرضة.
إن المثال الذي اتخذناه من «عوامة» السمك، لمثال ذو شأن خطير، إذ به يمكننا أن نقف على تلك الحقيقة العظمى، حقيقة أن عضوًا ما خُلق؛ ليقوم بوظيفة معينة، هي مساعدة جسم حي على السبح في الماء، قد ينقلب عضوًا آخر تختلف وظيفته عن وظيفة العضو الأول تمام الاختلاف، فيصبح عضوًا للتنفس. ولا يغيبن عنا أن عوامة السمك، قد اعتُبرت عضوًا إضافيًّا، تابعًا لأعضاء السمع في بعض الأسماك، ورغم هذا فإن كل الثقات من المشتغلين بعلم وظائف الأعضاء (الفيزيولوجية)، لعلى اعتقاد تام بأن عضو السبح في الأسماك «العوامة»، يقابل أو يشابه تمام المشابهة في الوضع والتركيب، الرئتين في الفقاريات العليا، ومن هنا لا نجد ثمة من سبب للشك في أن عضو السبح في الأسماك، قد تحوَّل تدرجًا، حتى انقلب رئة تامة الأوصاف، أو عضوًا يقوم بوظيفة التنفس.
ومن الأهمية بمكان أن نذكر، إذا ما أردنا أن نتدبَّر تحول الأعضاء، احتمال تطورها من حيث الوظيفة، التي تقوم بها إلى وظيفة تغاير وظيفتها الأولى تمامًا؛ ولذا أراني مضطرًّا إلى أن أورد مثالًا آخر:
ولا يخفى على أحد من الباحثين، أن قرن الوعل يأخذ في التشعب على مر الأيام، وأن ريش بعض الطيور يستكمل على مر الأيام هيئته وبهاءه، ونماءه. وأثبت الأستاذ «كوب» أن ألسنة أنواع من السحالي تتغير في الشكل جهد التغير، كلما أمعنت في العمر، وفي الحيوانات الصدفية، لا تتغير تغيرًا سطحيًّا لا غير، كما كان الشائع، بل ثبت أن بعض أعضائها قد تُستحدث فيها صفات جديدة صرفة بعد البلوغ، كما أثبت ذلك العلامة «فريتز مولر»، فإذا أمكن في مثل هذه الحالات عامة — تلك الحالات التي نستطيع أن نأتي على ذكر العديد الوافر منها — أن يُؤجل زمان التناسل، فإن صفات النوع الذي نستطيع أن نحصل فيه على هذه النتيجة، تتكيف من حيث حالة البلوغ على الأقل، كما أنه ليس من المستحيل علميًّا أن نقول بأن حالات النشوء التي تتقدم البلوغ، قد يتخطاها النوع مسرعًا في النماء إلى البلوغ، وبذلك تفقد آثارها كلية، وليس في مكنتي أن أرى هل تحولت الأنواع أم في مقدورها أن تتحول من طريق هذا الانقلاب الفجائي، رأيًا مقطوعًا بصحته عندي، ولكن جل ما أستطيع أن أفضي به، هو أن هذا الانقلاب إن وقع في الطبيعة بالفعل، فليس لدينا من الاحتمالات ما يجعلنا نعتقد بأن الفروق بين حالتي الطفولة والبلوغ، وبين البلوغ والشيخوخة، كانت تتم بالتدريج.
(٥) مشكلات خاصة بنظرية الانتخاب الطبيعي
إنا إن كنا ندعو إلى الحذر الشديد، قبل أن نقول إن أي عضو لا يمكن أن يكون قد استُحدث بوسيلة ما غير وسائل التغاير التدرجي المتعاقب في خطى غير محسوسة حدثت على مر الأزمان، فإن هنالك من غير شك حالات في الطبيعة تنتج مشكلات.
إذا نظرنا في الجهاز الكهربي في أسماك «الطوربيد» حال هدوئها وسكونها، ظهر لنا، أن هنالك ما يملأ هذا الجهاز بالقوة الكهربية، بذات الصفة التي نلحظها في العضلات والأعصاب في حالة همودها وراحتها، وأن الانبعاث الكهربي، في أسماك الطوربيد، قد يحتمل أن يكون شكلًا آخر من أشكال الانبعاث، مشابهًا للانبعاث الذي يؤدي بالعضلات والأعصاب المحركة إلى القيام بوظيفة التحرك، على الضد من الرأي السائد في أنها خِصِّية تختص بها هذه العضويات دون غيرها.
وليس في مستطاعنا أن نتابع الشرح والبيان بأقصى من هذا، ولكن ما دام عِلمنا بفائدة الأعضاء ضئيلًا، وما دامت معرفتنا بعادات الأصول الأولية، التي تسلسلت عنها الأسماك الكهربية وتراكيبها معدومة البتة، فإن نفي وقوع قسط من التحول الانقلابي المفيد على صور هذه العضويات، والقول باستحالة ذلك التحول، الذي يرجح غالبًا أن تكون هذه الأعضاء قد تمشت فيه، حتى بلغت تكوينها الحاضر، يكون من الجرأة والبعد عن الحيطة العلمية بحيث نربأ بأنفسنا من أن نُساق إليه.
وقد تظهر هذه الأعضاء لأول وهلة، مشكلة من المشكلات؛ لأنها تُشاهَد في اثني عشر نوعًا من الأسماك، تختلف خصائص أكثرية بعضها عن بعض اختلافًا بينًا، فإننا إذ نجد أن عضوًا بعينه يشترك فيه كثير من صور طائفة واحدة تتباين عاداتها، التي تلزمها في حالات حياتها، نعزو وجوده عادة إلى توارثه عن أصل أولي مشترك، كما أننا نعزو عدم وجوده في البعض الآخر إلى الإغفال أو الانتخاب الطبيعي، وعلى ذلك فإننا إذا نظرنا في الأعضاء الكهربية في الأسماك، مقتنعين بأنها قد وُرثت عن أصل موغل في القدم، فالقياس المنطقي يسوقنا إلى ترجيح أن تكون كل الأسماك المكهربة ذات صلات خاصة تجمع بينها، غير أن ذلك بعيد عن الواقع من حيث العلاقة الطبيعية بين هذه الأسماك، كما أن علم الجيولوجيا لا يزودنا مطلقًا بما يحملنا على الاعتقاد، بأن الغالب من الأسماك كانت في العصور الأولى ذوات خواص كهربية، تقوم بها أعضاء خاصة فيها، ثم فقدتها أعقابها على توالي الأجيال ومر العصور المتطاولة. غير أننا إذا ما دققنا في البحث، وجدنا أن الأعضاء الكهربية في الأسماك التي لها تلك الخِصِّية، مركزة في جهات خاصة من الجسم، وأنها تختلف في التركيب اختلافها في تكوين طبقاتها، وأنها تتباين، كما أبان عن ذلك «باتشيني» في الجهاز الذي يدفعها إلى الانبعاث الكهربي، وفي أنها مجهزة بأعصاب ناشئة من منابع مختلفة — وعامة، ذا يحملنا على الاعتقاد بأن التباين الأخير، أكثر التباينات في نظرنا شأنًا من ناحية البحث الذي نمضي فيه، ومن هنا لا نستطيع أن نعتبر أعصاب التكهرب في الأسماك المجهزة بها «متجانسة»، بل نعتبرها «متشابهة» في الخصائص لا غير.
وعلى ذلك لا يكون لدينا من الأسباب ما يحملنا على القول بأن هذه الأعضاء قد وُرثت عن أصل أولي؛ لأنها لو كانت قد وُرثت على هذه الصورة، لتحتم أن تتشابه تشابهًا كبيرًا في كل الاعتبارات عامة وخاصة، من هنا، ومن هنا فقط، تزول هذه المشكلة الكبيرة — مشكلة وجود أعضاء تتشابه على ظاهرها في أنواع يرجح اختلاط نسبها إلى الماضي البعيد الموغل في القدم — إذن لم يبقَ أمامنا سوى مشكلة أقل من الأولي غموضًا، وإن كانت كبيرة الشأن، تلك هي مشكلة الخطى التدرجية، التي تقلبت فيها هذه الأعضاء حال نشوئها في كل عشيرة بعينها من الأسماك، التي تملك هذه الخِصِّية.
