الفصل السابع
نقائض مختلفة على نظرية الانتخاب الطبيعي
التعمير – في أن التحولات الوصفية لا يجب أن تحدث في وقت واحد – التحولات
الوصفية التي لا نكتنه فيها فائدة ظاهرة – النشوء الارتقائي – الصفات التي لا
تكون ذوات خِصِّيات حيوية للعضويات هي أطول الصفات بقاء على حال واحدة – في
الدعوى بأن الانتخاب الطبيعي ليس في مستطاعه أن يؤثر في استحداث الصفات المفيدة
– الأسباب التي تعوق نشوء التراكيب المفيدة عن طريق الانتخاب الطبيعي – تدرج
التراكيب بتغير الوظائف – في أن نماء أشد الأعضاء تباينًا واختلافًا في أعضاء طائفة
١ بعينها، قد يرجع إلى سبب واحد بذاته – الأسباب التي من أجلها لا
نصدق حدوث تحولات كبيرة بصورة فجائية.
***
سأقصر البحث في هذا الفصل على النظر في المعترضات المختلفة العديدة، التي حاول بعض
الباحثين أن ينقض بها مذهبي؛ لأن ذلك قد يساعدنا على الكشف عن حقيقة بعض المسائل، التي
عميت علينا في مباحثنا السابقة، غير أني أرى أنه من العبث أن أتناول بالبحث كل تلك
المعترضات؛ ذلك لأن بعضًا منها قد نبذت به أقلام من لم يتجشموا مئونة التعب في تفهُّم
الموضوع، فإن عالمًا طبيعيًّا من علماء ألمانيا الأعلام، قد أذاع مثلًا أن أوهن ناحية
من نواحي مذهبي، تنحصر في أنني أعتبر، أن العضويات الحية كافة ليست بكاملة التراكيب،
وأني تابعت بحثي، مقتنعًا بذلك، في حين أني لم أقل بهذا أبدًا، بل قلت: إنها ليست على
حال من الكمال، بحيث تتوازن من جهة الكمال والكفاية مع ما يحيط بها من الظروف. وتلك
حقيقة أيدتها المشاهدات الطبيعية في أطراف كثيرة من الأرض، حيث شُوهد أن صورًا عديدة
من
قُطان إقليم بعينه، قد تركت في ظروف كثيرة مآهلها الأصلية، وأفسحت المجال لغزاة فاتحين
احتلوها، وتمت لهم السيادة فيها، كذلك ليس في مستطاع العضويات أن تبقى على حال واحدة
من
الثبات، حتى ولو بلغت في زمان ما غاية ما يمكن أن تبلغ من الكفاية لحالات الحياة
المحيطة بها، إذا ما تغايرت تلك الحالات، بل إنها لا تستطيع البقاء ما لم تتحول تحولًا
يعادل كمه وكيفه ما يطرأ على البيئة التي تشغلها في الطبيعة، وليس ثمة من خلاف في أن
الحالات الطبيعية الخاصة بكل إقليم بعينه، وكذلك عدد الأحياء الآهل بهم وصنوفهم، قد
ظهرت متحولة عدة تحولات فجائية في خلال العصور.
وقد أصر أخيرًا أحد النقاد، وأيد نقده ببراهين فيها إثارة في الدقة الرياضية، حيث
قضى
بأن للتعمير فائدة كبيرة لكل الأنواع، حتى إن كل مقتنع بنظرية الانتخاب الطبيعي، ينبغي
له أن يرتب «شجرة التسلسل العضوي»، بحيث يجعل الأعقاب أطول أعمارًا من أسلافها التي
أعقبتها! أفلا يذكِّر نقادَنا هذا، أن كثيرًا من الحول النباتات المحولة أو ثنائية
الحول، وبعض الحيوانات الدنيا، قد تنتشر في بقاع باردة، وهنالك يُقضى عليها كل الشتاء،
ثم تعود إلى الظهور عامًا بعد عام بوساطة بذورها، أو بيضاتها التي تتركها في الأرض،
متخذة من الفوائد التي تجنيها بتأثير الانتخاب الطبيعي، وسيلة إلى ذلك؟ ولقد بحث
العلامة «راي لنكستر»
٢ هذا الموضوع، مركزًا على ما في الموضوع من استغلاق يحول دون كثير من مقومات
الحكم فيه، فقال: بأن طول العمر يرجع بوجه عام إلى مبلغ ما وصل إليه النوع من الارتقاء
في سلم النظام الحيواني، رجوعه إلى مقدار ما يفنى من نتاجه، ومبلغ نشاطه وقدرته على
العمل في مجموعه، وإن الغالب من الأمر، يجعلنا نعتقد أن هذه الحالات لم تنشأ في طبائع
الأنواع إلا بتأثير الانتخاب الطبيعي.
ولقد اعترض بعض الباحثين على مذهب النشوء بقولهم: إذا كانت نباتات مصر وحيواناتها
—
تلك التي تكاد لا نعرف عنها شيئًا يُذكر — لم تتغير خلال الثلاثة أو الأربعة آلاف العام
الماضية، فلماذا نعزو التحول إلى غيرها من أهالي بقية أقاليم الأرض؟ ولقد علَّق «مستر
لوويس»
٣ على هذا الاعتراض شأنًا عظيمًا، ملاحظًا أن الأنسال الداجنة المنحوتة في
بعض الآثار المصرية القديمة، أو التي حُفظت بالتحنيط، تشابه كل المشابهة الصور الباقية
اليوم، أو أنها لا تكاد تفترق عنها بفارق ما. يقولون هذا القول، وكل الطبيعيين يعتقدون
اعتقادًا جازمًا، في أن هذه الصور لم تتولد في مصر إلا بتأثير التهذيب الوصفي، الذي طرأ
على أصولها الأولية، وهنالك تلك الحيوانات العديدة، التي لم يطرأ على تراكيبها أي تحول
منذ بداية العصر الجليدي، فقد يمكن أن تتخذ برهانًا، أثره في معارضة مذهب التطور، أنفذ
سهمًا من المثال المقتطع من حيوانات مصر ونباتاتها، وبخاصة، إذا عرفنا أن تلك الحيوانات
قد وقعت تحت تأثيرات كثيرة في تغير المناخ، بل إنها كثيرًا ما هاجرت مسافات شاسعة على
سطح الكرة الأرضية. بينما نرى أن حالات الحياة وظروفها في مصر قد ظلت، حسبما نعرف، على
وتيرة واحدة، فلم يطرأ عليها تغير ما في خلال بضعة الآلاف الفارطة من السنين. والحقيقة
أن اتخاذ تلك الحيوانات، التي لم تتحول منذ بداية العصر الجليدي دليلًا على نقض مذهب
ما، قد يصح أن يُوجه إلى القائلين بوجود مؤثر غريزي، مؤصل في تضاعيف الفطرة العضوية،
يسوقها إلى التحول والنشوء، ولكنه معترض مفلول، معدوم القيمة، إذا ما أُريد توجيهه إلى
سُنة الانتخاب الطبيعي، أو بقاء الأصلح، التي لا تتعدى مدلولاتها الاحتفاظ بكل التحولات
والتباينات الفردية المفيدة، إذا ظهرت؛ لأن ظهورها مرهون على تأثير ظروف تهيأ لها سبيل
الظهور في الأحياء.
ولقد اختتم العلامة «برون» عالم الأحفوريات المشهور كتابه القيم متسائلًا: «كيف
يستطيع ضرب ما، مطاوعة لنظرية الانتخاب الطبيعي، أن يبقى في الطبيعة مع نوعه الذي تأصل
منه جنبًا إلى جنب؟» ونجيبه: أما إذا كان كلاهما قد تهيأ بدرجة من الكفاية، يقتدر بها
على حيازة عادات، وتحمل حالات مختلفة الطبيعة بعض الاختلاف، فليس ثمة من مانع يمنع أن
يبقى أحدهما مع الآخر، فإذا غضضنا الطرف عند تلك الأنواع
٤ (المتعددة الصور)، التي يظهر أن التحولية فيها ذات صبغة خاصة، وكل التحولات
العابرة غير الثابتة التي تظهر ممثلة في زيادة الحجم أو المُهقَة
٥ أو غير ذلك، عثرنا في نواحي الطبيعة على كثير من الضروب الثابتة الصحيحة
الصفات، قاطنة، وذلك اعتمادًا على مبلغ ما وصل علمنا بها، في بقاع معينة كالمرتفعات من
الأرض أو السهول المنخفضة، أو بقاع تكثر فيها الرطوبة، أو أخرى يشتد فيها الجفاف،
وفضلًا عن ذلك، فإن النظر في الحيوانات، التي تكثر من التجواب والتطواف، والتي يتم التزاوج
٦ بينها بحرية تامة، قد يدلنا على أن ضروبها غالبًا ما تكون مقصورة في المقام
على أصقاع معينة.
ويقول العلامة «برون»، بل يوقن، فضلًا عن هذا، بأن الأنواع الصحيحة ليست هي التي
تختلف بعضها عن بعض في صفات قليلة، بل إن اختلافها يجب أن يكون كبيرًا شاملًا للكثير
من
أجزاء تراكيبها، وعقَّب على ذلك متسائلًا: «كيف يقع في الطبيعة دائمًا أن أجزاء عديدة
من النظام العضوي تتكيف في وقت واحد بتأثير سُنن التحول والانتخاب الطبيعي؟» غير أنني
لا أجد من ضرورة، تقضي علينا بالقول بوقوع التهذيب الوصفي على أجزاء كائن عضوي برمتها
في وقت واحد، فإن أكثر ضرب التكيف الوصفي جلاء، تلك التي نراها على أتم صور الكفاية
للقيام بوظائف معينة، قد تحوزها العضويات، كما أبنا من قبل، بوقوع كثير من ضروب
التحولات المتعاقبة التدرجية، مهما كان مبلغ كل تحول قائمًا برأسه دون الضئولة وحقارة
الشأن كبيرًا؛ إذ تمضي في الظهور في جزء ما، ثم تظهر في غيره على تتالى الأزمان، وبما
أن هذه التحولات قد تنتقل من الآباء إلى الأبناء، فإنها لا محالة تظهر كأنها قد تمت،
ونشأت في وقت معًا، وإني لأرى أن أبلغ ما نستطيع أن ندفع به هذا الاعتراض، هو وجود تلك
السلالات الداجنة، التي استطاع الإنسان بفضل قوته المجردة في الانتخاب، أن يحدثها في
الطبيعة، مهيأة تمام التهيئة؛ لأداء أغراض معينة، ويكفي لإثبات ذلك، أن ينظر الباحث في
تلك الفروق البينة، التي نجتليها بين خيل السباق وخيل العربات، أو بين الكلب السلوقي
وكلب الدِّراوس.
٧ فإن نظرة واحدة في كل منهما، تدل على ما هو كائن بينهما من الفروق الجلية،
التي حدثت في أشكالها الظاهرة، بل في صفاتها العقلية ذاتها، ولكننا إذا استطعنا أن
نكتنه كل الخطى، التي مضت فيها تلك السلالات، ممعنة التحول والتهذيب الوصفي — وإننا
لنستطيع أن نقف على بعض ما وقع عليها حديثًا — فإننا لن نقف في تلك الخطى على تحولات
كبيرة الشأن، حدثت في وقت واحد، بل نجد دائمًا أن عضوًا ما قد أخذ في التحول والتهذيب
تلو عضو، وكذلك الحال إذا ما رأينا الإنسان قد وجَّه انتخابه نحو صفة معينة من الصفات
—
والأمثال على ذلك في نباتاتنا المزروعة كثيرة لا تُحصى — فإننا نلحظ دائمًا وبشكل مطرد،
أن ذلك العضو الذي يوجه إليه الإنسان عنايته، سواء أكان زهرة أم ثمرة أم أوراقًا، إن
تحوَّل تحولًا ذا بال، فإن أكثر الأعضاء الأخرى، لا بد من أن ينتابها نزر من التحول،
مطاوعة لما يقع على ذلك العضو، وقد نعزو هذه الظواهر إلى ما ندعوه بسُنة «تبادل النسب
في النشوء»؛ أي سُنة المطاوعة
٨ تارة، وإلى ما ندعوه «التحول الذاتي»،
٩ تارة أخرى.
ولقد أقام الأستاذ «برون»
١٠ اعتراضًا أشد من هذا نكاية، وأبعد خطرًا، أيَّده ودعَّمه من بعد العلامة «بروكا»،
١١ ومحصله: أن بعض الصفات تلوح على ظاهرها، وكأن ليس فيها من فائدة ما
للعضويات التي تختص بها، وبذلك لا يكون للانتخاب الطبيعي من أثر في إحداثها، وأيَّد
الأستاذ «برون» معترضه بمشاهدات، منها: طول الآذان، واستطالة الذيل في بعض أنواع
الأرانب الوحشية والفئران، وتلك الطبقات المعقدة، التي تكون في مينا الأسنان في بعض
الحيوانات، وغير ذلك من الحالات المشابهة، التي عدَّدها الأستاذ، تعزيزًا لمعترضه. أما
علاقة هذا المعترض بعالم النبات، فقد تكلم فيها الأستاذ «نايجيلي»
١٢ في رسالة وضعها فيه، فمضى في كلامه، مقتنعًا بأن الانتخاب الطبيعي إن كان
قد أحدث كثيرًا من الآثار العظام، إلا أنه يصر على أن فصائل النباتات تباين بعضها بعضًا
مباينة كبيرة في صفات تركيبية (مورفولوجية)، تلوح على ظاهرها كأنها معدومة الشأن
والفائدة لصالح الأنواع، وأورد إيضاحات كثيرة، اقتطعها من ترتيب الخلايا النباتية في
بناء الأنسجة، ومن وضع الأوراق على محاورها، موقنًا بأن هذه حالات ليس للانتخاب الطبيعي
في إحداثها من أثر، ونستطيع أن نضيف إلى هذه المشاهدات: التقسيم العددي في أجزاء
الأزهار، وموضع البيضات، وشكل البذر؛ إذ يكون غير ذي فائدة، تساعد على الانتشار
والذيوع، وغير ذلك.
إن في هذا الاعتراض لكثير من القوة، ولكنا مع
هذا يجب أن نحوط أنفسنا بسياج من الحذر الشديد قبل أن نحكم، بداءة ذي بدء، في أية من
التراكيب هي الآن، أو أيها كان من قبل، ذا فائدة لكل نوع من الأنواع. هذا من ناحية، ومن
ناحية أخرى، يجب أن نعي دائمًا، أنه عندما يقع التهذيب الوصفي على عضو ما، كذلك يجب أن
تتهذب أعضاء أخرى تهذيبًا، تُرى آثاره في مقدار فيض الغذاء، قلة أو كثرة، على بعض
الأعضاء، أو الضغط المتبادل على بعض أجزاء النظام العضوي، إلى غير ذلك. كل هذا خضوعًا
لأسباب وبواعث قد نعرفها ناقصة، أو مؤثرات أخرى، تنتج كثيرًا من حالات «التبادل»؛ أي
«المطاوعة» في التحول، تلك الحالات المهوشة الغامضة، التي لا نعرف من أسبابها شيئًا
يُذكر، وهذه كافة قد نضعها تحت عنوان واحد، حبًّا في الإيجاز فندعوها اصطلاحًا «سنن النماء».
١٣ كذلك، لا يجب أن يبعد عن أفهامنا مطلقًا، أثر الحالات المحدودة المباشرة،
الذي تنتجه تبدل الحياة ذاتها، أو التحولات الذاتية، التي لا تؤثر فيها الظروف العامة
بشيء، اللهم إلا من طريق ثانوي صرف، فإن التحولات التي تظهر في البراعم، أو في ظهور بعض
تحولات، كزهر الحزاز
١٤ إذ يظهر على نبات الورد العادي، أو الرحيق في أشجار الخوخ، كل هذه الحالات
تزودنا بأمثال، نشاهدها في الطبيعة بتأثير ما ندعوه بسُنة «التحول الذاتي»، ولكن النظر
العلمي يحملنا، حتى في مثل هذه الحالات، إذا ما وعينا دائمًا مقدار تأثير دقيقة من
السُّم في توليد مادة العفص
١٥ في النبات، على أن لا نجعل اعتقادنا في هذه التحولات الذاتية التي مثَّلنا
لها في الأسطر السابقة، يرجع في منشئه إلى تحول في طبيعة الحالات العامة، هنالك وراء
العالم المنظور، لا بد أن توجد علة مؤثرة، يرجع إليها السبب في نشوء كل تحول من تلك
التحولات الضئيلة، أو التباينات الكبيرة ذات الأثر الواضح، التي كثيرًا ما تنشأ في
الطبيعة بين آونة وأخرى، وأن هذه العلة المؤثرة إذا أثَّرت في الطبيعة العضوية تأثيرًا
دائمًا، فلا بد من أن تحول أفراد الأنواع، وتهذب أوصافها على نمط واحد، كما هو ثابت
لدينا.
لم أجعل للتحول بتأثير التباين الذاتي — في طبعات هذا الكتاب الأولى — من الشأن ما
هو
جدير بخطره، وكثرة حدوثه في نواحي الطبيعة العضوية، على أن ما لهذه السُّنة من الشأن
والخطر، لا ينبغي أن يسوقنا إلى أن نعزو إليها حدوث تلك التراكيب العديدة التي نراها
على تمام التكافؤ مع عادات كل نوع من الأنواع. إني لا أستطيع أن أقتنع بما يُعزى لهذه
الظاهرة، من أنها السبب في حدوث التكافؤ الخلقي في خيل السباق والكلب السلوقي، صورة
وتركيبًا، ذلك التكافؤ الذي طالما أثار العجب والحيرة في عقول الطبيعيين، قبل أن نقف
على حقيقة قدرة الإنسان في الانتخاب.
ويحسن بنا الآن، أن نمثل لتلك الملاحظات التي أوردناها، ولست أجد نفسي في حاجة إلى
أن
أوجه نظر الباحثين، إذا ما تصدوا إلى النظر فيما يزعمه القائلون، بوجود أعضاء أو أجزاء
عضوية معدومة النفع، إلى أن تراكيب عديدة قد تعرض في كثير من الحيوانات العليا المعروفة
لدينا أصح معرفة وأدقها، وهي على حال من النماء لا يشك أحد، إذا ما رآها، في أنها من
أشد التراكيب خطرًا، وأبعدها نفعًا، في حين أننا لم نستبن فيها أوجه النفع من قبل، وقد
تكون استُبينت في بعض الحالات منذ عهد قريب. ويتخذ الأستاذ «برون»
١٦ طول الأذن والذَّنَب في أنواع كثيرة من الفئران أمثالًا، غير ذات قيمة
كبيرة، يؤيد بها أن هنالك فروقًا تركيبية ليس فيها من فائدة ما للكائنات التي تحوزها.
غير أني أستشهد في هذه المسألة بدكتور «شوبل»؛
١٧ إذ ذكر أن الآذان الخارجية في الفأر العادي، مهيأة بنظام من الأعصاب خارقة
للعادة، لا شك في أنها تُستخدم أعضاء للمس؛ ولذلك سنرى عما قريب، وفي سياق هذا البحث،
أن طول الذَّنَب ذو فائدة عظيمة؛ لاستخدامه أداة للتعلق في بعض الأنواع، وأن الانتفاع
به قد يتأثر كثيرًا بمقدار طوله.
أما النباتات، فسأقصر البحث فيها على ما كتب «نايجيلي»
١٨ من الاعتراضات في مقالته المعروفة؛ ولذا يجب أن نعي أولًا: أن في أزهار
النباتات السحلبية (الأركيديات)
١٩ كثيرًا من التراكيب الغريبة، التي كانت تُعتبر منذ أعوام قلائل في نظر
علماء النبات تحولات عضوية آلية، عارية من كل وظيفة خاصة، أو غرض معروف، ولكنها تُعتبر
اليوم في المنزلة الأولى من الشأن والخطر؛ لإخصاب هذه الأنواع بمساعدة الحشرات، فضلًا
عن أن الرأي السائد، يرجِّح أنها لم تنشأ في هذه النباتات إلا بتأثير الانتخاب الطبيعي،
ولم يكن أحد ليتصور، منذ عهد قريب، أن اختلاف مقدار الطول في الأسدية والكرابل في
النباتات (الثنائية الصور، والثلاثية الصور)
٢٠ — أي التي تظهر أزهارها في صورتين أو ثلاث صور مختلفة — وأوضاع تلك الأعضاء
على صورة خاصة، أية فائدة أو نفعًا ما، ولكنا استبنا اليوم ما فيها من النفع.
ونرى في بعض عشائر من الصور النباتية، أن البويضات في أحدها تكون ذات وضع قائم، وفي
غيرها تكون معلقة، ونجد في بعض نباتات قليلة من هذه العشائر، أن نتخذ فيها إحدى
البويضات الوضع الأول، وغيرها الوضع الثاني، في مبيض بعينه. ولا مشاحة في أن هذه
الأوضاع تظهر لدى أول نظرة ظاهرات مورفولوجية، لا أكثر ولا أقل. ولقد أخبرني دكتور
«هوكر» أن في المبيض الواحد قد تتخصب البويضة العليا وحدها في حالات، وقد تتخصب البويضة
السفلى في حالات غيرها، وهو يظن، فضلًا عن ذلك، أن هذا الأمر راجع في الغالب إلى
الاتجاه الذي تتخذه أنابيب اللقاح في اتصالها بالمبيض ذاته. فإذا كان الأمر كذلك، فإن
أوضاع البويضات، حتى إذا كانت إحداها قائمة، والأخرى معلقة في مبيض بعينه، فلا بد من
أن
تكون قد خضعت، أو هي تمضي خاضعة، لمؤثرات الانتخاب الطبيعي لدى ظهور أي انحراف في
الوضع، يكون مساعدًا على الإخصاب وإنتاج البذور.
