التهجين١
***
ساد بين الطبيعيين الاعتقاد، بأن الأنواع إذا تهاجنت، فرضت عليها الطبيعة غريزة العقم؛ لتمنع بذلك اختلاطها وتهوش روابطها. وأول نظرة تُلقى على هذا الزعم تفرض علينا ترجيحه؛ لأن الأنواع إذ تشغل من الطبيعة مكانًا محدودًا وبيئة واحدة، لا تستطيع أن تبقى محتفظة بأوصافها الخاصة إذا ما كان في قدرتها أن تتزاوج بحرية.
وهذا الموضوع ذو شأن كبير، فيما نحن آخذون بأسبابه من البحث، ولا سيما إذ وعينا أن عقم الأنواع لدى أول تزاوج بينها وما ينتج من هجنها، لا يمكن أن يكون قد كسبته طبيعة الأحياء من طريق الاحتفاظ بدرجات من العقم ذات فائدة للأنواع، توالى حدوثها فيها على مر الأزمان، كما سأبين ذلك في سياق بحثي، ذلك بأنَّه لا يتعدى أن يكون نتيجة اتفاقية راجعة إلى تباين الأجهزة التناسلية في الأنواع.
ولقد خلط الباحثون لدى معالجتهم هذا الموضوع بين طائفتين من الحقائق الطبيعية، تختلف إحداهما عن الأخرى تمام الاختلاف، خلطوا في البحث بين عقم الأنواع لدى أول تزاوج، وبين عقم الهجن المستولدة منها.
إن أجهزة التناسل في الأنواع النقية كاملة التكوين والوضع، غير أنها إذا تزاوجت فيما بينها كان لتلاقحها إحدى نتيجتين: فإما أن يقل نسلها، وإما أن تنجب البتة. أما الهجن، فعلى العكس من ذلك، نجد أن أجهزتها التناسلية غير تامة القدرة على القيام بوظيفتها، كما نعرف ذلك من الحالة، التي يكون عليها عنصر التذكير في الهجن، سواء في النبات أم في الحيوان، بالرغم من أن الأعضاء المكونة لأجهزتها تلوح على ظاهرها كاملة من حيث التركيب، وذلك بمقدار ما في مستطاع المجهر أن يودي بنا من إدراك لحالتها. ففي الحالة الأولى نجد أن عنصري الجنس، اللذين يتكون باختلاطهما الجنين، كاملًا الأوصاف، تامًّا النماء، وفي الحالة الثانية، نجد أنهما إما أن يظلا غير ناميين، وإما أن يكون نماؤهما ناقصًا، وهذا الفرق الكائن بين الحالتين ذو شأن خطير، إذا ما مضينا نتدبر أسباب العقم الحادث في كلتيهما. ولقد غفل الكثيرون عن البحث في هذا الفرق، بل طرحوا النظر فيه جانبًا، على اعتبار أن العقم في كلتا الحالتين، ليس سوى خِصِّية طبيعية، بعيد على قوانا العقلية أن نتقصاه ببحث، أو نبلغ منه بنظرة علمية.
إن خصب الضروب، وهي الصور التي نعرف، أو نعتقد بأنها متسلسلة عن آباء أولية بعينها إذا تزاوجت، وكذلك خصب أنسالها الخلاسية، لمسألة لها في نظري من الشأن ما لعقم الأنواع؛ لأنها على ما أعتقد تضع أمامنا فروقًا جلية، نفصل بها بين الضروب والأنواع.
(١) درجات العقم
من الثابت أنك إذ ترى أن العقم في أنواع كثيرة، عند تهاجنها تختلف درجاته اختلافًا كبيرًا، وقد يذهب متدرجًا في سبيل الزوال في خطى غير محسوسة، إذ بك تجد أن خصب الأنواع النقية، أو الصريحة من المستطاع التأثير فيه بسهولة تامة في ظروف كثيرة، حتى إنك لا تقدر مهما هُيئ لك من الأسباب العملية، أن تعرف عند أية غاية يقف الخصب الكامل في الأنواع، لتبدأ إذ ذاك صفات العقم في الظهور. ولست أجد من شهادة صدق مبينة تفصح لنا عن ذلك، فتكون أشد إقناعًا، مما بلغ إليه العلامتان «كولرويتر» و«جارتنر»، أكبر الباحثين الذين أقلتهم الأرض تجربة؛ إذ وصل كلاهما إلى نتائج متناقضة تمامًا، لدى بحثهما صورًا واحدة. كما أني لا أرى طريقة في تكوين النظر العلمي في هذا الموضوع — وإن أعوزني الفراغ للإطناب فيها — أمثل من المقارنة بين الشواهد، التي وصل إليها جهابذة علماء النبات، لدى بحثهم بعض الصور المشكوك فيها، وما إذا كانت قد تلحق بالضروب أو بالأنواع، وبين الشواهد التي وصل إليها المشتغلون بقضية التهجين في مقدار خصب الصور الحية، أو بين تجاريب باحث استجمع مشاهداته في خلال أعوام متفرقة، فإنك بذلك تستطيع أن تظهِر أن حالتي الخصب التام والعقم، كلتاهما لا يحبواننا بدستور محكم، نستطيع أن ندرك به فروقًا بذاتها بين الضروب والأنواع، فإن المشاهدات المقتطعة من هذه الحالة تتبدد، وتذهب هباء؛ إذ يصبح شكُّنا فيها بمنزلة الشك الذي يحوطنا لدى تدبرنا المشاهد، التي ننتزعها من الفروق التكوينية والتركيبية الكائنة بين الصور العضوية.