أما علاقة بعض العضلات ببعض، فإنها من الاختلاف والتباين في هذه الحبارات وذوات الفقار، بحيث نترك للقارئ أن يبلغ بها إلى أبعد حد من التخيل يذهب به، وقس على ذلك بقية الاعتبارات الأخرى. فمن هنا لا نعتقد أن أمامنا صعوبة ما، تحول دون القول بما يجب أن يُوضع من الفروق بين الاصطلاحات الاسمية، التي ينبغي أن تُستعمل، إذا ما تصدينا لوصف كل من العين في الرأس قدميات، والعين في الفقاريات.
وليس هناك من مانع يحول بين أي شخص وبين الادعاء، بأن تكوُّن العين في كلتا هاتين الحالتين لم يكن نتاجًا للنشوء، وأنها لم تمضِ متنقلة في تحولات ضئيلة، متتابعة، خاضعة لتأثير الانتخاب الطبيعي، غير أن هذا الادعاء، إن أمكن تطبيقه في حالة منها، أمكن تطبيقه في الأخرى، ومن الجائز أن يكون قد بادر كثيرون إلى إظهار الفروق التي تقع بين أعضاء الإبصار في مجموعتين معينتين من الصور العضوية، مستندين في بحثها إلى النظر في طريقة تكوينها ومقداره، وكما أن رجلين قد يجوز أن يبلغ كلاهما، مستقلًّا إلى استكشاف علمي خطير، من غير أن يعلم عن عمل الآخر شيئًا، كذلك الحال في الأمثال التي أوردناها من قبل، تظهر لنا أن الانتخاب الطبيعي، حيث يجد في العمل لفائدة كل كائن حي، منتهزًا فرصة كل تحول مفيد يطرأ عليها، قد أحدث أعضاء متشابهة في كائنات عضوية معينة، وذلك بقدر ما في وظائفها من العلاقة بفائدة الكائن، بحيث لا يكون السبب في وجودها راجعًا إلى الوراثة عن أصل عام، ترجع إليه في سلسلة تطورها.
ولقد نحا الأستاذ «فريتز مولر» نحوًا من النظر العلمي في تأييده شتى الحقائق، التي وردت في هذا الكتاب، تشابه ما اتبعه هنا، فرأى أن فصائل عديدة من الحيوانات القشرية قد يلحق بها أنواع لها جهاز تنفس، يؤهلها إلى العيش في خارج الماء، وبحث «فريتز مولر» فصيلتين من هذه الحيوانات، تمت إحداهما للأخرى بحبل النسب القريب بحثًا مدققًا، فاستبان له أن أنواعهما تتفق اتفاقًا خطيرًا في كل أوصافهما ذوات الشأن، تتفق في أعضاء الحس، وفي الجهاز المحرك للدورة الدموية، وفي موضع خصلة الشعر ذات التكوين المتخالط الغريب، التي نجدها داخل معداتها، وفي تركيب الخياشيم التي تستخلص الهواء من أجزاء الماء، وحتى في «المحاجن» المجهرية، التي تقوم بتنظيف أجزاء هذا المتنفس، والمنتظر في مثل هذه الحال، أن نرجح أن مجرى الهواء المتشابه تمام التشابه في كل أنواع الفصيلتين اللتين تعيشان على اليابسة، كان على نسق واحد فيهما، وإلا فلماذا يتغاير هذا الجهاز، ويختلف متباينًا في كل أنواع الفصيلتين، مع قيامه بوظيفة واحدة في كل أنواعهما، بينما نرى كل الأعضاء الأخرى ذوات الشأن على تمام التشابه، إن لم تكن متجانسة كل التجانس؟
ويعتقد «فويتز مولر» أن تلك المشابهة القريبة الواقعة بين كثير من التراكيب، لا يمكن أن تُعزى لسبب، ارتكانًا على ما أبرزت في هذا الكتاب من نتائج بحثي، سوى الوراثة عن أصل أولي معين، يجمع بينهما نسبه، غير أن أنواع الفصيلتين اللتين سبق الكلام فيهما؛ إذ كانت ذوات عادات مائية، كما هي الحال في أغلب الحيوانات القشرية، فليس من المرجح مطلقًا القول بأن آباءها الأُول التي تسلسلت عنها، كانت تتنفس الهواء. وذلك ما ساق «مولر» إلى درس الجهاز الذي تستطيع به هذه الحيوانات أن تتنفس الهواء درسًا مدققًا، فوجد أنه يختلف في كل تفاصيل تركيبه، اختلافًا كبيرًا يتناول مواضع فتحاته، والطريقة التي تفتح بها وتغلق، إلى غير ذلك من التفصيلات الثانوية الخاصة بهذه الأعضاء، والآن وقد أصبح علمنا بهذه الفروق كاملًا، فلذلك نقضي بأنها نتيجة طبيعية، راجعة إلى تلك الحقيقة الواضحة، حقيقة أن الأنواع اللاحقة بالفصائل المعينة قد مضت في سالف الأزمان، ممعنة بخطى تدرجية بطيئة في سبيل الكفاية الطبيعية للعيش شيئًا فشيئًا على سطح اليابسة، مقترنًا ذلك بالقدرة على تنفس الهواء، فإن تبعية هذه الأنواع لفصائل معينة، بعضها بعيد النسب عن بعض، يستوجب تحول بعضها عن بعض ولو إلى حد محدود، كما أن قابليتها للتحول ينبغي أن تكون مختلفة الكم، فلا تصبح متشابهة، خضوعًا للسُّنة الطبيعية، التي فصَّلناها من قبل؛ حيث عرفنا أن كل تحول لا بد من أن يرجع إلى سببين: طبيعية الكائن العضوي ذاته، وطبيعة الظروف المحيطة به، وعلى ذلك ينبغي أن تكون لدى الانتخاب الطبيعي مواد مختلفة؛ أي تحولات عضوية شتى؛ ليُبرِز بفضلها نتائجه، وحتى يبلغ إلى نهاية، عندها تتشابه النتائج المستحدثة في الأعضاء من ناحية وظائفها، كما أن الصفات التي تُستحدث على هذه الصورة، لا بد من أن تكون قد تحولت، وتباين بعضها عن بعض، فإذا اعتقدنا في صحة القول بالخلق المستقل، إذن، لتعذر علينا أن نستمد من الواقع ما يفصح لنا عن حقيقة هذه الحالات وأسباب تغايرها، ولقد كان لهذه الاعتبارات الحقة من الأثر على «مولر» ما حمله على قبول المبادئ، التي وضعتها في هذا الكتاب.
ومن هنا، نستطيع أن نكتنه الفائدة الطبيعية الخاصة بكل عضو من أعضاء الزهرة، وفائدة ذينكما النتوءين أو القرنين اللذين يفرزان العصارة النباتية، التي إذا ما اختلطت بأجنحة النحل عاقتها عن الطيران، فتضطر حينئذٍ إلى الزحف على كشوحها، من طريق النبع الذي وصفناه من قبل، وإذ ذاك يحتك جسمها بالميسم وكميات اللقح المتراكمة، وكلاهما غروي القوام، كما أبنَّا.