ولكثير من النباتات التابعة لرتب معينة صنفان من الأزهار في العادة: الأول، مفتح
الأكمام عادي التركيب، والثاني، مقفل الأكمام ناقص التركيب. وقد نرى في بعض الحالات أن
هذه الأزهار تتباين في التركيب جهد التباين، ولكنا نراها تتقارب بعضها من بعض على نفس
النبات بصورة تدرجية، فالأزهار المفتحة الأكمام، قد تتزاوج مع غيرها، وبذلك لا تفقد
شيئًا من الفوائد التي تعود على النباتات، أما الأزهار المقفلة الأكمام الناقصة
التركيب، فإنها على جانب عظيم من الأهمية لحياة النبات ذاته؛ إذ إنها تنتج أكثر كمية
يمكن أن تنتجها زهرة من البذور، من غير أن تستهلك من حبوب اللقاح إلا نزرًا يسيرًا لا
يُعتد به، وهذان الصنفان من الأزهار قد يتباينان جهد التباين، كما قلنا من قبل، في
أوضاعهما وتراكيبهما، فإن «البتلات» في الأزهار الناقصة المقفلة الأكمام، لا تكون إلا
أثرية ضئيلة، وحبوب اللقاح صغيرة الأقطار، ونجد في نوع «العنون العمداني»
٢١ أن خمسًا من الأسدية المتبادلة أثرية، وفي بعض أنواع البنفسج، نجد أن ثلاث
أسدية على هذه الحال عينها، وأن الاثنتين الأخريين، تقومان بوظيفتهما، وإن كان حجمهما
صغيرًا جدًّا.
ووجدت في ست زهرات من ثلاثين زهرة من أزهار «البنفسج الهندي» (الاسم غير معروف؛ لأن
النبات لم يعطِ أزهارًا كاملة عندي)، المقفلة الأكمام أن عدد السبلات ناقص عن العدد
العادي، فكن ثلاثًا بدلًا من خمس. ونرى في قسم من النباتات يُعرف باسم «الملبيغيات»
٢٢ أن الأزهار المقفلة الأكمام لا تزال ماضية في التكيف الوصفي؛ إذ لاحظ «د.
جوسيو» أن خمسًا من الأسدية المقابلة السبلات، كلها منضمرة، وأن سداة سادسة تقابل
البتلة، قد بلغت غاية النماء، وأن هذا العضو السادس غير موجود مطلقًا في الأزهار
العادية؛ أي المفتحة الأكمام، التي تنتجها هذه النباتات. ووجد «جوسيو» فوق ذلك أن القلم
غير موجود، وأن عدد المبايض اثنان بدلًا من ثلاثة، فالانتخاب الطبيعي، بالرغم من أنه
ما
كان ليخرج عن طوقه أن يقف حائلًا دون تفتح بعض الأزهار، وأن ينقص فيها كمية حبوب
اللقاح؛ لأن كثرتها مع ترك أكمام الزهرة مقفلة، تصبح صفة ثانوية صرفة، فإنه يصعب أن
يكون أي ضرب من ضروب التكيف الوصفي التي أدلينا بها هنا نتاجًا لتأثيراته، بل الواضح،
أنها لم تُستحدث إلا بتأثير سُنن النماء؛ إذ يعضدها تعطل في خصيِّات بعض الأجزاء، في
خلال تلك التدرجات التي تمضي فيها الزهرة، منتقصة من كميات لقحها، مقفلة لأكمامها، وأرى
من الضروري، أن أفصح عن تأثيرات سُنن النماء الخطيرة؛ ولذا أجدني مضطرًا لإيراد بعض
حالات أخرى مغايرة لما سبق لنا الكلام فيه، وأعني بها تلك الفروق التي تظهر في عضو
بعينه، أو جزء من عضو، ويرجع السبب الظاهر فيها إلى اختلاف مواضع تلك الأعضاء في شجرة
ما، ففي شجر «الجوز الأندلسي»
٢٣ وفي أشجار «التنوب»،
٢٤ نجد أن زوايا الانفراج في أوراقها تختلف في الأغصان، التي تتخذ وضعًا
أفقيًّا تقريبًا، والتي تتخذ وضعًا قائمًا، كما قال العلامة «شاخت» الألماني. ونرى في
«السذاب» العادي وبعض النباتات الأخرى، أن زهرة من أزهارها، وتكون عادة من الأزهار
الوسطية، أو الطرفية تتفتح أولًا، وأن لها خمس سبلات، وخمس بتلات، وخمسة أقسام مبيضية،
بينما نرى أن كل الأزهار الأخرى التي يحملها النبات رباعية، وفي «الأدكسة»
٢٥ الإنجليزية، نجد أن أعلى الأزهار ذات فصين كأسيين، وبقية الأعضاء رباعية
الأجزاء.
بينما يكون لبقية الأزهار ثلاثة فصوص كأسية، وبقية الأعضاء خماسية الأجزاء، وفي كثير
من نباتات «الفصيلة المركبة»
٢٦ و«الفصيلة الخيمية»،
٢٧ وبعض النباتات الأخرى، نلحظ أن الأزهار المحيطية أشد إمعانًا في النماء من
الأزهار الوسطية، والغالب، أن لهذه الظاهرة علاقة بضمور أعضاء التناسل، وهنالك حقيقة
أدلينا بها من قبل، ولا يسعنا أن نغفلها في هذا الموطن، تنحصر في أن «الفقيرات»
٢٨ بذور الأزهار المحيطية والوسطية، تختلف عن غيرها في بعض الأحيان اختلافًا
ذا بال في الشكل واللون وغير ذلك من الأوصاف. وفي «القرطم»
٢٩ وغيرها من نباتات الفصيلة المركبة، نلقى أن «فقيرات» الأزهار الوسطية مهيأة بزغب،
٣٠ بينما نرى في «الهوزير»
٣١ أن الهامة نفسها تنتج ثلاثة أشكال مختلفة من «الفقيرات». وشاهد «توش» في
بعض نباتات الفصيلة الخيمية، أن البذور الخارجية، تكون مستقيمة،
٣٢ والبذور الوسطية تكون منحنية،
٣٣ وهذه صفة اعتبرها «دي كاندول» ذات شأن عظيم لدى ظهورها في أنواع أخرى. وذكر
الأستاذ «براون» جنسًا من الفصيلة «الفومارية»،
٣٤ نجد فيه أن الأزهار في الجزء السفلي من السنبلة، تنتج بُنيدقات بيضية الشكل
مضلعة، ذات بذور واحدة، والأزهار بأعلى السنبلة تنتج خردلات
٣٥ رمحية الشكل ذات مصراعين، كل منهما بذرتان.
٣٦ فإذا نظرنا في هذه الحالات العديدة، وإذا استثنينا تلك الزهيرات النامية
ذوات الألوان الزاهية، التي تجتذب الحشرات ببهائها، نوقن بأن الانتخاب الطبيعي لم يكن
له يد في إحداثها بشكل من الأشكال، اللهم إلا من طريق ثانوي صرف، نحكم بهذا اعتمادًا
على مبلغ علمنا بهذه الحالات المهوشة المتخالطة النواحي، ومن هنا نُساق إلى الاعتقاد
بأن ضروب هذا التكيف الوصفي، لم تظهر إلا خضوعًا لأثر الصلات الطبيعية الواقعة بين
أوضاع الأجزاء العضوية ذاتها، وتأثير بعض الأعضاء في بعض. ومما يشق علينا أن نشك فيه،
أنه إذا وقعت كل الأزهار والأوراق، التي يحملها نبات ما تحت تأثير ظروف واحدة، سواء
أكانت هذه الظروف خاصة بالحالات الخارجية التي تحوط النباتات، أم بالحالات الداخلية
الكامنة فيه، كما هي الحال في بعض الأوراق والأزهار، التي تكون في مواضع خاصة من
النبات، فلابد من أن تتحول على نمط واحد.
ولقد نجد في حالات كثيرة عدا هذه، أن التحولات التركيبية، التي يعتبرها النباتيون
في
الدرجة العليا من الأهمية، تؤثر في بعض الأزهار دون بعض في النبات نفسه، أو تحدث في
نباتات معينة ينمو بعضها بجانب بعض، تحت تأثير ظروف واحدة. ولما كانت هذه التحولات ليست
بذات فائدة خاصة للنباتات، فإنا لا نستطيع أن ننسب ظهورها إلى تأثير الانتخاب الطبيعي،
أما الأسباب التي تسوق إليها، فإنا نجهلها الجهل كله، ولا يتسنى لنا أن ننسبها إلى مؤثر
مباشر كأثر الموضع في أعضاء النباتات، كما رأينا في الأمثلة الأخيرة التي أوردناها،
وسأذكر بضعة أمثال: فإننا كثيرًا ما نلحظ في نبات بعينه أن أزهاره تختلف، فمنها ما يكون
رباعي الأجزاء، ومنها ما يكون خماسيها، وتلك حقيقة أوردت فيها من الأمثال ما يجعلني في
غير حاجة إلى إيراد غيرها، غير أن التحولات إذ تصبح نادرة من حيث العدد عندما تكون
الأجزاء التي يقع عليها التحول قليلة، فإني أستطيع أن أستشهد بما أورده في ذلك «ده
كاندول»؛ إذ ذكر أن أزهار نوع من الفصيلة الخشخانية يُقال له «الخشخاش ذو الحواصر»، أو
«المحصر»،
٣٧ إما أن تكون ذات سبلتين، وإذ ذاك يكون لها أربع بتلات، كما هو القياسي في
هذه الفصيلة، وإما أن تكون ذات ثلاث سبلات، وإذ ذاك يكون لها ست بتلات.
أما الحالة التي تكون عليها البتلات من حيث التضام، وهي في الكم، فصفة «مورفولوجية»
ثابتة في أنواع هذه الفصيلة برمتها. غير أن الأستاذ «آساجراي» قد ذكر في بعض أنواع جنس
«الميمول»
٣٨ أن «الضمار»
٣٩ — وهو كيفية ترتيب أجزاء زهرة في كمها قبل التفتح — أشبه في أزهارها بضمار
أزهار الفصيلة الرنثيدية
٤٠ منه بضمار أزهار الفصيلة «الأنترنيدية»،
٤١ التي يلحق بها ذلك الجنس.
وأورد العلامة «أوغستين ده سانتيلير» ضمن مباحثه المشاهدة الآتية: أن جنس «الزنكول»
٤٢ — يلحق بقسم من الفصيلة «السدية»
٤٣ ذو مبيض واحد في القياس. غير أنه لاحظ أن أزهار بعض أنواعه في نفس النبات،
قد تكون ذات مبيض واحد تارة، وذات مبيضين تارة أخرى، وإن تكن في نفس النورة.
ولاحظ أن العلبة في نبات «الألنطيم»،
٤٤ إما أن تكون ذات حجرة واحدة
٤٥ — وإما أن تكون ذات ثلاث حجرات، أما في «الألنطيم المتغاير»،
٤٦ فهي عبارة عن صفحة قد تكون كبيرة، أو صغيرة، وتقع بين وعاء البذرة وبين
المشيمة. ولاحظ دكتور «ماستارز» مثالًا في «السابونار المتداول»،
٤٧ يؤيد وجود الوضح المشيمي جانبيًا أو محوريًّا مركزيًّا. وعثر «سانتيلير» في
آخر حدود البقاع الجنوبية، التي ينتشر فيها نبات «الجنفية الزيتوني»
٤٨ على صورتين، لم يشك لدى أول نظرة ألقاها عليهما، أنهما نوعان معينان
تمامًا، ولكنه لاحظ فيما بعد أنهما ناميان في دغل من أدغال هذا النبات، فأضاف إلى
ملاحظته الأولى ما يفيد أنهما تحولا من ذلك النبات، بعد أن كان قد قضى بانفصال
نوعيتهما، اعتمادًا على صفات شاذة لاحظها فيهما.
من ذلك نرى أن في النباتات تغيرات «مورفولوجية»، يمكن أن نعزوها إلى «سنن النماء»،
وتأثير بعض الأعضاء في بعض، بعيدة عن تأثير الانتخاب الطبيعي.
ولكن هل نستطيع أن نرد هذه التحولات الكبيرة الأثر التي لاحظناها في تلك الأمثال،
إلى
أن النباتات قد سيقت في درجات أرقى من حيث النشوء والتطور، تبعًا لسُنة التهذيب الشكلي،
إذا ما تابعنا رأي «نايجيلي» إذ يقول «بالميل الذاتي» المؤصل في تضاعيف الفطرة نحو
الكمال والتهذيب الارتقائي: إني على الضد من ذلك، أستنتج من تلك الحقائق التي أوردتها
في تحول الأجزاء العضوية في هذه النباتات، واختلاف بعضها عن بعض اختلافًا كبيرًا، أن
مناحي تطورها وتهذيبها كانت ذات فائدة ضئيلة جدًّا للنباتات ذواتها، وإن كانت في نظرنا
ذات شأن كبير من حيث الاعتماد عليها في تصنيف النباتات، وما كان لنا أن نقول بأن إحراز
كائن ما لعضو من الأعضاء المعدومة النفع، هو السبب في أن يرفع ذلك الكائن إلى مستوى
أرقى من مستواه في نظام الطبيعة العام. كذلك الحال فيما سبق القول فيما نعتبره حالة
تدهور وانحطاط، لا حالة تقدم وارتقاء، إذا ما نظرنا فيها، مؤتمين بمبادئ تناقض مبادئ
الأستاذ «نايجيلي»، وهكذا نعتبرها في كثير من الطفيليات والحيوانات الدنيا. وإنا إن كنا
نجهل الأسباب التي تبعث على ظهور ضروب التهذيب الوصفي، التي حددناها من قبل، فإن هذا
لا
يحول بيننا وبين الاعتقاد بأن تلك الأسباب المجهولة إذا أثرت في صور العضويات على وتيرة
واحدة أزمانًا متطاولة، فإن نتائج تأثيرها تكون متشابهة، وفي هذه الحال تتهذب صفات
أفراد الأنواع المختلفة، على نمط واحد.
وما دام قد ثبت لدينا من قبل، أن هذه الصفات ليست بذات شأن في حياة الأنواع، فإن
كل
تحول ضئيل يطرأ عليها، لا يمكن أن يكون حدوثه وتثبيته، في صور العضويات راجعًا إلى
الانتخاب الطبيعي، فإن أي تركيب من التراكيب العضوية، إن كان قد نشأ في الكائنات بتأثير
الانتخاب الطبيعي تأثيرًا متتابعًا على مدى الأزمان، فإن ضروب التحول تزيد وتتضاعف، إذا
ما أصبح غير ذي فائدة ما لنوع من الأنواع، كما أثبتنا ذلك فيما كتبناه في الأعضاء
الأثرية؛ ذلك لأن الانتخاب الطبيعي يمسك إذ ذاك عن أن يؤثر فيه، أو ضبط درجات تحوله؛
لتلاشي وجه النفع فيه، ولكنا إذا حكمنا، من ناحية النظر في طبيعة العضويات والظروف
المحيطة بها، بأن تحولات ما ليست بذات فائدة لحياة الأنواع، فإنا نرجح دائمًا، والغالب
أن يكون ترجيحنا صحيحًا، أنها قد انتقلت على حالة واحدة تقريبًا إلى سلالات عديدة،
متحولة الصفات في الوقت ذاته، وليس هنالك من شأن كبير للعديد الأوفر من ذوات الثدي
والطيور والزواحف، أن تكون ضروب التحول قد انتقلت إليها مكسوة بالشعر، أو الريش، أو
الدروع المصفحة، فإن الشعر قد تأصل في ذوات الثدي، والريش في الطيور، والحراشف في
الزواحف الصحيحة، وأن تركيبًا ما، أيًّا كان شأنه أو مكانته، قد نعتبره في الغاية
القصوى من الشأن والخطر، إذا ما لحظناه ذائعًا في كثير من صور العضويات المتقاربة
الأنساب، ومن ثم نُساق إلى الاعتقاد بأن ذو شأن حيوي كبير للأنواع.
٤٩
ومن هنا نُساق إلى الإيمان بأن الصفات «المورفولوجية»،
٥٠ التي نعتبرها في الغاية القصوى من الشأن، كنظام أوراق النباتات، وأقسام
الأزهار، والمبايض ووضع البويضات، وغير ذلك، لم تظهر في صفات العضويات، بداءة ذي بدء،
إلا بوصفها تحولات غير ثابتة، متراوحة بين البقاء والفناء، وأنها ثبتت من بعد ذلك، بصرف
النظر عما إذا كان ثباتها قد استقر زمانًا طويلًا أم قصيرًا، وأن ثباتها كان راجعًا
لطبيعة الكائن العضوي ذاته وطبيعة الظروف، والظروف المحيطة به، ورجوعًا إلى تزاوج بعض
الأفراد المعينة، وأن الانتخاب الطبيعي لم يكن ذا أثر بيِّن فيها، على أن هذه الصفات
«المورفولوجية» إذ تكون معدومة الأثر في إحداث أي نفع للأنواع، فهنالك لا يكون للانتخاب
الطبيعي من بد في استجماع أي حدث من أحداث الانحراف التركيبي فيه أو ضبط مناحيه، وإني
لأرى أن ما بلغ بنا إليه البحث حتى الآن، عظيم الفائدة جدير بالنظر والاعتبار؛ ذلك لأن
الصفات الضئيلة الفائدة لنوع ما، هي عند الناظرين في تصنيف العضويات ذات شأن كبير،
ولكنا سنظهر للباحث الخبير لدى الكلام في تصنيف العالم الحي، أن ذلك أمر بعيد عن
الواقع، كما يتضح لنا من أول نظرة نلقيها على هذا الموضوع.
على أننا إن كنا حتى الوقت الحاضر لم نعثر في نواحي الطبيعة على شواهد، تؤيد زعم
القائلين بالميل الطبيعي المؤصل في تضاعيف الكائنات الحية، ذلك الميل الذي يزعمون أنه
يسوقها في مدارج التطور الارتقائي، فإن عدم وجوده — لا محالة — ناشئ عن تتابع تأثيرات
الانتخاب الطبيعي، ووقوعها متتالية على مر الأزمان، كما أثبتُّ ذلك في [الفصل الرابع
من
هذا الكتاب]، نقول هذا؛ لاقتناعنا بأن أقرب تعريف علمي وُضِع للدلالة على حقيقة
«المعيار الأرفع للنظام العضوي»، تلك التي كثيرًا ما يعرض ذكرها في مدارج البحث العلمي،
هي أن تلك المعايير تنحصر في درجة ما تبلغ الأعضاء في مدارج التخصص؛ أي التنافر العضوي،
والانتخاب الطبيعي مسوق إلى بلوغ هذه الغاية، متى سهل للأعضاء سبيل القيام بوظائفها على
شكل أكثر نظامًا، وأبعد دقة.
•••
لقد استجمع في العهد الأخير عالِم من علماء الحيوان، الممتازين هو العلامة «سانت
جورج ميفارت»
٥١ كل الاعتبارات، التي تسنى لي ولغيري أن يستجمعها؛ لاتخاذها دليلًا يناقض
سُنة الانتخاب الطبيعي، التي أيدها «مستر وولاس»، وأيدتها في ثبت كتابي هذا، وذكر لهذه
الاعتراضات من الأمثال المشاهدة ما زادها قوة، وجعلها أكثر منعة، ولا مشاحة في أن تأييد
هذه المعترضات بتلك الأمثال قد جعلها أكثر ذيوعًا وانتشارًا، وأبعد أثرًا. أما وأن
العلامة «ميفارت» لم يوسِّع فيما كتب المجال لذكر الحقائق والاعتبارات، التي تضاد
النتائج التي وصل إليها في بحثه، فإن هذا الأمر لم يترك لدى القارئ، الذي يريد أن يقيس
النتائج ويوازن بين الحقائق، ويقلبها على كل وجوه النقد، أية فسحة للاسترشاد بشيء من
نور العقل والاستنتاج، أو استدراك شيء، بعيد إلى ذاكرته شيئًا فيه روح المناقضة لما جاء
به في سياق كلامه. فإن «مستر ميفارت» قد أغفل لدى الكلام في بعض الحالات الخاصة ذكر
تأثير سُنة الاستعمال والإغفال، تلك السُّنة التي جعلت لها في مذهبي شأنًا كبيرًا،
ومضيت من قبل في بحثها لدى الكلام في «التحول بالإيلاف»، بما لم يسبقني إليه كاتب من
الكاتبين بيانًا، واستفاضة على ما أعتقد، وظهر في بعض مباحثه معتقدًا بأنني لا أجعل
لسُّنة «التحول» من أثر، إلا من طريق الاتصال بالانتخاب الطبيعي، في حين أنني استجمعت
في أول كتابي هذا من المشاهدات والحقائق، التي تؤيد هذه السُّنة، ما لم يُستجمع في أي
مؤلف آخر على ما أذكر. على أن استنتاجاتي قد تكون معدومة القيمة، وليست بذات وزن ما،
ولكني شعرت بعد أن قرأت كتاب «مستر ميفارت» بعناية تامة، ووازنت كل قسم منه بما سقت فيه
من بحث، بأنني لم أكن في أي وقت من الأوقات أشد اقتناعًا، ولا أثبت عقيدة بصحة الحقائق
العامة، التي استنتجتها، بالرغم من بعض أخطاء جزئية، أحاطت بحثي هذا الموضوع
المعقد.