ولننظر الآن في عقم الهجن خلال تتابع أجيالها، فإن العلامة «جارتنر» إن كان قد نجح في استيلاد بعض الهجن، فاحتفظ بها، وحال بينها وبين التزاوج مع أصولها الأولية مدى ستة أجيال أو سبعة في حالات عديدة، وعشرة أجيال في غيرها، فإنه على الرغم من ذلك، يؤكد بأن خصبها لم يزد، بل إنه أخذ في التناقص والاضمحلال بدرجة كبيرة وبشكل فجائي. أما إذا نظرنا في هذا الاضمحلال، فيجب أن نعي أن الانحرافات التركيبية والتكوينية، التي تكون ذائعة في كلا الأبوين، يغلب أن يتوارثها الأعقاب، وأن عنصري الجنس في هجن النباتات، كلاهما يتأثر إلى درجة معينة. غير أني أعتقد أن تناقص الخصب في الهجن في هذه الحالات عامة، يرجع إلى سبب آخر، هو تناسل ذوي القربى. ولقد أجريت كثيرًا من التجاريب، واستجمعت طائفة كبيرة من الحقائق، فبان لي من جهة، أن تهاجنًا اتفاقيًّا، إن وقع لفرد معين أو لضرب ما، فإنه يزيد من مقدار خصبه وقدرته على الإنتاج، ولم يصادفني من الحالات ما يزعزع من ثبات اعتقادي في هذه السُّنة مطلقًا. والهجن قد يولدها المجربون بكثرة، وإذ كانت الأنواع الأصلية، التي يستولدون منها هذه الهجن تُربى عادة في حديقة، أو مزرعة واحدة، فالواجب أن يُحال بينها وبين الحشرات أن ترتادها خلال فصل الإزهار، ومن هنا نعتقد أن الهجن إذا تُركت وحالتها الطبيعية، فلا بد من أن تُخصب في خلال كل جيل بلقاح زهرة بذاتها، ولا مشاحة في أن ذلك يلحِق بقوة خصبها ضررًا بالغًا، ولا سيما إذا عرفنا أن خصبها في ذاته أصبح ضعيفًا لطبيعتها الهجنية. ومما يزيدني إيمانًا بصحة ذلك، ما يذكره العلامة «جارتنر»، من أن الهجن القليلة الخصب، إن خُصبت صناعيًّا بلقح هجن أخر من نوعها، فإن خصبها يتضاعف، على الرغم من تلك التأثيرات السوأى، التي تحدِثها فيها عمليات التجارب، وقد تمضي متدرجة في ذلك، وهنا يجب أن نعرف أن اللقح في وسائل الإخصاب الصناعي يُؤخذ مصادفة، (كما خبرت ذلك في تجاريبي)، فيقع مثلًا، أن يُؤخذ من أسدية أزهار أخرى، وقد يُؤخذ من أسدية الزهرة التي يُراد إخصابها بالذات، فيتضح من ذلك أن التهاجن من الجائز أن يقع غالبًا بين زهرتين، تحملهما نبتة واحدة، وزيادة على ما تقدم، فإنه عند القيام بمثل هذه التجاريب المتخالطة المعقدة، لا بد من أن يكون «جارتنر» قد خصى هجنه، وهي طريقة تحقق لدينا، أن التهاجن يجب أن يقع خلال كل جيل من أجيال هذه النباتات، بين زهرات معينة غير زهرات هذه الهجن، سواء أكانت من نفس ما ينتجه ذلك النبات، أم من غيره من النباتات ذات الطبيعة الهجينة. وبذلك نستطيع أن نقضي، بأن تلك السُّنة العجيبة، سُنة تزايد الخصب في أجيال الهجن المخصبة بالطريقة الصناعية، ومضادتها لحالاتها الإخصاب الذاتي، يمكن أن تزول أوجه الصعاب في تعليلها، على ما أعتقده، بردِّها إلى تناسل ذوي القربى.
لو أن الهجن لدى صرف العناية إليها كانت تمضي متدرجة في عدم القدرة على الإنتاج على تعاقب الأجيال، كما يعتقد العلامة «جارتنر»، فلا مشاحة في أن هذه النتيجة كانت تصبح ذائعة معروفة عند المشتغلين بتربية النباتات. على أن المشتغلين بزراعة الأشجار ليربون عددًا عظيمًا من صورة مهجنة واحدة، وبهذه الطريقة يضمنون حسن العناية بها؛ إذ إن فعل الحشرات يؤدي حتمًا إلى تهاجن أفراد عديدة منها، وبذلك يحولون بينها وبين النتائج السوأى، التي تنتج من تناسل ذوي القربى، وكل من ينظر، باحثًا في زهرات هجن «رودندرون» الممعنة في العقم، تلك الزهرات التي لا تنتج في اللقح شيئًا البتة، ليقتنع تمام الاقتناع بما تفعل الحشرات من أثر، إذا ما رأى وفرة اللقح المنقول إليها من زهرات النباتات الأخرى فوق مياسمها.
(٢) الحيوانات والتجارب التي أجريت عليها
أما الحيوانات المؤلفة، فإن أسرها إن تهاجنت، فلا ينتابها شيء من العقم، بل تمضي محتفظة بخصبها وقدرتها التامة على الإنتاج، في حين أن هذه الحيوانات غالبًا ما تكون قد تسلسلت في بدء أمرها عن نوعين أو أكثر من الأنواع البرية. على أننا إذا ألقينا نظرة تأمل على هذه الحقيقة، لزمنا أحد أمرين: فإما أن نقضي بأن الأنواع الأصلية كانت قد أنتجت لدى أول تهاجنها بعض هجن، احتفظت بكامل قوتها الإنتاجية، وإما أن نقول الهجن قد استعادت لدى تأثرها بعوامل الإيلاف قوة الخصب الكامل، وهذه الحالة — حال استعادة الهجن لقوة الخصب بالإيلاف، وهي التي أيدها من قبلُ العلامة «بالاس» — هي أكثر الحالتين قربًا من المعقول، بل إنه من الصعب أن نتشكك فيها، فإن الكلاب المؤلفة مثلًا، سليلة صور وحشية كثيرة، وعلى الرغم من ذلك، نجد أنها تامة القدرة على الإنتاج إذا ما تهاجنت، ما عدا بضعة صنوف من الكلاب الأهلية الخصيصة بجنوبي أمريكا. غير أن القياس الطبيعي يجعلني كثير الشك في أن الأنواع الأصلية، التي تسلسلت عنها الكلاب، كانت قد تناسلت بحرية تامة لدى أول تهاجنها، وأنها انقلبت بذلك التهاجن هجنًا ذات قدرة على الإنتاج. ولقد تحقق لدي أخيرًا، أن الأنسال المتولدة عن تهاجن الماشية الدربانية (الهندية الحدباء)، والعادية، تامة القدرة على الفروق الجُلَّى، التي ذكرها العلامة، يجب أن تعتبر نوعين متميزين، إذا ما وقفنا الإنتاج في حين أن هاتين الصورتين «ريوتمييه» واقعة في تكوينهما العظمي، والفروق التي أتى عليها «مستر بليث»، واقعة في عادتها، وأصواتها، وتكوينها العام، وهذه الفروق بعينها تتناول سلالتي الخنازير المعروفتين هنالك. من هنا يلزمنا أخذ فرضين: فإما أن نرفض القول بأن هنالك قسطًا من العقم، يذيع في الأنواع إذا ما تهاجنت، وإما أن نقضي بأن العقم في الحيوانات ليس صفة ثابتة في فطرتها، ولكنها صفة من المتيسر إزالتها بالإيلاف.
أما إذا تدبرنا هذه الحقائق، التي أوردناها في تهاجن الحيوانات والنباتات في مجموعها، فإنا لا محالة نقضي بأن ذيوع قسط من العقم ودرجة محدودة من العجز عن الإنتاج، أمر واقع في الأنسال الناشئة عن أول تهاجن وفي الهجن، ولكننا لا نستطيع أن نعتبر أن هذه الظاهرة تتناول الصور العضوية كافة، وهذا مبلغنا من العلم.
(٣) السُّنن التي تسيطر على أسباب العقم في أول تهاجن وفي الهجن
أريد أن أتكلم هنا، ببعض الإطناب في تلك السُّنن، التي تحكم في عقم الأنسال الناشئة عن أول تهاجن وفي عقم الهجن، وسيكون من أوليات ما أسوق الكلام فيه، البحث فيما إذا كانت هذه السُّنن قد تدل، أو لا تدل، على أن الأنواع قد خُصت بتلك الصفة، صفة العقم، لتمنع عليها الطبيعة التهاجن والاندماج بعضها في بعض من هذه السبيل. أما النتائج التي سوف أسوق الكلام فيها، فمأخوذة من كتاب العلامة «جارتنر» الفريد، «تهجين النباتات». ولقد أحاطت بي كثير من أسباب الغموض في سبيل تحقيق ما تؤثر السُّنن، التي عزاها «جارتنر» للنباتات في عالم الحيوان، فوجدت أن هذه السُّنن عامة شاملة، تؤثِّر في العالمين، عالم النبات وعالم الحيوان تأثيرًا واحدًا، على الرغم مما نحن عليه من جهل بحالات الهجن الحيوانية.
