الغريزة
الغرائز والعادات واختلافهما في النشأة – الغرائز تتدرج في الوجود – المن والنمل – الغرائز تتغير – الغرائز الخاصة وأصلها – الغرائز الطبيعية في الوقواق والملطروس والنعام والنحل الطفيلي – ذو الغريزة الاسترقاقية – نحل الخليات، وغريزته في بناء خلياته – في أن تحول الغريزة والتركيب العضوي لا يلزم أن يقعا معًا – الصعاب التي تعترض نظرية الانتخاب الطبيعي من حيث الغرائز – الحشرات المتعادلة أو العقيمة – ملخص.
***
إن في كثير من الغرائز ما يبعث على العجب، حتى إن نشوءها وتطورها قد يكون من الصعوبة، بحيث يدفع القارئ إلى رفض نظريتي جملة، ومن أجل أن أتابع الكلام فيها، يجب أن أنبِّه على أني لست بمسوق إلى البحث في أصل القوى العقلية، أكثر مما أجد نفسي في حاجة إلى الكلام في أصل الحياة ذاتها، وإن بحثنا هذا مقصور على تنوع الغرائز، وتشعب مناحيها، والنظر في القوى العقلية الأخرى، الخاصة بالحيوانات، التابعة لطبقة بذاتها.
ليس من المستطاع أن نستحدث غريزة من ذوات الشأن بتأثير الانتخاب الطبيعي، ما لم يتدرج وجودها في خطى عديدة من التحولات الضئيلة المفيدة، تستجمع حالًا بعد حال على مر الأجيال، وفي هذه المسألة، كما هي الحال في التراكيب الجسمانية، لا ينبغي لنا أن نحاول أن نعثر في الطبيعة على درجات النشوء الانتقالية، التي استُحدثت من طريقها أية غريزة من الغرائز البينة؛ لأن ذلك غير مستطاع إلا بالوقوف على تاريخ أسلاف كل نوع من الأنواع منذ أبعد الأزمان، بل يجب علينا أن نجد في تسلسل نسبها شواهد تهدينا إلى مثل هذه التدرجات، أو نلتزم على الأقل طريقة نثبت بها أن وقوع التدرج في إحداث الغرائز بشكل ما، واقع في الطبيعة، وهذا ما في مكنتنا إثباته.
لم أتابع البحث في الغريزة، إلا بعد أن وضعت نصب عيني، أن الموضوع تعتوره صعاب شتى، على أنني لم أستوثق من هذا البحث، إلا وأنا على علم بأن غرائز الحيوانات المختلفة لم تُعرف معرفة فيها بعض الدقة، إلا في أوروبا وشمالي أمريكا، وأضفت إلى هذا، أننا لا نعرف شيئًا عن غرائز الأنواع المنقرضة، ومع كل هذا فقد تولاني العجب إذ رأيت أينما وليت وجهي، باحثًا في أطراف الطبيعة الحية، أن هنالك مناهج تدرجية دقيقة، تقود خطواتنا، إذا ما تتبعناها إلى الاعتقاد، بأنها السبب في تكوين أخص الغرائز تركيبًا، وأمعنها في الطبيعة العضوية ثباتًا، وبان لي أن تغير الغريزة قد يمكن أن يمهد له أن نوعًا بذاته، تكون له غرائز مختلفة باختلاف العمر، أو في فصل دون فصل، أو لدى تأثره بظروف مختلفة إلى غير ذلك، مما يفسح المجال للانتخاب الطبيعي، كي يحتفظ بهذه الغريزة أو تلك، مما تبعث عليه حاجة النوع، ومثل هذه التحولات الغريزية الجُلَّى، وحدوثها في نوع من الأنواع، من المستطاع إثبات وقوعها في الطبيعة بكثير من المشاهدات.
وحكم مذهبي في الغرائز، حكمه في التحولات الجسمانية، فالغريزة التي يختص بها كل نوع مفيدة له وحده، ولم تحدث في نوع من غريزة، كان نفعها مقصورًا برمته على نوع آخر، نقضي بذلك، اعتمادًا على مبلغ علمنا بهذه الحالات.
فصلت بين مجموعة من النمل ومجموعة من قمل النبات، يبلغ عددها الاثنتي عشرة بضع ساعات، وتحققت بعد هذه الفترة أن القمل تحتاج إلى الإفراز، فأخذت ألمسها، وأضربها بخيط من الشعر، على النسق الذي تفعله معها النمل بملامسها، فلم تفرز شيئًا، وبعد ذلك أطلقت نملة إلى حظيرتها، فاستكشفت، بعد أن أخذت في التطواف، ذلك القطيع العظيم، ومن ثم بدأت تضرب بملامسها على بطن كل قملة منها بالتناوب، فلم يلبث القمل أن رفعت بطونها بمجرد إحساسها بملامس النملة، وأفرزت كل منها نقطة من سائل رغوي، سعت النملة إلى امتصاصه بقابلية عظيمة، ولاحظت أن أصغر القمل عمرًا، قد نهج النهج عينه، مما يثبت أن عملها غريزي فطري فيها، لا أثر فيه للمرانة، ومما هو حقيق بالاعتبار، اعتمادًا على ملاحظات الأستاذ «هوبر»، أن قمل النبات لا يظهِر شيئًا من الكراهية للنمل، فإن النمل إذا غاب، امتنع القمل عن إخراج مفرزاته تلك، غير أن هذه المفرزات، إذ هي ذات طبيعة غريزية شديدة، فمما لا شك فيه أن إزالتها أمر ترغب فيه الحيوانات، التي تخرجها بطونها. ومن هنا، نستدل على أنها لا تفرزها ابتغاء نفع النمل وحده، وإنا إن قضينا من قبل، بأنه لا يوجد في الطبيعة برمتها مثَلٌ يؤيد أن حيوانًا ما قد يقوم بعمل، ترجع فائدته المطلقة على نوع آخر، فذلك لا يمنع مطلقًا من أن يبذل كل نوع جهد ما يستطيع من مقدرة وعنفوان، في سبيل الانتفاع من غرائز غيره، كما ينتفع كل نوع بما في غيره، ومن ضعف التركيب ووهن البنية، كذلك نرى أن بعض الغرائز الخاصة لا يمكن اعتبارها في الدرجة القصوى من الكمال، غير أن هذه التفصيلات، وما يجري مجراها، إذ هي غير ذات شأن كبير فيما نحن بصدده، فلهذا نؤثر أن نضرب عنها صفحًا.
إن إثبات حدوث نزر يسير من التحول، واقعًا على الغرائز في حالاتها الطبيعية وتوارث هذه التحولات، أمر ضروري للانتخاب الطبيعي؛ لكي نبرز نتائج تأثيراته؛ لذلك وجب علينا أن نأتي على أمثال تؤيد ذلك، بقدر ما تبلغ إليه استطاعتنا.
أما أن القوى العاقلة في الحيوانات غير الداجنة التابعة لنوع بعينه، شديدة الخضوع لمؤثرات التجول، فذلك ما نثبته بحقائق كثيرة نوردها، وهنالك حالات عديدة في مستطاعنا أن نستدل بها على نشوء عادات غريبة، تحدث اتفاقًا في الحيوانات الوحشية، بحيث لو اتفق أن تكون ذات فائدة للنوع، الذي تحدث فيه؛ لكان من نتيجة ذلك تأصل غرائز جديدة في النوع بتأثير الانتخاب الطبيعي. غير أني على اعتقاد بأن ذكر هذه الملاحظات العامة، من غير أن نستند في إيرادها إلى حقائق تؤيدها تفصيلًا، لا يؤثر في عقلية القارئ إلا تأثيرًا جزئيًّا صرفًا، غير أني أقطع للقارئ عهدًا، كما قطعت من قبل، بألا أورد من شيء لم يقم عندي دليل مادي على صحته.
(١) التحولات المتوارثة عن العادة أو الغريزة في الحيوانات الأليفة
أما مقدار الثبات الوراثي في هذه الغرائز والعادات والميول، وكيفية تشابكها ذلك التشابك العجيب، فيظهر جليًّا عند تزاوج بعض سلالات مختلفة من الكلاب، فإن من الذائع المعروف، أن تزاوجًا مع «البلدوج» (الكلب العجلي) قد زاد إلى شجاعة سلالة الكلاب السلوقية، وقوَّى من شكيمتها، وشدة مراسها عدة أجيال متعاقبة، وتزاوجًا آخر مع الكلاب السلوقية قد هيأ كلاب الرعاة بنزعة إلى صيد الأرانب الوحشية. فهذه الغرائز الإيلافية، إذا تمازجت بالتهاجن والتزاوج ذلك التماذج، فإنها تشابه الغرائز الطبيعية، إذ تُخلط بصور مشابهة لهذه الصور تخالطًا عجيبًا، وتظهر آثارها في السلالات موروثة عن أحد الأبوين زمانًا طويلًا. فقد وصف «لا روي»، كلبًا كان جده لأبيه ذئبًا، ولكن لم تظهر فيه غريزة الافتراس إلا في مسألة واحدة، حيث كان من عادته ألا يأتي إلى سيده، سالكًا خطًّا مستقيمًا في سيره إذا ناداه.