وهنا قد يسأل سائل: كيف نستطيع أن نكتنه من الأمثال السابقة وفي عديد غيرها، تلك الخطى التدرجية المتشابكة الحلقات؟ بل كيف نستكشف من غوامض الطبيعة الأسباب الكثيرة العديدة، التي أدت للوصول إلى تلك الغايات المتشابهة؟ والجواب على هذا ينحصر، كما بيَّنا من قبل، في أن صورتين من الصور العضوية، إحداهما تباين الأخرى بعض المباينة، إن سبقتا في التحول ومضتا فيه، فإن استعدادها لقبول التحولات لن يكون متكافئًا في كلتيهما، ومن هنا لا تكون النتائج الحادثة في الصورتين بتأثير الانتخاب الطبيعي متشابهة، وإن كانت النتائج ذاتها لم تحدث إلا لغرض واحد، ولا يجب أن ننسى مع هذا أن كل كائن عضوي من العضويات العليا، لم يبلغ من الرقي والنشوء مبلغًا خطيرًا، إلا بعد أن طرأت عليه تحولات كثيرة، وأن كل تحول يقع في تركيب ما من تراكيب العضويات، يُساق إلى الظهور موروثًا في أعقابه، حتى لا يفقد شيء من ضروب التهذيب الوصفي بمجرد ظهورها في فرد من أفراد عديدة، بل إنها بتكرار ظهورها تترقى الأنسال، حينًا بعد حين على تتالي الأجيال، وتعاقب العصور، وعلى ذلك يكون تركيب أي عضو من الأعضاء الخاصة بأفراد نوع ما، مهما كانت الوظيفة التي سُخر لها، نتيجة تحولات عديدة ظلت موروثة طوال الأعصر الخالية، متعاقبة الظهور في النوع خلال تقلب كفاياته المختلفة المتتابعة النشوء، بتأثير تباين العادات، واختلاف حالات الحياة المحيطة بالكائنات.
وأخيرًا، فإن الوقوف على تلك الخطى التدريجية، التي مضت الأعضاء متقلبة فيها، حتى بلغت من التحول ما بلغت، إن كان أمرًا فيه كثير من الصعوبة في حالات كثيرة، فإني لأعجب، إذا ما تدبرت الطبيعة الحية، فلا أستطيع أن أجد عضوًا واحدًا يمتنع علينا أن نستقرئ من تركيبه آثار شيء من الخطى التدرجية، التي كانت في الغالب السبب في إحكام تكوينه على ما نراه من محكم الوضع، اللهم إلا في النادر القليل. ذلك على الرغم من أن عدد الأحياء العضوية المعروفة، التي تعمر الأرض الآن ضئيل، إذا قسناه بما انقرض من أسلافها، أو بما ليس في استطاعتنا الوقوف على آثاره.
والواقع أن نشوء أعضاء مستحدثة في الطبيعة، تظهر للباحث مفرغة في قالب معين؛ لتقوم بوظيفة محدودة، أمر نادر الحدوث، إن لم يكن مستحيلًا، متابعة للحكمة القديمة التي كان يأتم بها الباحثون في العصور الأولى في ترقي الفكرة العلمية؛ إذ كانوا يقولون: «لا طفرة في الطبيعة»، وهي حكمة صحيحة، وإن كان فيها شيء من المبالغة، وإنا لنجد فيما كتب كثير من أعلام الباحثين في الطبيعة ما يؤيد تلك الحكمة، من ذلك كلمة قالها «ملن إدواردز»؛ إذ يصف عمل الطبيعة قائلًا: «إن الطبيعة إذ تسرف في التوزيع، نراها شديدة الشح في الابتكار»، فإنا إذا تدبرنا نظرية الخلق المستقل، لما استطعنا أن نجد فيها ما يصح أن يكون جوابًا، إذا تساءلنا: لماذا يقع في الطبيعة كثير من صور التوزيع، ولا نرى فيها إلا قليلًا من صور الإبداع الحقيقي؟ أو لماذا نرى في عضويات، بعضها لا يمت لبعض بصلة، أن كل أجزاء تراكيبها العضوية متصلة ببعضها في حلقات تدرجية منظومة من الترقي والتسلسل، إذا كان الفرض أن كلًّا منها خُلق مستقلًّا عن الآخر؛ ليشغل مركزًا محدودًا له في نظام الطبيعة؟ أو «لماذا لا نرى الطبيعة قد تقلب فجأة تركيبًا إلى تركيب آخر؟» أما إذا تابعنا البحث، مقتنعين بصحة الانتخاب الطبيعي، فهنالك نعرف السبب في ذلك، نعرف أن الانتخاب الطبيعي لا يؤثر في العضويات، إلا حيث يمهد له السبيل، ويفسح له المجال، وقوع تحولات متتابعة ذات فائدة للأحياء، ومن هنا، نعتقد أن الطبيعة ليس في مستطاعها أن تؤثر في الأحياء من طريق الوثبات الفجائية الكبيرة، بل إنها تتقدم إلى الأمام بخطوات قصيرة وئيدة، ولكنها مخففة.
(٦) في الأعضاء القليلة الأهمية في الظاهر، وتأثير الانتخاب الطبيعي فيها
إن الانتخاب الطبيعي، إذ يظهر آثاره من طريق الحياة، ومن طريق الموت والفناء، يظهر من طريق الحياة ببقاء الأصلح، ومن طريق الموت بإعدام الأفراد، التي تكون أقل كفاءة من غيرها؛ لذلك ظللت فترة من الزمان أشعر بشيء من الحرج في معرفة السبب، الذي يعود إليه وجود الأعضاء غير ذات الشأن في التراكيب العضوية، شعرت بكثير من الحرج حيال هذا الموضوع، طالما شعرت بمثله، وبأكثر منه، عندما أخذت في البحث، لمعرفة السبب الذي يعود إليه وجود الأعضاء الراقية ذوات التراكيب المعقدة.
أما إذا أردنا أن نتدبر هذا الموضوع، فلا يجب أن نغفل عن أننا على جانب كبير من الجهل بنظام كل كائن من الكائنات العضوية في مجموعه، بمعنى أننا لا نعرف أي التحولات الوصفية الضئيلة التي طرأت عليه، كانت ذات شأن في حالات حياته الأولى، وأيها كان ضئيل الأثر، قليل الشأن منذ البدء. ولقد أتيت من قبل في بعض فصول هذا الكتاب على أمثال من الصفات غير ذات الشأن، كالزغب الذي يكون على قشر الثمار، ولون لبِّها، ولون البشرة أو الشعر في بعض ذوات الأربع، وأبنتُ أن هذه الصفات قد يؤثر فيها الانتخاب الطبيعي من طريق تعادلها الواقع بينها وبين بعض النباتات التكوينية، أو من طريق الفائدة التي تجنيها هذه الكائنات؛ إذ تمنع عنها هذه الصفات أذى الحشرات، وذَنَب الزرافة يظهر للباحث كأنه دافعة للهوام مركبة تركيبًا طبيعيًّا عجيبًا، ولا يستطيع الباحث أن يعتقد لأول وهلة أن هذا العضو قد خُلق لهذه الغاية دون غيرها، وأنه قد نشأ على مدى الأجيال بمضيه في حالات تدرجية من التحولات الوصفية الضئيلة، تتابعت عليه، بحيث كان كل تحول منها أتم تركيبًا وكفاية من سابقه، حتى أصبح قادرًا على القيام بوظيفة حقيرة كدفع الهوام، ولكن الواجب علينا أن نتريث، حتى في مثل هذه الحالات الظاهرة، قبل أن نُحكِّم العقل وحده، مجردًا عن الاختبار والتجربة، ما دمنا قد عرفنا أن استيطان الماشية، وتوزعها على أقطار أمريكا الجنوبية المختلفة وبقاءها، مرهون في أكثر الأمر على قدرتها على دفع هجمات الحشرات الفتاكة عنها، فالأفراد التي تتهيأ لها أسباب الدفاع عن أنفسها من غائلة أعدائها، هي التي تفوز بحظ الانتشار والذيوع في أودية، تكثر مراعيها وأرزاقها، فتصبح أكثر سلطانًا وغلبة من غيرها، ولا أقصد بهذا أن أقول: إن الذباب في مستطاعه أن يقتل أفراد الماشية الكبيرة، وإن وقع ذلك في بعض حالات نادرة، بل أريد أن أثبت أنها قد تضعف، وينضب منها معين القوة من أثر ما يحدثه فيها ذلك الذباب من الأذى، وبذلك تصبح أكثر قبولًا واستعدادًا للأمراض، أو أن قدرتها على مقاومة الأعاصير الطبيعية، إذا ما وقع قحط مثلًا، قد تقصر دون حيازة القدر الكافي من الغذاء، حتى تقوم حياتها، أو أن تفقد كفاءتها على الهرب من الحيوانات المفترسة.