أظهرنا فيما سبق، أن درجة الخصب في الأنسال الناشئة عن أول تهاجن وفي الهجن، تندرج من العدم حتى تبلغ الكمال؛ أي كمال القدرة على الإنتاج الصحيح، وإنك لتعجب من تعدد الطرق والوسائل، التي نستطيع أن نثبت بها هذا التدرج ونبين عنه. غير أني لا أسوق الكلام هنا إلا في الحقائق الأولية، دون التعمق في الوصف، أو الإفاضة في الشرح.
إن الهجن الناشئة من تهاجن نوعين، يصعب جدًّا أن يتزاوجا، تكون غاية في الخصب والإنتاج عادة، غير أن الموازنة بين الصعوبة في إحداث تهاجن أولي بين نوعين، وبين عقم الهجن الناتجة عن تهاجنهما فورًا — وهما طائفتان من الحقائق، كثيرًا ما تخالطت ظواهرهما — فلا يمكن أن تكون تامة الضبط، فهنالك حالات عديدة، نجد فيها أن نوعين مستقلين انفرد كل منهما بصفة خاصة، كأنواع من جنس «البوصير» يمكن الجمع بينهما من طريق التهاجن بسهولة عظيمة، فينتجان كثيرًا من الهجن، في حين تكون هذه الهجن جد عقيمة. وعلى العكس من ذلك نجد أنواعًا يندر أن تتهاجن، أو أن تهاجنها يكون صعبًا ليس بهين، في حين تكون الهجن الناشئة من تزاوجها، إذا تم، غاية في الخصب والقدرة على الإنتاج، حتى إنك لتجد أن هذه الحالات قد تحدث بين أنواع الجنس الواحد، كما هي الحال في جنس «القرنفل».
إن قوة الخصب والإنتاج في الأنسال الناشئة عن أول تهاجن، وفي الهجن أسهل تأثرًا بفعل الحالات غير المواتية لطبيعتها من الأنواع النقية، غير أن في خصب الأنسال الناشئة عن أول تهاجن، نزعة إلى التحول مؤصلة فيها، فإن درجة الخصب لا تكون واحدة من حيث المقدار، عندما يقع التهاجن بين نوعين بعينهما، متأثرين بظروف واحدة، فإن هذه الدرجة تتوقف بعض الأحيان على قوة تكوين الأفراد، التي يتفق أن تنتقي لعمل التجربة. وكذلك الحال في الهجن، فقد بان أن مقدار خصبها يختلف غالبًا، اختلافًا كبيرًا في كثير من أفرادها الناتجة من بذور احتوتها علبة واحدة، وتعرضت لمؤثرات واحدة.
ولدينا من السُّنن الفذة طائفة يتيسر لنا أن نرويها، نقلًا عن العلامة «جارتنر»، خذ مثلًا، أنواعًا لها القدرة التامة والكفاءة العظمى عن التهاجن مع غيرها من الأنواع، وأنواعًا أخرى تابعة لجنس بعينه، تراها ذات قدرة تامة على أن تجعل هجنها مشابهة لها، غير أن تينك الكفاءتين، لا يلزم أن تقترن إحداهما بالأخرى، فمن الهجن ما يكون أكثر مشابهة لأحد أبويه، بدلًا من أن يكون ذا صفات متوسطة بينهما، كما هي العادة مثلًا، وهذه الهجن وأمثالها، إن كانت مقاربة في الشكل الظاهر لأحد أبويها الأصليين، فإن نصيبها من العقم يكون وفيرًا، على الرغم من بعض حالات شاذة لا حكم لها، كذلك نجد أن أفرادًا شاذة، خارجة على القياس العام، قد تُولد بين الهجنة، التي هي في العادة ذات صفات وسطى بينها وبين أبويها الأصليين، فتكون مشابهة لأحد الأبوين مشابهة قريبة. وهذه الهجن تكون عقيمة جدًّا في أغلب حالاتها، حتى ولو أصبحت الهجن الناتجة عن تهاجن بذور ثمرة واحدة، في حالة ما، على جانب عظيم من الخصب والقدرة على الإنتاج، وعامة هذه الحقائق تعرفنا كيف أن مقدار الخصب في هجين من الهجن، قد تكون بعيدة تمام البعد عن المشابهة العامة، التي تكون بينه وبين أحد أبويه الأصليين.
فإذا نظرنا نظرة تأمل في هذه السُّنن، التي أتينا عليها، تلك السُّنن التي تحكم في خصب الأنسال الناتجة عن أول تهاجن والهجن، وضح لنا أن الصور التي يجب أن نعتبرها من الأنواع الصحيحة المنفردة بصفاتها الخاصة، إذا تهاجن بعضها وبعض، فإن قدرتها على الإنتاج تتدرج عادة من العدم الصرف، حتى تبلغ شيئًا فشيئًا منزلة الخصب الكامل، أو على الأقل إلى الخصب تحت تأثير حالات خاصة تكون زائدة على الحالات الأصلية، التي تأثرت بها، بادئ ذي بدء، هذا بالإضافة إلى أن خصبها، فضلًا عن خضوعه وتأثره بمختلف الحالات، موافقة وغير موافقة، يكون متحولًا بالفطرة، وأن مقدار هذا الخصب يكون في الأنسال الناشئة عن أول تهاجن متعادل المقدار، متوازن القوة فيها وفي الهجن الناتجة عن تهاجن هذه الأنسال، وأن خصب الهجن لا يرجع إلى مقدار مشابهتها الظاهرة لأحد أبويها، وأن سهولة إحداث تهاجن أولي بين نوعين من الأنواع، لا يلزم أن تعود دائمًا إلى حكم قرابتها التصنيفية، أو مقدار المشابهة الواقعة بينهما. وهذه الحالة الأخيرة يمكن إثباتها بالفروق، التي شُوهدت بين ما أنتج تعدد التهاجن المتبادل بين نوعين بعينهما؛ إذ اتضح أن مجرد أخذ نوع منهما أو الآخر موضع الأب أو الأم، قد يحدِث بعض الاختلاف والتباين، وقد يحدِث تباينًا عظيمًا في بعض حالات نادرة، من حيث سهولة الجمع بالتهاجن بين النوعين. وعلى الرغم من هذا، فإن الهجن الناتجة عن التهاجن المتبادل، طالما اختلفت في مقدار الخصب والقدرة على الإنتاج.