ومن هذه الملاحظات، نستطيع أن نقضي بأن الحيوانات قد اكتسبت بالإيلاف غرائز خاصة، حلت محل غرائز طبيعية فقدتها بتأثير العادة تارة، وبتأثير الإنسان في انتخاب الأفراد ذوات العادات أو الصفات العقلية الخاصة، واستجماعها خلال أجيال كثيرة متعاقبة تارة أخرى، تلك العادات والصفات التي نعزو نشوءها في العضويات إلى ما ندعوه «المصادفة»، جهلًا منا بأسباب ظهورها، وقصورًا عن إدراك عللها. ولقد كفت العادات الاضطرارية في كثير من الحالات؛ لإحداث التحولات العقلية المتوارثة، كما أن هذه العادات الاضطرارية لم تحدِث من أثر في حالات أخرى، فكان نشوء التحولات العقلية الموروثة راجعًا إلى تأثير الانتخاب، سواء أكان نظاميًّا أم لا شعوريًّا. ولكن أكثر الحالات التي نشهدها، تدلنا على أن تأثير العادات والانتخاب مقترنين، كان السبب الأكبر في إحداثها.
(٢) الغرائز الخاصة
إن متابعة الكلام في بضعة أمثال، نوردها في هذا الموطن، تساعدنا على الكشف عن كيفية تهذيب الغرائز في الحالة الطبيعية بفضل الانتخاب، وسأقصر الكلام هنا على ثلاث حالات: الأولى، تلك الغريزة التي تسوق أنثى «الوقواق» إلى وضع بيضها في أعشاش غيرها من الطير، والثانية، غريزة بعض أنواع النمل في الاسترقاق، والثالثة، غريزة نحل الخليات في بناء بيوتها. ولقد أجمع كل الطبيعيين على أن الغريزتين الثانية والثالثة، أخص غرائز الحيوان المعروفة ثباتًا، وأبعثها على إثارة عجب الباحثين.
•••
ولنفرض الآن، أن الأصول الأولى التي تسلسل عنها الوقواق الأوروبي كان لها من العادات ما يشابه عادات النوع الأمريكي، فكانت تلقي بعض الأحيان دون بعض، بيضة من بيضها في أعشاش غيرها من الطير، فإذا أُضيف إلى ذلك أن هذا الطير قد يجني فائدة من إلقاء بيضة في أعشاش غيره، بأن يتمكن من المهاجرة مبدرًا، أو لسبب آخر من الأسباب، أو أن صغاره إذا اتخذت من مخادعة غرائز الأنواع، التي تنقف في أعشاشها سبيلًا إلى فائدة تجنيها بأن تصبح أكثر قوة، وأشد غلبة مما لو نقفت، أو رُبيت في أعشاش أمهاتها، إذ يحول بينها وبين حسن تعهد أفراخها والقيام بوظيفة الأمومة الحقة أن يكون لديها أفراخ، ينقف عنها البيض في فترات متباعدة، فمما لا شك فيه أن الآباء والأفراخ المرباة في غير أعشاشها، تجني فائدة من جراء ذلك. على أن القياس الطبيعي يحملنا على الاعتقاد بأن الأفراخ التي تُربى على هذه الوتيرة، تنزع إلى اتباع تصرفات آبائها، فتضحى بذلك أكثر نجاحًا في تربية نشئها، وزيادة غلبته وقوته الحيوية. وإني لمقتنع تمام الاقتناع بأن تتابع تأثير هذه السُّنة ولزوم الطير لها، قد ولَّدت في الوقواق الأوروبي هذه الغريزة العجيبة. وأكد لي العلامة «أدولف مولر» في العهد الأخير أن أنثى الوقواق الأوروبي قد تلقي بيضها في بعض الأحيان على الأرض العارية، ثم تحضنه، حتى إذا نقف، تعهدت أفراخها، وقامت عليها، وغالبًا ما تكون هذه الحالات النادرة، رجعى إلى غريزة فقدتها أصولها المنقرضة منذ زمان بعيدة، إذ كانت تلقي بيضها في العراء.
واعترض عليَّ بعض الباحثين، بحجة أني لم أُعِر غرائز أخرى في الوقواق، ذات صلة بهذه التفاتًا، وأني لم أُقِم وزنًا للتكافؤات التركيبية والغرائز، التي تمتُّ لتلك بآصرة، زاعمين أنها لم تتسق وتتألف إلا بمثل ما اتسق غيرها، غير أنني لحظت في غالب الحالات المشاهدة أن اقتصار البحث على غريزة لم نستبنها إلا في نوع واحد لا غير، أمر معدوم الجدوى؛ لأننا لا نستطيع في تلك الحال أن نقع على كثير من الحقائق، التي نستنير بها عادة في ظلمات هذه البحوث، فإن غرائز الوقواق الأوروبي، والوقواق الأمريكي غير الطفيلي، لم تُعرف حقيقته إلا منذ عهد قريب، كما أننا وقعنا بفضل أبحاث «مستر رامسي»، على شيء من صفات ثلاثة الأنواع، التي تقطن قارة أستراليا، وكلها تضع بيضها في أعشاش غيرها من الطير، والملاحظات التي يجب أن ندلي بها في هذا الموطن ثلاث: الأولى: أن أنثى الوقواق العادي تضع بيضة واحدة في عش بذاته، ما عدا استثناءات نادرة، حتى يستطيع فرخها، بما أوتي من القوة والغلبة، أن يحصل على كمية وفيرة من الطعام. والثانية: أن البيض صغير الحجم بالنسبة لبدانة الطير؛ إذ لا تزيد البيضة من حيث الحجم على ثلث بيضة القنبرة، في حين أن القنبرة لا يزيد حجمها على ثلث حجم الوقواق، أما كون صغر حجم البيضة حالة ظاهرة من حالات التكافؤ الجلية، فأمر نجتليه إذا ما وعينا أن بيض الوقواق الأمريكي غير المتطفل طبيعي الحجم. الثالثة: أن الأفراخ الوقواق تقوى فيها غريزة العمل على إبعاد أخواتها، التي تنشأ معها في عش واحد، وسرعان ما تجد في نفسها من القوة، بعد أيام قلائل من بدء عمرها، يساعدها على إتمام مطلبها، بل إن تركيب جسمها قد يهيئها بمعدات تبلغ بها ما تروم من القضاء على ما يزاحمها في العش من الأفراخ، حيث تموت جوعًا وتعرضًا لأعاصير الطبيعة، مما جعل بعض الناظرين في طبائع الأحياء، على القول بأن عملها هذا ليس إلا تنسيقًا للطبيعة معقولًا، يستطيع به فرخ الوقواق أن يحصل على طعام يكفيه، وتبلغ به أخواته، التي يضمه وإياها عش واحد، ميتة غير ذات ألم، ولا تباريح من المرض، حيث تقضي قبل أن تبلغ فيها الحواس مبلغًا كبيرًا في أداء وظيفتها.
أما الوقواق الأوروبي، فإن أفراخ الطير الذي يحضن بيضه تُزاح عن العش بعد ثلاثة أيام من خروج فرخ الوقواق في العادة. ولقد ظن «مستر جولد» إذ لحظ أن فرخ الوقواق يكون معدوم الحيلة، ضعيف الجسم لأول عهده بنقف البيض عنه، إن إبعاد الأفراخ الأخرى من العش، يرجع إلى فعل الطير المحاضن نفسه. ولكن هذا الباحث قد تمكَّن في العهد الأخير من إثبات حالة، أبعد فيها فرخ الوقواق «أخدانه في الحضانة»، في وقت كان لا يزال مغمض العينين، ولم يكن في استطاعته أن يحتفظ باعتدال عنقه، فلما أُعيد أحد الأفراخ إلى العش، قذف به فرخ الوقواق مرة أخرى إلى خارجه.