إن الأعضاء التي نراها في العصر الحاضر حقيرة الشأن ضعيفة الأثر، في حياة أي كائن عضوي، يُحتمَل أن يكون قد مضى عليها عصر من العصور، أو تشكلت في حالة من الحالات، كانت فيها ذات شأن عظيم، وخطر كبير لسلف ما من أسلاف هذا الكائن، وبعد أن بلغت هذه الأعضاء منزلة من الكمال النسبي، مسوقة فيها بخطى تدريجية على مر الأجيال الخالية، مع مضيها متوارثة في الأعقاب خلفًا عن سلف، يرجح أن تكون قد نقلت إلى الأعقاب كاملة الأوصاف، غير منقوصة شيئًا من التركيب العضوي، وإن كان شأنها من ناحية الوظيفة الحيوية قد نقص وضَؤُل في كائنات هذا العصر، عما كان في صور العصور الأولى، وهذا محتمل الحدوث، غير أن الانتخاب الطبيعي في تلك الحال وأمثالها، لا بد من أن يكن قد وقف خلال الأجيال حائلًا، دون حدوث انحراف تركيبي في هذه الأعضاء، يكون فيه أي خطر على حياة الكائن ذاته ومركزه في الوجود، فإننا إذا رأينا تلك الفائدة، التي يقوم بها الذَّنَب في كثير من الحيوانات المائية، بوصفه أداة للحركة، وقسنا ذلك بالفائدة التي تعود من ذلك العضو على الحيوانات البرية، والتي يمكننا أن نستشف من تركيب رئاتها، أو تغير أوصاف أجهزة العوم فيها أصلها المائي، لا نستطيع إلا أن نضع هذه الحالات أمام أعيننا موضع النظر، فإن الذَّنَب إذ يبلغ في بعض الحيوانات المائية مبلغًا كبيرًا من النماء وحسن التكوين، فمن الجائز أن يحدث في بعض العصور، التي تجتازها صور العضويات عهد يقوم فيه هذا العضو نفسه بوظائف عديدة، فيكون دافعة للهوام، أو عضوًا معدًّا للقبض على الأجسام، أو آلة تساعد الحيوان على الالتفاف والنكوص على عقبيه، كما هي الحال في نوع الكلب، مهما كانت المساعدة التي يجنيها ذلك النوع من هذا العضو — لدى القيام بتلك الحركة — ضئيلة، إذا قسنا مقدار الفائدة منه في نوع الكلب بها في الأرانب؛ إذ نجد أن الأرانب على أنها تكاد تكون معدومة الأذناب، فإنها تقدر على القيام بحركة الالتفاف والنكوص بسرعة، فائقة على سرعة الكلب.
وقد نخطئ مرة أخرى، إذا عزونا لعضو من الأعضاء القليلة الشأن كبير الخطر في ماضي حياة العضويات، إذا اعتقدنا أن هذه الأعضاء قد استُحدثت بتأثير الانتخاب الطبيعي؛ إذ لا ينبغي لنا أن نغفل عن مؤثرات حالات الحياة المتغايرة، المحدودة، المحيطة بالكائنات العضوية، أو أن ننسى أثر الحالات التي ندعوها «التحولات الذاتية»، تلك التي تنشأ في طبيعة العضويات خاضعة خضوعًا كليًّا لأثر الحالات القائمة في الطبيعة حفافي العضويات، أو أن نغض الطرف عن سُنن الرجعى الوراثية، إلى صفات فقدتها الكائنات منذ أزمان موغلة في القدم، أو أن ننصرف عن النظر في حالات النماء المهوشة، المتشابكة الحلقات والصلات كتبادل التحولات النسبي، أو ناموس المطاوعة في نشوء الأعضاء بعضها متابعة لنماء بعض، أو ضغط جزء من التكوين العضوي على جزء آخر، وما يجري ذلك المجرى، أو أن نمضي في أسباب البحث غافلين عن نواميس «الانتخاب الجنسي»، تلك النواميس التي تؤثر في العضويات، بحيث نرى من آثارها أن صفات ذات فائدة قد تنشأ في أحد الجنسين — الذكر والأنثى — ثم تنتقل، بحالة كاملة، أو حسبما تكون الظروف إلى الجنس الآخر، ولو لم يكن فيها من فائدة لذلك الجنس. غير أن أمثال هذه التراكيب التي تُستحدث في العضويات من طريق غير مباشر بفعل الانتخاب الجنسي، إن كانت لدى أول العهد بانتقالها من أحد الزوجين إلى الآخر، غير ذات فائدة للنوع، ولكن قد تنشأ في الطبيعة العضوية — من طريق التحول الوصفي، واقعًا على الأعقاب جيلًا بعد جيل، أو من طريق وقوع النوع تحت تأثير حالات جديدة في الحياة، أو بانتهاج النوع نهجًا من العادات جديدًا — صفاتٌ تصبح بها تلك التراكيب ذات فائدة للعضويات.
فإذا فرضنا مثلًا، أنه لم يبقَ في الطبيعة من أنواع «ثقاب الخشب» سوى الثقاب الأخضر، وأننا لم نقف على أثر للنوع الأسود أو المرقط، فإني أستطيع أن أحكم في مثل هذه الحال على أننا لا محالة، نُساق إلى الاعتقاد بأن اللون الأخضر صفة موافقة تمام الموافقة لحالات هذا الطير لكثرة ما يغشى الأشجار؛ إذ يمكنه من الاحتفاظ بحياته من غائلة أعدائه ومفترسيه؛ ولذا نعتقد أن خضرة اللون صفة ذات قيمة كبيرة لذلك الطير، وأنه لم يحُزها إلا من طريق الانتخاب الطبيعي، ولا جرم، كنا نخطئ في هذا، طالما كانت الحقيقة أن اللون صفة لا تنشأ في طبيعة العضويات في أكثر الأمر، إلا من طريق الانتخاب الجنسي، وفي «جزر الملايو» نوع من النخيل، يتسلق أكثر الأشجار بُسوقًا وارتفاعًا بوساطة محاجن، أو كلاليب ذات تركيب خاص، وتوجد عادة في صورة كتل في آخر الفريعات، ومما لا شك فيه أن هذه الأداة ذات فائدة كبيرة لهذا النبات. ولكننا إذ نرى مثل هذه المحاجن في نباتات غير متسلقة، ولا تستخدمها النباتات إلا للوقاية من الماشية، التي تتعهدها بالرعي، كما نشاهد ذلك في استيطان أنواع النباتات الشائكة في أفريقيا وجنوبي أمريكا؛ لذا نجد أن هناك محلًّا للاعتقاد، بأن تلك المحاجن الشوكية في هذا النبات لم تنشأ في تراكيبه بادئ ذي بدئ، إلا ليستخدمها لمثل هذه الغاية، ومن ثم مضت ممعنة في التهذيب الوصفي، واتخذ منها النبات وسيلة لقضاء أغراض أخرى، فأصبح بعد زمان ما من النباتات المتسلقة، باستمرار وقوع التهذيب الوصفي المؤدي إلى هذه النتيجة على ذلك العضو. والاعتقاد السائد اليوم، أن عدم وجود شيء من الريش في رأس النسر صفة مفيدة له، تحول دون تعفن ذلك الجزء من تركيبه لدى تمرغه في المواد العفنة، والراجح أن يكون سقوط الريش عن ذلك الجزء راجعًا إلى تأثير مواد التعفن والفساد فيه. ولكن من الواجب أن نحذر الحذر كله قبل أن نقرر صحة مثل هذا الزعم لدى النظر في الديكة الرومية؛ إذ نجد أنها على نقاء أغذيتها وطهارتها نسلاء الرأس، ثم انظر في التدريز الذي نلحظه في جماجم صغار ذوات الفقار لدى أول وضعها، تعلم أن كثيرًا من الباحثين يعتقدون أن هذه الصفة ما هي إلا تحول وصفي، نشأ ليسهل على الأم وضع صغارها، ومما لا شك فيه أنها تسهل الولادة، أو هي صفة ضرورية في صغار ذوات الفقار؛ لإتمام الوصول إلى هذه الغاية. غير أن هذه التداريز إذ تظهر في جماجم أفراخ الطير والزواحف، التي تنحصر عملية خروجها إلى عالم الحياة الأرضية، في أن ينقف عنها البيض، فالراجح أن نعزو وجود هذه الصفة فيها إلى سُنن النشوء ذاتها، وأن هذا التركيب العضوي البديع، قد أصبح في الحيوانات العليا ذا فائدة كبيرة؛ ليسهل الوضع، بعد أن كان ذا فائدة معروفة فيما تقدمها من الأحياء في سلم الارتقاء.