نتساءل الآن: أتدل هذه السُّنن المعقدة الأسباب، على أن الأنواع قد خُصت بطبيعة العقم، أو بقسط وافر منها، ليستعصي عليها الاختلاط في الطبيعة؟ لا أظن ذلك، وإلا فلم نجد أن العقم يختلف في الدرجة والأثر اختلافًا بينًا؛ إذ تتهاجن أنواع مختلفة بعضها وبعض؟ أنواع ما نشك مطلقًا في أن من فائدتها أن تبقى غير متخالطة، إذا كان هذا من فائدة غيرها؟ ولماذا نلقى أن أثر العقم ودرجته متغايرة بحكم الفطرة في أفراد النوع الواحد؟ ولماذا تتهاجن بعض الأنواع بسهولة، ولا يكون من نتاج ذلك إلا هجن عقيمة لا تنتِج؟ ولماذا تقع على أنواع لا يتم التهاجن بينها إلا بأقصى صعوبة، وفي أندر حالة، ولا يكون من نتاج ذلك إلا هجن بلغت الغاية القصوى من الخصب والقدرة على الإنتاج؟ ولِمَ يكون هنالك اختلاف كبير في نتائج تهاجن متبادل يقع بين نوعين بذاتهما؟ أو لم يمتنع على الهجن أن تنتج، كما يتساءل الكثيرون؟ وإنه لمن أعجب النظم الطبيعية، أن نخص الأنواع بقدرة على إنتاج الهجن، ومن ثم تصد هذه عن الإنتاج بدرجات مختلفة من العقم تصيبها، ولا علاقة لها البتة بسهولة وقوع التهاجن بين آبائها الأصلية التي أنتجتها.
إن تلك السُّنن التي أتينا عليها، والحقائق التي أفضنا في ذكرها، لا تدل عندي إلا على العكس من ذلك، تدل على أن العقم الذي يصيب الأنسال الناتجة عن أول تهاجن، والهجن، ليس سوى حادث اتفاقي، أو هو يرجع إلى حالات متباينة مستقلة، أو غير معروفة تلحق بأجهزتها التناسلية. وإذ تكون هذه المباينات ذات طبيعة خاصة محدودة، فإنك تجد في التهاجن المتبادل بين نوعين بعينهما، أن عنصر الذكر الإنتاجي في أحدهما، يؤثر تأثيرًا تامًّا في عنصر الأنثى الإنتاجي في الآخر، ولكن لا يقع ذلك بشكل عكسي مطلقًا.
وإني لأرى أن من الضروري أن أوضح ما أعني من القول بأن العقم حادث اتفاقي، راجع إلى مباينات أخرى، وأنه غير راجع إلى صفة معينة خُصت بها الأنواع، ولما كانت قدرة أي نبات على النماء بالتطعيم، سواء بالفريعات أم بالبراعم على نبات آخر، صفة غير ذات خطر عظيم لكليهما في حالتهما الطبيعية الصرفة، فالراجح عندي أن لا يقدِم أحد، على الرغم من أن هذه القدرة صفة «خاصة» مفروضة عليها، على القول بأن تلك القدرة ليست سوى حادث اتفاقي، راجع إلى الفروق الكائنة في ضوابط نماء كل من هذين النباتين. وإنا لنكتنه بعض الحالات، التي تعوق نباتًا دون النماء بالتطعيم على غيره، ونراها راجعة إلى فروق خاصة في نسبة نمائهما، أو إلى مقدار صلابة خشبهما، أو اختلاف ميعاد سريان الماء فيهما، أو طبيعة عصرهما النباتي، أو غير ذلك، غير أننا في غالب الأحيان لا نستبين من سبب البتة. كذلك لم تحُل أكبر الفروق الظاهرة في حجم النباتات من نماء أحدهما بالتطعيم على آخر. فهنالك تجد نباتين: أحدهما خشبي، والآخر عشبي، وآخرين: أحدهما دائم الاخضرار، والآخر سليب في الشتاء، وكلاهما ذو كفاءة خاصة لتحمل أشد المناخات اختلافًا، وأكثرها تباينًا. ومع ذلك فإن كلًّا منهما ينمو على الآخر بالتطعيم، والحالة في التهجين واقعة بذاتها في التطعيم، فإن القدرة في كليهما محدودة بالقرابة التصنيفية؛ إذ لم يفلح باحث من الباحثين في تطعيم أشجار بعضها من بعض تابعة إلى فصائل تامة الاستقلال أبدًا. وعلى العكس من ذلك نجد أن الأنواع المتقاربة الأنساب، وكذلك الضروب التابعة لنوع بعينه، يطعم بعضها من بعض غالبًا (لا دائمًا)، بكل ما تصور لنفسك من السهولة، وليس للقرابة التصنيفية على هذه القدرة في التطعيم كما هي في التهجين، من حكم عام أو ضابط معروف، فإنك إن وجدت أن أجناسًا معينة لأسرة بعينها يستعصي على بعضها أن يطعِّم بعضًا، فالكمثرى مثلًا، أكثر قبولًا للنماء بالتطعيم على السفرجل، وهو معتبر عند الطبيعيين جنسًا معينًا، منها على التفاح، الذي هو نوع من الجنس الذي تتبعه الكمثرى. والأعجب من هذا، أن ضروب الكمثرى ذاتها تختلف، من حيث استعدادها لقبول النماء على السفرجل بالتطعيم، كذلك شأن ضروب المشمش والخوخ المختلفة في استعدادها للنماء بالتطعيم على ضروب البرقوق.
ولقد رأينا من قبل أن عقم الهجن، التي تكون أجهزتها التناسلية ناقصة بحال ما، مسألة تختلف كل الاختلاف عن صعوبة الجمع بالتهاجن بين نوعين نقيين، ليس في أجهزتهما التناسلية شيء من النقص، غير أن هاتين الطائفتين من الحقائق، تتمشيان، إحداهما بجانب الأخرى، متعادلتين إلى حد بعيد.
من هنا، نجد أننا إن وقفنا على حالات جلية من الفروق العظيمة، بين مقدار الاستعداد لنماء نبات على آخر بمجرد عملية التطعيم، أو اتحاد عنصري التذكير والتأنيث في حالة التناسل، فإنا نكتنه في درج ذلك قاعدة أولية من التعادل في النتائج، التي تحدث عن التطعيم، أو عن التهاجن نوعين معينين مثلًا. وكما أننا ننظر إلى تلك السُّنن الغريبة المتخالطة، التي تحكم في سهولة تطعيم بعض الأشجار من بعض، نظرة مَن يردها إلى الفروق غير المعروفة الكائنة بين أجهزة النباتات وطبائعها، فكذلك أعتقد أن تلك السُّنن، التي تحكم في سهولة وقوع التهاجن الأولي بين الحيوانات، وهي أكثر من السُّنن الأولى تخالطًا، وأشد تشابكًا، ترجع إلى اختلافات وفروق واقعة بين أجهزتها التناسلية. وهذه الفروق التي نعتقد بحق، أنها واقعة في كلتا هاتين الحالتين، تعود إلى حد محدود إلى القرابة التصنيفية، ونعني بها المباينات، أو المشابهات الواقعة بين صور الكائنات العضوية، والتي نعبر عنها دائمًا بهذا الاصطلاح. وهذه الحقائق لا تثبِت بوجه من وجوه الإثبات أن صعوبة إحداث التطعيم، أو التهاجن بين الأنواع المختلفة، فطرة خاصة فيها، على الرغم من أن الصعوبة في إحداث التهاجن أمر له قسط من الشأن والخطر في تهيئة الصور النوعية بمهيئات الثبات والسيادة، في حين أنك تجد أن الصعوبة في إحداث التطعيم أمر معدوم القيمة والفائدة لتلك الصور، إذا قدرت حاجة تلك الصور العضوية إلى كلا الأمرين.