إن الاعتراضات التي أتى بها «مستر ميفارت» عامة، سيأتي الكلام فيها بعد، ولعلنا قد
تكلمنا فيها من قبل في هذا الكتاب، أما المسألة الجديدة التي أتى بها هذا الكتاب، وكان
له تأثير مبين في أذهان العديد الأوفر من القراء، فزعمه بأن الانتخاب الطبيعي ليس في
مستطاعه «أن يحدِث بسائط التدرج الأولية، التي تنتج التراكيب المفيدة للكائنات»، وهذا
الموضوع ذو علاقة كبيرة، بسُنة تدرج الصفات، التي غالبًا ما تكون نتائجها مصحوبة بتحول
في وظائف الأعضاء، كانقلاب العوامة في الأسماك إلى رئة للتنفس مثلًا، وهي مواضع أفضنا
القول فيها، في سياق الفصل الماضي في موضعين مختلفين. وعلى الرغم من هذا، فإني سأمضي
في
مناقشة طائفة كبيرة من معترضات «مستر ميفارت»، وسأقصر الكلام على أشدها ظهورًا في
مناقضة مذهبي، ولشد ما آسف لعدم استطاعتي مناقشتها كلها؛ لما أن ذلك يستغرق فراغًا
كبيرًا.
فإنا نجد في الزرافة، لارتفاع قامتها، واستطالة عنقها، وطول ساقيها الأماميتين،
ورأسها ولسانها، أن تكوينها العام قد أصبح ذا كفاية لرعي أوراق الأغصان العالية؛ ولذا
نراها تستطيع أن تحصل على غذاء ليس في مستطاع غيرها من «الأنعام»،
٥٢ التي تعيش وإياها في مكان واحد، الحصول عليه. ولا مشاحة في أن هذه الصفة
تكون ذات فائدة كبيرة لها عند حدوث قحط ما، وماشية «النِّياتة»
٥٣ في جنوبي أمريكا، مثال يبين لنا كيف أن التحولات التركيبية الضئيلة قد
تُحدث في دورات القحط فرقًا عظيمًا في الاحتفاظ بحياة الحيوان، هذه الماشية ترتعي
الحشائش كغيرها من الماشية، ولكن أفكاك هذه الماشية السفلى إذ هي بارزة عن أفكاكها
العليا، لا تستطيع أن ترتعي في دورات الجفاف الراجعة، البقايا الجافة التي تتخلف عن
الأشجار والبوص، التي ترتعيها الماشية العادية والخيل في مثل تلك الحال، ولا جرم، أن
«ماشية النياتة» تهلك إذ ذاك، إذا لم يغذِّها أصحابها، ويجدر بنا قبل أن نمضي في بحث
معترضات مستر «ميفارت»، أن نبين مرة أخرى كيف يتناول الانتخاب الطبيعي بالتأثير كل
الحالات العادية، فالإنسان مثلًا قد هذَّب من صفات بعض حيواناته الداجنة، من غير أن
يلقي بالًا إلى نواحي خاصة من تركيبها العضوي، بل إنه قد وصل إلى ذلك من طريق الاحتفاظ
بأقدر الأفراد عدوًا في خيل السباق وكلاب الصيد السلوقية، وبالأفراد المنتصرة الغالبة
من دِيَكَة القتال
٥٤ واستيلادها، كذلك الحال في الطبيعة، فإن أفراد أنواع الزراف التي كانت في
أول درجات تطورها ونشوئها، أقدر الأفراد على ارتعاء أعلى الأغصان، قد استطاعت في حالات
الجفاف أن تبلغ إلى أغصان أعلى بقليل مما استطاع غيرها من نوعها أن يبلغ إليه، ففازت
بحظ البقاء والسيادة، إذ تكون قد طافت بأنحاء مآهلها الأصلية، باحثة عن غذاء تقوِّم به
حياتها.
ولقد أظهرنا علم التاريخ الطبيعي على أن أفراد النوع الواحد غالبًا، ما تتباين
تباينًا ضئيلًا، من حيث النسبة في الطول في كل أنحاء تركيبها العضوي، وهذه التباينات
النسبية الضئيلة، التي ترجع برمتها إلى سُنن النماء والتحول، ليست بذات فائدة ما، عملية
أو غير عملية، للسواد الأعظم من الأنواع، ولكن الأمر كان على العكس من ذلك في أول تطور
نوع الزراف ونشوئه. نُساق إلى هذا، إذا رجعنا النظر كرة إلى عاداته، التي يغلب أن يكون
قد عكف عليها، بادئ ذي بدء، في حياته الأولى، مقتنعين بأن الأفراد التي كانت جل أعضائها
أو كلها أكثر استطالة من غيرها من أفراد النوع، هي التي حظيت بأن تنفرد بالبقاء، ومن
ثم
تزاوجت، وخلفت أنسالًا، جائز أن تكون قد ورثت بعض خِصِّيات آبائها البدنية، كما هو جائز
أن تكون قد خُلقت وفيها نزعة إلى التحول بمثل ما تحولت آباؤها، هذا بينما تقوى في
الأفراد الأقل حظًّا من الانتفاع بمثل هذه الصفات، نزعة إلى الاضمحلال، تُسلِمها إلى
الفناء.
ولن نجد في الطبيعة من ضرورة للاحتفاظ بزوج من كل نوع، كما يفعل الإنسان، إذا ما أزمع
أن يحسن من صفات نسل من الأنسال بطريقة نظامية؛ ذلك لأن الانتخاب الطبيعي من آثاره أن
يحتفظ بكل الأفراد ذات الغلبة، فيفصل بينها وبين غيرها من الأفراد، ومن ثم يهيئ لها سبل
التزاوج بعضها من بعض، وتقضي من طريق ذلك على كل الأفراد المنحطة بالانقراض، ويتتالى
هذا النهج، وتتعاقب تأثيرات ذلك الأسلوب أزمانًا متعاقبة، وهو أسلوب يشابه ما ذكرت من
قوة الانتخاب اللاشعوري في الإنسان تمام المشابهة، مع اقترانه بالتأثيرات الوراثية
الناتجة عن زيادة استعمال الأعضاء حينًا وإغفالها حينًا آخر، ويلوح لي غالبًا أن ذا
أربع من الأنعام العادية من المستطاع، مع مضيه متأثرًا بهذه العوامل، أن يصبح زرافة
كاملة الأوصاف.
ويعترض «مستر ميفارت» على هذه النتيجة في موضعين: الأول، ينحصر في زعمه بأن ازدياد
حجم البدن يحتاج، جريًا وراء بديهة العقل، إلى ازدياد كمية الطعام اللازمة لقوامه،
ويعتبر: «أن هنالك كثيرًا من الشك في أن المضار التي تنشأ من هذه الحال في خلال الأزمان
التي يندر فيها الغذاء، ويشتد القحط، قد ترجحها أوجه المنافع التي تحرزها
العضويات.»
غير أننا إذ ننظر في جنوبي أفريقيا، فنرى الزراف يعيش متكاثرًا في تلك البقاع، ونلحظ
أن أنواعًا من الإبل أكبر حجمًا من الثيران الوحشية، تذيع وتنتشر هنالك، فلم نشك في
وجود حلقات وصور تدرجية وسطى، أهلت بها تلك الأقاليم، واقعة تحت تأثير ضروب شديدة من
القحط، طالما تكرر وقوع أمثالها في هذا الزمان، على الضد مما يظن الأستاذ «ميفارت» من
أن ازدياد الحجم عامل اضمحلالي في حالة ندرة الغذاء، ونوع الزراف لدى أول عهده بالنشوء
والتطور؛ إذ كان ذا قدرة على الوصول، في كل حالة من حالات إلى ازدياد حجمه ودرجات ذلك،
إلى كمية من الغذاء لم يحسها غيره من ذوات الحافر، التي تقطن وإياه إقليمًا بعينه، فلا
مشاحة في أن كفايته على هذا الأمر كان لها بعض الفائدة؛ لتقويم كيانه هذا، في حين أنه
لا يجدر بنا أن نغفل عن أن ازدياد حجم البدن مؤثر خطير في الوقاية من الحيوانات
المفترسة، ما عدا الأسد، وعنق الزرافة، كما قال «مستر شونسي رايت» قد تستخدمه مرقبًا
للاستطلاع تتقي به غائلة الأسد، وكلما كان العنق في هذه الحالة أكثر طولًا وارتفاعًا،
كان أبعد نفعًا، وأعمق فائدة للحيوان. ويقول «سير س. بيكر»: وإننا لهذا السبب نلحظ أن
الزراف أكثر الحيوان حذرًا، وأدقه انتباهًا، وأشده في الصيد مراسًا، وهذا الحيوان
يستخدم عنقه الطويل، فضلًا عن هذا، كوسيلة للهجوم والدفاع؛ إذ يضرب برأسه المجهزة بتلك
القرون المدبسة القوية، ذات اليمين وذات الشمال بشدة عظيمة، وقوة فائقة. أما بقاء كل
نوع من الأنواع، فيندر أن يكون راجعًا إلى وجود وجه واحد من أوجه المنافع التي يحرزها،
بل يرجع في الغالب إلى اتحاد هذه الفوائد صغيرها وكبيرها.
•••
هنا ينتقل «مستر ميفارت» إلى الاعتراض الثاني من اعتراضيه متسائلًا: «إذا كانت مؤثرات
الانتخاب الطبيعي قد تبلغ هذا المبلغ، وإذا كان الارتعاء على الأغصان العالية ذا فائدة
إلى هذا الحد البعيد، فلماذا لم يحصل أي حيوان من الأنعام على رقبة طويلة وقامة مرتفعة
غير الزراف، متبوعًا بجنس الجمل و«الجُوَنْك»
٥٥ و«المَكرْوش»،
٥٦ وإن كانت هذه أقل من الزراف إمعانًا في هذه الصفات؟ ولماذا لم ينشأ في أي
من هذه العشائر خرطوم طويل مثلًا؟» أما في جنوبي أفريقيا، تلك البقاع التي أُهِلت فيما
مضى من الأزمان بقطعان عديدة من الزراف، فالجواب قريب وليس بمستغلق، وفي مستطاعنا أن
نزكيه ببعض أمثال، نوردها. فإننا نرى في كل مرج من مروج إنجلترا تنمو فيه الأشجار، أن
الأغصان السفلى قد حُدد مقدار ارتفاعها عن الأرض بمستوى ما تستطيع الخيل والماشية أن
تبلغ بالرعي منها، ولنصور لأنفسنا مقدار ما يكون من الفائدة التي تعود على الغنم لدى
تأصلها في مثل تلك المروج مثلًا، إذا اكتسبت أعناقًا تزيد في الطول قليلًا عن متوسط ما
لنوعها، ويوجد في كل بقعة من الحيوان ما يستطيع أن يرتعي أوراق أشجار أعلى بقليل عما
يبلغ إليه غيرها، وهنالك يكون من المحقق أن هذا الضرب من الحيوان وحده، هو الذي يمضي
الانتخاب الطبيعي مؤثرًا فيه بمعاونة سُنة الاستعمال بما يزيد من مقدار الطول في عنقه،
ليبلغ به هذه الغاية. أما المنافسة في جنوب أفريقيا في الارتعاء على أغصان الأشجار
العالية، مثل «السنط» وغيره من الأشجار، فلا تكون إلا بين بعض الزراف وبعض، لا بينه
وبين غيره من الأنعام.
أما السؤال الآخر، إذ يريد «مستر ميفارت» أن يعرف: لماذا لم تنشأ من جموع الصور
العضوية التابعة لهذه القبيلة، القاطنة في بقاع أخرى من كرة الأرض، ضروب قد كسبت على
مدى الأزمان أعناقًا، أو خراطيم طوالًا؟ فذلك ما لا يمكننا الإجابة عليه إجابة محددة،
ولا يجب أن ننتظر أن نجيب على هذا السؤال جوابًا شافيًا، بأكثر مما نجيب إذا تساءلنا:
لماذا وقعت بعض الحوادث التاريخية في بقعة من بقاع الأرض، ولم تقع في بقاع أخرى؟ كما
أننا لا نستطيع أن نعرف أن التحولات التركيبية تساعد على زيادة عددها في إقليم ما، أو
تكتنه تلك الطريقة، التي أثرَّت بها تلك الأسباب العديدة المجهولة، حتى أنشأت في بعض
أنواع عنقًا طويلًا، وفي آخر خرطومًا. أما الوصول إلى أغصان الأشجار العالية من غير
تسلق، كما هي الحال في الأنعام، فيحتاج بالضرورة إلى ازدياد حجم البدن.
وإنا لنعرف أن هنالك أصقاعًا، لا يأهل بها غير قليل من ضخام ذوات الأربع، وهي من أغنى
الأقطار بأشجارها الباسقة، كما هي الحال في جنوبي أمريكا، في حين أن جنوبي أفريقيا يعج
بها، أما سبب ذلك، فلا علم لنا به، كذلك تغمض علينا معرفة السبب في أن العصر الجيولوجي
الثالث، كان أكثر ملاءمة لإنتاج صور من ذوات الأربع فيها ضخامة وعظم، من عصرنا الحاضر،
ومهما تكن الأسباب المؤثرة في إنتاج هذه الصور، فإنا لنجد أن بعض أقاليم من سطح الكرة
الأرضية، وبعض أزمان من عصور تكونها، كانت أكثر ملاءمة من غيرها لإنتاج حيوانات من ذوات
الأربع، كالزراف، بادنة عظيمة الأحجام.
محتوم على كل حيوان استُحدثت فيه بعض التراكيب العضوية ذوات النماء والرقي أن تتهذب
أجزاء أخرى في تكوينه الآلي تهذيبًا وصفيًّا، حتى يصبح في مجموعه كلًّا متكيفًا متكافئ
الأجزاء، وكل جزء من أجزاء الكائن الحي إن تحول تحولًا ضئيلًا، فلا ينبغي لنا أن نعتقد
مع تحوله أن الأجزاء الجوهرية فيه، لا بد من أن تمضي متحولة في متجه ذي قيمة، فقد نعرف
أن بعض أجزاء في أنواع حيواناتنا الداجنة المختلفة تتحول، متباينة بعضها عن بعض كمًّا
وكيفًا، وأن قابلية بعض الأنواع للتحول أكثر من بعض، كما أنه لا يحق لنا أن نوقن، حتى
لدى ظهور التحولات ذوات الفائدة الحيوية، بأن الانتخاب الطبيعي لا بد من أن يمضي مؤثرًا
فيها، منتجًا تراكيب تلوح على ظاهرها ذات فائدة للأنواع. فإذا عرفنا مثلًا، أن عدد
الأفراد التي يأهل بها إقليم ما، قد حددت غالبًا بتأثير الحيوانات المفترسة التي
تقتلها، أو بتأثير الطفيليات التي تغزو أجسامها داخليًّا وخارجيًّا، كما يؤيد ذلك شتى
المشاهدات، فهنالك لا يتسع المجال لتأثير الانتخاب الطبيعي إلا قليلًا، أو أن تأثيراته
في تهذيب أي تركيب خاص معد للحصول على الغذاء مثلًا، قد يؤجل ظهورها زمانًا ما على
الأقل، وهنا لا ينبغي لنا أن نغفل عن أن الانتخاب الطبيعي مؤثر بطيء الفعل، جهد البطء،
وأن الحالات المفيدة للكائنات لا بد من أن يستمر أثرها أجيالًا مديدة متعاقبة، قبل أن
تظهر في التراكيب العضوية أية نتيجة ذات بال من طريق فعلها الدائم. أما إذا أغضينا عن
هذه الأسباب العامة الغامضة، التي نلحظ آثارها في أطراف العالم الحي، فلن نستطيع إذ ذاك
أن نعرف لماذا لم تُكسب الأنعام تراكيب متشابهة كطول العنق، أو أية أداة أخرى تمكِّنها
من الارتعاء على أغصان الأشجار المرتفعة.
ولقد أقام كثير من الكتَّاب اعتراضات شبيهة بما مر ذكره، في كثير من الظروف، كما خلط
كثير منهم، في كل حالة من الحالات التي أتوا على ذكرها، بين أسباب خاصة كثيرة، فضلًا
عن
الأسباب العامة التي ذكرتها في سياق بحثي هذا، وزعموا أنها تتدخل في تأجيل حدوث
التراكيب، التي يُظن أنها ذوات فوائد للأنواع بتأثير الانتخاب الطبيعي، فقد سأل أحدهم:
لماذا لم يكسب النعام ملكة الطيران؟ في حين أن قليلًا من التأمل يسوقنا إلى الاعتقاد
بأن زيادة معينة في كمية الطعام التي يحصل عليها هذا الطائر، الذي يسكن الصحارى
والقفار، تمكنه من القدرة على حمل جسمه البدين طائرًا في طبقات الهواء. والجزائر
الأوقيانوسية تأهل بكثير من صنوف الخفافيش والصيال، ولكنها لا تعضد شيئًا من ذوات الثدي
الأرضية، وبعض أنواع هذه الخفافيش من الأنواع الخاصة المميزة بصفات معينة؛ ولذا نوقن
دائمًا بأنها قد عمرت تلك الجزر التي تأهل بها أزمانًا متطاولة، حتى إن «تشارلز ليل»
قد
تساءل: لماذا لم تستحدث الخفافيش والصيال في مثل هذه الجزر صورًا قد تهيأت للعيش على
سطح الأرض؟ ولكنه أجاب على تساؤله هذا بما ينقع غلة الباحثين، فإن الصيال إن قُدِّر لها
تستحدث صورًا أرضية، وجب أن تتحول حيوانات مفترسة كبيرة الحجوم، ووجب أن تتحول الخفافيش
حيوانات أرضية من آكلة الحشرات، أما الحيوانات المفترسة التي يجب أن تتأثر من الصيال،
فلا طعام لها في تلك الجزر يعضد حياتها، وأما آكلة الحشرات التي تتأصل عن الخفافيش،
فالحشرات غذاؤها، غير أن الطيور والزواحف التي استعمرت تلك الجزر لدى أول عهدها
بالوجود، إذ تتخذ من الحشرات طعامًا، فإنها لن تترك لغيرها متسعًا لمشاركتها
فيه.
على أن التدرج التركيبي ذا الخطى المفيدة النافعة، لا يثبت في طبائع الأنواع الممعنة
في سبيل التحول إلا تحت تأثير ظروف وحالات خاصة، فإن حيوانًا ذا خِصِّية أرضية مؤصلة
في
تضاعيف فطرته وتكوينه، إذا اعتاد أن يقتنص بين وقت وآخر فرائسه في ضحاضح الماء، فمن
المرجح أن ينقلب حيوانًا مائي العادات، إلى درجة أن يزج بنفسه مغامرًا إلى عرض البحار
العليا، غير أن الصيال لا يواتيها في تلك الجزر من الحالات ما يساعد على أن تنقلب
بالتدرج حيوانات أرضية، ويغلب أن الخفافيش، كما بينا من قبل، لم تكسب أجنحتها إلا
بالاندفاع أولًا في خلال الهواء، متنقلة من شجرة إلى أخرى، كما هي الحال في السنجاب
الطائر، جادة في الهرب من أعدائها، أو متخذة ذلك ذريعة للوقاية من السقوط على الأرض،
على أن القدرة على الطيران الصحيح، إن كسبتها الطبائع العضوية في حالة من الحالات، فلن
تنقلب إلى حالة أخرى، رجوعًا بالتكوين إلى عدم القدرة على الطيران، مستبدلة ذلك بحالة
الاندفاع من غصن إلى غصن، أو من شجرة إلى شجرة لا غير، اعتمادًا على ما بينا من الأسباب
في الأسطر السابقة، وقد يجوز أن تكون أجنحة الخفافيش قد صغرت في الحجم، وقد تذهب آثارها
تمامًا بتأثير الإغفال، ولكن الخفافيش إن تدرجت نحو هذه الغاية، انبغى لها أن تكسب صفة
العدو السريع على الأرض، مستخدمة في ذلك أرجلها الخلفية دون الأمامية، حتى يتسنى لها
أن
تنافس الطيور والحيوانات البرية. أما وقوع مثل هذا التحول على الخفافيش، فبعيد
الاحتمال؛ لأن صفاتها الحالية تدلنا على عدم كفايتها لذلك، وعجزها عنه، وما أتيت على
هذه الملاحظات؛ إلا لأظهِر أن تدرج التراكيب العضوية تدرجًا تكون كل خطوة منه ذات فائدة
معينة، مسألة فيها كثير من الاستغلاق والغموض، وأن ليس هنالك من شيء يحملنا على العجب،
إذا لم نجد أن منهجًا ما من مناهج التدرج، قد استحدث في أية حالة من الحالات
الخاصة.
وأخيرًا، لقد تساءل أكثر من كاتب: لماذا لا نجد أن القوى العاقلة في بعض الحيوانات
أكثر تطورًا وارتقاء من بعض، ما دام هذا الارتقاء ذا فائدة لمجموعها؟ ولماذا لم تكسب
القردة العليا من القوى العاقلة بقدر ما كسب الإنسان؟ على أن لدينا من الاعتبارات
والأسباب ما نستطيع أن نورده ردًّا على هذا السؤال. غير أن هذه الأسباب، إذ هي في غالب
الأمر ظنية، وأوجه الترجيح والموازنة بينها لا يمكن أن توزن بميزان التدبر الصحيح، رأيت
أن لا فائدة من ذكرها، وأنَّا لا ينبغي لنا أن نعثر على جواب محدود معين على هذا
السؤال، إذا ما عرفنا أننا لا جرم، نعجز عن الإجابة على سؤال أقل من هذا تعقيدًا، كما
لو تساءلنا عن الأسباب، التي تسوق إحدى سلالتين همجيتين من سلالات النوع البشري إلى
منزلة من المدنية، أرقى من التي تبلغ إليها أخرى، في حين أن هذا الرقي يتطلب بطبيعة
الحال أن تكون لهذه السلالة قوى ذهنية، زائدة عما يكون لغيرها.