أما البحث في كيفية نشوء هذه الغريزة الغريبة وثباتها في طبيعة هذا الطير، فإنا إذا حققنا أن من فائدة فرخ «الوقواق» أن يحصل على كمية كبيرة من الغذاء لدى أول عهده بالحياة، كما يغلب أن يكون الواقع، فلست أجد من صعوبة تحول دون القول بأن أفراخ هذا الطير قد سيقت بمقتضى حاجتها العمياء إلى كسب هذه الغريزة تدرجًا، خلال أجيال عديدة، مقرونة بما يلزمها من قوة جسمانية وتراكيب بدنية ضرورية تمكِّنها من إتمام عملها هذا، ذلك بأن أفراخ «الوقواق»، التي كانت بحكم الطبيعة أكثر التزامًا لهذه العدة، وأحسن نظامًا في التركيب، وأرقى تكوينًا، هي التي فازت بحظ البقاء، وحسن التعهد وقوة النشأة، ومما أرجحه أن أول الخطى التي مضت هذا الطير، متدرجًا فيها نحو اكتساب هذه الغريزة الخاصة، لم تكن سوى نزعة في أفراخ هذا الطير للقيام بحركات عنيفة لا تنبهية في داخل العش، بعد أن تبلغ من العمر مبلغًا خاصًّا، وتحوز نزرًا كافيًا من القوة الجسمانية، وأن عادتها هذه قد تهذبت وتحسنت، وأخذت تظهر في دور باكر من العمر خلال تتابع أجيالها، وليست أرى في الأخذ بهذا الرأي من صعوبة، أكثر مما في كسب أفراخ بقية الطيور الأخرى لتلك الغريزة العجيبة، التي تسوقها كسر قشر البيض، الذي يحويها بمقدم منقارها، أو من كسب صغار الحيات والثعابين لسن بارز يكون في مقدم فكها الأعلى، يساعدها على كسر البيضة، التي تتضمنها على صفاقة قشرتها، كما كشف عن ذلك الأستاذ «رتشارد أوين». فإننا إذا تابعنا البحث، مقتنعين بأن كل جزء من التراكيب العضوية قابل للتحول الفردي في خلال كل دور من أدوار العمر، وأن هذه التحولات تنزع إلى أن تعود إلى الظهور، موروثة في دور من العمر، يناظر الدور الذي ظهر التحول فيه أولًا في أصولها الأولية، أو في دور مبكر قليلًا، وهذه حقائق لا سبيل إلى إدحاضها بحال، فإن من المستطاع أن تتهذب غرائز في صغار العضويات وتركيبها تدريجيًّا، ممعنة في ذلك إمعان العضويات حين بلوغها، وتانكما الحالتان، حالتا التحول واقعًا على صغار العضويات وقوعه على كبارها، إما أن تثبتا معًا، وإما أن تسقطا معًا، بإثبات نظرية الانتخاب الطبيعي، أو نقضها.
(٣) أنواع من «الملطروس»
إن «مستر هدسون» من غير المؤمنين بنظرية النشوء والتطور، ولكن يظهر أنه قد تأثر بما رأى من النقص الكائن في غرائز «الملطروس البوناري»، حتى إنه تساءل بعد أن أتى على الكلمات، التي كتبتها في ذلك الطير، فقال: «أفي مستطاعنا ألا نعتبر هذه العادات غرائز، خُلقت في النوع، وحبته بها الطبيعة، فنعتبرها ثمرة لمؤثرات سُنة عامة، ندعوها سُنة التدرج؟»
(٤) غريزة الاسترقاق
عثرت على أربع عشرة مستعمرة من مستعمرات أو خلايا هذا النوع (النملة السفاحة)، فلم أجد فيها سوى عدد قليل من العبيد، فإن ذكور النوع المستعبَد؛ أي «النملة الغبراء» وإناثها الولود، لم توجد إلا في جماعاتها الخاصة بها، ولم توجد أبدًا في قرى النملة الحمراء، والعبيد سود اللون، ولا يزيدون في الحجم على نصف حجم أسيادهم النحاسي اللون؛ ولذا كان الفرق بين الاثنين واضحًا جليًّا، فإذا اضطربت حالة الحلة، التي يسكنها هذا النمل من جراء أية حركة غير عادية، عمد العبيد إلى الخروج منها، مسرعين مدافعين عن حللهم، كما يفعل أسيادهم، فإذا زاد الاضطراب، وكادت اليرقات أن تتعرض للخطر، فإن العبيد وأسيادهم معًا، يسرعون بكل ما أوتوا من قوة ونشاط إلى نقلها إلى مكان أمين. ومن هنا يظهر لنا أن هؤلاء العبيد يشعرون كأنهم في بيوتهم الأصلية، ودأبت ثلاث سنوات متواليات على ملاحظة أعشاش النمل في «ساري» و«ساسكس»، ساعات متتابعات خلال شهري يونيو ويوليو، فلم أرَ عبدًا خرج من قرية، أو دخل إليها، فربما تكون طريقة عملها تختلف، إذا ما زاد عددها وكثرت جماعاتها، بيد أن «مستر سميث» قد لاحظ قرى هذا النمل خلال ساعات مختلفة من النهار في شهور مايو ويونيو وأغسطس، في مقاطعتي «ساري» و«هامشير»، فلم يرَ عبدًا واحدًا خلال هذه المدة خرج من قرية أو دخل إليها، على الرغم من أنها كانت توجد بكثرة خلال شهر أغسطس، ومن هنا يعتبرها عبيدًا مقصورًا عملهم على أشغال القرى الداخلية لا غير؛ ذلك لأن النوع المتسود، غالبًا ما يُرى حينذاك، حاملًا ألوانًا من الطعام والمواد الضرورية لقوام القرية. وحدث عام ١٨٦٠ أني عثرت خلال شهر يوليو على جماعة فيها عدد من العبيد، زائد عن المألوف، ولحظت أن عددًا قليلًا من العبيد مختلطون بأسيادهم، وهم يغادرون القرية، سالكين طريقًا واحدًا، ميممين نحو شجرة باسقة من شجر التنوب الإيقوسي، تبعد خمسًا وعشرين ياردة، فاعتلوها معًا ابتغاء اصطياد شيء من قمل النبات، أو حشرة القرمز، على ما رجح عندي. أما «مستر هوبر» فيقول، استنادًا على ملاحظاته القيمة التي أُتيحت له: إن العبيد في بلاد سويسرا يعملون عادة من أسيادهم في بناء القرية، ويُناط بهم وحدهم فتح بابها وإغلاقه صباحًا ومساءً. ثم إن «هوبر» قد أثبت بعد ذلك، أن عملها الرئيسي ينحصر في البحث عن قمل النبات واصطياده، أما الفروق بين عادات الأسياد والعبيد في كلتا المملكتين، فترجع على الأرجح إلى أن ما يُؤسر من العبيد في سويسرا، أكثر مما يُؤسر منهم في إنجلترا.
ساعدتني الفرص ذات يوم، على أن أرى هجرة «النملة السفاحة» من قرية لأخرى، فرأيت إذ ذاك منظرًا فريدًا عجيبًا، في بابه، حيث كانت أفراد هذا النوع تحمل في أفواهها أسراءها، شادة عليها بين أفكاكها، بدلًا من أن تحملها الأسراء، كما هي الحال في نوع «النملة الحمراء». واسترعى انتباهي ذات يوم، جمعًا آخر من النمل ذي الغريزة الاستعبادية، يبلغ عدده العشرين نملة تقريبًا، يبحث في نفس المكان، وكان واضحًا أنها لا تبحث عن غذاء، فلما وصلته، ردت على أعقابها مجموعة مستقلة من النوع المسترق (النملة الحمراء)؛ إذ هاجمتها هجومًا عنيفًا، وحملت عليها حملة صادقة. وقد ترى في بعض الحالات أن ثلاثة من أفراد هذا النمل المستعبد كانت تتشبث، متعلقة بأرجل فرد واحد من النوع المسترَق (النملة السفاحة)، فلا تلبث «السفاحة» أن تقتل تلك شر قتلة، ومن ثم تحمل جثتها إلى عشها، الذي يبعد عن مكان الواقعة تسعًا وعشرين ياردة؛ لتتخذها طعامًا، ولكنها كانت تمتنع عن أخذ شيء من العذارى لتربية عبيد، مهما كانت الظروف، فاحتفرت بعد ذلك مجموعة أخرى، وأخذت منها كمية من عذارى النملة الحمراء، ووضعتها بالقرب من ميدان النزال في مكان عارٍ، فلم يلبث المسترقون أن حملوها إلى قراهم، موقنين، كما رجح عندي من حركاتهم، أنهم انتصروا في تلك الواقعة العظمى بأخذهم إياها.
ولقد أخذت بالعجب مرة؛ إذ عثرت على حِلة مستقلة من «النملة الذهبية» تحت صخرة، فوقها حلة من «النملة السفاحة»، ذات الغريزة الاستعبادية، فلما أثرت ثائر أفراد الحلتين، بما أحدثت من اضطراب فيهما، أخذ النوع الأول على صغر حجمه، يهاجم جيرانه الأقوياء بكل ما أُوتي من شجاعة، أردت بعد ذلك أن أعرف إن كانت «النملة السفاحة» في استطاعتها أن تفرِّق بين عذارى «النملة الغبراء»، التي اعتادت أن تتخذ منها أسراءها وعبيدها، وبين عذارى «النملة الذهبية» التي لا تأسرها إلا نادرًا، فظهر لي جليًّا أنها تفرق بينهما بسهولة تامة، حيث رأيت أنها تعمد إلى الاستحواذ على عذارى «النملة الغبراء»، لدى أول فرصة تلوح لها، بكل ما أوتيت من جد ونشاط، في حين أنها تجد في الهرب، فزعة إذا ما وقعت على شيء من عذارى «النملة الذهبية»، أو إذا قادتها خطواتها إلى أرض قريبة من حللها، حتى إذا ما انصرف هذا النمل الصغير، وزحف إلى أماكن بعيدة عن عشه، فما أسرع ما تعود «النملة السفاحة» بعد قليل، متخذة من غياب أصحاب العش شجاعة؛ لحمل عذاراها والهرب بها.