(٤) نشأة العقم وأسبابه عند أوْل تهاجن، وفي الهجن والتهاجن
- فأولًا: يجب علينا أن ننبه على أن الأنواع، التي تأهل بها مقاطعات محدودة معينة تكون عقيمة في الغالب إذا تهاجن بعضها وبعض، وهنا يجب أن يسبق إلى يقيننا أنه ليس هناك من فائدة في أن تتأصل طبيعة العقم متبادلة في صفات الأنواع، التي يفصلها المأوى بشكل ما، ومن ثم نُساق إلى الاعتقاد، بأن هذه الصفة يستحيل عليها أن تكون نتاجًا لفعل الانتخاب الطبيعي. غير أننا قد نقول في مثل هذه الحال إن نوعًا ما، إن ارتدَّ عقيمًا عند تهاجنه مع نوع آخر من رصفائه، فإن عقمه لدى تهاجنه مع أنواع أخرى، يكون نتيجة طبيعية يستلزمها ما قبلها.
- وثانيًا: إن من المسائل التي تعترض القول بالانتخاب الطبيعي، كما قيل بالخلق المستقل، أن يعدم عنصر التذكير الخاص بصورة من الصور العضوية، لدى التهاجن المتبادل، صفة التأثير في صورة عضوية أخرى، في حين أن عضو التذكير الخاص بالصورة الثانية، يكون قابلًا لتهجين الصورة الأولى؛ لأن هذه الحالة الخاصة، التي كثيرًا ما تكون عليها أجهزة التناسل في العضويات، قلما تكون، أو كانت من قبل، ذات فائدة للأنواع.
أما إذا أردنا أن نتدبر ما يقول البعض، من ترجيح أن يكون للانتخاب الطبيعي أثر في إحداث العقم المتبادل بين الأنواع، فإن أكبر صعوبة تعترض كل مَن يريد أن ينعم النظر في هذه الحالة، هي وجود تلك الخطى التدرجية، التي يجد الباحث أن بعض الأنواع تتمشى فيها، من قلة الخصب مبدئيًّا، إلى العقم التام في النهاية. وقد يُقال، إن بلوغ نوع مبدئي درجة خاصة من العقم لدى تهاجنه مع نوعه الأصلي، أو مع ضروب أخرى تقاربه نسبًا، أمر مفيد له؛ لأن بذلك يقلُّ عدد الأفراد التي تنشأ، ويكون دمها مختلطًا بدم الأنواع الحديثة، التي تكون آخذة في أسباب التكاثر. بيد أن كل من يتجشم مئونة التعب في التأمل من تلك الخطى، التي بها تزيد الدرجة الأولى من العقم، وقلة الإنتاج بتأثير الانتخاب الطبيعي، حتى تبلغ تلك الدرجة الخطيرة، التي نراها ذائعة في كثير من الأنواع، والتي أصبحت عامة في الأنواع التي انتقلت إلى طبقة الأجناس أو الفصائل، ليجد أن في هذا الموضوع من الاستغلاق والغموض ما لا يمكن وصفه. وإني لأعتقد بعد إذ أنفقت ما أنفقت من التأمل، أن هذه الحالة لا يمكن أن تكون قد حدثت بتأثير الانتخاب الطبيعي. خذ مثلًا، حالة نوعين إذا تهاجنا لم ينتجا سوى بضعة أفراد قليلة، تأصلت فيها طبيعة العقم، ثم تساءل: أي شيء في مستطاعه أن يهيئ هذه الأفراد للبقاء، وهي أفراد قد خُصت — على ما نعلم — بدرجة وسطى من عدم القدرة على التهاجن المتبادل، ثم أصبحت عقيمة تامة العقم؛ إذ تخطت تلك الدرجة الوسطى إلى ما بعدها؟ على أن انقلابًا كهذا، لا بد من أن يكون قد حدث لكثير من الأنواع؛ لأن العديد الوافر منها قد أصبح متبادل العقم في الوقت الحاضر، هذا إذا أردنا أن نجعل الانتخاب الطبيعي سببًا، نرد إليه هذه الحالات. إن لدينا في الحشرات العقيمة لأسبابًا تسوقنا إلى الاعتقاد بأن التحول الوصفي الذي يلحق بتراكيبها، ومقدار خصبها وقدرتها على الإنتاج، قد أمكن أن تكسبه تلك الحشرات بتأثير استجماع الانتخاب الطبيعي لمهيآته؛ لأن بذلك قد حدثت فائدة للجماعة التي تلحق بها تلك الحشرات، ولو من طريق غير مباشر، حيث تجتني ثمراتها بما يمهد ذلك، لتفوقها على غيرها من الجماعات، وذلك على العكس من فرد من أفراد الحيوان غير تابع لهيئة اجتماعية، فإنه إن انقلب عقيمًا، ولو إلى درجة غير ذات شأن، لدى تهاجنه مع أفراد ضروب غيره، فذلك لا يحدث له أية فائدة ذاتية، ولا تعود من ذلك أية فائدة غير مباشرة على أفراد سواه، تابعة لنفس الضرب الذي يلحق به، تؤدي إلى زيادة غلبته، أو تهيئته بجديد من أسباب البقاء لم تكن له من قبل.
ولنعد الآن إلى النظر في طبيعة الفروق الواقعة بين الأنواع، والتي يحتمل أن تكون سببًا في عقم الأنسال الناشئة عن أول تهاجن وعقم الهُجن.
أما في أول تهاجن بين صورتين، فإن الصعاب التي نصادفها في الجمع بينهما، أو في استيلادهما حينًا، والسهولة، التي نلحظها حينًا آخر، فمما يرجع إلى أسباب كثيرة. ففي بعض الأحيان نجد أن حائلًا طبيعيًّا يصد عنصر التذكير عن أن يصل إلى البيضة، مثل ذلك نبات استطالت أعضاء التأنيث فيه، استطالة تعذر معها على أنابيب اللقاح أن تصل إلى المبيض، ولُوحظ أيضًا أنه عندما يوضع لقاح نوع من الأنواع على ميسم نوع آخر، يمتُّ إلى ذلك النوع بنسب بعيد، فإن أنابيب اللقاح إن امتدت إلى الأمام وبرزت، فإنها لا تخترق سطح الميسم مطلقًا، أضف إلى ذلك أن عنصر التذكير قد يصل إلى عنصر التأنيث، غير أنه يعدم القدرة على تكوين جنين. وإلى ذلك يرجع السبب، على ما أرى، في إخفاق «مستر ثوريت» في بعض تجاريبه في الفونس (جنس من الطحالب البحرية)، وإنا لا نستطيع أن نبلغ من هذه الحالات بتعليل أكثر مما نبلغ لو تساءلنا: لماذا لا تقبل بعض الأشجار التطعيم من أخرى؟ أما أخصُّ هذه الحالات، فحالة يتكون فيها الجنين، حتى إذا بلغ من العمر مبلغًا ما، قضى ومات، وهذه الحالة لم تُبحث البحث الوافي، غير أني على اعتقاد، استنادًا على الملاحظات التي أرسل بها إليَّ «مستر هيويت»، وهو ممن عكفوا كثيرًا على البحث في تهجين الطواويس والدجاج، أن موت الجنين باكرًا هو السبب في العقم الذي نشهده في أول تهاجن. وذكر «مستر سولتار» نتائج تجاريبه في ٥٠٠ بيضة، أنتج معظمها من تهاجن أنواع دجاج الهند الوحشي، وهجنها المولدة منها، فكانت النتيجة في أغلب البيض الملقح، أن الأجنة إما أن تنمو نماء جزئيًّا، ومن ثم تموت، وإما أن تبلغ درجة التكوين التام تقريبًا، ثم تعجز عن كسر قشرة البيضة؛ لتخرج منها، وفضلًا عن هذا، فإن البقية التي أمكنها أن تخرج من البيض، مات أربعة أخماسها في خلال أيام قلائل، أو على الأكثر في خلال الأسابيع الأولى من نقف البيض عنها من غير سبب معروف، اللهم إلا عجزها عن البقاء على ما يظهر، ولم يبقَ من خمسمائة البيضة الأولى إلا ١٢ فرخًا، أمكنها أن تجالد الأعاصير فتبقى حية.