وخليق بنا، أن نعود في هذا الموطن إلى معترضات «مستر ميفارت» مرة أخرى، فإن الحشرات
قد تحاكي أشياء كثيرة، حتى تتقي الغوائل من طريق هذه المحاكاة، فقد تكون بلون الأوراق
الخضر أو اليابسة، أو الأغصان الميتة، أو قطع من الأشنة، أو الأزهار، أو السنابل أو
إفرازات بعض الطيور، أو غيرها من الحشرات الحية. وسوف أعود إلى بحث هذه المسألة الأخيرة
بعدُ.
قد تكون المحاكاة قريبة جهد القرب، ولا تكون في اللون وحده، بل تتعدى إلى الصورة،
وقد
تتناول الطريقة التي تعضد بها الحشرة نفسها فوق ما تعلق به من المواد، فاليساريع إذ تقف
معدومة الحركة، كأنها جزء من الأغصان الميتة التي تتغذى بها، لمثال من أكثر الأمثال
تعبيرًا عن حالة من هذه الحالات الخاصة. أما الحالات التي تشابه فيها الحشرات إفرازات
بعض الطيور فنادرة الحدوث، شاذة؛ ولذا يقول «مستر ميفارت»: «إننا إذا تابعنا البحث،
مقتنعين بنظرية «مستر داروين» فلا جرم، نعتقد أن هناك ميلًا دائمًا في تضاعيف الفطرة
الحية، بدفعها في مناهج غير محدودة، وأن بعض التحولات الأولية الضئيلة، إذ تظهر في كل
طرف من أطراف العالم العضوي، فإن بعضها لا محالة يُساق إلى التأثير في بعض بما يعادل
بينها، وأن هذا النهج يحدث حالة غير ذات ثبات في التكييفات يصعب، إن لم نعتقد أنه
يستحيل علينا، أن نكتنه معها كيف أن مثل هذه التحولات غير المحدودة، الناشئة عن تغيرات
متناهية في الضئولية وحقارة الشأن، قد تستحدث في العضويات حالة، تمكنها من محاكاة ورقة
من أوراق الأشجار، أو غيرها من الأشياء، بحيث يمكن أن يؤثر الانتخاب الطبيعي في نشوئها،
أو يكون له ضلع في الوصول إلى غاياتها.»
غير أن الحالات التي ذكرناها من قبل، تدل واضح الدلالة على أن الحشرات كانت بدون أدنى
ريب، ذات قدرة على محاكاة بعض الأشياء، التي تقع حفافيها في مآهلها الأصلية محاكاة غير
تامة، وفي بعض الأحيان دون بعض. وليس هذا ببعيد عن الواقع، نقتنع بذلك إذا ما تدبرنا
ساعةً مجموعة الأشياء التي تحف بالحشرات في الطبيعة، واختلافها وتعددها، وتغاير صور
الحشرات، التي تعيش حفافي هذه الأشياء، وتباين ألوانها. ولما كانت صفة المحاكاة لا بد
من أن تبدأ في الحشرات بصورة غير تامة، بداءة ذي بدء، ففي مكنتنا أن نفقه كيف أن
الحيوانات العليا ذوات الضخامة والعظم، إذا استثنينا الأسماك، لا تحاكي شيئًا مما يقع
حفافيها في الطبيعة من حيث الصورة؛ لتقي بذلك ذاتها، بل إنها لم تحاكِ الأشياء التي تحف
بها إلا في الظاهر من حيث اللون لا غير، وإذ كان المفروض أن الحشرات قد حاكت أول الأمر
غصنًا ميتًا، أو ورقة ذابلة محاكاة ما، وأنها مضت في التحول تحولًا ضئيلًا محتذية مناهج
مختلفة، كان لا مندوحة لنا عن الاعتقاد بأن هذه التحولات عامة، قد مهدت للحشرات سبيل
البلوغ إلى غاية، عندها حاكت الأشياء التي تحف بها، وبذلك أضحت أكثر نصيبًا من البقاء
بالوقاية نحو مفترسيها، في حين تمضي التحولات الأخرى، التي لا تؤدي إلى هذه الغاية،
مسرعة في سبيل الإغفال، ومن ثم تُساق إلى التلاشي والفناء، أو نقول بعبارة أخرى: إن هذه
التحولات إذا مهدت للحشرات سبيل الاختلاف والتباين عن الأشياء المحيطة بها، فإن هذا
المنهج يكون لا محالة، مؤديًا بهذه الحشرات إلى الانقراض. ومعترضات «مستر ميفارت» هذه
قد تُكسب بعض القوة، وقد تجتلي فيها شيئًا من بواعث الإقناع، إذا تدبرنا تلك المحاكاة،
التي نراها ممثلة في نزعة العضويات إلى محاكاة ما يحيط بها من الأشياء، ناظرين فيها من
ناحية سُنن التحول غير الثابتة، مغفلين النظر فيها من ناحية الانتخاب الطبيعي، ولكنا
على أية حال لا نستطيع ذلك، ما دامت المسألة على ما نعلم من حقائقها، ولا يكاد علمنا
بها يكون شيئًا.
كذلك لم أقع على شيء من القوة في اعتراض «مستر ميفارت»، حيث ساق الكلام في بلوغ
الحشرات من المحاكاة أقصى درجات الكمال، فهنالك حالة ذكرها «مستر وولاس» في الحشرات العضوية،
٥٧ الشبيهة «بعصا نما عليها حزاز،
٥٨ أو «حزمانيا».
٥٩ فإن مشابهة هذه الحشرة لما يحيط بها، من الظهور والجلاء، بحيث إن أحد
السكان الأصليين قد أكد لمستر «وولاس» أن «الزوائد الورقانية»،
٦٠ التي تنشأ عالة ببعض الأغصان، ليست سوى حزاز حقيقي.» وكلنا يعلم أن الحشرات
يفترسها الطير، وغيره من الأحياء التي كثيرًا ما نجد أن قوة أبصارها أنفذ من قوة
أبصارنا؛ ففي كل درجة من الدرجات التحولية نحو المحاكاة، التي تساعد حشرة ما على
الاختفاء عن أنظار مفترسيها، تعضد بقاء هذه الحشرة، وتزيد حظها في الحياة، وكلما كانت
المحاكاة أتم، زادت الفوائد التي تجنيها الحشرات. فإذا تدبرنا طبيعة الفروق الكائنة بين
أنواع العشيرة، التي تلحق بها هذه الحشرات، فإننا لا نجد هنالك ما يحول دون القول بأن
ظاهر جسمها بعد أن مضى ممعنًا في الشذوذ والخروج عن القياس، تغير لونه في درج ذلك،
فازدادت أو قلَّت خضرته بسبب حاجتها؛ لأننا قد لاحظنا دائمًا لدى النظر في مجموع الصور
العضوية، أن الصفات التي تتباين في أنواع عديدة، هي أكثر الصفات استعدادًا للتحول، في
حين أننا وجدنا أن الصفات الجنسية، وهي الصفات العامة التي يشترك في الاتصاف بها كل
أنواع الجنس الواحد، هي أكثر الصفات ثباتًا على حالة واحدة.
•••
إن حوت «غرينلاندة»
٦١ من أغرب الحيوانات، التي تعمر كرة الأرض، والعظم الحوتي؛ أي البَلِّين،
٦٢ فيه من أخص تراكيبه العضوية، وأثبت صفاته التكوينية. ويتكون البلين من صفين
على جانبي الفك الأعلى، ويحتوي كل صف منها على ثلاثمائة صفحة، تقع متجاورة بعضها بجانب
بعض، وتتلاصق متعارضة حول أطول محور للفم، وبجانب كل من هذين الصفين بعض صفوف إضافية،
أقل من الرئيسية حجمًا. أما نهايات هذه الصفائح وأطرافها الداخلية التي تكون في داخل
الفم، فمجزَّأة أجزاء مغشاة بشعر كث كثيف، يغطي صفحة ذلك الفم العظيم، وتلك صفة
يستخدمها ذلك الحيوان الهائل؛ ليرشح بواسطتها الماء، أو يفرزه من فمه من غير أن يحتاج
إلى فتحه، وبذلك يستطيع قنص فرائسه الصغيرة، التي يعيش عليها؛ إذ يأسرها داخل فمه
الكبير، والصفحة الوسطى، وهي أطول الصفحات في فم الحوت «الغرينلاندي» قد تبلغ عشر
أقدام، وقد تتجاوز ذلك إلى اثنتي عشرة أو خمس عشرة قدمًا طولًا. ولكنا نجد في فصيلة
الحيتان تحولًا تدرجيًّا في طول هذه الصفائح، فطول الصفائح الوسطى قد يكون في بعض
الأنواع كما قال «أسكورسبي»، أربع أقدام، وفي البعض الآخر ثلاثًا، وفي غيرها ثماني عشرة
بوصة، وفي نوع «الحوجن المنقاري»
٦٣ حوالي تسع بوصات طولًا. وكذلك تركيب هذه الصفائح العظمي، فإنه يختلف
باختلاف الأنواع.
ولقد تدبَّر «مستر ميفارت» العظم الحوتي طويلًا، فلاحظ: «أن هذا العظم إذا بلغ من
النماء والطور مبلغًا يصبح معه ذا فائدة لهذا الحيوان، فإن حفظه، وبقاءه، وتخصيصه
للقيام بوظيفة معينة، يكون في هذه الحال منوطًا بمؤثرات الانتخاب الطبيعي، ولكن لأي من
الأسباب الأُخر نعزو ابتداء مثل هذا التدرج النشوئي وأمثاله، بادئ ذي بدء، ولقد نسائل
أنفسنا، إذا ما أزمعنا الإجابة على هذا السؤال: ولماذا لا نرجح أن الأصول الأولى، التي
نشأت عنها الحيتان ذوات العظم الحوتي، لم يكن فمها ذا صفائح رقيقة، تشابه تلك الرقائق
التي نراها في منقار البط؟ فإن مثل البطء، كمثل الحوت، كلاهما يعيش بإفراز الماء والطين
من أفواهها، حتى إن فصيلة البط قد أُطلق عليها في بعض الأحيان اصطلاح «الفوارز»؛ أي
«الطيور الفارزة»
٦٤ وإني لأؤمل ألا يسيء أحد فهم ما أقصد، من المقارنة بين أصول الحيتان
الأولية، وبين البط، والقول بترجيح أن تلك كانت في سالف الأزمان، ذوات صفائح رقيقة
كصفائح البط العادي، فإن ما أقصده من ذلك لا يتعدى حد التمثيل، لأثبت أن وجود هذه
الصفائح أو الرقائق في أصول الحيتان في سالف العصور، أمر ليس ببعيد الوقوع، وأن صفائح
العظم الحوتي العظيمة في حوت «غرينلاندة»، قد يجوز أن تكون قد مضت متطورة عن مثل هذه
الصفائح الصغيرة، بخطوات تدرجية غير محسة، وكانت كل خطوة منها ذات فائدة خاصة لهذا
الحيوان.»
إن منقار «البط المجرفي»
٦٥ لأكثر جمالًا، وأرقى تكوينًا من فم الحوت، فقد وجدت في صورة من صور هذا
البط درستها بنفسي، أن كلا جانبي الفك الأعلى مهيأ بصف مشطي، مؤلف من مائة وثمانٍ
وثمانين رقيقة رخوة لينة، مائلة على قطاع زاوية منحرفة، حتى تكاد تكون أفقية الوضع،
وتتعارض حول أطول محور للفم، وهي تنشأ في داخل الفم، عالقة بعضو غشائي ذي مرونة، يكون
على جانبي الفك الأعلى، أما الرقائق التي تقع في الوسط، فهي أطولها، وتبلغ ثلث بوصة
طولًا، وتبرز في امتداد ٠٫١٤ من القيراط بعد الحافة، وفي قاعدة هذه تجد صفًّا قصيرًا
من
الرقائق الإضافية، منحرفة الوضع متعارضته، وفي هذه الاعتبارات كلها، نلحظ أن هذه
الرقائق تشابه الرقائق التي نراها في فم الحوت شبهًا كبيرًا، لولا أن رقائق البط تختلف
اختلافًا بينًا في أنها بدلًا من أن تبرز إلى أسفل الفم، كما في الحوت، فإنها تمتد في
داخله. ورأس البط المجرفي إن كان صغيرًا جدًّا بالنسبة لرأس الحوت، فإنني لاحظت أن رأس
هذا البط يبلغ ١ / ١٨ من رأس النوع المسمى «الحوجن المنقاري»، وهو نوع لا تزيد صفائحه،
التي وصفناها على تسع بوصات طولًا، فإذا فرضنا أن رأس هذا البط سوف يبلغ، تحت تأثير
ظروف ما، من الطول مبلغ رأس الحوت الذي ذكرنا، فإن صفائح فمه يجب أن تبلغ مطاوعة لنماء
رأسه، ست بوصات طولًا؛ أي يصبح طولها ثلثي طول العظم الحوتي في هذا النوع، والفك الأسفل
في البط المجرفي مزود برقائق تبلغ رقائق الفك الأعلى طولًا، ولكنها أكثر رخاوة، وهذه
صفة تباين صفة الحوت مباينة ظاهرة؛ لأن فك الحوت الأسفل خلوٌ من الرقائق العظمية،
وفضلًا عن ذلك، فإن مؤخر رقائق الضبة (الفك الأسفل) في البط مجزأة أجزاء كثيرة، يكسوها
شعر ناعم أملس، حيث تشابه في هذه الصفة عظام الحوت تمام الشبه، وفي «البريون»
٦٦ — وهو جنس تابع لفصيلة النورس — نجد أن الفك الأعلى وحده مهيأ بصفائح رخوة
دون الفك الأسفل، راقية التركيب بارزة تحت الحافة، بحيث نجد أن منقار هذا الطير يشابه
من هذه الوجهة فم الحوت.
لقد أرسل إليَّ «مستر سالفن» طائفة كبيرة من
الملاحظات، مشفوعة بصور ضروب عديدة من البط درستها بنفسي الدرس الوافر؛ ولذا لم أجد
عندما تابعت البحث، متنقلًا من الكلام في وصف منقار «البط المجرفي» على ما فيه من دقة
التركيب والتطور التكويني، إلى منقار البط العادي، صعوبة تحول دون اكتناء درجات النشوء
التحولي بين النوعين، بقدر ما فيهما من الكفاية للإفراز، فاجتليت تلك الخطى في درجات
تحول منقار نوع «المرغنيط الأدرع»،
٦٧ وبدرجة أقل بيانًا في نوع «الأكس الكفيل»،
٦٨ فإن النوع الأخير له رقائق رخوة أكثر خشونة وقوة من رقائق النوع المجرفي،
شديدة الاتصال بجانبي «الفك الأعلى»، ولا يتجاوز عددها الخمسين رقيقة على جانبي الفك،
وليس فيها بروز لأبعد من امتداد حافة الفم، والصفائح مربعة الرءوس، منتهية بأنسجة شفافة
معتدلة الصلابة، تستخدمها في طحن الطعام، ونهاية الضبة (الفك الأسفل) مقطوعة بحواف
عديدة، قليلة البروز، ومنقار هذا البط إن كان أقل عُدة للقيام بوظيفة الإفراز إذا قيس
بمنقار البط المجرفي، فإن هذا الطير، كما يعرف كل باحث، يستخدم منقاره للإفراز على أية
حال، وهنالك أنواع أخرى، كما أخبرني «مستر سالفن»، صفائحها أقل نشوءًا وتطورًا من البط
العادي. ولكن لم أعرف إن كانت هذه الأنواع تستخدم مناقيرها؛ لترشيح الماء وإفرازه، أم
لا.
والآن، ننتقل من بحث هذه الأنواع إلى قسم آخر من الفصيلة ذاتها، فإن منقار «الشَّنْلوب»؛
٦٩ أي الوز المصري، يشابه منقار البط العادي، ولكن الرقائق فيه ليست عديدة،
كما أنها غير منفصلة بعضها عن بعض، وبروزها في داخل الفم غير كبير، وعلى الرغم من هذا،
فإن هذا الوز، كما أخبرني «مستر بارتلت» يستخدم منقاره، كما يستخدم البط منقاره؛ لينثر
به الماء من أركانه، وطعام هذا النوع الحشائش عادة، يقتطعها بمنقاره، كما يفعل الوز
العادي، ورقائق الفك الأعلى في هذا الوز أكثر خشونة، عما هي في البط العادي، في حين
أنها قليلة التلاصق، وعددها سبعة وعشرون على كلا جانبي الفك، منتهية في أعلاها بعُقد
تشابه الأسنان. وطوار الفم مغطى بعُقد صلبة ذات استدارة، وحافة الضبة (الفك الأسفل)
مهيأة بأسنان أشد بروزًا وأكثر خشونة وحدة مما هي في البط، والوز العادي لا يرشح الماء
ولا يفرزه، بل يستخدم منقاره في قطع الحشائش والأعشاب وتمزيقها، وتلك وظيفة هُيئ لها
هذا العضو، بحيث يستطيع الوز أن يقتطع به بقايا الأعشاب ما لا يبلغ إليه غيره، وهنالك
أنواع أخرى من الوز، سمعت عنها من «مستر بارتلت»، رقائقها أقل نشوءًا وتطورًا مما هي
في
الوز العادي.
من هنا يتضح لنا أن صورة من فصيلة البط، تكوين منقارها يشابه تكوين منقار الوز
العادي، وتنحصر كفاءة المنقار فيه للقيام بوظيفة ارتعاء الحشائش والأعشاب، أو أية صورة
أخرى رقائقها أقل نشوءًا وتطورًا من رقائق الوز العادي، من المستطاع أن تنقلب إحداهما
بتحول أجزائها تحولًا ضئيلًا على مدى الأزمان، نوعًا يماثل الوز المصري، وهذا الوز قد
ينقلب صورة أخرى تشابه البط العادي، ومن ثم يبلغ بهذا التطور مدى تصبح عنده صورة يشابه
تركيبها البط المجرفي، مهيأ بمنقار قد أُعد لترشيح الماء وإفرازه، لا لشيء غير ذلك؛ لأن
هذا الطير لا يستخدم منقاره للقيام بوظيفة أخرى، اللهم إلا مقدمه المستدير، حيث يلتقط
به غذاءه، ويمزق به ما يجده منه صلبًا قويًّا، ولا يجدر بي أن أغفل هنا ذكر أن الوز قد
ينقلب منقاره بوقوع التحول التدرجي عليه، عضوًا قد هُيئ بسن بارز ملتوٍ، كما نرى في نوع
«الغاءوص»،
٧٠ وهو نوع من الفصيلة نفسها؛ ليقوم بوظيفة مغايرة تمام المغايرة لما كان يقوم
به من قبل، فيصبح معدًّا لاصطياد الأسماك الحية، واتخاذها طعامًا.
ولنعد الآن، بعد أن أفضنا في شرح هذه الحالات، إلى الحيتان، فإن نوعًا منها يُسمى
اصطلاحًا «الأُبْرود الأسنن»،
٧١ وليس له شيء من الأسنان الحقيقية التي يصح أن تقوم بعمل ما، بل إن محيط
فمه، كما قال «لاسبيد»، مخشوشن، ومهيأ بقطع قرنية بارزة صغيرة، صلبة غير متساوية، ومن
ثم لا نجد أمامنا ما يحول دون القول: بأنه من الجائز أن بعض صور من مرتبة الحيتان كانت
تملك فيما مضى من العصور مثل هذه القطع القرنية واقعة من حول محيط الفم، غير أنها كانت
أكثر انتظامًا من حيث الوضع، وكانت كما نرى في العُقد التي نلحظها في منقار الوز، تساعد
تلك الصور على التقاط غذائها وتمزيقه. فإذا صح هذا، كان من الصعب على الباحثين أن
ينكروا ترجيح القول: بأن هذه القطع القرنية قد تحولت بتأثير سُنة التحول والانتخاب
الطبيعي، رقائق رخوة، بلغت من النماء مبلغ الرقائق، التي نشاهدها في الوز المصري، وفي
تلك الحال، تكون قد استُعملت للقيام بوظيفتين معًا، الأولى: الإمساك بالأشياء المادية،
والثانية: ترشيح الماء وإفرازه، ومن ثم تحولت هذه الصفائح إلى أخرى تشابه تلك التي
نراها في البط الداجن، وهكذا على مر الأيام، حتى بلغت من رقي التركيب وحسن التكوين مبلغ
رقائق البط المجرفي، فأصبحت أداة لترشيح الماء وإفرازه لا غير، ومن ثم تُساق إلى درجة،
قد تبلغ فيها الرقائق في هذه الأنواع، ثلث طول الرقائق الحوتية في نوع «الحوجن
المنقاري»، فتتخطى الأنواع حدود هذا التدرج إلى صفائح العظم الحوتي، التي نراها في حوت
«غرينلاندة»، وهي خطى تدرجية، في مستطاعنا أن نستبينها في ضروب من الحيتان، لا تزال
تعمر بحار الأرض في هذا الزمان، وليس لدينا في هذه الحال من شك يحملنا على إنكار أن كل
خطوة من تلك الخطى التدرجية، كانت ذات فائدة لنوع من أنواع الحيتان، التي عمرت بحار
العالم القديم، بحيث مضت وظائف كل جزء من أجزائها، ممعنة في التحول خلال أدوار التطور
النمائي، التي طرأت عليها، شأنها في ذلك شأن خطى التدرج، التي استبناها في منقار صور
فصائل البط المختلفة العائشة اليوم. وهنا لا يجب أن تنسى، أن كل نوع من أنواع البط، قد
وقع تحت تأثيرات قاسية من سُنة التناحر على البقاء، وأن تركيب كل عضو من بنية هذه
الأنواع، لا بد من أن يكون ذا كفاية تامة لظروف الحياة المحيطة به.