نقول هذا القول، ونحن نؤمن بأن جهلنا بكنه الأسباب، التي يعود إليها أي تحول غير ذي شأن، أو أي تباين فردي، وإنا لنعترف بهذا الجهل، ويزداد إيماننا به إذا ما تأملنا في ذلك التباين البين، الذي نلحظه واقعًا بين سلالات الحيوانات الداجنة المنتشرة في بقاع مختلفة من الكرة الأرضية، ولا سيما إذا تدبرنا قليلًا حالة تلك البقاع، التي لم تستشم من ريح المدنية شيئًا، فلم يكن للانتخاب النظامي على عضوياتها الداجنة من سلطان إلا قليلًا، فإن الحيوانات التي يحتفظ بها الهمج في بقاع مختلفة من سطح هذه الكرة، غالبًا ما تضطر إلى مجالدة قسوة الطبيعة، محافظة على كيانها؛ ولذا تتعرض لمؤثرات الانتخاب الطبيعي، إلى حد ما، وهنالك تفوز الأفراد المهيأة بقسط من التهذيب التركيبي بحظ الغلبة والبقاء، تحت تأثير مختلف المناخات التي تتنقل فيها، أما قابلية الماشية للتأثر بهجمات الهوام ولدغها، فمحدودة بتبادل الأثر في تلك القابلية مع ألوانها، كما هي الحال في قابليتها للتسمم ببعض نباتات معينة، إلى درجة أننا نؤمن بأن اللون ذاته خاضع لتأثير الانتخاب الطبيعي، ويعتقد بعض الثقات، أن لرطوبة المناخ أثرًا في حد نماء الشعر، وأن بين الشعر والقرون نسبة متبادلة في النماء، فإن الأنسال الجبلية تختلف دائمًا عن الأنسال التي تعيش في السهول، والبلاد الجبلية قد تؤثر في نماء الأرجل الخلفية في ذوات الأربع، حيث تحتاج هنالك إلى كثرة استعمالها في تسلق المرتفعات، وقد تتناول بالتغيير — احتمالًا — شكل التجويف الحوضي، ويستتبع ذلك بالطبع تغير يطرأ على الأطراف الأمامية، وشكل الرأس، خضوعًا لنسبة تبادل التغايرات وتجانسها. ومن الجائز أن شكل التجويف الحوضي ذاته، قد يؤثر في الصغار لدى نمائها في داخل الرحم، كما أن بذل الجهد في سبيل التنفس في البلاد الجبلية يزيد من حجم الصدر. ولدينا من الأسباب القوية ما يجعل اعتقادنا في هذه الحقيقة ثابتًا، فهنالك إذا زاد حجم الصدر، أخذت سُنة «تبادل النسبة في النماء» في إبراز نتائجها في أجزاء أخرى من كائن بذاته، ولا يجب أن ننسى أن لإغفال العمل والمرانة مع زيادة الغذاء، تأثيرات طبيعية في النظام العضوي، قد تفوق ما مر ذكره مكانة واعتبارًا، ولقد أبان «ﻫ. فون ناتوسيوس» في مقال قيم نُشر حديثًا، أن لهذا السبب الأثر الأول في إحداث ذلك القدر الكبير من التهذيب الوصفي، الذي طرأ على أنسال الخنازير الداجنة، غير أننا مع كل هذا، نلقى أنفسنا على جهل تام، إذا ما حاولنا أن نتأمل الصلات العظيمة، التي تربط بين الأسباب المنتجة للتحول، معروفة وغير معروفة، على أنني لم أذكر كل هذه الملاحظات إلا لأُظهِر للباحث الخبير، أننا إذا لم يكن في قدرتنا أن نكتنه الأسباب، التي ترجع إليها ضروب التهذيب الوصفي، التي نشأت في أنسالنا الداجنة، مع أننا على يقين، من أنها لم تحدث بالتحول إلا من أصل أولي، أو عدد قليل من الأصول المعينة، توالدت جيلًا بعد جيل، فجدير بنا، ألا تنقبض صدورنا إذا ما ألفينا أنفسنا على جهل تام بتلك الأسباب الخفية، التي يعود إليها حدوث تلك التباينات الضئيلة المتناظرة، الواقعة بين الأنواع الصحيحة.
(٧) سُنَّة النفع المطلق ونصيبها من الصحة – الجمال وكيف يصير
تسوقني الاعتبارات السابقة إلى أن أقول بضع كلمات فيما اعترض به بعض الطبيعيين على سُنة النفع المطلق، تلك السُّنة التي تؤيد أن كل ما يُستحدث من التراكيب في صور العضويات لم يحدث إلا لفائدة الكائن، الذي تطرأ عليه مطلقًا لوجه الفائدة دون غيرها، فهم يعتقدون أن كثيرًا من التراكيب لم تُخلق إلا لمجرد الحلية والجمال الخلقي، ليعجب بها الله والناس، (على الرغم من أن ذلك القول يتخطى حدود المناقشات العلمية)، وقد يقولون بأنها لم تُستحدث في الصور إلا لمجرد التنويع والمباينة، وذلك ما سقنا القول فيه خلال الصفحات السابقة. أما إذا صح هذا الزعم، فإنه لا محالة يقوِّض أركان مذهبي، ويذهب بدعائمه بددًا، على أني أسلم بأن هنالك تراكيب عديدة في صور العضويات لا فائدة منها، والأغلب أنها لم تكن بذات فائدة ما لآبائها التي نشأت عنها، غير أن هذا لا يثبت أنها لم تحدث إلا للجمال والتنويع لا غير، ومما لا شك فيه أن تلك المؤثرات التي تناولناها بالبحث في هذا الفصل عينه، كتأثير تغاير الحالات المحدود، وما إليها من الأسباب الباعثة على التهذيب الوصفي، قد أحدثت بعض آثار من الجائز أن تكون كبيرة جلية، في حين تكون بعيدة عن مواضع النفع المطلق للأحياء، غير أن لدينا اعتبرًا آخر خليقًا بألا يغرب عن أفهامنا أثره، اعتبار أن أكبر التراكيب العضوية شأنًا في تكوين كل كائن بعينه، ترجع إلى الوراثة، ومن ذلك نستنتج أن كل كائن من الكائنات العضوية ينبغي أن يكون ذا كفاية تامة لشغل مركزه، الذي يحل به في نظام الطبيعة العام. غير أن كثيرًا من التراكيب المشاهدة في عديد من العضويات لا نجد لها أية علاقة مباشرة، أو صلة قريبة بعاداتها التي تعكف عليها في حالاتها الحاضرة؛ لأننا لا نستطيع أن نعتقد أن لذلك الغشاء الذي يصل بين أصابع أرجل البط، الذي يسكن المرتفعات، أو طائر الفرقاط، فائدة ما، كما أننا لا نعتقد مطلق الاعتقاد بأن تلك التراكيب المتشابهة في أطراف القردة وعظم أرجل الخيل الأمامية، أو في جناح الخفاش، وسباحة الصِّيال، ذات فائدة ما لهذه الحيوانات، على أننا مع هذا كله نستطيع أن ننسب وجوده إلى تأثير الوراثة، قانعين بصحة نظرنا فيها، مؤمنين بأن الغشاء الذي نجده في أرجل أنواع البط والفرقاط، كان بلا ريب ذا فائدة لأصولها الأولى، كما هي الحال في كثير من أنواع الطيور البحرية التي تعيش اليوم. وعلى هذه القاعدة نوقن بأن أصول الصِّيال الأولى كان لها بدلًا من السباحات، أرجل مجهزة بخمسة أصابع تعاونها على المشي أو القبض، وقد نُساق إلى القول بأن تلك العظام التي نراها في أطراف القردة، وأرجل الخيل، وأجنحة الخفافيش، لم توجد بداءة ذي بدء، إلا خضوعًا لسُنة النفع المطلق، مرجحين في هذه الحال أنها قد حدثت من انضمار عظام كثيرة، كانت في زعنفة أصل من أصولها، وكان يشابه بعض الأسماك، على أنه ليس من الهين أن نحكم على مقدار ما تسمح الطبيعة لتلك السُّنن التحول الذاتي ونواميس النماء المتبادل الغامضة، بالتأثير في طبائع العضويات، مغيرة من صفاتها. غير أننا على الرغم من كل هذه المستثنيات، يمكننا أن نقول: إن تركيب كل كائن حي، سواء في حالته الحاضرة، أو فيما غبر من القرون، لا بد من أن يكون ذا فائدة لهذا الكائن، بصفة مباشرة أو غير مباشرة.