أما عقم الهجن، التي لم تبلغ فيها العناصر الجنسية منزلة من النشوء كاملة، فحالة تخالف هذه الحال مخالفة ما، ولقد أشرت أكثر من مرة إلى كثير من الحقائق، ظهرت بها أن الحيوانات والنباتات إذا أُسرت، أو عُزلت عن ظروف بيئاتها الطبيعية، تصبح أجهزتها التناسلية ذات استعداد خاص للتأثير إلى حد بعيد. وفي الواقع، أن ذلك هو الحائل الوحيد الذي يحول دائمًا دون إيلاف الحيوانات، وبين حالة العقم الناشئة بتأثير ذلك الظرف القاهر، وعقم الهجن، أوجه من الشبه عديدة، فلا علاقة للعقم في كلتا الحالتين ببنية الكائنات وصحتها عامة؛ لأن العقم في هذه الحال غالبًا ما يكون مصحوبًا بزيادة غير قليلة في الحجم، أو نماء غير مألوف، أو مظاهر من الازدهار نادرة المثال. كذلك نجد أن العقم في كلتا الحالتين قد يحدث واقعًا بدرجات متفاوتة، وفي كلتيهما، نجد أن عنصر التذكير أكثر العنصرين تأثرًا بحكم تلك الحالات، وأن عنصر التأنيث أقل العنصرين تأثرًا بها، وفيها نجد أن نزعتهما ترجع إلى حد بعيد إلى «القرابة التصنيفية»؛ لأن كثيرًا من عشائر النبات والحيوان قد تصبح غير قادرة على الإنتاج، متأثرة بظروف غير طبيعية معينة، وأن عشائر برمتها من الحيوان قد تُساق إلى إنتاج الهجن، ونرى على العكس من ذلك، بعض أنواع تابعة لعشائر عضوية قد تقاوم تأثير تغاير الحالات غير الطبيعي، بما يظهر فيها من مقدرة عظيمة على الإنتاج والخصب حال تأثرها بتلك الحالات، فتجد أن بعض أنواع من عشائر بعينها، قد تنتج هجنًا، خرجت بخصبها وقدرتها الإنتاجية عن القياس العام، ولا يستطيع أحد أن يعرف أي الحيوانات في مقدورها أن تتناسل، متأثرة بالانعزال عن ظروف بيئاتها الطبيعية، أو أي النباتات الوحشية في مستطاعها أن تنتج بذورًا بحرية تحت التجريب. وكذلك لا يستطيع قبل الاختيار، أن يعرف إن كان نوعان من جنس بعينه، سوف ينتجان من الهجن العقيمة عددًا كبيرًا أم قليلًا. ومحصل القول، أن الكائنات العضوية إذا مضت، متأثرة بظروف غير طبيعية بضعة أجيال متعاقبة، فإنها أكثر ما تصبح إذ ذاك قبولًا لتحولات ترجع، على ما يظهر لنا، رجوعًا جزئيًّا، إلى ما يقع على أجهزتها التناسلية من المؤثرات الخاصة، ولو أن تأثرها في هذه الحال يكون أقل درجة منه في الحالات التي يعقبها العقم التام.
من هنا، نرى أن الكائنات العضوية إذا وقعت تحت آصار حالات جديدة غير طبيعية، وأن الهجن إذا كانت نتاجًا لتهاجن غير طبيعي بين نوعين مختلفين، تتأثر أجهزتها التناسلية تأثرًا متشابهًا في الدرجة والنمط تقريبًا، مع أن ذلك بعيد عن العلاقة بما تكون عليه الكائنات من قوة البنية وسلامة التركيب، ففي الحالة الأولى، نعتقد أن ظروف الحياة قد اضطربت، ولو لم نستطع أن نستبين أوجه اضطرابها لضئولتها وبساطتها. وفي الحالة الثانية، نُساق إلى اليقين بأن الظروف الخارجية المحيطة بالهجن، إن ظلت واحدة لم ينتبها تحول، ولم يلحق بها اختلاف بيِّن، فإن النظام العضوي لا بد من أن يناله شيء من الاضطراب بتخالط تركيبيين معينين منفصلين، وما يلحق بذلك من تدامج الأجهزة التناسلية وصيرورتها واحدة بحكم الطبيعة. ولقد يندر أن يتدامج تركيبان، فيصيران تركيبًا موحدًا، من غير أن ينتج تدامجهما اضطراب في طبيعة نمائهما، أو تفاعلاتهما الدورية، أو في العلاقات المتبادلة الواقعة بين بعض الأجزاء، أو الأعضاء وبعض، أو بينهما وبين حالات الحياة المحيطة بالكائنات، فإن الأنغال إذا كانت ذات قدرة على أن يستولد بعضها بعضًا، فإنها تنقل إلى نتاجها جيلًا بعد جيل، ذلك الامتزاج المتدامج بعينه. ومن ثم، لا يجب ألا يأخذنا العجب، إذا ما ألفينا فيها درجة من العقر إن انتابها التحول، فإن التناقص لا ينتابها، بل إنها غالبًا ما تكون قابلة للازدياد والتضاعف، وتلك هي النتيجة المحتومة لاستيلاد ذوي القربى كما أبنا من قبل. ولقد أيد الأستاذ «ماكس وتيخورا» هذا الرأي عينه في استيلاد الأنغال؛ إذ قضى بأنه راجع إلى اندماج تركيبيين، بحيث يصيران تركيبًا واحدًا.
ولا محيص لنا من التسليم، بأننا لا نستطيع أن نفقه، رغم ما ذكرنا، كثيرًا من الحقائق، التي نراها في عقم الهجن، كعدم التساوي في مقدار عقم الهجن الناتجة عن التهاجن المتبادل مثلًا، أو تزايد الخصب في تلك الهجن، التي غالبًا ما تشابه أحد أبويها تشابهًا شديدًا. وما كنت لأدعي أن الملاحظات الأولى، التي سُقت الكلام فيها، قد تبلغ من الإفصاح عن حقيقة تلك المشكلة، مبلغًا عظيمًا، فإننا لم نعرف مثلًا: لماذا تستولي غريزة العقم على أي كائن عضوي إذا ما وقع تحت آصار حالات غير طبيعية. أما الأمر الذي حاولت أن أكشف عنه الغطاء لأنظار الباحثين، فمقصور على أن أبين أن حالتين من حالات التهاجن، يكون بينهما في بعض الاعتبارات صلات من النسب، لا بد من أن يكون نصيبهما العقم، وأن هذا العقم قد يكون في إحداهما نتاجًا لتهوش حالات الحياة واضطرابها، وفي الأخرى نتاجًا لاختلال النظام التناسلي، بتدامج جهازين تناسليين، بحيث يصيران جهازًا واحدًا.