•••
إن أعجب ما في الأسماك المسطحة،
٧٢ أن أجسامها غير متماثلة،
٧٣ فإن هذه الأسماك تعتمد عند الراحة على جانب واحد من جانبيها، والقسم الأعظم
من أنواعها يتخذ الجانب الأيسر تكأة، وقلَّ من أنواعها ما يتخذ الجانب الأيمن، ويندر
أن
يعثر الباحثون على أمثال من هذه الأسماك تخالف هذه القاعدة. أما الجانب الأسفل، وهو
الجانب الذي تتخذه تكأة لها، فيلوح مشابهًا، لدى أول نظرة تُلقى عليه، للسطح البطني في
أية صورة من صور الأسماك العادية، وهو أبيض اللون، أقل نماء في كل مظاهره من نماء السطح
الأعلى، في حين أن الزعانف الخلفية في هذه الأسماك، تكون أقل حجمًا من الأمامية، غير
أن
عيون هذه الأنواع تزودنا بأبلغ ما نصل إليه من مواضع الحيرة فيها؛ ذلك لأن كلتا العينين
مركزة في أعلى الرأس، وصغار هذه الأسماك، في غرارتها الأولى، تكون عيونها مقابلة أحدهما
للأخرى، وأجسامها متماثلة،
٧٤ وكلا جانبيها بلون واحد، ثم لا تلبث العين المركزة في الجانب الأسفل من
سطحها أن تتمشى متنقلة في الوضع شيئًا فشيئًا من حول الرأس متجهة نحو الجانب الأعلى من
الجسم، ولكنها لا تمر في جولتها هذه من داخل الجمجمة كما كان المظنون من قبل، بل إنها
تلزم السطح الخارجي. ولا خفاء في أن العين السفلى إن لم تنتقل نقلتها الطبيعية هذه، فلا
مشاحة في أنها تصبح معدومة الفائدة، لا يستخدمها هذا الكائن حال رقاده على سطحه الأسفل،
وأن عينه السفلى تبلى لدى احتكاكها بالرمال، التي يتوسدها هذا الحيوان في أعماق الماء،
أما القول بأن «الأسماء المسطحة» بتسطح تركيبها البدني، وعدم انتظامه، قد أصبحت ذات
كفاية رائعة لعاداتها في الحياة، فثابت من صفات كثير من أنواعها «كسمك موسى»،
٧٥ و«الفَنْدَر»
٧٦ وغيرهما. وهي أنواع قلَّ من الناس من لم تقع تحت نظره، وأبين الفوائد التي
تجتنيها تلك الأنواع من صفاتها هذه أثرًا، وأعمها فائدة، هربها عن مفترسيها، وسهولة
حصولها على غذائها من الأرض. ولقد لاحظ العلامة «شيود» أن أعضاء هذه الفصيلة على
اختلافها، تؤلف سلسلة من الصور، تمثل كل منها حالة تدرجية في النشوء، من نوع
«الأَبْغَلوس الجسيم»،
٧٧ وهو نوع لا يتغير شكله الظاهر منذ تفارق أجنته بيضاتها، التي تنقف عنها،
إلى «سمك موسى»، التي لا توجد إلا مستلقية على أحد جانبيها.
ولقد استهدى «مستر ميفارت» بهذه الحالة، مثبتًا أن تحولًا عضويًّا واقعًا بمحض
الاختيار الذاتي في موضع العين، لما يعافه العقل، وإني لأوافقه على هذا الرأي جهد
الموافقة، غير أنه عقَّب على ذلك قائلًا: «إن التحول العضوي، متى كان وقوعًا تدرجًا،
فإن القول بإحراز فائدة من تحول موضع العين جزءًا من مسافة تلك السياحة العضوية، التي
تجري فيها العين السفلى نحو الجانب الآخر من الجمجمة في كل فرد من أفراد هذه الأنواع،
لأمر بعيد أن نستبين وجه الصواب فيه، والظاهر من هذا الأمر أن تحولًا أوليًّا كهذا، إن
وقع فلا شك، يكون مضرًّا لا صالحًا.» غير أن «مستر ميفارت» قد يقع مع البحث على برهان
ينقع غلته، إذا ما ألقى بنظرة على تلك الملاحظات القيمة، التي أوردها الأستاذ «مالم»
في
بحث نشره في سنة ١٨٦٧، فإن الأسماك المسطحة لدى أول عهدها بالحياة، حيث تكون أجسامها
ذات نظام ما، وتكون عيونها على جانبي الجمجمة، لا تقوى على الاحتفاظ بوضع عمودي زمانًا
طويلًا، لصغر حجم أبدانها، وضئولة زعانفها الجانبية، وخلو تركيبها من عوامة للسبح، على
العكس من الأسماك، وبذلك يأخذ منها التعب والإنهاك، فتهوي إلى عمق الماء، مستلقية على
جانب واحد من جانبيها، وبينما هي ملقاة على تلك الحال، نراها وقد ألوت بعينها السفلى،
كما لاحظ الأستاذ «مالم»؛ لتتمكن من النظر إلى أعلى، وترى تلك الأسماك، وقد أخذ منها
الجهد، إذ تلوي بعينها السفلى، حتى إن عينها تلك؛ لتضغط على أعلى الجفن أشد ضغط. أما
مقدم الرأس فيما بين العينين، فيلاحظ انكماشه انكماشًا مؤقتًا، فيقل مقدار عرضه، ورأى
«مالم» في حالة ما، سمكة صغيرة من تلك الأسماك، ترفع عينها السفلى ثم تخفضها، في معدل
زاوية مقدارها سبعون درجة تقريبًا.
ولا يجب أن ننسى أن الجمجمة في ذلك الدور من النماء تكون غضروفية مرنة، وبذلك تتأثر
بحركة العضلات، والمعروف في الحيوانات العليا أن الجمجمة، حتى بعد انقضاء زمان الطفولة
الأولى، يتغير شكلها إذا انكمشت البشرة أو العضلات انكماشًا دائمًا، بتأثير المرض، أو
أي حدث آخر، فالأرانب الطويلة الآذان، إذا تدلت إحدى أذني فرد منها نحو الأمام والأخرى
إلى الخلف، فإن ثقل الأذن يجذب كل عظام الجمجمة إلى جانب واحد. ولقد عثرت لذلك على مثال
صورته، واحتفظت به. وذكر الأستاذ «مالم» أن صغار سمك «الفرخ»،
٧٨ و«الصمون»
٧٩ لدى أول عهدها بالنقف، وخروجها إلى الحياة، وكذلك غيرها من الأسماك ذوات
الأشكال المتماثلة، من عاداتها أن تستلقي على جانب واحد من جانبيها في عمق الماء، ولاحظ
أنها غالبًا ما تلوي بعينها السفلى؛ لتتمكن من النظر إلى أعلى، وأن جماجمها تصبح في تلك
الحال محدودبة إلى حد ما. غير أن هذه الأسماك سرعان ما تصبح قادرة على الاحتفاظ بجسمها
في وضع عمودي، فيزول تأثير ذلك، ولا يترك في تراكيبها حدثًا، أما الأسماك المسطحة فعلى
العكس من ذلك، كلما تقدمت في العمر زادت فيها غريزة الاستلقاء على جانب من جانبيها،
لازدياد تسطح جسمها، كلما مضت ممعنة في السِّن، ومن هذه الطريق يتأصل فيها بفعل
عاداتها، تأثير دائم يغيِّر من شكل الدماغ، ومن وضع العينين. أما إذا اتخذنا القياس في
مثل هذه الحال قاعدة للنظر والحكم، فلا يسعنا إلا أن نقضي بأن النزعة إلى تشويه الخلق
القياسي في تلك الأسماك، لا بد من أن يتضاعف بتأثير ناموس الوراثة. ويعتقد الأستاذ
«شيود»، على العكس مما تعتقده فئة غيره من الطبيعيين أن الأسماك المسطحة ليست بذات نظام
خلقي متجانس، حتى في حالتها الجنينية. فإذا صح ذلك أمكننا أن نفقه كيف أن من الأنواع
المعروفة، إذ تكون في أول أدوار طفولتها، ما يتخذ الاستلقاء على الجنب الأيسر، وأخرى
على الجانب الأيمن، عادة. وزكَّى الأستاذ «مالم» هذه المشاهدات، بأن ذكر أن الفرد
البالغ من النوع المسمى اصطلاحًا «الإخشين الجمدي»،
٨٠ وهو نوع بعيد النسب عن الأسماك المسطحة، يستلقي على جانبه الأيسر في قاع
الماء، ولا يسبح، متخللًا الغمر إلا منحرف الوضع، ويُقال: إن جانبي الرأس في هذه
الأسماك مختلفان اختلافًا ما. ويقول دكتور «جونتر»، وهو أكبر ثقة في حياة الأسماك في
آخر ملخصه، الذي وضعه في أبحاث «مالم»: «إن المؤلف قد أعطى تفسيرًا بسيطًا لشذوذ
الأسماك المسطحة.»
ومن هنا لا نشك، بعد الذي استوضحناه فيما سبق، من أن أولى الخطى التدرجية، التي تمضي
العين ممعنة فيها نحو التحول من جانب الرأس إلى الجانب الآخر، مفيدة أكبر الفائدة
للأفراد وللنوع في مجموعه، تلك الخطى التي يقضي «مستر ميفارت» بأنها ضارة: ويمكننا أن
نعزوها إلى تأثير عادة، حيث تجهد أنفسها محاولة الإبصار بعينها السفلى إلى أعلى، بينما
تكون مستلقية على جنبها في قاع الماء، وفوق هذا نستطيع أن نعزوه إلى توارث مؤثرات
الاستعمال. حقيقة إن أفواه كثير من أنواع «الأسماك المسطحة» ملتوية نحو الجانب السفلي،
الذي تستلقي عليه، وأن عظام ضباتها (أفكاكها السفلى)، إذ تكون في الجانب المعدوم العين،
أشد صلابة، وأمعن قدرة على القطع من أفكاكها التي تكون في الجانب الأعلى، لسبب ذكره
الدكتور «تراكوير»، حيث قضى برجوع ذلك إلى سهولة اجتناء غذائها من سطح الأرض، التي
تستلقي عليه. كذلك نُساق إلى أن نعزو إلى الإغفال من جهة أخرى، مظاهر الضئولة التي
نراها في الجانب الآخر من الجسم، حيث يكون أقل نماء، بما في ذلك من انضمار الزعانف
الجانبية، بيد أن الأستاذ «ياريل» يعتقد بأن انضمار هذه الزعانف مفيد للنوع، بما «أنه
لا يوجد مجال لاستعمالها، مع وجود الزعاف العليا ذوات القدرة والنماء.» كذلك قد نعزو
إلى الإغفال قلة عدد الأسنان، حيث هي بمتوسط أربع أسنان إلى سبع في طوَارَيْ «الفك
الأعلى»، وكثرة عددها في طِوَارَىْ «الفك الأسفل»، حيث هي بمتوسط أربع وعشرين إلى
ثلاثين سنًّا في البلِّيس،
٨١ أما صفاء السطح البطني، وعدم اختصاصه بلون ما في أكثر الأسماك، وعديد وافر
من الحيوانات الأخرى، فقد نعزوه بحق في الجانب الأسفل من السَّيْطوحِيات، سواء أكان
الجانب الأيمن أم الأيسر، لسبب طبيعي، ينحصر في عدم تعرضها لمؤثرات الضوء. أما الترقط،
الذي نلاحظه في الجانب الأعلى من سمك موسى، ومشابهته لسطح الرمال الكائنة في قاع اليم،
أو تلك القدرة التي نلاحظها في بعض أنواع الأسماك على تغيير لون إهابها بما يحاكي لون
البيئة المحيطة بها، كما أوضح ذلك «مسيو بوشيه» حديثًا، أو وجود درنات، أو عُقد عظيمة
في الجانب السطحي من «الفِرْطاح»،
٨٢ فذلك ما لا نستطيع أن نعزوه إلى تأثير الضوء، وهنا فقط نرجح كل الترجيح، أن
الانتخاب الطبيعي قد يبدأ أثره في الظهور لأعين الباحثين، ظهوره في تحوير شكل الجسم
العام في هذه الأسماك، وغير ذلك من خِصِّياتها الأخرى، حتى تصبح ذات كفاءة تامة للقيام
بما تتطلبه ظروف حياتها. ولا ينبغي لنا أن نغفل، كما أوصيت بذلك قرائي من قبل، عن أن
المؤثرات المتوارثة الناتجة عن كثرة الاستعمال، وربما كانت ناتجة عن الإغفال أيضًا، قد
يعضدها الانتخاب الطبيعي؛ ذلك لأن «التغايرات الذاتية» المفيدة، لا بد من أن تُصان،
وتُحفظ في تضاعيف التراكيب العضوية، كما هي الحال في تلكم الأفراد التي تتوارث بصفة
عامة، تأثيرات ازدياد الاستعمال في أي جزء من أجزاء تكوينها، أما الحكم على مقدار ما
نعزوه من الآثار لسُنة الاستعمال، ومقدار ما نعزوه منها إلى ناموس الانتخاب الطبيعي،
فذلك ما لا نستطيع أن نصل إليه بحكم، أو نتقصاه بقاعدة.
وفي مستطاعي أن أورد هنا مثالًا آخر، نستبين منه حالة تركيب عضوي يرجع أصله، بحسب
الظاهر، إلى سُنة الاستعمال، أو العادة لا غير، فإن مؤخر الذَّنَب في بعض سعادين
أمريكا، قد تحول إلى عضو تام الكفاءة للقيام بوظيفة التعلق بالأشياء، حتى أصبح في حكم
يد خامسة في هذه السعادين، ولقد ذكر أحد المشايعين في الرأي ﻟ «مستر ميفارت»، في سياق
مقال كتبه عن ملاحظات أستاذة: «إن من المستحيل أن نعتقد أن الكفاية التي كانت لهذه
السعادين من أولى خطى تحولها نحو التدرج في غريزة التعلق بأذيالها، قد يمكن أن تكون قد
مضت، في خلال أي عدد مفروض من الأجيال، مؤثرة في حياة الأفراد التي تكون ممعنة في
سبيلها، أو زادت من حظوتها لدى الطبيعة فحبتها بالنسل والقدرة على تنشئته والقيام
عليه.» غير أنني لست أرى من حاجة لمثل هذا المعتقد، فالعادة، وفي مدلولها وجود فائدة
تعود على الأحياء من العكوف عليها، سواء أكانت كبيرة أم صغيرة، تكفي وحدها، على أي
الوجوه قلبت ضروب الترجيح والاحتمال لأن تبعث على البدء في خطى التحول. فقد رأى الأستاذ
«برهم» صغار نوع من قردة أفريقيا من جنس «الذيال»،
٨٣ متعلقة في بطون أمهاتها بأيديها، لافة في الوقت ذاته أذنابها الصغيرة
بأذناب أمهاتها. ولقد أسرَ الأستاذ «هنسلو» بعض فئران الحصاد ليست أذنابها معدة للتعلق
بالأشياء، ولكنه لاحظ أنها كانت تلف أذنابها على فُريع، كان موضوعًا في وسط محبسها،
فتمكنت من التسلق، ووصلتني رسالة من الأستاذ «جونتر»، لاحظ فيها أن فأرًا قد استطاع أن
يحمل جسمه، لافًا ذَنَبه على شيء ما، فإذا فرضنا مثلًا، أن فئران الحصاد قد تنقلب
عاداتها إلى الاختصاص بالعيش على الأشجار، فإننا نرجح أن أذنابها لا بد من أن تتحول
طبيعتها إلى عضو مختص بالتعلق، كما هي الحال في بضع صور أخرى تابعة لمرتبتها الطبيعية.
أما التساؤل لِمَ لم تبلغ سعادين أفريقيا «الذيالة» التي سبق ذكرها، تلك الدرجة من
التحول؟ فمن الصعب أن نجيب عليه، غير أنه من الممكن أن يكون طول أذناب هذه السعادين ذا
فائدة لها، في استخدامه أداة لحفظ موازنة الجسم لدى قيامها بتلك القفزات الهائلة، التي
تقفزها من مكان لآخر، أكثر منه عضوًا معدًّا للتعلق بالأشياء.
•••
إن الغدد الثديية صفة عامة في طائفة الثدييات جميعًا، وهي فوق ذلك صفة ضرورية
لبقائها؛ لذلك لا نشك مطلقًا في أنها قد ضربت في النماء والنشوء منذ أزمان موغلة في
القدم. ولا شك في أننا لا نستطيع أن نكتنه الآن بطريقة علمية تلك السبل، التي أنتجتها
تلك الغدد، واتخذتها للنشوء سبيلًا. يتساءل «مستر ميفارت»: «هل في مستطاعنا أن نلحظ في
نواحي الطبيعة حالة، نثبت بها أن وليدًا من نتاج أي نوع من الأنواع قد نجا من الفناء،
بأن ارتضع بالمصادفة بضع قطرات من سائل مغذٍّ تفرزه غدة، تضخمت تحت ظاهر بشرة الأم
اتفاقًا؟ ولو فرضنا حدوث ذلك، فأية فرصة أو سبب وُجد حينذاك ليساعد على الاحتفاظ بمثل
هذا التحول الجديد؟» غير أن هذا السؤال لم يُوضع بطريقة قويمة، فإن الاعتقاد السائد في
أذهان العديد الأوفر من زعماء مذهب النشوء، أن الأثداء تأصلت لدى أول نشوئها عن جراب
عضوي، وإذا صح ذلك تحقق لدينا أن الغدد الثديية قد تكونت بداءة في داخل الكيس الجرابي،
فالأسماك المعروفة باسم «فرس البحر»،
٨٤ ينقف بيضها عن صغار، يتولاها الكبار بالرباية في داخل جراب من هذا الصنف.
ويعتقد «مستر لوكوود»، وهو من أشهر علماء أمريكا، اعتمادًا على ما لاحظه من نماء صغار
هذا السمك، أنها تتغذى بإفرازات غدد تكون تحت البشرة في ذلك الجراب، فإذا رجعنا بالنظر
كرة إلى أسلاف ذوات الثدي الأقدمين، في تلك الأزمان التي لم تكن قد بلغت فيها من التحول
مبلغًا حقيقًا، بأن يحملنا على أن نصرف عليها هذا الاسم، أفلا يغلب أن نرجح على الأقل،
أن تكون صغارها قد غُذيت بطريقة مشابهة لهذه؟ وفي هذه الحال تعقب الأفراد، التي تفرز
من
السائل ما هو أوفر مادة، بحيث يكون مقاربًا للَّبن الحقيقي بدرجة بطريقة ما، على مر
الأزمان، عددًا من الأعقاب توافر غذاؤها، زائدًا عما تعقب الأفراد، التي تفرز في السائل
ما ضعفت فيه مواد الغذاء. ومن هنا نُساق إلى القول بأن تلك الغدد الجلدية، التي تتجانس
والغدد الثديية تمام التجانس، لا بد من أن تكون قد تهذبت صفاتها، أو زادت منفعتها، وعظم
أثرها، وتلك حالة تلتئم، وما ذكرنا من ناموس «التخصص» بأن تكون بعض الغدد الموجودة في
جزء خاص من ذلك الجراب، قد أصبحت أكثر نماء وتهذيبًا عن بقيتها، ومن ثم كونت أثداء
صدرية، كانت في مبدأ أمرها بغير حلمات، كما نلحظ ذلك في النفطير (خلد الماء)، باعتباره
أحط سلسلة ذوات الثدي في هذا الزمان، أما الحكم في أي البواعث والأسباب كان من أثره،
أن
يخصص بعض الغدد للقيام بوظيفة في جزء ما من البدن دون بعض؟ فذلك ما لا أحاول أن أقضي
فيه بحكم، أإلى تأثير «التعاوض» في النماء، أم لمؤثرات الاستعمال، أم للانتخاب الطبيعي
أعزوه؟
ولا مشاحة، في أن نماء الغدد الثديية قد يصبح معدوم النفع، وما كان ليبلغ الانتخاب
الطبيعي منه بأثر، ما لم يكن في صغار الحيوانات من الاستعداد ما يسوقها إلى الانتفاع
بما تفرزه تلك الغدد من السائل المغذي، ولست أجد صعوبة في بحث الكيفية، التي دفعت ولائد
ذوات بفطرتها إلى ارتضاع أثداء أمهاتها، ما يفوق تلك الصعاب التي تعترضنا إذا ما أمعنا
في بحث ذلك المؤثر الخفي، الذي يرغم الفرخ على كسر قشر البيضة، حيث يمسها مسًّا لطيفًا
بمنقاره المهيأ للقيام بهذا العمل، أو كيف أن الفرخ بعد أن تنقف عنه البيضة ببضع ساعات،
تراه قد فقه طريقة التقاط الحب بمنقاره. وإني لأرى أن أقرب فكرة توصلنا إلى حل هذه
المعضلات تنحصر في القول بأن العادة قد كُسبت بالتجربة، بداءة ذي بدء، خلال عصور موغلة
في القدم، ومن ثَم انتقلت العادة من الآباء إلى الأبناء منذ أزمان بعيدة. ويُقال إن
صغار ذوات الكيس — مثل «الكنغر»،
٨٥ لا ترضع أثداء أمهاتها، بل تكتفي بأن تثبت أفواهها في حلمة الثدي، في حين
تكون الأم قادرة على أن تصب فرز ثديها صبًّا في فم رضيعها، حيث يكون في تلك الحال ناقص
التكوين. ويلاحظ «مستر ميفارت»، أنه إذا عدمت الصغار وسيلة تزدرد بها طعامها، فهي لا
محالة تستنكر إذ ذاك أن يجري شيء من اللبن في قصبة الهواء التي تتنفس منها، غير أننا
لا
نقصر البحث على وسيلة عامة، تقوم مقام الوسيلة الخاصة، فإن الحلقوم يكون في مثل تلك
الحال ذا استطالة، حتى إنه يستقيم في امتداده إلى منتهى الحد الظاهر في قناة الأنف،
وبذلك لا يعوق الهواء دون الوصول إلى الرئة، في حين أن اللبن يتدفق، من غير أن يحدث أي
ضرر بالرضيع، مارًّا بجانبي الحلقوم على استطالته، ومن ثم يبلغ إلى فوهة المريء،
ويتساءل بعد ذلك «مستر ميفارت»: «كيف يستطيع الانتخاب الطبيعي أن يزيل من «الكنغر»
البالغ، بل من ذوات الثدي كافة، على اعتبار أنها متسلسلة عن صورة من ذوات الكيس، ذلك
التركيب الساذج على بعده عن أن يحدث ضرر ما؟» وقد ندفع هذا الاعتراض، بأن الصوت، وهو
أداة ذات شأن كبير لكثير من ذوات الثدي، قد يصعب استخدامه بحرية تامة ما دام الحلقوم
متغلغلًا إلى مستوى قناة الأنف. ولقد ذكر لي الأستاذ «فلاور» أن هذا التركيب لا بد من
أن يضر أشد الضرر بحيوان يغتذي بمواد صلبة.