زرت ذات ليلة، حلة أخرى من حلل «النملة السفاحة»، فوجدت عددًا منها راجعًا أدراجه، متجهًا نحو حلته، أو داخل إلى أعشاشه، حاملًا جثث كثير من «النملة الغبراء» وكثيرًا من عذاراها الحية، مما يدل على أنها لم تقصد من خروجها الهجرة، بل شيئًا آخر، فتتبعت الجهة التي كان يأتي منها النمل حاملًا غنائمه، وسرت أربعين ياردة، فعثرت على دِغل كثيف، حيث رأيت آخر نملة «سفاحة» تحمل عذراء، غير أنه لم يتسنَّ لي أن أعثر على العش المخرب في ذلك الدغل المتكاثف، فاعتقدت أن الحلة لا بد من أن تكون على مقربة مني؛ إذ رأيت نملتين أو ثلاثًا من «النملة الغبراء»، متعثرة في سيرها، وقد أخذ منها الذعر والوجل والاضطراب، وظلت إحداها معدومة الحركة، حاملة عذاراها في فمها تدب فوق «الهيث»، تمثل شبح القنوط واليأس، على وطنها المخرب.
تلك هي الحقائق التي لا تحتاج إلى زيادة توضيح غريزة الاستعباد العجيبة، وجدير بنا أن نلم في هذا الموطن بتلك الفروق الواقعة بين عادات «النملة السفاحة» الغريزية، لدى مقارنتها بعادات «النملة الحمراء»، التي تعيش في القارة الأوروبية، فإن النوع الأخير لا يبني أعشاشه بنفسه، ولا يقرر المهاجرة من مكان إلى آخر بمحض اختياره، ولا يسعى لجمع الطعام له أو لصغاره، بل إنه لا يستطيع أن يغذي نفسه، فهو في ذلك يعتمد الاعتماد كله على ما يتخذ من عبيد وأسراء، لا يحصيها العد، في حين أن «النملة السفاحة» لا تتخذ من العبيد إلا النزر اليسير، وقد يقل عدد عبيدها قلة بينة في أوائل فصل الصيف؛ ولهذا النوع تمام الحرية في اختيار الزمان والمكان، الذي يبتني فيه عشًّا جديدًا، فإذا ما أزمع الهجرة احتمل أسراءه بنفسه. والظاهر من عادات هذا النوع، سواء في إنجلترا أو في سويسرا، أنه يعهد للعبيد بأمر العناية بصغار يرقاته، ويلتزم هو عادة القيام بغارات يشنها في سبيل الحصول على الأسراء. وفي سويسرا يعمل الأسياد والعبيد معًا في بناء العش، واستجماع المواد الأولية اللازمة لإقامتها، وكلاهما يُعنى «بقمل النبات»، يحتلبه كما يقولون، وإن كان حظ العبيد من هذا العمل أوفر من حظ أسيادهم، وبذلك يتعاون العبيد وأسيادهم في جمع الغذاء اللازم لحاجة الجماعة. أما في إنجلترا، فإن الأسياد وحدهم هم الذين يخرجون من الأعشاش في سبيل استجماع المواد الأولية اللازمة للبناء والغذاء، لهم ولأسرائهم ويرقاتهم؛ ولذا كان نصيب الأسياد من العمل في إنجلترا، أكثر من نصيب أمثالهم في سويسرا.
أما البحث في الخطى، التي تقلبت فيها غريزة «النملة السفاحة» وتأصلها، فذلك ما لا أدعي أن في استطاعتي أن أسوق الكلام فيه، غير أنني رأيت أنواعًا من النمل ليس الاستعباد من غرائزها، قد تحمل أجنة أنواع أخرى، إذا ما نثرت على مقربة من أعشاشها، فمن المحتمل أن بعضًا من هذه الأجنة، التي لا تستجمعها هذه الأنواع إلا لتستخدمها، ولتتخذها من بعدُ طعامًا، قد تكبر وتنمو ومن ثم يأخذ الأفراد الغرباء في مطاوعة غرائزها، فتقوم بما تستطيع من عمل، فإذا أصبح وجودها نافعًا بوجه من الوجوه للنوع الذي حملها إلى عشه، ووضح لذلك النوع أن نصيبه من المصلحة في تربية هؤلاء العمال النشطاء أكبر من نصيبه في اتخاذهم طعامًا واستهلاكهم، فإن عادة استجماع «عذارى» نوع آخر لاتخاذها طعامًا، قد تقوى في ذلك النوع بتأثير الانتخاب الطبيعي، حتى تصبح ثابتة في فطرته، مصروفة إلى غرض مخالف للغرض الأصلي منها، وهو تربية الأسراء واستخدامهم، فإذا كسبت هذه الغريزة مرة، ولو كانت في مبدأ الأمر أضعف أثرًا مما هي في «النملة السفاحة» في إنجلترا، وهي أقل نصيبًا من الانتفاع بأسراتها من نوعها الذي يقطن سويسرا، فمن المرجح أن يمضي الانتخاب الطبيعي في تثبيت هذه الغريزة وتنميتها وتهذيبها، على اعتبار أن كل خطوة من خطى التهذيب، التي يتتابع وقوعها على هذه الغريزة، تكون ذات فائدة للنوع في مجموعه، حتى يتكون نوع يبلغ من الاعتماد المطلق على أسرائه مبلغ نوع «النملة الحمراء».
(٥) نحل الخليات وغريزته في بناء خلاياه
ليس من قصدي أن أتابع البحث في دقائق هذا الموضوع ومفصلاته، ولكني سأقصر الكلام على شرح موجز للنتائج التي وصلت إليها.
إذا فحص شخصٌ خلية من خلايا النحل، ولم تتملكه عاطفة الإعجاب الشديد بنظامها، فلا شك نقول إنه سقيم الوجدان. فإنك تسمع من كبار الرياضيين أن النحلة قد وصلت بطريقة عملية إلى حل معضلة من معضلات المسائل الرياضية الكبرى، فاستطاعت أن تبني خلاياها على شكل خاص، بحيث تسع أكبر كمية من العسل، مع استهلاك أقل كمية ممكنة من الشمع، ولاحظ بعض الباحثين أن أبرع فنان، مهما أُوتي من حسن الآلات، ودقة المقاييس، ليشعر بأكثر مشقة في بناء خليات من الشمع، تبلغ من كمال الوضع وحسن النسق، مبلغ ما تبني عشائر النحل في داخل بيوتها المعتمة. صوِّر لنفسك ما استطعت أن تصور من القوى الغريزية، فإنك بعد ذلك كله يحف بك الغموض، وإذا ما أردت أن تعرف كيف تضع تلك النحلة كل هذه الزوايا والسطوح، أو أن تدرك ما إذا كانت قد أتمت عملها أم لم تتمه، غير أن تلك الصعاب ليست من العسر بمقدار ما تلوح للإنسان لدى أول نظرة يلقيها على الموضوع، فإن هذا العمل البديع في مجمله، من المستطاع الكشف عنه بتتبع بضع غرائز ساذجة في نحل الخلايا.
بدأت أدرس هذا الموضوع مع العلامة «ووترهوس»، وكان قد أبان من قبل عن أن شكل الخلية ونسقها، يعودان في أغلب الأمر إلى وجود الخلايا التي تحيط بها، أما ما سنتابع القول فيه الآن، فلا أعتبره إلا تنقيحًا بسيطًا في نظرية هذا العلامة الخبير.
من هنا نستطيع أن نستنتج بحق، أنه إذا أصبح في استطاعتنا أن تهذيب غرائز النوع المكسيكي التي يتصف بها الآن، وهي غرائز ليست بغريبة في ذاتها بحيث نظن بأن تهذيبها غير مستطاع، فإن هذه النحلة يصبح في مكنتها ابتناء تراكيب، تبلغ من الكمال مبلغ ما يبنيه نحل البيوت. لنفرض أن هذا النوع — أي المكسيكي — في مقدوره تكوين خلايا كروية تامة من حيث الحجم والسعة، وليس لفرضنا هذا أن يبعث في بعض الباحثين نفورًا وحذرًا، ما دام في استطاعتها في حالتها الحاضرة، أن تبني خليات تكاد تكون كروية إلى حد ما، وما دمنا نرى في الطبيعة أن بعض الحشرات قد تحفر في الخشب أنفاقًا أسطوانية الشكل تمامًا، بأن تحصر عملية الحفر في الالتفاف حول نقطة بذاتها لا تتعداها، ولنفرض أيضًا أن هذه النحلة قد ترتب خلاياها في طبقات متحاذية، كما تصنع الآن خلاياها الأسطوانية، بل يجب أن نذهب بفرضنا لأبعد من هذا، وتلك أكبر صعوبة تقوم لدينا، فنمضي في البحث على اعتبار أن في مستطاعها، أن تحكم بطريقة ما حكمًا دقيقًا على مقدار ما يجب أن تقف عنده من البعد عما يعمل غيرها من صويحباتها العاملات، إذا عمد كثير منهن إلى بناء خلياتهن الكروية. غير أننا إذا دققنا النظر، ألفينا أن هذه النحلة قد بلغت من التهذيب حد القدرة على الحكم على الأبعاد، فإنها تشكل دائمًا خلياتها الكروية، بحيث تكون متقاطعة إلى حد معين، ثم إنها تعمد بعد ذلك إلى توحيد نقط التقاطع بسطوح منبسطة تمام الانبساط، وبأمثال هذه التحولات الوصفية في غرائز هذه النحلة، وهي غرائز ليست من الغرابة بحيث نقدر عدم قبولها التهذيب، بل إنها لا تعدو من جهة ثباتها واستقرارها غريزة الطير في بناء أعشاشه، نُساق إلى الاعتقاد، بأن «نحلة البيوت» قد كسبت بفضل الانتخاب الطبيعي، كل ما نلحظ فيها من القدرة في هندسة البناء، كما لا نجد له مثيلًا في غيرها.