وهنالك حالات مقابلة لما ذكرنا، تؤيد طائفة كبيرة من الحقائق، ترتبط بما سقنا القول فيه، وإن كانت تختلف عنها اختلافًا كبيرًا، نعرف كما أبنا من قبل، أن التحول الضئيل الذي يلحق بحالات الحياة، مفيد جهد الفائدة للكائنات الحية، ذلك أمر يستوي في الاعتقاد به كل الباحثين، لما يرتكز عليه من شتى الحقائق الثابتة. ولقد نرى ذلك التحول قد استُخدم في يد الفلاحين وزرَّاع الحدائق، فإنهم يكثِرون من استبدال البذور والورنات؛ إذ ينقلونها من أرض إلى أرض، ومن إقليم إلى إقليم، وبالعكس، وكذلك نرى الحيوانات في دور نقاهتها، قد تستفيد فوائد جُلَّى من أي تغير يطرأ على عاداتها في الحياة. أضف إلى ذلك، أن لدينا من المشاهدات القيمة ما يثبت أن التهاجن إذا وقع بين أفراد النوع الواحد، تلك التي تتباين إلى حد ما، سواء ذلك في الحيوان، أو في النبات، قد يزيد من صبوة نتاجها وقدرة الخصب فيها، أو أن استيلاد ذوي القربى، استيلادًا متواليًا عدة أجيال متعاقبة، غالبًا ما يسوق إلى نقص في الحجم وإلى ضعف عام، وإلى العقم، إذا استمر استيلادها واقعًا تحت تأثير ظروف حياة بعينها.
لهذا نجد من جهة، أن التحولات الضئيلة التي تقع على حالات الحياة، تفيد كل الكائنات العضوية فائدة خاصة، كما نرى من جهة أخرى أن ضروب التهاجن الأولى؛ أي التهاجن واقعًا بين إناث وذكور نوع واحد، تلك التي يكون قد أحاط بها نزر من تغاير الحالات يسير، أو التي تكون قد طرأ على صفات نسلها تهذيب وصفي ما، يزيد من صبوة الأنسال الناتجة عنه، وقدرتها على الإنتاج. غير أننا نجد، كما أبنا من قبل، أن الكائنات العضوية التي تعوَّدت على حالات متجانسة من الحالات الطبيعية الصرفة، وتطبعت بها، قد تزيد أو تقل فيها صفة العقم في غالب الأمر، إذا ما وقعت تحت مؤثرات غير طبيعية، كما لو أُسرت مثلًا، واعتزلت ظروفها البيئية الطبيعية الطليقة. أضف إلى ذلك، أن التهاجن إذا وقع بين صورتين، تباين إحداهما الأخرى مباينة خاصة أو عامة، فإنهما تنتجان هجنًا في طبيعتها قسط من العقم دائمًا، وإني لعلى تمام الاعتقاد بأن تشابه هذه الحالات ليس بشيء وهمي أو اتفاقي، فإن من يكون في مستطاعه أن يكشف عن السبب في أن الفيل مثلًا، وغيره من الحيوانات التي تتجلى فيها حالات كثيرة مشابهة، يصبح غير قادر على التوالد تحت مؤثرات الأسر الجزئي، حتى في مآهله الأصلية، يستطيع كذلك أن يفصح عن الأسباب الأولية، التي تسوق الهجن إلى دوجة خاصة من العقم دائمًا، كذلك يستعصي عليه أن يكشف الستار عن السبب في أن سلالات بعض حيواناتنا الداجنة، التي غالبًا ما وقعت تحت مؤثرات حالات جديدة متشابهة أو متجانسة، قد أصبحت ذات قدرة تامة على الإنتاج، متزاوجة بعضها مع بعض، في حين أنها قد تسلسلت، بادئ ذي بدء، من أنواع بذاتها، يرجح كثيرًا أنها لم تكن ليستولد بعضها بعضًا في حالاتها الطبيعية الأولى، إذا تهاجنت.
إن تينكما الطائفتين، اللتين أوردناهما من الحقائق المتناظرة، لتظهران على حالتهما هذه مرتبطتين برباط واحد غير معروف لدينا، يرجع في ماهيته إلى مبادئ الحياة ذاتها ونواميسها الخفية، أما تلك النواميس، فتنحصر عند «هربرت سبنسر» في أن الحياة ترجع في أصلها، أو هي تنشأ من تأثير قوى طبيعية مختلفة، تنزع في فعلها وتفاعلها إلى غرض واحد، هو الوصول إلى حالة من التوازن شأن الطبيعة دائمًا، وأن هذه النزعة إذا اضطرب سبيلها، أو انتابها شيء من التحول، رجع ذلك بفائدة ما على القوى الحيوية ذاتها.
(٥) تبادل التشكل الثنائي (الديمورفية)، والتشكل الثلاثي (التريمورفية)
أتناول هذا الموضوع بشيء من الإيجاز، وسنرى أنه سوف ينير شيئًا من ظلمات البحث في الهجن، فإن كثيرًا من النباتات، التي تلحق بمراتب متباعدة في النظام النباتي، تتشكل في صورتين، تتساويان غالبًا من حيث العدد، ولا تختلفان في شيء من تكوينهما، إلا في أجهزتهما التناسلية، فيكون لإحداهما مدقات (كرابل) قصار، وأسدية طوال، وللأخرى عكس ذلك، مع اختلافهما في حبوب اللقاح من حيث الحجم. أما النباتات، التي تتشكل في ثلاث صور مختلفة، فتتباين فيها المدقات (الكرابل)، والأسدية من حيث الطول والقصر، وحبات اللقح من حيث الحجم واللون، إلى غير ذلك من وجوه التباين الثانوية، وإذ كانت أجهزة كل صورة من هذه الصور الثلاث تتضمن مجموعتين من الأسدية، فهي بذلك تحتوي على ست مجموعات من أعضاء التذكير ثلاث من الكرابل (المدقات). ويقوم بين هذه الأعضاء تناسب تركيبي كبير، بحيث ترى أن نصف الأسدية في صورتين من تلك الصور، ترتكز على سطح واحد مع الميسم في الصورة الثالثة.
ولقد أظهرتُ، كما أظهر غيري من الباحثين، النتائج التي وصلت إليها، فإنك إذا أردت أن تحصل على أعلى درجة من الخصب في هذه النباتات، كان من الضروري أن تلقح ميسم إحدى هذه الصور بلقح، تأخذه من أسدية تُساِمت في الارتفاع ميسم الصورة الأخرى، كذلك تجد في الأنواع الثنائية التشكل، أن صورتين من التلقيح يمكن أن يُقال لهما «الوجهان الشرعيان، أو القياسيان»، يبلغان غاية الخصب، وصورتين أخريين، يُقال لهما «الوجهان اللاقياسيان»، أو غير الشرعيين، وهما عادة غير خصبين. أما الأنواع الثلاثية التشكل فلها ست صور من التلقيح القياسي البالغ أقصى درجات الخصب، واثنا عشر وجهًا من التلقيح اللاقياسي.