•••
والآن نعيد النظر كرة، ونرجع بأفكارنا لمامًا إلى الأقسام الدنيا من مملكة الحيوان،
فهنالك نجد أن «الشوكيات»
٨٦ (الشوكية الجلد)، ومنها صليب البحر وقنفذ البحر، قد هُيئت بأعضاء جديرة
بالبحث وإنعام النظر، يُقال لها «الرحيلات» اصطلاحًا، وتتكون حين بلوغها أقصى النماء
من
كلابات ذوات أصابع ثلاثة؛ أي من كلابة ذات ثلاثة أذرع، منشارية الحد، متلاحمة تلاحمًا
تامًّا، مركزة في أعلى ساق لين، غير ذي صلابة، وتحركها عضلات ما، وهذه الكلابات في
استطاعتها أن تمسك بأي جسم يصادفها. ولاحظ «إسكندر أغاسيز» «أخَنوسًا»؛
٨٧ أي قنفذًا من قنافذ البحر،
٨٨ يتلاقف كلاباته قطعًا من مفرزات ممر من كلَّاب إلى آخر في خط معين من
الجسم؛ ليصون بذلك قشرته من عوامل الفساد. ولكني لا أشك مطلقًا في أن لهذه الكلاليب،
فضلًا عن قيامها بدفع الأقذار عن جسم هذا الحيوان، خِصِّيات وفوائد أخرى؛ الدفاع عن
النفس أحدها، بل أظهرها وأبينها.
وهنا تساءل «مستر ميفارت»، كما يتساءل في كثير من المواطن الأخرى، إذا ما نظر في
هذه
الأعضاء: «ماذا تكون فائدة هذا التركيب العضوي لدى أول تكوينه، حيث يكون في غرارته
الأولى؟ وكيف يحتمل أن مثل هذه البدايات العضوية تكون قد حمت قنفذًا واحدًا من قنافذ
البحر من مخالب الموت والهلاك؟» ويضيف إلى ذلك: «إن نماء حركة القبض فجأة، لا يمكن أن
يصبح ذات فائدة، ما لم يصحبه تحرك الساق حركة حرة تامة، وكذلك الساق، لا يمكن أن تمسي
ذات أثر بغير ذلك الطرف الحائز لخاصة القبض، في حين أنه من المستبعد أن تقع تحولات
ضئيلة غير محدودة، تسوق هذه التراكيب المتناسبة المتلائمة إلى التطور في وقت واحد، وعلى
نحو ما، أما إذا أنكر أحد ذلك، فليس ثمة في إنكاره من شيء، اللهم إلا الوقوع على تناقض
بيِّنٍ صريح» … ومهما يكن في ذلك من تناقض يظهر ﻟ «مستر ميفارت» جليًّا واضحًا، فإنه
في
بعض ضروب من «صليب البحر» كلاليب ثلاثية الأجزاء، قاعدتها غير قابلة للحركة، بيد أننا
نجدها قادرة على القيام بحركة القبض والإمساك، فإذا استخدمتها هذه الحيوانات معدات
للدفاع عن النفس، كلها أو جزء منها، فإنك — لا شك — واقع على وجه الفائدة منها. وأخبرني
«مستر أغاسيز»، كما أنه حباني من قبل بكثير من المعلومات الضافية في هذا الموضوع: أن
من
«صليب البحر» ضروبًا، انضمرت فيها إحدى الكلاليب الثلاثة؛ لتكون أداة تساعد الكلابين
الآخرَين على القيام بوظيفتهما، هذا فضلًا عن أجناس أخرى فقدت إحدى كلاباتها الثلاث،
وأصبحت باثنتين لا غير، وفي النوع المسمى اصطلاحًا «الأخينُون»،
٨٩ يكون في القشرة أو الصدفة، كما وصفها «مسيو برييه»، شكلان من الكلاليب،
يشابه أولهما كلاليب «قنفذ البحر»؛ أي «الأخنوس»، والآخر يشابه كلاليب النوع المسمى
اصطلاحًا «أسبطجوس».
٩٠ وهذه المشاهدات وما يماثلها لها أهميتها؛ حيث تظهِر لنا وجوهًا من التحولات
الفجائية، من حيث فقدان حالة من حالتين، يكون عليهما عضو من الأعضاء.
أما الخطى الانتقالية، التي مضت هذه الأعضاء متطورًة فيها، فإن «مسيو أغاسيز» يعتقد،
اعتمادًا على ملاحظاته الشخصية ومباحث الأستاذ «مولر»، أن الرجيلات الكلابية في صلبان
البحر وقنافذه، يجب أن تُعتبر في مباحث التطور شوكات أولية، تطورت على مر الأزمان،
نستنتج هذا الحكم من طريقة نمائها في كل فرد من أفراد هذه الحيوانات، كما أننا نستبينها
في سلسلة منظومة من الخطى التدرجية، نلحظ آثارها في مختلف الأنواع والأجناس؛ إذ تكون
في
البعض منها مجرد عُقد بارزة، وفي البعض الآخر شوكات مدبسة، وفي أرقاها رُجيلات مثلثة
الأطراف. على أن خطى هذا التدرج قد تُستبان حتى من طريقة اتصال مفاصل هذه العُقد
البارزة، أو تلك الرجيلات الثلاثية وأجزائها الكلسية بالصدفة القشرية ذاتها. وفي
مستطاعنا أن نقع مع البحث في بعض أنواع من «صليب البحر» على حالات تثبت لنا تلك
التكونات التدرجية، التي يحتاج إليها الباحث ليثبت أن هذه الرجيلات لم تكن سوى بروزات
شوكية انتابها التهذيب والارتقاء. فإنا نجد صنفًا من هذه الشوكات مثبتًا على ثلاث
قواعد، منشارية التركيب، واقعة على ثلاثة أبعاد متساوية، ذات مفاصل تقرب بُعدَ ما بين
القواعد، التي ترتكز عليها، وفي نهاية كل من هذه الشوكات نتوء عضوي متحرك، فإذا نما في
قمة كل هذه الشوكات نتوء عضوي، فإنها تكون في تلك الحال رجيلات ثلاثية أولية التركيب،
ومن المستطاع مشاهدة هذه الحالة في كل شوكة على حدتها، مع ما يتبع ذلك من ثلاثة
النتوءات القاعدية السفلى، وهنالك لا يستطيع باحث طبيعي أن يشك فيما هو كائن بين أطراف
هذه الرجيلات، وبين النتوءات المتحركة، من التشابه التام، والاعتقاد السائد بين
الطبيعيين أن الشوكات العادية لا تُستخدم إلا آلات للدفاع عن النفس. فإذا صح ذلك، انتفى
عنا كل شك يحملنا على الريبة في أن تلك الشوكات المهيأة بتلك النتوءات المتحركة
المتشابهة التكوين، لم توجد إلا للقيام بهذه الوظيفة عينها، ومن ثم قد يمكن استخدامها
لأغراض أبعد من ذلك خطرًا لدى انقباضها، فتصبح عضوًا معدًّا للأسماك، والقبض على
الأشياء التي تصادفها، وبذلك يكون كل تدرج سيقت فيه هذه الأعضاء، مذ كانت شوكات عادية،
إلى أن أصبحت رجيلات حقيقية تامة، ذا فائدة معينة.
ونجد في أجناس خاصة من «صلبان البحر»، أن هذه الأعضاء قد ركزت على قمة ساق، إن كان
قصيرًا، فإنه عضلي مرن غير ذي صلابة، بدلًا من أن يكون مثبتًا، أو محمولًا على قاعدة
غير متحركة، وفي هذه الحالة قد تقوم تلك الأعضاء بوظيفة إضافية فوق استخدامها آلات
للدفاع عن النفس. ونستطيع إذا ما تدبرنا «قنافذ البحر»، أن نستبين خطى التدرج فيها،
بحيث نجد أن شوكة مركزة في القشرة الصدفية، قد تصبح ذات مفاصل متصلة بالقشرة، بحيث تمسي
بهذه الطريقة ذات قدرة على الحركة، وكنت أود لو اتسع أمامي المجال، فأورد ملخصًا أوفى
من ملاحظات الأستاذ «أغاسيز»، التي أوردها في نماء هذه الرجيلات، فإن كل الخطى
التدرجية، كما يقول هذا الأستاذ العظيم، في نماء هذه الرجيلات في «صلبان البحر» وتطورها
عن تلك المشابك المعقوفة في «الأفيتريات»،
٩١ وهي عشيرة أخرى من «الشوكيات» من المستطاع الوقوف عليها، كذلك لا يبعد
علينا أن نقف على خطى التدرج الواقعة بين رجيلات صليب البحر التامة التكوين، وبين أهلاب
«الألثوريات»،
٩٢ وهي فصيلة من شعب الشوكيات الكبير.
•••
لبعض الحيوانات المركبة — المعروفة علميًّا باسم «زوفيتا»،
٩٣ كما اصطلح على تسميتها الباحثون، وعلى الأخص «البلزويات»
٩٤ — أعضاء تُسمى «النتوءات المنسرية»،
٩٥ وهذه الأعضاء تختلف اختلافًا بينًا باختلاف الأنواع، غير أنها في تمام
نمائها وحالاتها الصحية تشابه رأس نسر ومنسره كل الشبه، رغم صغر حجمها، وتلوح كأنها
مركزة على عنق له القدرة على التحرك، كما هي الحال في الأفكاك السفلى تمامًا. ولاحظت
في
نوع من الأنواع، أن كل النتوءات المنسرية الكائنة على شعبة بعينها من جسم الحيوان،
تتحرك في وقت واحد إلى الأمام وإلى الخلف، في زاوية مقدارها تسعون درجة، بينما تكون
فاغرة فكها الأسفل جهد مستطاعها، خمس ثوانٍ من الزمان، أما حركة هذه النتوءات، فإنها
تجعل جسمها «يضطرب، بل يهتز اهتزازًا عنيفًا، فإذا أدنيتَ دبوسًا دقيقًا من فكيها،
فإنها تلزم عليه بشدة، حتى إن الشعبة تبقى مهتزة باهتزاز الجسم.»
ذكر «مستر ميفارت» هذه الحالات — حالات «النتوءات المنسرية» في «البلوزيات»
و«الرجيلات» في «الشوكيات» — ويتخذها دليلًا على ما يزعم من صعاب، تعتور سبيل تكوين
أعضاء، تتفق من حيث الأصل بتأثير الانتخاب الطبيعي، في أجزاء من النظام العضوي يبعد
بعضها عن بعض جهد البعد، في مراتب مملكة الحيوان. غير أنه في مستطاعي أن أفضي، اعتمادًا
على ما يظهر من تراكيب هذه الأعضاء، بأنه ليس هنالك من مشابهة بين الرجيلات الثلاثية،
وتلك النتوءات المنسرية، فإن الأخيرة تشابه «جفوت»
٩٦ «القشريات» بعض الشبه. وكان في مستطاع «مستر ميفارت» أن يتخذ مشابهة هذه
الأعضاء لأعضاء في القشريات (الحيوانات القشرية) حالة فيها من قوة المصارعة ما في تلك،
ويقضي بأنها من معضلات نظرية النشوء، أو أن يتخذ مشابهتها لرأس الطائر ومنسره سبيلًا
إلى ذلك!
ويعتقد «باسك»، ودكتور «سميث»، ودكتور «نتشه» وهم من أعلام الطبيعيين، الذين درسوا
هذه الفصائل درسًا ممتعًا، أن النتوءات المنسرية في «البلازوا»، تتجانس وتلك «الزَّوودات»
٩٧ والخلايا التي منها يتألف «الزُّوفيتا»،
٩٨ أما الشفة أو الغطاء المتحرك في الخلية، فتنظر إلى الفك الأسفل المتحرك في
النتوءات المنسرية. أما «مستر باسك» فلم يستبعد تلك التدرجات، التي كانت ذات فائدة من
أن ينقلب أحدها فيصير كالآخر، غير أن ذلك غير مفضٍ بنا إلى القول بأن هذا التدرج لم يقع
في زمن من الأزمان.
غير أن «جفوت» أو «رجيلات» القشريات إذ تشابه إلى درجة ما نتوءات «اللوزوا» المنسرية،
وكلاهما يقوم بوظيفة واحدة؛ إذ يُستخدم أداة للقبض والإمساك، فواقع الأمر واحتمال
الفائدة من البحث، يسوقاننا إلى المضي فيه، علَّنا نظهر أن في جفوت القشريات سلسلة من
التدرج المفيد، لا تزال ماضية في هذه السبيل. ففي أول التدرجات وبداياتها، نجد أن
الفلقة الأخيرة الواقعة في نهاية الكلاليب، تمضي متجهة إلى الأسفل، إما نحو القمة
المربعة العريضة الواقعة قبل الفلقة الأخيرة مباشرة، وإما نحو جانب من جوانبها، وبهذه
الحركة تقتدر على الإمساك بشيء ما يصادفها، في حين أن الأطراف تُستخدم في الوقت ذاته
أداة للانتقال والحركة، نجد من بعد ذلك أن ناحية من نواحي الفلقة العريضة الواقعة قبل
الأخيرة مباشرة، بارزة بروزًا ضئيلًا، وقد تكون في بعض الأحيان مهيأة بأسنان غير ذات
انتظام، وفي متجهها تمضي الفلقات الأخرى، متحركة إلى أسفل، كما لو كانت سدادة، تغلق على
ثقب، فإذا ازداد مقدار هذا البروز، واقترن ازدياد البروز بتهذيب ما في أوصاف الفلقة
الأخيرة، فإن الكلاليب تمضي إذ ذاك ممعنة في سبيل الارتقاء والكمال، حتى تصل في آخر خطى
التدرج إلى أن تكون أداة تبلغ من الكفاية مبلغ الخيلات
٩٩ في «السَّلعطون البحري»،
١٠٠ وكل هذه التدرجات يمكن استقصاؤها.
وفضلًا عن هذه النتوءات المنسرية، فإن في «البلوزوا» أعضاء تُدعى «الشوكات المهتزة»،
١٠١ وتتألف هذه الأعضاء عادة من أهلاب طويلة، ذات قدرة على الحركة، سهلة
الاستثارة، وبحثت نوعًا من «البلوزوا»، فوجدت أن هذه «الشوكات المهتزة» منحنية انحناء
ضعيفًا، وحافتها الخارجية منشارية على امتدادها، وأن كل هذه الشوكات تهتز اهتزازًا في
وقت معًا، حتى إن هذه الأعضاء هي في هذا الحيوان أشبه بمجاديف طويلة، كانت تمد إحداها
بسرعة فائقة إلى عدسة الكشف في مجهري، فإذا وقع شيء على هذه الشوكات، شُلت حركتها، وإذ
ذاك يعمل الحيوان جهد ما يستطيع؛ ليستطيع يستعيد حركته الحرة. ويزعم بعض الباحثين أن
هذه الشوكات تُتخذ آلات للدفاع عن النفس. على أنه في قدرتنا أن نلاحظ، كما لاحظ مستر
«باسك» من قبل، أنها تتحرك برفق، وتؤدة؛ لتزيل كل المواد التي قد تعلق بظاهر الصدفة،
التي تسكنها مما يكون مضرًّا بتلك الأفراد الرخوة اللينة، إذا امتدت ملامسها إلى خارج
الصدفة، وقد تكون النتوءات المنسرية كالشوكات المهتزة، كلاهما عدة للدفاع عن النفس، غير
أنها في الوقت ذاته تقوم بالقبض على بعض الحيوانات الأُخر وقتلها. ويعتقد بعض الباحثين
أن تلك الحيوانات بعد أن تقتل الحيوانات الصغيرة، يحرك تيار الماء هذه القتلى على ظاهر
الصدفة، حتى تبلغ بعدًا عنده تستطيع ملامس «الزوود» بلوغها، والقبض عليها. وبعض الأنواع
مجهز بنتوءات منسرية وشوكات مهتزة في وقت واحد، والبعض منها بنتوءات فقط، والأقلية
بشوكات لا غير.
ليس من الهين، أن نتصور شيئين أكثر اختلافًا في الشكل الظاهر من تلك الشوكة المهتزة
والنتوء المنسري، الذي يشابه رأس الطير ومنسره. مع كل ذلك، فهذان التركيبان يكادان أن
يكونا مستأنسين، وكلاهما تهذب متطورًا عن أصل واحد يجمع بينهما، هو «الزوود» بخليته
الصدفية. من هنا نستطيع أن نفقه، كيف أن قدرة الأعضاء قد تمضي متدرجة في بعض الحالات،
كما أخبرني بذلك «مستر باسك»، حتى يستحيل بعضها إلى بعض. كذلك نشاهد في نتوءات أنواع
عديدة من الجنس المسمى «لبريل»،
١٠٢ أن الجزء الأسفل المتحرك، كثيرًا ما ينشأ مشابهًا لكلابة ما، حتى إن وجود
المنسر الأعلى منها وحده، قد يثبت ما في النتوءة من طبيعة الشوكة، على أن من المحتمل
أن
تكون الشوكات قد تهذبت، متطورة تطورًا مباشرًا عن شفاه الخلايا، من غير أن يمر عليها
عهد كانت فيه نتوءات صحيحة مميزة. غير أن القول بمرورها في التطور بهذه الخطوة أكثر
احتمالًا؛ لأنك تجد أن بقية أجزاء الصدفة، التي تتضمن «الزوود» ذاته في أول درجات
تحولها، لا تزول دفعة واحدة، ففي حالات عديدة، ترى أن للشوكات قاعدة محززة ترتكز عليها،
يُظن على الأغلب أنها العضو المناظر للمنسر الراكز الثابت في النتوءات المنسرية، ذلك
على الرغم من أن هذه القاعدة فاقدة في أنواع أخرى، وهذا الرأي في نشوء هذه الشوكات
ونمائها، إن صح، كان كبير الفائدة؛ لأننا إذا فرضنا أن الأنواع المهيأة بالشوكات
المهتزة قد انقرضت من الوجود، لما أصبح في مستطاع أحد، مهما أُوتي من قوة الفَهم
والتصور، أن يحدس أن هذه الشوكات كانت في أول أمرها جزءًا من عضو، يشبه رأس الطير، أو
يماثل علبة غير ذات نظام، أو يقرب من قنزعة الطير، وإنه لمن أكبر الأشياء نفعًا، أن يقف
الباحث على عضوين شديدي التباين، قد نشآ عن أصل واحد، فإن تلك الشفة المتحركة في الخلية
الصدفية، إذ هي تُستخدم أداة لحفظ حياة الحي «الزَّوُود»، فليس ثمة من صعوبة تحول دون
الاعتقاد بأن صور التدرج، التي أدت بتلك الشفة إلى التطور، حتى صارت فكًّا أسفل في
النتوءات المنسرية، ثم شوكة مستطيلة في الحالة الثانية، قد كانت كذلك صالحة للقيام
بوظيفة أخرى، تحت تأثير ظروف متباينة.
•••
يتخذ «مستر ميفارت» من عالَم النبات حالتين لا غير: الأولى، في تركيب أزهار النباتات
السحلبية، والثانية، في حركة النباتات المتسلقة، فيقول في الحالة الأولى: «إن كل توضيح
وصل إليه العلم في أصل هذه النباتات غير مرضٍ، بل إنه غير كافٍ ليعبِّر لنا عن تلك
البدايات الأولية، التي انتابت هذه النباتات، ولم تصبح ذات فائدة للنوع، إلا بعد أن
بلغت حدًّا من التهذيب كبيرًا.»