هذا، ولا يجدر بي، أن أغفل أمرًا خليقًا بالاعتبار، ذلك أنني لا أعتقد أن كثيرًا من ذكور الحيوانات، وعديدًا وافرًا من ذكور الطير الزاهية الألوان، وبعض الأسماك والزواحف وذوات الثدي، وكثيرًا من أنواع الفراش المنمقة الألوان، لم تبلغ إلى الدرجة التي نراها عليها من الجمال، لا لغرض سوى الجمال ذاته. والحقيقة أنها لم تبلغ ما بلغت إليه إلا بتأثير الانتخاب الجنسي؛ لأن الذكور التي بلغت أبعد حد مستطاع من الجمال بين أفراد نوعها، قد فضلتها الإناث طوال الأعصر على غيرها، على الضد مما يعتقد البعض، من أنها لم تصبح جميلة إلا لترضي حاسة الجمال في الإنسان، وكذلك الحال في موسيقية الطير، ومن هذه الملاحظات في مجموعها، نستطيع أن نقول: إن حاسة من الجمال متشابهة في حب الألوان الزاهية، أو الأصوات الموسيقية في الطير، متمشية سائرة في تضاعيف أكبر مجموع من عالم الحيوان.
أما إذا رأينا أن في الإناث من جمال اللون ما في الذكور، كما هي الحال في كثير من الطيور وأنواع الفراش، فإننا نردُّ السبب في ذلك عامة، إلى أن تلك الألوان التي تختص بها فئة من العضويات بتأثير الانتخاب الزوجي، قد تنتقل بالوراثة إلى الزوجين — الذكر والأنثى — معًا، بدلًا من انتقالها إلى الذكور وحدها، أما البحث في حاسة الجمال ذاتها، في أبسط صورها، وهي إدخال نوع خاص من السرور على النفس لدى وقوع النظر على ألوان، أو صور خاصة، أو سماع أصوات معينة، ثم النظر في كيفية نشوء تلك الحاسة ونمائها في عقل الإنسان وكثير من الحيوانات، فموضوع مستغلق يحيط به الإبهام، كذلك يكتنفنا الغموض والتنافس، إذا ما أردنا أن نسوق البحث في الأسباب التي تدفعنا إلى الالتذاذ ببعض أشياء وتذوقها، والنفور من أخرى، ومعتقدي، أن العادة قد لعبت دورًا ذا أثر بيِّن في استحداث هذه الظواهر عامة، ولكني مع ذلك موقن بأنها لا بد من أن تعود إلى تكوين في الجهاز العصبي، في كل نوع.
ولا يستحدث الانتخاب الطبيعي من ناحية أخرى تركيبًا في كائن عضوي، تكون جهة الإضرار بالغير فيه راجحة على جهة الانتفاع به لذلك الكائن؛ لأن الانتخاب كما سبق القول فيه، لا يؤثر إلا من طريق الفائدة والنفع العائد على الأحياء ذواتها، أو كما قال «بالي»: إن عضوًا من الأعضاء لا يمكن أن ينشأ في الطبيعة الحية، بحيث يكون مؤلمًا، أو محدثًا ضررًّا في صاحبه، فإذا استطاعت الطبيعة — وهي لا شك مستطيعة — أن توازن بالقسط بين أوجه الضرر وأوجه النفع، التي يجنيها كائن ما من عضو فيه، فالمجموع في ذاته يكون مفيدًا. أما إذا سيق جزء من أجزاء التراكيب العضوية على مر العصور وبتأثير حالات الحياة المتغايرة، ممعنًا في ناحية الضرر فالتهذيب لا محالة لاحقه، فإذا لم يتهذب بما يحول دون الضرر، فذلك الكائن لا بد من أن ينقرض من الوجود، كما انقرضت من قبله صور لا تُحصى، وكائنات لا عدد لها خلال تتالي القرون.
ويُساق الانتخاب الطبيعي في سبيل من التأثير، يصل منه بكل كائن عضوي إلى نسبة من الكمال، الذي تستطيع العضويات أن تبلغ إليه في نظام الطبيعة، فآهلات «نيوزيلاندة» الأصلية مثلًا، كاملة إذا قيس بعضها ببعض، ولكنا نراها اليوم آخذة في التلاشي والزوال، ممعنة في الضعف والاضمحلال، بتأثير جموع النباتات والحيوانات، التي أُدخلت إلى تلك الجزر، وليس في مستطاع الانتخاب الطبيعي أن يستحدث في صور العضويات كمالًا مطلقًا، كما أننا لا نشاهد في الطبيعة الحية، أينما ولينا أوجهنا باحثين في أطرافها، ذلك المثال المطلق من الكمال، فإن تصحيح زيغ الضوء كما يقول «مولر»، ليس بكامل حتى في عين الإنسان، وهي من أقرب الأعضاء تكوينًا إلى الكمال، وقال «هلهولتز» — وهو مَن لا يشك أحد في تبصره وحكمته — بعد أن وصف العين الإنسانية أبدع وصف وأمتعه: «إن ما وقفنا عليه من بعد الآلة المبصرة عن الكمال وعدم الدقة، ونقصها من حيث القدرة التامة على عكس الصور على الشبكية، لا يُعَد شيئًا كبيرًا إذا قيس بالنقص الشديد، الذي وقفنا عليه في مجال البحث في الحواس، وليس في مستطاعنا أن ندلي في ذلك برأي، اللهم إلا أن نُساق إلى ترجيح، أن الطبيعة قد لذَّ لها اعتباطًا أن تستجمع كثيرًا من المتناقضات؛ لتدفع بذلك قول القائلين بوجود علاقة جاذبة أولية بين العالمين، الداخلي والخارجي.»