بيد أن النظرية يمكن تحقيقها بالتجاريب، اتبعت نفس الطريقة التي اتبعها «مستر تجتماير»، ففصلتُ بين قرصين، ووضعت بينهما قطعة طويلة من الشمع غليظة مستطيلة الشكل، فسارع النحل حالًا إلى احتفار حفر صغيرة مستديرة فيها، وكانت تجعل هذه الحفر أكثر اتساعًا، كلما أمعنت في تعميقها، حتى أصبحت عبارة عن أحواض غير بعيدة الغور، بحيث تلوح للرائي كأنها كرات مستديرة، أو تقرب من الاستدارة، ولا يزيد قطرها على قطر الخلية التي تبنيها النحلة. ومن أغرب ما يُرى، أنه عندما تبدأ عدة نحلات في نبش هذه الحفر، متقاربًا بعضها من بعض، كانت تلاحظ دائمًا، أن تبدأ عملها في نقط مخصوصة، تحتفظ فيها بمسافات، بحيث إن حافات هذه الأحواض تتقاطع، أو يتدخل بعضها في بعض، لدى قربها من اتساع خلية عادية، وعندما يصبح غورها بما يساوي سدس الدائرة، التي تكوِّن كل حفرة من هذه الحفر جزءًا منها، وبمجرد وصولها إلى هذه الحالة ينقطع النحل عن الحفر، وتبدأ في بناء جدران مسطحة من الشمع على خطوط التقاطع الواقعة بين هذه الأحواض، حتى إن كل منشور سداسي يصبح بناؤه قائمًا على حافات ذات أقواس متماسة لحوض دقيق التركيب ساذجة؛ لتستعيض بذلك عن تلك الحافات المستقيمة، التي تُؤلف الهرم الثلاثي الأضلاع، كما هي الحال في الخلايا العادية.
ثم وضعت من بعد ذلك، في الخلية قطعة من الشمع، ضيقة الاتساع غير ذات سمك كبير، محدودة الحافة، ملونة بالزنجفر، بدلًا من القطعة الغليظة المستطيلة، فسارعت النحل إذ ذاك إلى احتفار أحواض صغيرة على كلا الجانبين، متقاربًا بعضها من بعض، كما فعلت في الحالة الأولى تمامًا، غير أن حافة الشمع كانت رقيقة بحيث إن قاع كل حوض منها كان لا بد من أن ينفذ إلى قاع الآخر في الجهة المقابلة، إذا تم احتفارها بنفس العمق، الذي احتفرت به الأحواض في الحالة الأولى، غير أن النحل حاذرت من بلوغ هذه الغاية، فأوقفت عملية الحفر في الوقت المناسب، حتى إن الأحواض عندما بلغت حدًّا محدودًا من العمق، أصبحت قواعدها مسطحة، وهذه القواعد التي كوِّنت من صفائح رقيقة من الشمع الزنجفري، وتُركت من غير حفر فيها، كانت موضوعة على طول سطوح من خط تقاطع وهمي، واقع بين الأحواض في الجهات المتقابلة في حافة الشمع. وحكمُنا على ذلك النظام، راجع إلى مقدار ما تبلغ العين من القدرة على فحص هذا البناء الدقيق جهرة، ولقد ترى في بعض جهات من هذا البناء أجزاء صغيرة، وفي جهات أخرى أجزاء كبيرة من الصفائح القرصية، تُركت بين الأحواض المتقابلة، غير أن عمل النحلة، بالنسبة لاجتماع كل هذه الظروف غير الملائمة لعاداتها، لم يبلغ من حسن الصناعة مبلغًا كبيرًا، ولا بد من أن تكون النحلة قد بدأت في عملها بنسب متقاربة جد التقارب في حفر دوائر الأحواض وتقويرها على جانبي الشمع الزنجفري، حتى تستطيع أن تنجح في ترك صفائح مسطحة بين الأحواض، إذ تقف بعملها عند بلوغ خطوط التقاطع المسطحة.
وفحصت بعد ذلك لدونة هذا الشمع الرقيق، فلم أجد صعوبة تحول بين النحل؛ إذ هي مكبة على العمل في جانبي الصفحة، وتقديرها للحد الذي يقف عنده عملها، إذا ما بلغ الشمع مبلغ ما تريد من الدقة، أما في الأقراص العادية، فقد ظهر لي أن النحل لا تنجح دائمًا في العمل بنسب واحدة في كلا الجانبين؛ إذ لاحظت في معينات غير تامة، واقعة عند خلية بُدئ في عملها، أن جانبًا من جوانبها كان مقعرًا تقعرًا حقيقيًّا، حيث قدرت أن النحل سارعت هنالك في إتمام عملها، في حين أن الجانب الآخر كان محدبًا؛ حيث لم تسارع النحلة في عملها. وذات مرة، أعدت القرص إلى بيت النحل تعمل فيه زمانًا قصيرًا، ثم فحصت عن الخليات من بعد ذلك، فوجدت أن صفحة المعينات قد تمت فأصبحت مسطحة تمام التسطح، وكان من المستحيل على النحل أن يتم عملها هذا بقضم الشمع الكائن على الجانب المحدب؛ لأن الصفحة الصغيرة هنالك كانت رقيقة جدًّا، ورجح عندي أن النحل في مثل هذه الحالات، تقف على كلا الجانبين فتدفع الشمع وتثنيه؛ حيث يكون إذ ذاك دافئًا قابلًا للانحناء والالتواء، حتى تصل إلى الصفحة الوسطى، فتجعلها مسطحة تمامًا، كما شهدت ذلك بنفسي.
أما إذا نظرنا في التجربة، التي أجريناها في حافة الشمع الزنجفري، فإننا نستطيع أن نقضي بأن النحل إذا ما ابتنت لنفسها جدارًا دقيقًا من الشمع، أصبح في مستطاعها أن تجعل خلياتها على شكل خاص، بأن تقف كل منها على بُعد معين من الأخرى، وتأخذ في الحفر بنسبة واحدة، وتبدأ العمل بنية احتفار حفر دائرية متساوية، محاذرة في الوقت ذاته من أن تنفذ إحدى الدوائر إلى الأخرى. أما إذا فحصت محيط قرص آخذ في سبيل التكوين، فتجد أن النحل تبتني جدارًا صلبًا به، وأنها تصنع هذا الجدار بقضم الشمع من كلا الجانبين، عاملة في خط دائري، كلما أمعنت في تغوير كل خلية من الخليات، ثم إنها لا تصنع تلك القاعدة الهرمية المثلثة الجوانب في خلية بذاتها في وقت واحد، بل تبدأ بصفحة المعين القائمة بجوار الحافة، التي تأخذ في بناتها أولًا، أو تبدأ ببناء الصفحتين معًا، حسبما تحكم الظروف، ولا تكمل حوافي صفحة المعين، قبل أن تبدأ في بناء جدران المنشور السداسي، على أن بعضًا من هذه الملاحظات التي أوردتها فيما تقدم، قد تتناقض وما كتبه العلامة «هوبر» الكبير. غير أني على تمام الاقتناع بصحتها، ولو أُتيح لي متسع من الفراغ، لأثبتُّ أنها تلتئم ومذهبي تمامًا.
إن ما يقول «هوبر» من أن أول خلية تأخذ النحل في بنائها تحتفر في جدار من مشمع، متوازي الجوانب، غير صحيح، على الاعتبارات التي أدت بي إليها تجاريبي؛ فإن بدء بناء الخلية كان دائمًا عبارة عن كتلة صغيرة من الشمع، غير أني لا أترسل الآن في تفصيل ذلك.