ولا يسعني أن أُدلي بإطناب، ردًّا على الأستاذ «ميفارت» في هذا الموطن، لما تقصيت
به
هذا المبحث من استفاضة في كتاب آخر؛ ولذا أراني مضطرًا إلى الكلام تفصيلًا في بعض
الخِصِّيات ذوات الشأن في أزهار السلحبيات، ولتكن ملاقيحها
١٠٣ موضع اختيارنا، فإنك تجد أن الملقِّح في هذه النباتات يتكون، إذا ما بلغ حد
نمائه الطبيعي، من ركام حبوب اللقاح مركزة على ذُنيب
١٠٤ نباتي مرن، وهذا الذنيب يقوم على جِرم صغير من مادة شديدة المرونة، وبهذه
الوسيلة تنقل الحشرات كتل اللقاح، من زهرة إلى مياسم أخرى، ولا نجد في بعض السحلبيات
ذنيبات نباتية تثبت عليها كتل حبوب اللقاح، بل إن حبوب اللقاح تكون مرتبطة بعضها إلى
بعض بخيوط دقاق، غير أن هذه الحالة، إذ كانت غير مقصورة على السلحبيات، فلا حاجة إلى
الإطناب في شرحها، بل أقصر الكلام فيها على النظر في أحط صور «السحلبيات»، ولنختر نوع
«الكربيد»؛
١٠٥ لنعرف كيف تتكون هذه الخيوط، بداءة ذي بدء، ففي بعض أنواع أخرى من
السحلبيات، تلتصق هذه الخيوط بطرف واحد من أطراف كتلة اللقح (الملقاح)، وهذه الحالة
تمثل لنا أول خطى النشوء، التي يمضي فيها الذنيب، جادًّا في سبيل النشوء والنماء، أما
الشيء الذي يثبت لنا أن هذه الخطوط النشوئية هي الأصل في تكوين الذنيبات، حتى حال
بلوغها أكبر حد من الامتداد والنماء، فما نشاهده في حبوب اللقاح الخديجة، التي قد نعثر
عليها في بعض الحالات مدفونة في داخل الأجزاء الوسطية الصلبة من الزهرة.
أما الخِصِّية الأخرى، خِصِّية وجود كتلة من المادة اللزجة مركزة في نهاية الذنيب،
ففي مستطاعنا أن نعثر لها على سلسلة من التدرج، نستبين بها أن كلًّا منها ذو فائدة
للنبات، فإنا نجد في أزهار نباتات تابعة لسحلبيات أخرى، أن المياسم تفرز قليلًا من
المادة اللزجة، ونجد في سحلبيات معروفة أنها تفرز مادة غروية، شبيهة بتلك، غير أننا
نلحظ دائمًا أن معها واحدًا من ثلاثة تكون أزيد إفرازًا لكمية من هذه المادة من
الاثنتين الأخريين، وهذا الميسم يصبح خديجًا غير ذي نتاج، وقد يكون عقره راجعًا إلى
كثرة ما يفرزه من مادة، فإذا ارتادت حشرة من الحشرات زهرة من هذا الضرب، يلتصق لا محالة
شيء من هذه المادة الغروية بجسمها، في حين أن تنتزع بالاحتكاك بعضًا من حبوب اللقاح،
ومن هذه الحالة الأولية، وهي حالة لا تباين العديد الأوفر من الحالات، التي تتشكل فيها
كثير من الأزهار العادية إلا قليلًا، نستبين صورًا من التدرج لا نهاية لها، فمن أنواع
تنتهي فيها كتل حبوب اللقاح بذنيب قصير، غير لاصقة بشيء، إلى أخرى نجد فيها أن الذنيب
قد التصق بالمادة الغروية كل الالتصاق، وميسمها الخديج قد زاد نماؤه كثيرًا، وهذه
الحالة الأخيرة تمثل لنا كتلة اللقاح في أشد حالات نمائها، وأكثر صورها قربًا من
الكمال، وكل من يتجشم مئونة بحث أزهار السحلبيات بنفسه، لا محالة مصادف في خلال بحثه
لهذه السلسلة الطويلة كثيرًا من خطى التدرج، فمن كتلة حبوب اللقاح، مرتبط بعضها ببعض
بخيوط دقيقة، وميسم لا يختلف عن ميسم الأزهار العادية إلا اختلافًا يسيرًا، إلى كتل من
حبوب اللقاح راقية التركيب، مهذبة التكوين، مهيأة بأجهزة تجعل نقل الحشرات لحبوب اللقاح
خِصِّية ثابتة فيها. ولا يستطيع أن ينكر باحث أن كل خطوة من خطى التدرج في مختلف
الأنواع، تكون ذات كفاية خاصة من طريق علاقتها بالتركيب العام في كل زهرة، لإتمام
إلقاحها بوساطة الحشرات المختلفة، وفي هذه الحالة، وغيرها من الحالات نستطيع أن نرجع
بالبحث كرة إلى حالات أولية، متسائلين: كيف يصبح الميسم في الأزهار العادية لزجًا؟ غير
أننا إذ نجهل تاريخ حدوث أي مجموع من الصور العضوية معرفة تامة صحيحة، كان من العبث أن
نسائل أنفسنا مثل هذه الأسئلة العسرة، أو نحاول الإجابة عليها.
•••
لنرجع الآن إلى النظر في النباتات المتسلقة،
١٠٦ وفي مستطاعنا أن نَنظِم هذه النباتات في عقد منظوم من التدرج، يبدأ
بالنباتات التي تلتف
١٠٧ حول قائم تعتمد عليه لا غير، إلى آخر تتسلق بادراتها،
١٠٨ ثم النباتات المحلاقية
١٠٩ المهيأة بخيوط أو معالق تساعدها على التسلق، وغالبًا ما نجد في المرتبتين
الأخيرتين أن سوق أنواعها قد فقدت القدرة على الالتفاف حول قائم ما، ولو أنها تكون ذات
قدرة على الالتفاف حول محورها وغير معتمدة على شيء، شأنها في ذلك شأن معاليقها. على أن
خطى التدرج واقعة بين النباتات المتسلقة بأوراقها وذوات المعاليق قريبة جدًّا، حتى إن
بعض النباتات قد تلحق بكلتا المرتبتين اعتباطًا. غير أننا إذا ماشينا هذه السلسلة
متدرجين في النظر من النباتات الملتفة إلى النباتات المتسلقة بأوراقها؛ لاحظنا خِصِّية
جديدة تلك هي خِصِّية الإحساس باللمس التي تنبعث من طريقها في حوامل الأوراق والأزهار،
أو الأعضاء التي تحول بالتهذيب وتحول الصفات معاليق ذات أحساس يسوقها إلى الانحناء في
وضع دائري لتضم إليها الجسم الملامس. وكل مَن تعمَّق في بحث هذه النباتات لا محالة موقن
— على ما أظن — بأن كلًّا من تلك الخطى التدرجية العديدة التي يستبينها في تحرك
الخِصِّيات العضوية، أو تحول التراكيب الواقعة بين النباتات الملتفة وذوات المعاليق،
مفيدة لكل من الأنواع في مختلف حالاتها. فمما لا شك فيه مثلًا أن تحول نبات ملتف نباتًا
متسلقًا بأوراقه تدرج ذو فائدة عظمى، ومن المحتمل أن يكون كل نبات ملتف من النباتات
ذوات الأوراق الطويلة الأعناق قد تطوَّر وتهذَّب، حتى صار نباتًا متسلقًا بأوراقه، إذا
ما كان في أعناقه حساسية اللمس ولو بدرجة بالغة من الضئولة حدها الأقصى.
لما كان الالتفاف من حول قائم ما أبسط شكل التسلق، ونعتبره في الوقت ذاته أولى الخطى
التدرجية في هذه السلسلة، أصبح من الطبيعي أن نتساءل كيف تكسب النباتات تلك القدرة —
قدرة الالتفاف حول قائم تسلقًا بصورة مبدئية — فتتهذب من بعد تلك القدرة ويزداد أثرها
بفعل الانتخاب الطبيعي؟
وتنحصر القدرة على الالتفاف في أن تكون الساق لدنة جدًّا في بدء حياة النبات أولًا،
وهذه صفة تشترك فيها كثير من النباتات غير المتسلقة، كما أنها تعود إلى التواء الساق
على التعاقب، اتجاهًا في الجهات الأربع الأصلية الواحدة، تلو الأخرى بترتيب خاص.
وبهذه الحركة تلتوي السوق في كل الاتجاهات، وتُساق إلى التحرك في حركة دورية دراكًا،
فإذا ما اتصل الجزء الأسفل من الساق بقائم يعوق حركته هذه، مضت أجزاؤه العليا حركتها
الالتفافية الدورية، فتلتف بطبيعة الحال حول ذلك القائم الذي تصادفه. أما هذه الحركة
الدورية، فتقف عند حد، بعد أن يجتاز كل فريع دور نمائه الأول. وإذ نلحظ في فصائل بعيدة
النسب من النباتات أن أنواعًا أو أجناسًا قد كسب خِصِّية الحركة الدورية، وبذلك أصبحت
من النباتات المتسلقة بذاتها ولم ترثها عن أصل أولي، ومن هنا استنتجت أن اتجاهًا
أوليًّا في طبيعة النبات نحو حركة من هذا القبيل، بعيد أن نعدم آثارها في نباتات غير
متسلقة، وأن هذه الحركة قد حبت الانتخاب الطبيعي بصفة يبرز فيها نتائجه تحولًا
وتهذيبًا، وعندما طرأت لي هذه الفكرة، لم أكن أعرف من الأمثال ما أعززها به، اللهم إلا
حالة واحدة اعتورها كثير من النقص، وكنت قد استبنتها في شماريخ
١١٠ أزهار نوع من «المورندية»،
١١١ إذ رأيتها تلتف في حركة دورية ضئيلة غير ذات نظام، كسوق النباتات المتسلقة
بالالتفاف، من غير أن أتبين وجه النفع من عادتها هذه، ولكن العلامة «فريتز مولر» استكشف
من بعد ذلك بقليل، أن السوق الصغيرة في نباتي «الألزيم»،
١١٢ و«الكتان»
١١٣ وهما نباتان غير متسلقين وبعيدا الصلة، تتحرك حركة دورية، وإن كانت غير
منتظمة. وذكر هذا الأستاذ أن لديه من الأسباب ما يحمله على الظن بأن هذه الحالة تحدث
في
نباتات أخرى، وقد يلوح لنا أن ليس لهذا الحركات الأولية الضئيلة من نفع تؤديه لهذه
النباتات. وعلى أية حال، فإن هذه الحركات تلوح كأن لا نفع فيها، من حيث إنها حركات
تساعد على التسلق، غير أننا مع هذا في مستطاعنا أن ندرك أن سوق هذه النباتات إذا كانت
في الأزمان الأولى أكثر لدونة ومطاوعة مما هي عليه، وإذا كان من فائدة النبات ذاته،
خضوعًا للظروف المحيطة به والمؤثرة في حياته العامة، أن يتسلق فإن من المحتمل، أن تزداد
عادته في التزام هذه الحركة الدورية الضئيلة غير النظيمة، ثباتًا في طبيعته، فيستخدمها
وينتفع بها من طريق الانتخاب الطبيعي، حتى تنقلب هذه النباتات بالتطور نباتات متسلقة
بالالتفاف كاملة الأوصاف.
أما حساسية قواعد الأوراق والأزهار والمعاليق، فإن ما أسلفنا فيه من قول، قد يقوم
بتعليلها، كما هي الحال في الحركة اللوبية في النباتات المتسلقة بالالتفاف تمامًا، وإذ
نرى أن عددًا عظيمًا من الأنواع، لاحقًا بعشائر بعيدة النسب في نظام الطبيعة، قد خُصت
بحساسية، فمما لا شك فيه، أن هذه الحساسية ينبغي أن نعثر عليها، بحيث تكون في أول
درجاتها النشوئية في نباتات كثيرة لم تبلغ بعد مرتبة النباتات المتسلقة. وإليك الحالة
التي وقفت عليها: لحظت أن شماريخ زهر نبات «المورندية»، الذي مر ذكره، تلتوي حول نفسها
في اتجاه الجانب الذي يحصل به اللمس، واستبان «مورين» في أنواع عديدة من نبات «الأجزال»،
١١٤ أن الأوراق قواعدها تتحرك، ولا سيما بعد تعرضها لحرارة الشمس، إذا ما تكرر
لمسها بتؤدة، أو إذا هُزَّ النبات عمدًا. ولقد طبقت هذه الملاحظات على أنواع أخرى من
هذا النبات ذاته، فصدقت عليها، حتى إن حركة بعضها كانت ظاهرة جلية، وفي غيرها ضئيلة غير
محسة تقريبًا. ولقد ذكر العلامة الثبت «هوفميستر»، حقيقة أبعد خطرًا من كل ذلك، فذكر:
أن الأشطاء والأوراق تتحرك بعد أن تُهز، ونحن نعلم أن القواعد والمماليق في النباتات
المتسلقة، لا تكون ذات حساسية، إلا في الأطوار الأولى لنموها.
وقلما تكون لهذه الحركات المنبعثة عن اللمس، أو الاهتزاز في الأعضاء الغضة اللدنة،
التي تكون نامية في نبات ما، فائدة خاصة محدودة الوظيفة، غير أن النباتات خضوعًا
لمؤثرات منبهات مختلفة، تصبح ذات قدرة على القيام بحركات في غاية الأهمية والفائدة لها
في حياتها، فالنباتات مثلًا، تتحرك دائمًا نحو الضوء، وكثيرًا ما تتحرك حركة مضادة لقوة
الجاذبية، وندر من ضروبها ما تكون حركته مخالفة لناحية الضوء، أو مطاوعة لناحية
الجاذبية. وإنا لنجد في الحيوان أن أعصابه، أو عضلاته إذا هُيجت بكهربائية غُلوانية،
أو
بامتصاص قدر من سُم الإستركنين، فالحركة التي تنشأ من جراء ذلك، تُسمى نتيجة اتفاقية
أو
لا تنبهية؛ لأن الأعصاب والعضلات لم تكن قد أصبحت في تلك الحال ذات حس، يمكنها من معرفة
القوة المنبهة. كذلك الحال في النباتات، إذ يظهر، أنها ما دامت ذات قدرة على الحركة،
خضوعًا لمنبه خاص، فإنها تفعل بكيفية اتفاقية أو لا تنبهية، إذا ما مُست أو هُزت. ومن
هنا لا نجد صعوبة ما، تحول دون القول بأن هذا الاستعداد، هو بذاته الذي نشأ وتطور،
مرتقيًا في النباتات المتسلقة بأوراقها وذوات المعاليق، وتزايد فيها بفضل تأثيرات
الانتخاب الطبيعي. ومن المحتمل اعتمادًا على أسباب جمة، أثبتُّها في مذكراتي الخاصة،
أن
هذا لم يحدث إلا في نباتات كسبت القدرة على القيام بحركة دورية في أغصانها اللدنة، ثم
تدرجت في تلك السبيل، حتى أصبحت نباتات متسلقة بالالتفاف.
حاولت فيما تقدم أن أبين، كيف أصبحت نباتات ما متسلقة بالالتفاف، بأن زاد استعدادها
للقيام بحركات لولبية، كانت في بدء أمرها غير ذات فائدة لهذه النباتات، وهذه الحركة،
كالحركات الأخرى التي تأتيها النباتات باللمس أو الاهتزاز، إذ هي نتيجة اتفاقية، أو لا
تنبهية للقوة المحركة فيها، تدرجت من ثم حتى أصبحت ذات خصائص بينة الفائدة. وسواء أعضدت
سُنن الاستعمال، والإغفال الانتخاب الطبيعي في إبراز هذه النتائج، خلال تدرجها ونشوئها
في النباتات، أم لم تعضده، فذلك ما لست بمدعٍ أني بالغ منه بحكم صحيح، هذا بالرغم من
أننا نعرف، أن حركات دورية معينة، مثل تلك التي يسمونها «توم النبات» لا ترجع إلا لحكم
العادة.
•••
تناولت بالبحث حتى الآن، طائفة من الحالات، قد تكون كافية، بل قد تكون فوق الحاجة
من
مجموعة معترضات، استجمعها جهبذ من جهابذة الطبيعيين في هذا العصر، وأراد أن يثبت بها،
أن الانتخاب الطبيعي ليس في مستطاعه أن يحدث بسائط التدرج الأولية، التي تنتج التراكيب
المفيدة للكائنات. وإني لآمل أن أكون قد أظهرت، أنه ليس هنالك من صعوبة كبرى، قد استقوت
على رد هذا الاعتراض، ومن هنا تسنح لنا فرصة ملائمة للكلام بإيجاز في التدرج التركيبي،
الذي يكون مصحوبًا بتحول في الخِصِّيات، وهي مسألة ذات خطر لم أكن قد وفيتها حقها من
الاستفاضة والبيان في الطبعات الأولى من هذا الكتاب، وسأسوق الكلام أولًا، في النظر
إلمامًا في الحالات السابقة.
ولنبدأ بالزراف، فإن الاحتفاظ بعدد من أفراد الحيوانات المجترَّة المرتفعة القامة،
التي انقرضت منذ أزمان بعيدة، والتي كانت أطول أعناقًا أو سوقًا من غيرها، فاقتدرت بذلك
على ارتعاء أشياء أعلى بقليل عن متوسط ما كان في مستطاع غيرها أن يبلغ إليه، مع اقتران
ذلك بانقراض الصور، التي لم تستطع الارتعاء على أغصان بلغ إليها مستطاع تلك، يكفي في
معتقدنا، لنشوء هذا الحيوان الفريد. غير أن الاستمرار على استعمال أعضاء هذا الحيوان
في
سبيل هذه الغاية، مزودًا بسُنن الوراثة، لا بد من أن يكون قد ساعد على إتمام تناسق
تركيبها بكيفيات ذات بال، وكذلك الحال في كثير من الحشرات، التي تحاكي أشياء كثيرة
مختلفة، فليس هنالك ما يحول دون الاعتقاد، بأن مشابهتها بطريق الاتفاق لشيء من الأشياء
المحيطة بها، كان في كل ظرف من الظروف أساسًا لتأثيرات الانتخاب الطبيعي، التي لا بد
من
أن تكون قد تزايدت، من ثَم ماضية في التدرج نحو الكمال، بحدوث التحولات الضئيلة، التي
جعلت محاكاة الحشرات للأشياء المحيطة بها أكثر دقة على مر الأزمان، وأن هذا النهج قد
استمر ماضيًا في متجهه هذا، ما دامت الحشرات مسوقة في سبيل التحول، وما دام تدرجها في
سبيل المحاكاة قد هيأها بنعمة الهرب من مفترسيها رغم قوة أبصارها، ونجد في أنواع خاصة
من الحيتان، استعدادًا لتكوين نتوءات قرنية صغيرة، منظمة في محيط الفم، في حين يكون في
مستطاع الانتخاب الطبيعي، حسب الظاهر لنا من مؤثراته، أن يحتفظ بكل التحولات المفيدة،
التي تحدث في الكائنات، فيمضي مؤثرًا في تلك النتوءات القرنية، حتى تنقلب صفائح ذات
عُقد رقيقة أو أسنان شبيهة بتلك التي نلحظها في منقار الوز، ومن ثَم تتحول صفائح عظيمة،
تبلغ من جمال التركيب وحسن التكوين مبلغ ما نشاهده في البط المِجرَفي، ثم تتدرج من تلك
الحال، حتى تصبح صفائح عظمية أو عظامًا حوتية هائلة، كالتي نشاهدها في حوت غرينلاندة،
وإنا لنشاهد في فصيلة البط أن هذه الصفائح تُستعمل في أنواع كما لو أنها أسنان، ثم
تتدرج، فتصبح أداة لترشيح الماء، مع قيامها بوظيفة الأسنان في وقت معًا، ومن بعد ذلك،
نراها في أنواع أخرى، قد أصبحت جهازًا لترشيح الماء، مقتصرة وظيفتها على ذلك لا
غير.
أما التراكيب الشبيهة بهذه النتوءات القرنية أو العظام الحوتية، فذلك ما لا يمكن أن
تبلغ منها مؤثرات العادة إلا بتأثير ضئيل غير محسوس، وقد لا يكون لها تأثير فيها البتة،
اعتمادًا على مبلغ علمنا بأصل نشوئها، وقد نستطيع من جهة أخرى أن نعزو تحول العين
السفلى في الأسماك المسطحة إلى الجانب الأعلى من الرأس، ونشوء الأذناب المعدة للتعلق
بالأشياء إلى تأثير سُنة الاستعمال، مؤيدة بتأثير الوراثة، أما الأثداء في الحيوانات
العليا، فإن أقرب الأشياء احتمالًا في تعليلها هو أن الغدد التي تكون في ظاهر بشرة
الجراب في ذوات الكيس جميعًا، تفرز عصارة مغذية، وأن هذه الغدد قد تهذبت خصائصها بتأثير
الانتخاب الطبيعي، وتكوَّنت في جهة خاصة من الجسم متحيزة فيه، وبهذه الطريقة أصبحت
أثداء صحيحة في الحيوانات العليا. وإنا لا نرى في القول بنشوء الرجيلات المثلثة الأصابع
بتأثير الانتخاب الطبيعي، متهذبة عن الشوكات المنشارية، التي لم تكن بعض الحيوانات
الشوكية المنقرضة لتستخدمها، إلا أداة للدفاع عن النفس من صعوبة، أكثر مما نجد في الفحص
عن نشوء كلاليب الحيوانات الرخوة بتهذيب أوصافها تهذيبًا مفيدًا غير محس، واقعًا على
الفلقة قبل الأخيرة إلا ابتغاء التنقل والحركة، ونجد في النتوءات المنسرية والشوكات
المهتزة في الجُمهور «بولووزوا»، أعضاء تختلف جهد الاختلاف من حيث الشكل الظاهر، وهي
في
الواقع ناشئة عن أصل واحد، كما أننا نستطيع أن نكتنه في الشوكات المهتزة، كيف كانت
درجات تحولها ذات فائدة خاصة في كل حالة من حالاتها، وفي كتل حبوب اللقاح في النباتات
السحلبية، فإنا نجد مع متابعة البحث في «الخُوَيط»، الذي كان يُستخدم في أول الأمر؛
ليصل بين حبات اللقح، أنه ذو صلة بالذنيب النباتي، كما أن في مستطاعنا أن نقف من بحث
الذنيبات على الخطى الانقلابية، التي تدرجت فيها، حتى أصبحت المادة اللزجة الشبيهة بما
تفرزه مياسم بقية الأزهار العادية ذات صلة تامة بمؤخر الذنيبات، وأنها تقوم بوظيفتها
في
هذه النباتات، غير أنها تكون أقل كمالًا ونسقًا منها في النباتات الأخرى، على أن هذه
التدرجات عامتها كانت ذات فائدة لهذه النباتات في كل أدوار نشوئها وارتقائها. أما
النباتات المتسلقة، فليس ثمة من سبب يدعونا إلى أن نكرر هنا ما أفضنا به من القول فيها
من قبل.