إن قوة الاستنتاج التي حبتنا بها الطبيعة، إن ساقتنا إلى الإخلاد والاطمئنان الهادئ، المشفوع بالجاذبية الصحيحة، والإعجاب الخالص بكثير من مبدعات الطبيعة، التي لا يمكن أن تتطاول إليها الصناعات البشرية بتقليد، فإن هذه القوة ذاتها، قوة الاستنتاج والتمييز، لتجعلنا نحكم على أن من مبدعات الطبيعة الأخرى ما هو أقل من غيره كمالًا وحسنًا، وإن كان من الجائز أن نخطئ في الحكم على كلتا الحالتين، فهل يمكننا مثلًا، أن نعتبر إبرة النحلة عضوًا بالغًا حد الكمال — في حين أنها إذا استخدمته تلقاء كثير من أعدائها المحيطين بها في الطبيعة — لا تستطيع أن تجتذبه من بدن إحداها مرة أخرى، إذ يحول تركيبها المسنن دون ذلك، فتموت من تمزق أمعائها في حالات كثيرة، إذا ما لدغت عدوًّا تحاول منه الفرار؟
إننا إذا نظرنا في إبرة النحلة، على اعتبار أنها عضو، ملكته أصولها الأولية العريقة في القدم؛ لتستخدمه في حفر الأرض أو القطع، كما نرى في كثير من صنوف رتبتها العظيمة، وأن هذا العضو قد تنقل منذ ذلك الزمان القصي، ممعنًا في التهذيب الوصفي، حتى أصبح عضوًا غير كامل، معدًّا للدفاع عن النفس، وأن السُّم الذي يحويه قد وُجد فيه أصلًا للقيام بوظيفة أخرى، كإفراز العَفْص مثلًا، وبذلك تكاثرت فيه المادة السامة، فهنالك نستطيع أن نفقه كيف أن استخدام الإبر في النحل كثيرًا ما يسبب موتها؛ لأن القدرة على اللدغ بتلك الإبر، إن كانت ذات فائدة لهيئة النحل الاجتماعية في مجموعها، فإنها لأداة تؤدي بالانتخاب الطبيعي إلى إبراز نتائجه، وإن سببت الموت لبعض أعضاء الجماعة. وإننا إذا أعُجبنا بحاسة الشم العظيمة، التي تهتدي بها ذكور كثير من الحشرات إلى إناثها، فهل نعجب بتلك الحاسة ذاتها، باعتبار أنها السبب في إنتاج آلاف من ذكور النحل، ليس للجماعة من فائدة فيها مطلقًا، حتى إن أخواتها العاملات غير الولود، قد يضطرون إلى قتلها، والذهاب بآثارها!
إننا يجب أن نعجب بتلك الغريزة الوحشية القاسية، التي تسوق ملكة النحل عقدًا — وإن كان إعجابنا بها اضطرارًا — إلى قتل الملكات الصغيرات، وهي من إنتاجها، بمجرد خروجهن إلى الحياة الدنيا، أو تقضي هي في تلك المعركة؛ ذلك لأننا لا نشك في أن هذا العمل لصالح الجماعة؛ ولأن حب الأمومة أو كراهيتها، وإن كانت الكراهية نادرة الحدوث في الطبيعة لحسن الحظ، كلاهما برع في حكم سُنة الانتخاب الطبيعي، تلك السُّنة القاسية الشديدة، وإننا إن أُعجبنا بتلك الوسائل الغريبة، التي تخصب بها أزهار النباتات السحلبية، وغيرها من ضروب النبات بفعل الحشرات، وبمبلغ تلك الوسائل من الكمال، فهل نستطيع أن نعتبر أن إنتاج حبوب اللقاح، الذي يتناثر كالرماد اشتدت به الريح في أشجار التنوب، وسيلة قد بلغت من لكمال مبلغ سابقتها، في حين أن ما ينقل الهواء من هذا اللقاح مصادفة إلى البويضات، لا يتجاوز بضع دقائق قليلة؟
الخلاصة: ناموس وحدة المثال والحالات المؤدية إلى البقاء، وتضمن الانتخاب الطبيعي ومدلولاتها
ناقشتُ في هذا الفصل طائفة من تلك الصعاب والمشكلات، التي قد تُقام على مذهبي في التطور، وإني لأسلم بأن بعضًا منها كبير الشأن، عظيم الخطر، غير أنني أظن في غالب الأمر، أن مناقشتي إياها في هذه الصفحات القليلة، قد أنارت لنا سبيل الوصول إلى حقائق عديدة، تغمض علينا أسبابها، إذا ما مضينا في بحثها، قانعين بنظرية الخلق المستقل.
عرفنا من تلك الحقائق التي مرت بنا، أن الأنواع لا ينبغي لها أن تمضي متطورة تطورًا غير محدود في أي عصر بذاته من العصور، وأن الأنواع تظهر لنا على حالتها الحاضرة غير مرتبطة بعضها ببعض بحلقات وسطى كثيرة، ورددنا السبب في ذلك، إلى أن تأثير الانتخاب الطبيعي بطيء جهد البطء دائمًا، وأن تأثيره لا يتناول في زمان مفروض إلا بضعة صور معينة من مجموع النظام الحي في بقعة ما، واستبان لنا أن الانتخاب الطبيعي كما يحدث ارتقاء متغاير الماهية، كذلك يسوق إلى تفوق بعض الصور الوسطى على بعض، ومن ثم ينقرض كثير من الحلقات، التي تكون قد تدرجت بالأنواع، ممعنة بها في سبيل التحول على مدى الأزمان، وأن الأنواع المتقاربة الأنساب، الشديدة اللحمة، التي تعيش اليوم في مساحات متماسكة الأطراف، لا بد من أن تكون قد استُحدثت غالبًا، عندما كانت تلك المساحات التي تعمرها غير متماسكة، كجزء منفصل بعضها عن بعض أو غير ذلك، إذ كانت حالات الحياة في تلك المساحة متجانسة متشابهة في كل أجزائها، بحيث لا يُستبان فيها تحول تدرجي، إذا ما اخترقت شمالًا أو جنوبًا، وعرفنا أن ضربين من الضروب إن نشآ في بقعتين مختلفتين من مساحة متماسكة الأطراف، كالقارات المتسعة المترامية الأطراف، فإن ضربًا صغيرًا يُعد بمثابة حلقة وسطى بينهما، لا بد من أن يُستحدث غالبًا، وتكون أوصافه في كل الحالات ذات كفاءة تامة للبقاء ضمن البقعة، التي تفصل بين مأوى الضربين الكبيرين. وأبدينا في هذا البحث من الأسباب ما جعلنا نعتقد أن هذا الضرب الأوسط يكون قليل عدد الأفراد، مقيسًا في ذلك بعدد أفراد الضربين الأولين، اللذين يصل بينهما في مدارج التطور، ومن هنا يتدرج الضربان الأولان من طريق تعاقب التحول الوصفي الناتج من كثرة عددهما على تراكيبهما، في الإمعان في الغلبة على غيرهما من الضروب الصغرى المتوسطة المرتبة، وأنهما إذ يمضيان ممعنين في هذا السبيل، فلا محالة يبلغان يومًا ما من الغلبة مبلغًا، يكون من نتائجه أن يذهب الانقراض بآثار غيرهما، فينفردان بالوجود.
ولقد رأيت في هذا الفصل، فضلًا عن ذلك، أن نوعًا من الأنواع إن وقع تحت تأثير حالات جديدة من الحياة، فقط يمكن أن تتحول عاداته، أو أن عاداته قد تنقلب إلى عادات أخرى، مباينة تمام المباينة لتلك التي كان عاكفًا عليها من قبل، ومن هنا نستطيع أن نفقه، إذا ما وعينا أن كل كائن حي يعمل جهد مستطاعه لكي يعيش بقدر ما في مكنته، كيف أن حالات غريبة قد نشأت في الطبيعة العضوية، كالإوز الذي يعيش في مرتفعات من الأرض، ولا تزال أرجله مغشاة، حيث كانت قد أُعدت للسبح، وكيف أن أنواعًا من الدج أصبحت ذات قدرة على الغوص في الماء، وكيف أن ضروبًا من القطا قد أصبحت تحفر الأرض، بدلًا من ثقوب جذوع الأشجار، وكيف أن صورًا من «النورس» قد أصبحت تشابه في عاداتها عادات الزغبيات.