ولقد رأينا من قبل، كيف يؤثر بعض الحفر الجزئي في بناء الخليات، غير أننا — لا شك — نخطئ كثيرًا إذا فرضنا أن النحل ليس في مستطاعها أن تبني جدارًا صلبًا من الشمع في موضعه المعين؛ أي على طول سطح التقاطع الكائن بين دائرتين متحاذيتين، وعندي كثير من الأمثال تظهِر الباحث على أن ذلك في مستطاعها، حتى إنك لترى في بعض الأحيان في تلك الحافة المحيطية، وما هي إلا ذلك الجدار الشمعي، الذي يبتني من حوله القرص، تعاريج مقابلة في الوضع للسطوح الواقعة عند صفحات المعينات، التي ستصبح قواعد للخلايا التي سوف يتم بناؤها، غير أن ذلك الجدار المحيط، لم يكن ليتم في كل الحالات التي شاهدتها إلا بطريقة واحدة، طريقة قضم الشمع من كلا الجانبين؛ لأن الطريقة التي تبني بها النحل خلياتها غريبة جد الغرابة، فإنها تصنع الجدار المحيط بالقرص، فتجعله أضخم من الجدران، التي تفصل بين الخليات عشرة أضعاف أو عشرين ضعفًا، ثم تتركه على حالته هذه.
على أنه في مستطاعنا أن ندرك كيف تبني النحل الخليات إذا ما فرضنا بناء نقيمه، فنجعل أساسه حافة عريضة من الأسمنت المصبوب، ثم نبدأ بتقسيمه أقسامًا متساوية عند سطح الأرض التي يُقام عليها، حتى تترك جدارًا دقيقًا حادًّا في وسطه، ثم نفرض أن اللبنات التي نستعملها لهذا البناء تستجمع دائمًا فوق محيط حافة الأسمنت المقسم ذلك التقسيم، وأن نضع مقادير معينة من الأسمنت دائمًا على تلك الحافة العريضة كلما احتاج الأمر ذلك، فيكون لدينا إذ ذاك جدار رقيق، آخذ في الارتفاع شيئًا فشيئًا، في حين أنه يكون محملًا دائمًا بقيمة عالية من المواد اللازمة للبناء. ولما كانت كل الخليات، سواء أتمت أم لم تتم بعدُ، قد تُوجت بتلك القيمة الكبيرة من الشمع، يصبح في مستطاع النحل أن تجتمع ساعية فوق سطح القرص، من غير أن يُحدث سعيها ضررًا بجدران المنشور السداسي على رقته وضعف تكوينه. ولقد أكد لي العلامة «ميلر» أن جدران تلك المنشورات تختلف من حيث الضخامة اختلافًا كبيرًا، فكانت ١ / ٣٥٢ من البوصة غلظًا، مأخوذًا ذلك من متوسط قياس اثني عشر جدارًا بالقرب من حافة محيط القرص، في حين أن قواعد الصفائح ذات الشكل المعين، تكون متوسطة الضخامة بنسبة ثلاثة لاثنين تقريبًا، فكانت غلظتها ١ / ٢٢٩ من البوصة، مأخوذًا ذلك من متوسط قياس إحدى وعشرين قاعدة منها. وبتلك الطريقة التي شرحناها من قبل في بناء الخليات، يكتسب القرص بالتدرج قوة ومتانة، مع استهلاك أصغر كمية ممكنة من الشمع.
إن اشتراك عديد وافر من النحل في العمل في وقت واحد، ليضع في سبيل الباحث صعوبة في تفهم كيفية بناء الخليات، فإن نحلة ما، بعد أن تعمل زمانًا معينًا في بناء خلية، تنتقل إلى غيرها، حتى إن الخلية الأولى قد يشترك في بنائها عشرون نحلة معًا، كما لاحظ ذلك «هوير»، ولقد أمكنتني الفرص من أن أثبت هذه الحالة، بأن كسوت حوافي جدران المنشور الرأسي الخارجي مرة، أو حدَّ الحافة المحيطية للقرص المسامي مرة أخرى، بطبقة رقيقة من الشمع الزنجفري، فألفيت اللون قد توزَّع بعمل النحل، توزيعًا متناسبًا، كما لو وزعته ريشة مصور فنان، بأن أخذت النحل دقائق من ذلك الشمع الملون من المكان الذي وضعتها فيه، واستعملته في بناء حوافي الخليات، التي كانت مكبة على إتمامها، على أنه يظهر لي، أن البناء عبارة عن توازن في تقسيم العمل المشترك بين مجموع من النحل، حيث تدفعها غريزتها إلى أن تقف في أبعاد متناسبة باذلة غاية جهدها في سبيل وضع تصميم لدوائر متساوية، ومن ثم تسرع في بناء سطوح التقاطع الكائنة بين هذه الدوائر، أو تركها من غير حفر، ولقد أخذت بالعجب عندما لاحظت لأول مرة، أن النحل إذا ما حفت بعملها صعوبة، كما لو تقابل جزءان من القرص في زاوية واحدة، قد تُساق غالبًا إلى هدم الخلية، وإعادة بنائها بطرق مختلفة، وقد ترجع في بعض الحالات إلى بنائها على نسق تكون قد رفضته من قبل.
أما إذا هُيئ لكل نحلة مكانها الخاص، الذي يجب أن تبدأ بعملها فيه — كما لو وقفت مثلًا على منحدر من الخشب، موضوع تحت وسط القرص، الذي يكون بناؤه إلى أسفل، فيكون من اللازم أن يُبنى القرص على وجه واحد من ذلك المنحدر لا غير — وفي هذه الحالة تستطيع النحل أن تضع أساس جدار واحد من أسس معين جديد في مكانه المضبوط تمامًا، بحيث يكون بارزًا لأبعد من بروز الخلايا، التي يكون قد كمل عملها، وإنه ليكفي أن يكون في مستطاع كل نحلة أن تعيِّن في محل إقامة بنائها، مركزَها المناسب لمراكز أخواتها، ولموقع جدران الخليات التي تكون بُنيت، حتى تصبح قادرة، بعد وضع تصميم تصوري لمواقع الدوائر، على بناء جدار وسطي، يقع بين الدوائر المتجاورة. غير أنني لاحظت فضلًا عن ذلك، أن النحل لا تبدأ بقضم زوايا الخليات وإكمالها قبل أن تبلغ من حفر هذه الخلية المجاورة لها مبلغًا كبيرًا، ومقدرة النحل في وضع أساس جدار غير تام الصنع في مكانه الخاص بين خليتين عند بدء بنائها، صفة ذات خطر كبير، وأنها لتؤدي بنا إلى حقائق، تلوح كأنها على النقيض من النظرية القائلة بأن الخليات التي تقع على حافة الأقراص، التي تبنيها الشفافير، تكون في بعض الأحيان ذات شكل معين تام التركيب، غير أني لا أسترسل في هذا الموضوع؛ لما أراه من ضيق المقام.
ولست أرى هنالك من صعوبة تحول دون أية حشرة (كما هي الحال في ملكة الشفافير)، من أن تبني خليات ذات شكل سداسي، إذا عملت على التتابع لدى بنائها في داخل خليتين أو ثلاث، وفي خارجها في وقت واحد، وبأن تقف دائمًا على أبعاد متوازية من أجزاء الخليات، التي تكون قد بدأت في عملها، محتفرة دوائر أو أسطوانات، مقيمة بين بعضها وبعض سطوحًا وسطى، تفصل بينها.