•••
طالما تساءل بعض الباحثين: كيف أن أثر الانتخاب الطبيعي، ما دام بالغًا إلى تلك
الحدود البعيدة القصية، لم يستحدث في أنواع معينة تراكيب، إن استُحدثت فيها كانت ذات
فائدة كبيرة لها؟ غير أنه مما يضاد بديهة العقل أن نحاول الإجابة على هذا السؤال
وأمثاله إجابة بينة، إذا ما قدرنا مبلغ جهلنا بتاريخ كل نوع من الأنواع، والحالات التي
تحدد في الزمان الحاضر مقدار عدد أفراده، ومدى انتشاره في أصقاع معينة من الأرض، أما
إذا حاولنا الإجابة على هذا السؤال، فقد نجد في أكثر الحالات، أنه في قدرتنا أن نذكر
بعض أسباب عامة، وقد نقع في ظروف قليلة على حالات خاصة، فإنك إن أردت أن تكافئ بين صفات
نوع من الأنواع، وبين عادات حياة جديدة تطرأ عليه، فمما لا بد منه أن تُحدث فيه وجوه
من
التهذيب الوصفي المتكافئ، وغالبًا ما يكون قد حدث أن الأعضاء المختارة لم تسلك في سبيل
تحولها السبيل الأمثل، أو أنها لم تبلغ من التحول المبلغ الأوفى. ومما لا مشاحة فيه،
أن
كثيرًا من الأنواع لا بد من أن تكون قد صدت دون الازدياد العددي بتأثير مسببات الفناء،
التي لم يكن لها أية علاقة بأي تركيب من التراكيب العضوية، التي قد يسبق إلى حدسنا أنها
استُحدثت بتأثير الانتخاب الطبيعي، إذا ما ظهر لنا ما فيها من الفائدة للنوع الذي يتصف
بها، ولما كان التناحر على البقاء في هذه الحالة غير راجع إلى وجود تراكيب خاصة في
تضاعيف العضويات، فإن هذه التراكيب لا يمكن أن تكون قد نشأت بتأثير الانتخاب الطبيعي،
ونجد في مشاهدات عديدة، أن حالات مهوشة طويلة المدى من البقاء، وغالبًا ذات طبيعة خاصة،
تكون ضرورية لنماء تركيب ما ونشوئه، وتلك الحالات الضرورية كثيرًا ما يتعين وقوعها. أما
الاعتقاد بأن استحداث أي تركيب مفروض من التراكيب العضوية، التي كثيرًا ما نظن خطأ، أنه
كان ذا فائدة لنوع ما، لم يتأتَّ في كل الحالات إلا بتأثير الانتخاب الطبيعي، فاعتقاد
منقوض بما نستطيع أن نعرف من طريقة الوظيفة، التي يقوم بها ذلك التركيب. و«مستر ميفارت»
لا ينكر أن للانتخاب الطبيعي بعض الأثر، غير أنه يعتبره على عجز تام عن استحداث تلك
الظاهرات، التي أعزوها إلى تأثيره. أما وقد ظفرنا الآن بأكثر معترضاته قوة، فلأنتقل
الآن إلى الكلام في بقيتها، ولقد يظهر لي أن ما فيه بقية معترضات هذا العلامة من القوة
ظاهري صرف، وأنها إذا قيست بالبراهين القائمة على صحة مذهب الانتخاب الطبيعي، مؤيدًا
ببقية المؤثرات التي كثيرًا ما مضيت في شرحها، شالت في ميزان النقد، ورجحتها تلك
رجحانًا مبينًا. كذلك لست في حل، من أن أهمل هنا ذكر أن بعض الحقائق والبراهين، التي
أتيت عليها كانت قد نُشرت من قبل لسبب ما، في «المجلة الجراحية» في سياق مقال منذ أمد
قصير.
•••
يعتقد الآن كل الطبيعيين في حدوث النشوء والتطوير، ملابسًا الطبيعة بشكل ما، ويعتقد
«مستر ميفارت» نفسه، أن الأنواع تتحول بتأثير قوة أو «استعداد» داخلي فطري، لا يستطيع
أحد أن يدعي معرفة شيء من مقوماته. وكل معتقد بصحة مذهب النشوء لا ينكر أن في الأنواع
قدرة على التحول، وقبول آثاره، غير أنني لا أرى حاجة ماسة تقضي بأن نفرض وجود قوة فطرية
أبين أثرًا من قوة الاستعداد الثابت في العضويات لقبول التحول، بعد أن ثبت أنه أنشأ،
معززًا بقوة الانتخاب في الإنسان، كثيرًا من الفصائل المؤلفة الراقية الصفات، المتناسقة
الكفايات، ولم يستعصِ عليه أن يستحدث، ممدًّا بقوة الانتخاب الطبيعي، تدرجًا وعلى مر
الأيام، الفصائل الطبيعية والأنواع. والنتيجة التي لزم أن تستتبع هذه المؤثرات، كما
أوضحنا، أوجبت حدوث وجوه من التهذيب، وضروبًا من الارتقاء على وجه الإطلاق، ولو أن
أثرها في بعض حالات قليلة كان انحطاطًا في النظام الطبيعي.
ﻟ «مستر ميفارت» نزعة إلى الاعتقاد أبعد من هذا، وقد يؤيده في معتقده بعض الطبيعيين؛
إذ يقضي أن الأنواع تظهر باستعدادها الفطري، «فجأة بتأثر تهذيب وصفي يحدث طفرة»، فهو
يعتقد مثلًا، أن الفروق بين «الحَبْرُون»
١١٥ المنقرض ذي الأصابع الثلاث، وبين الحصان، قد ظهرت دفعة واحدة، واستعصى على
عقليته أن تبلغ به حد الاعتقاد، بأن يكون جناح الطير قد نشأ بأي مؤثر، سوى وقوع «تهذيب
فجائي في صفة خاصة». وبصرف نظريته هذه على أجنحة الخفافيش والزواحف الطائرة المنقرضة،
المعروفة اصطلاحًا باسم «الطَّرَدَّقليَّات».
١١٦ وهذه النتائج، على ما يلوح فيها من مواطن التفكك، وإظهار الطبيعة بمظهر
الانبتات، وتدابر الصلات وانفصام الحلقات، تبعد عن الواقع بعدًا كبيرًا.
إن كل معتقد بحدوث النشوء التدرجي البطيء، ليقضي بأن التحولات النوعية قد يمكن أن
تظهر، كأنها فجوات تقطع نظام التسلسل، بل قد يلوح فيها من مظاهر العظم ما في النباتات
الفردية، التي نعثر عليها حادثة بتأثير الطبيعة أحيانًا، بل بتأثير الإيلاف أيضًا، غير
أن الأنواع إذ تصبح أمعن في سبيل التحول في حالة إيلافها، أو ازدراعها مما تكون في
حالتها الطبيعية الصرفة، فليس من المرجح أن تقع تحولات فجائية، عظيمة الأثر في أغلب
الحالات عند تأثر الكائنات العضوية بمؤثرات الطبيعة المطلقة، بمثل ما نرى من وقوع
التحولات الفجائية الجُلَّى حال تأثرها بالإيلاف، وتُعزى كثير من هذه التحولات إلى
الرجعى. على أن الصفات التي تعود إلى الظهور فجأة على هذه الصورة، يغلب أن تكون ورثت
في
أكثر الحالات بطريقة تدرجية، والعديد الأوفر من هذه التحولات قد يقضي بأنها شواذ (مسوخ)
كذوي الأصابع الستة، والشَّيْهَميِّينَ
١١٧ من البشر، أو غنم «الأنقون»،
١١٨ أو ماشية «النياتة»،
١١٩ ولما كانت هذه الحالات بعيدة في أوصافها العامة عن صفات أنواعها السوية،
فإنها لا تنير لنا سبيل البحث إلا قليلًا. فإذا استثنينا من صحيفة بحثنا حالات التحول
الفجائي ذات الأثر البين، فإن ما يتبقى منها إذا ما ظهرت بتأثير الطبيعة الخالصة، يؤلف
أنواعًا مشكوكًا فيها، قريبة النسب من أصولها، التي نشأت عنها جهد القرب.
أما الأسباب التي حملتني على الشك في أن الأسباب الطبيعية قد تحولت بشكل فجائي، كما
تتحول السلالات المؤلفة أحيانًا وبصورة اتفاقية، وعدم اقتناعي بأنها تحولت ذلك التحول
العجيب، الذي يعزوه لنا «مستر ميفارت» فعائدة إلى أن تجاريبنا السابقة غالبًا ما ساقتنا
إلى الاعتقاد بأن التحول الفجائي ذا الأثر الواضح الجلي، لم ينشأ في الصور المؤلفة إلا
بشكل فردي، ولم يحدث إلا في خلال فترات متباعدة من الزمان، وأن تحولًا كذاك الذي يقول
به «ميفارت»، إن حدث في الطبيعة، فمقضي عليه بالزوال حتمًا، بتأثير الأسباب العارضة
المؤدية به إلى الفناء، وتهاجنه مع غيره، مستدلين على ذلك بتجاريبنا في الصورة المؤلفة،
فإن التحولات الفجائية الظاهرة، التي تحدث بالإيلاف على هذا النسق، إن لم يتعهدها
الإنسان فيحفظها، ويفصل بينها وبين بقية الأفراد، فإنها تُعدم وتفنى. ومن هنا وجب علينا
أن نعتقد أن نوعًا ما، إن قُدِّر له أن يظهر فجأة في الطبيعة، على النمط الذي يفرضه
«مستر ميفارت» أنه محدث للأنواع، فإن عددًا من الأنواع انتابها تحول كبير، «لا بد من
أن
تظهر في إقليم بعينه في وقت واحد، على العكس من كل تجانس طبيعي معروف، أما الصعاب التي
تحول بين الفكر وبين هذا الزعم فتزول، كما هو الواقع في حالات الانتخاب اللاشعوري (غير
المقصود)، إذا ما جعلنا محور البحث قائمًا حول نظرية أن الطبيعة تحتفظ بعدد كبير من
الأفراد، سالكة بها سبيل التحول المفيد لها في حالات حياتها، سواء أكان تحولها ضئيلًا
أم عظيمًا، وإفناء عدد كبير من الأفراد، التي تسلك في التحول سبيلًا غير السبيل التي
تمضي فيها الأولى.»
أما القول بأن أنواعًا عديدة قد نشأت وتطورت، متنقلة في التدرج، بطيئة جهد البطء،
فذلك ما لا سبيل إلى التشكك فيه بحال من الأحوال. والأنواع، بل والأجناس، التابعة لكثير
من أكبر الفصائل في نظام الطبيعة العضوية شأنًا، لا تكون إلا مترابطة الأنساب متدانية
اللحمة، حتى إنه يكون من الصعب التفريق بين الكثير منها، فإنك إن سافرت في قارة من
القارات، منتقلًا من الشمال إلى الجنوب، أو انتقلت من أرض منخفضة إلى أخرى مرتفعة، فإنك
تلاحظ دائمًا وجود عدد من الأنواع المتقاربة اللحمة، نسميها بالأنواع الرئيسة، ذائعة
في
بقاع بعينها، كما أننا لا نستطيع في هذا العصر أن نبلغ بالبحث في طبيعة بعض القارات،
مبلغًا يؤهل بنا إلى معرفة تاريخها الأول، وقد قام لدينا من البراهين، ما دلنا على أنها
كانت في سالف العصور، موصولة غير مفصومة بعضها عن بعض، بشيء من الفواصل الطبيعية، على
أنني إن أوردت هنا هذه الحقائق، وأمثالها مما سوف آتي عليه في هذا الكتاب، فإني لم أسق
إلى هذا، إلا تمهيدًا لبحوث سوف أدلي بالكلام فيها بعد. انظر في الجزر التي لفظتها
الطبيعة من جوف اليم حول قارة ما، وتأمَّل قليلًا كم صورة من أُلَّافها، لا يمكننا أن
نبلغ بها في نظام المراتب العضوية مرتبة أمثل، من أن نعدها من الأنواع المشكوك فيها.
وكذلك الحال إذا ما رجعنا بالنظر كرة في العصور الخالية، وقارنا بين الأنواع التي عفا
عليها فانقرضت، وبين الأنواع التي تأهل بها البقاع التي عمرتها تلك من قبل في خلال
العصور الأولى، أو إذا تناولنا بالمقارنة بقايا الأنواع الأحفورية، المطمورة في التكوينات
١٢٠ المتلاحقة في طبقة بذاتها من طبقات الأرض، فإننا لا نلبث أن نعرف أن عديدًا
من الأنواع، التي نعثر على بقاياها، تمت بصلة القرابة إلى أنواع أخرى، لا تزال موجودة
حتى اليوم، أو كانت موجودة منذ عهد قريب ثم انقرضت، ومن هنا يكون من المتعذر علينا، أن
نقضي بأن أنواعًا كهذه، قد نشأت بشكل فجائي طفري، كذلك لا يغيب عنا، إذا ما نظرنا في
أجزاء خاصة في تركيب أنواعًا متلاحمة النسب، لا أنواعًا متباعدة اللحمة، أن فيها من خطى
الانقلاب التدريجي الدقيق ما نستطيع به، إذا ما اكتنهناه، أن نوحد بين تراكيب متنافرة،
وتربط بينها بحلقات من التحول الذاهب في مجالي التدرج أدق مذهب، وأبينه.
إنك إذا نظرت في الأنواع، على اعتبار أنها نتاج للتطور التدرجي البطيء؛ لوقعت على
حقائق كثيرة، تسفر عن صبح اليقين، كلما أمعنت في البحث، خذ مثلًا، حقيقة أن الأنواع
اللاحقة بالأجناس الكبرى تكون أدق ترابطًا في النسب، وأكثر تقاربًا في اللحمة، وأنها
أكثر إنتاجًا للضروب من أنواع الأجناس الصغرى، وأنها تكون عشائر كبرى مكونة لعشائر
صغرى، كالتفاف الضروب من حول الأنواع، وأن في صفاتها من المشابهة لصفات الضروب أكثر مما
في غيرها، كما أبنَّاه عن ذلك في الفصل الثاني من هذا الكتاب، فمن هذه الحقيقة وحدها
يتسنى لك أن تعرف كيف أن الصفات النوعية أكثر قبولًا للتحول من الصفات الجنسية، وكيف
أن
الأجزاء التي بلغت من التهذيب والتطور مبلغًا كبيرًا كمًّا وكيفًا، أكثر تحولًا من بقية
الأجزاء المكونة لنوع بعينه. وفي مستطاعنا أن نذكر كثيرًا من الحقائق في هذا الباب،
نضيفها إلى ما تقدم.
على أن أنواعًا كثيرة، إن كانت قد تكونت على ما نعتقد، بتأثير خطي، ليست أبين أثرًا
من تلك الخطى التدرجية الدقيقة، التي تفصل بين بعض الضروب الأولية وبعض، فإننا مع ذلك
نستطيع أن نقضي بأن أنواعًا أخرى قد يحتمل أن تكون قد استحدثت بطريقة مختلفة عن هذه،
ونعني بها طريقة النشوء السريع، على أن هذا الاحتمال لا يجب أن نقضي به من قبل أن تقوم
لدينا شواهد صادقة كثيرة على صحته. أما تلك العبارات الغامضة المبهمة، التي أوردها
«مستر شونسي رايت»، مؤيدًا بها هذا الزعم الاحتمالي، كانعقاد (تبلور) بعض المواد غير
العضوية انعقادًا فجائيًّا، أو تنقل بعض البلورات ذوات السطوح من سطح إلى سطح، فهذا مما
لا يجب أن نعيره التفاتًا، أو نقيم له وزنًا، وليس لدينا من الحقائق ما يؤيد نشوء صور
حية معينة نشوءًا فجائيًّا، إلا عثورنا على صورة جديدة راقية التركيب في التكاوين
الجيولوجية، غير أن ما في هذه الحقيقة من وزن، يتوقف في أكثر الأمر على مقدار علمنا
بتاريخ الأحافير الجيولوجية، وقيمة ما لدينا من العلم بطبقات الأرض، وصلتها بالعصور
الأولى الموغلة في القدم من تاريخ هذا السيار. وما دام علمنا بهذه الحالات ضئيلًا لا
يُعتد به، كما يقضي بذلك علماء الجيولوجيا كافة، فليس هنالك من عجيب تأخذ بألبابنا
روعته، في ظهور الصور العضوية الراقية فجأة في خلال التكاوين الجيولوجية، على أننا إذا
لم نقل في هذا الموطن بحدوث تكيفات وصفية، فيها من الضخامة والعظم بقدر ما في مزاعم
«مستر ميفارت»، كنشوء أجنحة لطير الخفافيش فجأة، وانقلاب «الحبرون»، فيصير حصانًا، فإن
من المستصعب أن نستنير بشيء من نور الهدى في تعليل انفصام الحلقات الوسطى وضياعها في
تدرج نظام الأحافير الجيولوجية، ما لم نعتقد بحدوث التغايرات الفجائية، التي ينسب إليها
البعض فجوات النظام العضوي. غير أن علم النشوء الجنيني، ليقوم حائلًا دون الاعتقاد بمثل
هذه الطفرة النشوئية، فإنه من الذائع المعروف، أن أجنحة الخفافيش والطير وأرجل الخيل
وبقية ذوات الأربع، لا يمكن التمييز بينها في خلال دور خاص أدوار نشوئها الجنيني، بيد
أنها تأخذ في التحول العضوي من بعد ذلك، متدرجة في خطى غير محسوسة من الاختلاف
والتباين. وهذه المشابهات الجنينية مهما كان شكلها ومقدارها يمكن تعليلها، كما سنرى
فيما بعد، بأن أسلاف أنواعها الحالية كانت قد أخذت في التحول منذ أول عهدها بالنشوء،
وأنها أورثت أعقابها صفاتها المكتسبة خلال العصور التي كسبت فيها صفاتها، التي تظهر في
أطوار نشوئها الجنيني، فإن تطور الجنين حال نشوئه، لم ينتبه شيء من المؤثرات الخارجية،
فكان لنا منه أجلُّ برهان على الحالات الأولى، التي تقلب فيها كل نوع من الأنواع، ولذا
فكثيرًا ما تشابه أجنة الأنواع الحالية لدى أول عهدها بالانقلاب الجنيني، صور عضويات
حفرية تابعة لنفس المرتبة، التي يلحق بها النوع الحالي، فإذا نظرنا هذه النظرة في حقيقة
المشابهات الجنينية، فإنا لا نسلِّم مطلقًا، بأن يكون حيوان قد تحول تلك التحولات
الفجائية الطفرية، التي يزعمها أولئك الباحثون، رغم أننا لا نعثر في نشوء الأنواع
الجنيني على شيء يثبت هذه المفاجآت النشوئية؛ لأننا نجد أن كل جزء من أجزاء أجنتها لا
يتكون إلا تدرجًا، وفي خطى غير محسوسة.
على أن كل معتقد بأن بعض الصور القديمة المنقرضة قد نشأت فجأة بتأثير قوة خفية، أو
استعداد فطري، فأصبحت بالطفرة مهيأة بأجنحة مثلًا، ليُساق حتمًا إلى القول بأن عددًا
عديدًا من الأفراد، ينبغي له أن يكون قد طرأ عليه هذا التحول العظيم فجأة في وقت واحد،
على الضد من كل تجانس في نظام الطبيعة، في حين أنه لا ينكر أحد أن هذه التحولات العظيمة
ومشابهاتها من التباينات الفجائية، مختلفة كل الاختلاف عن تلك التي مضت الأنواع، ممعنة
فيها خلال الأجيال، ومن هنا يُساق كل معتقد بهذا الزعم إلى الاعتقاد بزعم آخر، أبعد من
هذا إمعانًا في الغموض والإبهام، ويُساق إلى القول بأن كثيرًا من التراكيب العضوية ذوات
التجانس التام في صلاتها بأجزاء بقية التركيب العام، والكفاية لما يحيط بها من ظروف
الحالات، قد استحدثت فجأة؟ وأنه لا جرم، يعجز العجز كله عن تعليل نشوء هذا التجانس،
وتلك الكفاية وتطورها، حتى يبلغ بها الحد الذي نراها عليه، ومن ثم يُساق إلى الاعتقاد
قهرًا، بأن التحولات الفجائية التي يزعم حدوثها والنشوء الطفري، الذي يقضي به، لم يترك
من حدث أو أثر في أجنة أنواعه التي أنشأها على نسقه هذا، وما الثبات على هذا الزعم، كما
يظهر لي، إلا تطوح مع الأساطير، وبُعد من العلم.