إن مجرد القول بأن عضوًا بلغ من الكمال مبلغ العين، قد يكون استحداثه بتأثير الانتخاب الطبيعي، لكافٍ وحده؛ لإدخال أكبر شك في معتقد أي إنسان، غير أننا إذا استطعنا لدى البحث في كيفية نشوء أي عضو، أن نكشف عن تلك الخطى التدرجية التي مضى ذلك العضو متقلبًا فيها، وكانت ذات فائدة للكائن الذي طرأت عليه، فلا يقوم لدينا من حائل يصدنا عن القول: بأن مقدارًا من الكمال ظاهرًا، قد تكسبه العضويات من طريق الانتخاب الطبيعي، إذا ما أمدته ظروف الحياة وحالتها المتغيرة، بما يُهيئ له سبيل التأثير في الأحياء. أما إذا تابعنا البحث في بعض مشاهد الطبيعة، ولم نجد حلقات وسطى أو خطى تدرجية، فيجب أن نكون على حذر من التطوح في القول بأن هذه الحلقات لم توجد في عصر من عصور التطور، الذي انتاب الصور التي نكون عاكفين على درسها، ما دام قد استبان لنا من تركيب كثير من الأعضاء أن تحول خصائصها ووظائفها ممكن الحدوث في الطبيعة العضوية، فعوامة بعض الأسماك مثلًا، قد استحالت رئات تستنشق الهواء، وهذا العضو كثيرًا ما يكون ذا وظائف عديدة، ثم لا يلبث أن ينقلب برمته أو جزء منه، وقد تخصص لعمل محدود، وأن عضوين معينين إن قام كلاهما بوظيفة واحدة في وقت واحد، بحيث يقوم الواحد منهما مكملًا لوظيفة الآخر، فهنالك نعتقد أن تلك الحال كثيرًا ما تمهد سبيل الانقلاب والتحول النشوئي.
ولقد بان لنا لدى البحث في كائنين، تفصل بينهما القرون، متباعدي النسب في نظام الطبيعة، أن أعضاء فيهما متشابهة في شكلها الظاهر، وتقوم بوظيفة واحدة، يمكن أن يكون قد استُحدث أحدهما من طريق يخالف الطريق الذي استُحدث نظيره، مستقلًّا كل منهما في سلسلة تطوره، ولكن هذه الأعضاء وأمثالها، على الرغم من تشابهها الظاهر، قد نستبين فيها، إذا ما أكببنا على درسها، اختلافات تركيبية جوهرية تقع بينها، ومن ناحية أخرى، فإن أثر سُنة الطبيعة العامة ينحصر في إنتاج أمر واحد، هو إبراز مقدار من التحول غير متناهٍ في التراكيب العضوية، بحيث يكون جماع هذا التحول مسوقًا إلى الوصول إلى غاية واحدة، وأن هذه السُّنة تمضي مؤثرة في تلك الغاية إذا ما بلغتها؛ لتدرك غاية أخرى وراءها.
على ما تقدم، ندرك أننا على مقدار من الجهل، لا يسوغ لنا أن نقضي بحكم قاطع فيما إذا كان عضو ما، أو جزء من عضو غير ذي شأن لفائدة النوع، أو فيما إذا كانت التحولات الوصفية التي لحقت تراكيب ذلك العضو، لم يكن في مستطاع الانتخاب الطبيعي أن يستجمعها على مر الزمان؟ ورأينا في بعض حالات أخرى أن التحولات الوصفية قد يغلب أن تنشأ مباشرة، فتكون نتاجًا لسنن التحول أو النماء، ولا يكون للكائن من فائدة فيها، غير أنه كشف لنا من بعد، حتى لدى النظر في أمثال هذه الحالات أن هذه التحولات، قد ينتفع بها العضويات، وأنها قد تقيل التهذيب حالًا بعد حال، حتى تصبح ذات فائدة كبيرة للنوع، إذا ما وقع تحت تأثير حالات جديدة من ظروف الحياة، كما هو محقق لدينا، وثبت عندنا الاعتقاد بأن عضوًا كان قبلًا من الأعضاء ذوات القيمة والشأن، غالبًا ما يبقى ثابتًا في صفات العضويات، كالذَّنَب في الحيوانات المائية، موروثًا في أعقابها التي تعيش على اليابسة، ولو أنه قد أصبح في هذه الحال قليل الفائدة، إلى درجة أننا لا نستطيع أن نظن، لقلة فائدته في الحالة التي نراه عليها، أنه نتاج لمؤثرات الانتخاب الطبيعي.
وليس في مقدور الانتخاب الطبيعي أن ينشئ عضوًا من نوع، تكون فائدته أو ضرره المطلق عائدًا على نوع آخر، وإن كان في مستطاعه أن يستحدث أجزاء وأعضاء وتراكيب مفيدة كل الفائدة، أو ضارة أشد الضرر بالأنواع الأخرى، ولكنها تكون في الوقت نفسه ذات فائدة لصاحبها، وأن الانتخاب الطبيعي لا يبرز نتائجه في أية بقعة من البقاع المشحونة بصور العضويات إلا من طريق تنافسها، فيُساق إذ ذاك بعضها إلى الانتصار على بعض في معمعة التناحر على البقاء، على أن تكون نتائج هذه المؤثرات عامة متوازنة توازنًا تامًّا مع حالة الإقليم ذاته، ومقدار ما بلغت صوره من الرقي، ومن هنا تخضع أهليات كل بقعة، وعادة تكون صغيرة المساحة، إلى أهليات غيرها من قطان المساحة الكبيرة، طالما قد علمنا أن المساحات الكبيرة لا محالة تعضد عددًا من الأفراد والصور المهذبة، زائدًا عما تعضده المساحات الصغيرة، وأن المنافسة في البقاع الأولى لا بد من أن تكون أشد وأقسى منها في الثانية، وبذلك يكون مقدار ما بلغت صور المساحات الواسعة من الكمال أبعد بكثير عما بلغت صور المساحات الصغيرة، والانتخاب الطبيعي لا ينبغي له أن يسوق إلى حد مطلق منه الكمال، وإنه لمن المستحيل أن نعثر في نواحي الطبيعة الحية برمتها على مثال مطلق من الكمال، نحكم ذلك الحكم مقيدين بمقدار ما تسمح لنا به قوانا العقلية المحدودة.
وإنا لنستطيع أن نفقه، إذا ما تدبرنا سُنة الانتخاب الطبيعي، معنى تلك الحكمة القديمة، التي كثيرًا ما نعثر عليها في مباحث التاريخ العضوي: «أن لا طفرة في الطبيعة»، أما إذا نظرنا فيما تأهل به الأرض اليوم من الأحياء، غير ناظرين إلى تاريخ تطورها، فهذه الحكمة لا تنطبق على ما يقع تحت حسِّنا تمامًا. أما إذا رجعنا النظر كرة إلى تاريخ العصور الأولى، سواء أكانت معروفة أم مجهولة لدينا، فإن هذه الحكمة تعبر عن الواقع بما لا يمكن أن نصل في التعبير إلى أبلغ منه.
والرأي السائد اليوم بين الباحثين: أن الكائنات العضوية لم تُستحدث إلا بتأثير سُنتي «وحدة المثال»، و«حالات الحياة والبقاء». ويقصدون بقانون وحدة المثال تشابه التراكيب الجوهرية، التي نراها ذائعة في عضويات كل طائفة بعينها، تلك التراكيب التي نراها مستقلة تمام الاستقلال عن عاداتها في الحياة، ومطاوعة لحقيقة مذهبي، أعتقد أن وحدة المثال تابعة لوحدة التسلسل، أما اصطلاح «حالات الحياة والبقاء»، الذي لجأ إليه العلامة «كوفييه»، فإن سُنة الانتخاب الطبيعي تتضمن مدلولاته برمتها؛ لأن الانتخاب الطبيعي لا يؤثر إلا من طريقتين: فإما أن يؤثر، ممعنًا من طريق المكافأة بين تلك الأجزاء العضوية الممعنة في سبيل التحول، حتى تتوازن وما يحيط بها من الحالات العضوية وغير العضوية في الحياة، وإما أن يكون قد كافأ بين الناحيتين في العصور الخالية، وهذه المكافآت لم تبلغ إليها الكائنات إلا بعد أن عضدتها سنن كثيرة، منها زيادة الاستعمال، أو الإمعان في الإغفال، وتأثير الحالات الخارجية تأثيرًا مباشرًا، وخضوعها في كل الحالات لسنن عديدة من التحول والنماء، ومن هنا نعتقد أن سُنة «حالات الحياة والبقاء» أبعد خطرًا، وأعظم شأنًا من سابقتها؛ لأنها تتضمن من طريق توارث ضروب التحولات، وصور التكافؤات الخلقية مدلولات وحدة المثال.