أما وقد عرفنا أن الانتخاب الطبيعي لا يتهيأ له مجال التأثير في طبائع الكائنات الحية إلا باستجماع مختلف ضروب من التهذيب التركيبي، أو تحول الغرائز تحولًا ضئيلًا غير محسوس، بحيث يكون كل تحول ذا فائدة للفرد الواحد حال تأثره بحالات الحياة التي تحوطه، فإنه يحق لنا أن نتساءل: كيف أن تدرج الغرائز الهندسية وتلاحق حدوثها بعضها تلو بعض، كان ذا فائدة لأسلاف نحل البيوت على مدى أجيالها الأولى، حيث كان كل تدرج سيقت إليه في خلال أدوار تحولها مفضيًا بها إلى بلوغ ذلك الحد، الذي استطاعت عنده أن تستكمل معداتها اللازمة لوضع تصميم ذلك البناء المحكم! وأغلب ظني أن الجواب على ذلك غير عسير، فإن الخليات التي تُبنى على النسق الذي تُبنى به خليات النحل أو الشفافير، تكتسب قوة ومتانة، وتوفر قسطًا عظيمًا من الجهد والفراغ، والمواد التي تلزم لبنائها، أما استجماع الشمع اللازم لبنائها، فمعروف أن النحل غالبًا ما يستعصي عليها أن تجمع الكمية اللازمة من الرحيق، الذي تستخرج منه الشمع، حتى إن «مستر تيجتماير» قد أخبرني أنه برهن عمليًّا، على أن الكمية التي يستهلكها نحل بيت واحد لإفراز رطل واحد من الشمع، تتراوح بين اثني عشر وخمسة عشر رطلًا من السكر. من هنا نرى أن كمية عظيمة من الرحيق السائل، لا بد من أن تستجمع، ويستهلكها نحل بيت واحد لإفراز الشمع اللازم لبناء أقراصها. وفضلًا عن ذلك فإن كثيرًا من النحل قد تظل متعطلة عن العمل في خلال الوقت الذي تفرز فيه كمية الشمع المطلوبة، فضلًا عن أن مقدارًا عظيمًا من العسل لا بد من استخزانه؛ ليقوم بأود مجموعة كبيرة من النحل في خلال الشتاء، في حين أننا نعلم حق العلم أن كيان البيت الواحد متوقف على وجود غذاء كافٍ لجمع كبير من الأفراد، من هنا يظهر لنا أن توفير الشمع يتوقف على وفرة ما يختزن من العسل، مضافًا إلى ذلك طول الزمان، الذي تستجمع خلاله كمية العسل اللازم، لا بد من أن تعتبر من الأوليات الضرورية لنجاح أسرة معينة من النحل. ومن الشائع المعروف أن نجاح نوع من الأنواع قد يرجع إلى مقدار عدد أعدائه أو الطفيليات، أو غير ذلك من الأسباب، وتلك أسباب مستقلة عن مقدار ما تستطيع النحل أن تستجمع من عسل. ولكن لنفرض أن تلك الظروف، التي أدلينا بها من قبل، هي التي تقضي — كما يغلب أن تكون قد قضت في ظروف عديدة، فيما إذا كان في مستطاع صورة من صور النحل متصلة النسب بأنواع النحل الطنان — بأن تعيش في جموع كبيرة من إقليم بذاته، ولنفرض أيضًا أن تلك الجموع قد عاشت خلال الشتاء، ومن ثم احتاجت إلى كمية من العسل تختزنها، فإنا لا نشك في تلك الحال أنه يكون من أرجح الفوائد، التي تجنيها تلك الصورة المفروضة، أن يطرأ على غرائزها تهذيب وصفي ضئيل، يسوقها إلى بناء خلياتها المشمعة، متقاربًا بعضها من بعض، حتى تصبح متقاطعة تقاطعًا غير تام؛ لأن الجدار الواحد إذا استُخدم لبناء خليتين متجاورتين، قد يوفر كمية من الشمع ومقدارًا من الجهد. ومما لا ريبة فيه أن تلك الصورة المفروضة إذا سيقت إلى بناء خلياتها، بحيث تجعلها أكثر نظامًا، وأقل بعدًا بعضها عن بعض، ونظمتها في مجموع واحد، كما هي الحال في خليات النوع المكسيكي، كان ذلك أكثر فائدة لها؛ إذ يُستخدم في تلك الحال جزء عظيم من السطح، الذي تُبنى عليه كل خلية في بناء خلية أخرى مجاورة لها، فيقل جهدها وتوفر مقدارًا من الشمع المستهلك في آن واحد، وهنالك تستغني كما رأينا من قبل، عن تلك السطوح الدائرية، وتستعيض عنها بسطوح منبسطة، عند ذلك يبتني النوع المكسيكي أقراصًا، تبلغ من الكمال مبلغ ما تبنيه نحل البيوت، أما الانتخاب الطبيعي، فلا محالة عاجز عن التدرج بغريزة البناء الهندسي إلى حد من الكمال أبعد من هذا؛ لأن القرص الذي يبنيه نحل البيوت على ما رأينا حتى الساعة، كامل كل الكمال من حيث الاقتصاد في الجهد، والشمع اللازم لبنائه.
(٦) في أن تحول الغريزة والتركيب العضوي لا يلزم أن يقعا معًا – الصعاب التي تعترض الانتخاب الطبيعي من حيث الغرائز – الحشرات العقيمة
ومما لا شك فيه أن هنالك من الغرائز، التي يصعب علينا البيان عن كنهها ما يعارض نظرية الانتخاب الطبيعي، ففي الطبيعة حالات لا نستطيع أن نستبين كيف تأصلت الغرائز فيها، وأخرى نعثر فيها على حلقات تدرجية وسطى، تربط بين أطرافها، ولدينا ضروب من الغرائز بلغت من حقارة الشأن مبلغًا لا يسمح لنا بالقول بأن نشوءها كان ثمرة لمؤثرات الانتخاب الطبيعي، ومن ثم تلك الغرائز التي نراها متماثلة كل التماثل في حيوانات متباعدة في رتب النظام الطبيعي العام، حتى إنك لا تستطيع أن تعزو تماثلها هذا إلى توارثها من أصل أولي بذاته، وبذلك نُساق إلى الاعتقاد، بأنها لا بد من أن تكون قد اكتُسبت، مستقلة بتأثير الانتخاب الطبيعي، ولست بمستطرد في الكلام في هذه الحالات المختلفة المتعددة، بل سأقصر الكلام على اعتراض سبق إلى حدسي، لدى تأملي منه لأول وهلة، أن دفعَه غير مستطاع، وظننت أن مذهبي لا محالة مقضي عليه بالزوال، وأقصد بهذا الاعتراض، حالات الإناث المحايدة، أو العواقر التي نراها في جموع الحشرات؛ لأن هذه الإناث في غرائزها وتراكيبها مختلفة اختلافًا بينًا عن الذكور والإناث الولود، وفضلًا عن ذلك، فإنها لعقرها لا تكون قادرة على الإكثار من نوعها وبقائها.
يجب أن نعي، بداءة ذي بدء، أن لدينا من صنوف الدواجن، وكذلك الحيوانات التي لا تزال في حالتها الطبيعية، أمثالًا لا نحصيها، بحيث نستبين فيها كل أوجه التباين الحادثة في التراكيب المتوارثة تظهر في كلا الزوجين — الذكر والأنثى — في أدوار معينة من العمر، ولدينا فروق لا تتبادل الظهور في أحد الزوجين لا غير ذلك بنسبة طول القرون أو قصرها، في الذكر والأنثى التابعين لسلالة بذاتها. من هنا لا أجد صعوبة بينة في أن تتبادل النسبة في أية صفة من الصفات مع حالة العقم في جمع ما من جموع الحشرات، أما المشكلة الحقيقية فتواجه سياق البحث، إذا ما أردنا أن نعرف كيف استجمع الانتخاب الطبيعي من طريق التدرج البطيء، تلك النسب المتبادلة في نواحي التهذيب التركيبي، الذي نلحظه في طبائع الكائنات الحية.
إذا تذكرنا بديًا أن الانتخاب الطبيعي يتناول أثره الأسرة برمتها، كما يتناول الفرد، وأنه قد يحدث في كليهما غاية محدودة، فإن هذا الإشكال على ما يظهر فيه من القوة والمتانة، لتنزل مكانته، ويقل شأنه، أو يُقضى عليه قضاء مبرمًا، كما أعتقد اعتقادًا كاملًا قد يريد مستولدو الماشية مثلًا، أن يمتزج اللحم والشحم معًا في بناء أجسام ماشيتهم، فإذا ذبحت ماشية من قطيع كانت فيها هذه الصفة، فإنهم يرجعون إلى القطيع الذي أُخذت منه، ويعملون بكل وسيلة مستطاعة، حتى ينجحوا في تربية سلالة فيها هذه الصفة. وإن الانتخاب الطبيعي لكفيل بأن يستحدث نسلًا من الماشية، يخرج بطول قرونه عن القياس العام، إذا ما عمل المستولدون على ملاحظة أي من الثيران والأبقار يكون في نتاجها هذه الصفة إذا استُولدت.
وإليك مثالًا آخر، أبلغ من هذا بيانًا، وأقرب لمتناول التجاريب الحقيقية، فقد حقق «مسيو فيرلو»، أن تنوعات من نبات ينتج في العام دفعتين، توالى عليه تأثير الانتخاب العملي زمانًا طويلًا، مصروفًا نحو البلوغ إلى درجة أو حالة معينة، فكان من نتائج ذلك، أنها أصبحت تنتج عددًا عظيمًا من النباتات البوادر، تحمل أزهارًا متضاعفة، غير أنها عقيمة، ولكنها تنتج في الوقت ذاته نباتات فردية الأزهار، خصبة مهيأة للإنتاج. أما الأخيرة، تلك التي يحفظ بها الضرب كيانه، فيمكن أن يقيسها بالذكور والإناث الولود في جماعات النمل، أما النباتات المزدوجة، فنقيسها بالنمل غير الولود، والحال في هذه الضروب، هي بذاتها الحال في الحشرات الاجتماعية، ففي كليهما تابع الانتخاب تأثيره في الأسرة، لا في الفرد، مسوقًا إلى ذلك ابتغاء الوصول إلى غاية ذات فائدة ما، وبذلك نقضي بأن التهذيب الوصفي الضئيل، واقعًا في التراكيب العضوية أو في الغريزة، أو متبادلًا بنسبة ما مع حالة العقم في أسر عشيرة بذاتها، يمكن التدليل على أنه ذو فائدة ونفع، في حين أن الذكور والإناث الولود تكون قد تكاثرت، وأورثت أنسالها المنتجة نزعة إلى إنتاج أفراد عقيمة، اختصت بتلك الصفات عينها، وهذا النهج لا بد من أن يكون قد تكرر وقوعه خلال الأجيال، حتى حدثت الفروق العظيمة الواقعة بين الإناث الولود، والإناث العقيمة التابعة لنوع واحد، تلك الفروق الذائعة في كثير من صور الحشرات الاجتماعية.
قد يسبق إلى يقين بعض الباحثين، أني أبالغ في الثقة بما للانتخاب الطبيعي من أثر، إذا ما قضيت بأن هذه الحقائق العجيبة المدعمة على أساس المشاهدة، لا تقوِّض أركان مذهبي، أما في الحالات العادية غير ذات الشأن، كحال الحشرات العقيمة التابعة لفرقة واحدة، والتي ترجع مباينتها للذكور والإناث الولود إلى أثر الانتخاب الطبيعي، كما أعتقد، فإنني أقضي، معتمدًا على مشابهات الواقعة بين التحولات الأولية فيها، بأن ضروب التهذيب الوصفي المتتابع الحدوث تدرجًا فيها، لا تطرأ على الأفراد العقيمة، الكائنة في قرية واحدة في وقت واحد، بل تلحق بقليل منهم لا غير. وإن من طريق ما تحوزه الجماعات من الغلبة، باستحداث أكثر الإناث للعديد الأوفر من الأفراد العواقر، ذوات الصفات المهذبة المفيدة للجماعة، تمضي تلك الأفراد متحولة على نسق واحد، ومتابعة لهذا الرأي، يجب أن نعثر اتفاقًا بين فترات الزمان، على تدرجات تركيبية تظهر في الأفراد التابعة لعش بعينه، ولكنا لا نجد شيئًا من هذا، حتى ولو نادرًا. وفي مستطاعنا أن نفقه سبب ذلك، إذا ما عرفنا أن ما صُرف من العناية نحو البحث في طبائع الحشرات العقيمة في أوروبا، قليل لا يُعتد به.
وفضلًا عن هذا، فإن أفكاك النمل العامل المختلفة الأحجام، تتباين جهد التباين في الشكل، وفي تكوين الأسنان وعددها، غير أن أكثر الحقائق إحاطة بعقولنا، أن العمال إن كان من المستطاع تقسيمهم فرقًا مختلفة الأحجام، إلا أنها تتدرج في خطى غير محسوسة بعضها نحو بعض في التكوين، وما شأنها في الحجم، إلا كشأنها في تكوين أفكاكها من حيث التدرج. على أن ثقتي بصحة هذه الحالة الأخيرة، التي أتيت على وصفها، إنما ترجع إلى ما قام لي به «سير جون لوبوك»، من تصوير الأفكاك التي شرحتها تشريحًا شطريًّا، والتي أخذتها من فئات من العمال مختلفة الأحجام. ولقد أورد «مستر باتس»، في كتابه القيم — «باحث طبيعي على ضفاف الأمازون» — حالات مشابهة لهذه الحالة.
إني إذا ما نظرت في هذه الحالات ووعيتها، ملقيًا عليها نظرة من التأمل، فلا يسعني إلا أن أعتقد أن الانتخاب الطبيعي، بتأثيره في النمل الولود أو الآباء، كان في مستطاعه أن يستحدث أنواعًا، أمعنت في إنتاج أفراد عقيمة كلها ذوات أحجام كبيرة، وأفكاك ذات وضع وشكل واحد، وأنواعًا أخرى أمعنت في إنتاج أفراد قميئة الأحجام، تختلف أفكاكها اختلافًا كبيرًا، أو أن ينتج، وتلك هي مشكلتنا العظمى، فريقًا من العمال متماثل الحجم والتركيب، وفي الوقت ذاته، فريقًا آخر يختلف حجمًا وتركيبًا، وأنه كوَّن في مبدأ الأمر سلسلة من صور التدرج، كما هي الحال في «العَنَّوم»، ومن ثم مضى في الإكثار من صور طرفي السلسلة، ممعنًا في تكثيرها شيئًا فشيئًا، من طريق ما بث في الأصول، التي تنتجها من قوة البقاء والاحتمال، حتى أتى زمان تعطلت فيه الصور، التي تنتج أفراد الحلقات الوسطى من السلسلة عن الإنتاج، فانقرضت.
ولقد أتى «مستر وولاس» بإيضاحات شبيهة بهذه؛ حيث ذكر حالات تبلغ من التعقيد مبلغ ما ذكرنا في أنواع من الفراش، تقطن «جزر الملايو»؛ إذ تظهر إناثه في صورتين أو ثلاث صور مختلفة تمام الاختلاف. كذلك أبان «فريتز مولر» في أنواع من أصداف الرخويات، تأهل بها بلاد الأناضول، أن ذكورها قد تظهر في صورتين متباينتين، غير أني لا أستطرد هنا إلى الكلام في هذه الحالات.
وأغلب ظني أنني استطعت، على ما أعتقد، أن أكشف عن تلك الحقيقة الرائعة، حقيقة تأصل طائفتين من العمال العقيمة، مستقلتين في صفاتهما عن صفات آبائهما، التي حبتهما بنعمة الوجود. أما إذا عرفنا مقدار النفع، الذي تجنيه الجماعات الإنسانية من تقسيم العمل على فرقها وطوائفها، فهنالك نعرف مقدار النفع الذي يعود على النمل من استحداث تلك الأفراد العقيمة، والنمل إنما يعمل، مسوقًا إلى العمل بغريزة موروثة مؤصلة في تضاعيف فطرته، وبأدوات وأعضاء توارثها عن أسلافه السابقين، بينما يعمل الإنسان، مدفوعًا إلى العمل بمدركات وأصول مكتسبة من المعرفة، وآلات مصنوعة ابتدعها. غير أني لا محالة، معترف على الرغم من عظيم ثقتي وثابت يقيني في الانتخاب الطبيعي، بأني ما كنت لأقضي من قبل، بأن فعل هذه السُّنة قد يذهب إلى تلك الحدود البعيدة القصية من التأثير في طبائع الكائنات. ولم أكن قد بلغت من بحثي الحشرات العواقر إلى تلك النتيجة، التي شرحتها آنفًا، ولم أسُق الكلام في هذه الحالة موجزًا فيها إيجازًا غير معتل، إلا لكي أظهِر للباحث ما للانتخاب الطبيعي من أثر، ولأنها أشد الحالات التي اعترضت بحثي، مقتنعًا بالانتخاب الطبيعي، صلابة وأبعدها في زعزعة اليقين بتلك السُّنة أثرًا، ذلك على الرغم مما في بحث هذه الحالة من الفائدة العظمى؛ إذ تظهِر لنا مقدار أعظم كمية من الهذيب الوصفي، يمكن استجماعها في صور الحيوانات والنباتات من طريق التأثير التدرجي غير المحسوس، متتاليًا وقوعها بتحولات ذاتية مفيدة بوجه ما، من غير أن يكون للاستعمال، أو العادة يد في استحداثها، ذلك بأن العادات الخاصة التي تعكف عليها العاملات؛ أي الإناث العقيمة، لا يمكن أن تؤثر في الذكور والإناث الولود، التي تعقب وحدها نسلًا، مهما طالت مدة عكوفها عليه. وإني لتعروني الحيرة، إذ أقلب طرفي فلا أرى باحثًا من الباحثين، قد أقام من هذه الحالة البينة، حالة الحشرات العقيمة، معترضًا ينفي به تلك النظرية المعروفة، نظرية توارث العادات، التي يقول بها العلامة «لامارك».
ملخص
حاولت في هذا الفصل أن أثبت، أن الصفات العقلية في حيواناتنا الأليفة تتحول، وأن هذا التحول قد يورث، وأوجزت في ذلك القول، وتاليت البحث بأشد من ذلك إيجازًا، ابتغاء التدليل على أن الغرائز تتحول تحولًا ضئيلًا في الحالة الطبيعية الصرفة.
من هنا، لا أجد من صعوبة تحول دون الانتخاب الطبيعي والمضي في استجماع تحولات وصفية ضئيلة، تحدث في الغرائز بتأثير ظروف الحياة المحيطة بالكائنات، ذاهبًا بذلك التحول إلى أقصى الحدود، ففي حالات كثيرة، نجد أن العادة أو سُنة الاستعمال، غالبًا ما تمعن في التأثير في طبائع الكائنات، وما كنت لأدَّعي بأن الحقائق التي أتيت عليها في هذا الفصل قد تزيد من نظريتي قوة، أو تجعلها أشد ثباتًا، كما أن كل الصعاب والمشكلات التي اعترضت بحوثي لا تقضي بنقضها، بل على الضد من ذلك، فإن ما ثبت من أن الغريزة لم تبلغ في كل الحالات حدًّا من الكمال، وأنها كثيرًا ما تكون غير قويمة، وأنه ليس من الغرائز ما يمكن البرهنة على أن الطبائع العضوية قد كسبته، بحيث تكون منفعته قاصرة على حيوانات أخرى، ولو أن كل الحيوانات ينتفع بعضها بغرائز بعض، وأن آية الطبيعة الثابتة «أن لا طفرة في الطبيعة»، يمكن تطبيقها على الغرائز، كما تطبق على التراكيب الجسمانية، وأن تعليل حدوث الغرائز يمكن أن يُفقه على النسق السابق، ولا يُفقه بغيره مطلقًا، جماع هذه الاعتبارات، تجعلنا أكثر اقتناعًا بالانتخاب الطبيعي، وأثبت إيمانًا.