وعلى أية حال، فإنك تجد تقاربًا عظيمًا في الصفات والسلوك العام بين النباتات اللاقياسية وبين الهجن. وما من أحد يحق له أن يرمينا بالمغالاة إذا قضينا بأن النباتات اللاقياسية إنما هي هجن حقيقية، استُحدثت في نطاق النوع بتخالط صور خاصة، بينما تكون الهجن العادية قد استُحدثت بالتخالط غير السوي، واقعًا بين ما نسميه بالأنواع الخاصة المعينة. ولقد رأينا من قبل أن تشابهًا كبيرًا يقع دائمًا بين التخالط اللاقياسي، الحادث لأول مرة بين صورتين وبين التهاجن بين الأنواع المعينة. وإن مثلًا نضربه، قد يعيننا على تبين ذلك، فإن نباتيًّا إن عثر على ضربين خاصين، تفصل بينهما صفات معينة، كما يُرى في «اللَّثْروم» طويل الأقلام، ثالوثي التشكل (تريمورفي)، وحاول أن يحقق من بطريق المهاجنة، إذا كانا مستقلين في النوعية، فإنه يجد أنهما لم ينتجا من البذور إلا خمس ما ينتجان في المتوسط، مع أن سلوكهما فيما عدا ذلك، يكون كما لو أنهما نوعان مستقلان. غير أنه من أجمل أن يحقق الأمر تحقيقًا تامًّا، يعمد إلى تربية نباتات يستنبتها من البذور الهجينية، وإذ ذاك نجد أن النباتات قزمية إلى حد بعيد، وأنها عقيمة وأن سلوكها في كل الاعتبارات هو سلوك الهجن العادية، وحينئذٍ قد يقضي بأنه قد برهن، جريًا على الرأي السائد، على أن هذين الضربين نوعان صحيحان شأن بقية الأنواع، ولكنه لسوء الحظ يكون قد أخطأ خطأ فاحشًا.
إن الحقائق التي أتينا على ذكرها في النباتات ذوات التشكل الثنائي والثلاثي، في النهاية القصوى من الشأن والخطر، فإنها تكشف لنا أولًا عن اختبار الفزيولوجي، الدال على أن تناقص الخصب، سواء عند أول تهاجن أو في الهجن، لا يصح أن يُتخذ مقياسًا صحيحًا للتفريق بين الأنواع، وثانيًا أن هناك صلة مجهولة، تصل حالات العقم الناتج عن الاستخصاب اللاقياسي، بعقم أنسالها غير القياسية، مما يسوقنا إلى أن نطبق هذا الرأي على أول التهاجنات وعلى الهجن، وثالثًا أننا قد نجد — ولذلك خطورته — أن صورتين أو ثلاث صور تابعة لنوع معين، قد تعيش معًا، وقد تبقى غير متباينة بعضها عن بعض في أي اعتبار من الاعتبارات، سواء في الشكل الظاهر أم التركيب الباطن، تباينًا يتعادل والحالات الخارجية المحيطة بها، ثم تظل عقيمة، إذا تزاوجت بطريقة ما؛ إذ لا يجب أن نغفل عن أن نخالط العناصر التناسلية لأفراد تابعة لصورة بذاتها، كتخالط صورتين طويلتي الركائز، تكونان عاقرتين، بينما نجد أن تخالط العناصر الجنسية الخاصة بصورتين معينتين، هي التي تتمخض عن خصب؛ إذ ذاك يظهر لنا لأول وهلة، أن هذه الحال على نقيض الواقع تمامًا، سواء عند التزاوج العادي بين أفراد النوع الواحد، أو عند التهاجن الواقع بين الأنواع المعينة. وعلى أية حال، فإن هناك شكًّا كبيرًا في صحة ذلك. غير أني لا أجد من حاجة تدعونا إلى التوسع في هذا الموضوع المعقد.
على أن في مستطاعنا أن نقضي ترجيحًا، إذا ما تدبرنا الحالات الخاصة بالنباتات، ذوات التشكلين الثنائي والثلاثي، بأن عقم الأنواع المعينة لدى تزاوجها وعقم هجنها الناشئة عنها، ترجع بكليتها إلى طبيعة عناصرها التناسلية، وليس إلى أية فروق في تراكيبها أو تكوينها العام. كذلك نُساق إلى الاعتقاد بهذه النتائج ذاتها، إذا تدبرنا حالات التهاجن المتبادل، التي لا يسهل، أو يستعصي فيها على ذكور نوع أن تلقح إناث نوع آخر، في حين أن التهاجن واقعًا على عكس ذلك، يكون سهل الحدوث منتجًا. ويقول العلامة الخبير «جارتنر»: إن الأنواع إذا تهاجنت أصابها من العقم بنسبة الفروق الواقعة بين أجهزتها التناسلية.
(٦) في أن خصب الضروب وأنسالها الخلاسية ليس بعامٍّ عند التهاجن
قد يقول بعض الباحثين، مؤمنين بما يقولون: إنه من المحتوم أن يكون بين الأنواع والضروب بعض فروق أساسية؛ لأن الضروب مهما كان اختلاف بعضها عن بعض كبيرًا في الشكل الظاهر، فإنها تتهاجن بسهولة تامة، وتنتج نسلًا كامل القدرة على الإنتاج، تام الخصب. أما إذا استثنينا وضع حالات — سوف أذكرها فيما بعد — فسنلفى أن هذه القاعدة صحيحة في كل وجوهها. غير أن هذا البحث محوط بصعاب جمة؛ لأننا إذا نظرنا في الضروب المولدة بتأثير الطبيعة الصرفة، ووجدنا أن صورتين أجمع الطبيعيون على أنهما من الضروب، قد نالهما شيء من العقم إذا تهاجنا، فإن أكثر الطبيعيين لا يترددون لحظة في إلحاقهما بطبقة الأنواع. خذ مثلًا، «البرْنِل» الأحمر و«البرنل الأزرق» اللذين يعتبرهما كل النباتيين ضربين، فقد استبان للعلامة «جارتنر» أنهما عقيمان تمامًا عند التهاجن، فقضى بأنهما نوعان لا شك فيهما. فإذا تابعنا البحث في هذه الحلقة المقفلة، كان علينا أن نسلِّم بخصب الضروب المولدة في ظل الطبيعة الصرفة.
كذلك يحوطنا الشك، إذا رجعنا بالنظرة كرة إلى الضروب التي نشأت، أو التي يُظن أنها نشأت متأثرة بالإيلاف، فإنه إذا قيل لنا مثلًا إن بعضًا من الكلاب المؤلفة الخصيصة بأمريكا الجنوبية، ليست بتامة الاستعداد للإنتاج متهاجنة مع الكلاب الأوروبية، فإن الفكرة التي تثبت في يقين كل منا، والتي يُحتمل أن تكون صحيحة، هي أن هذه الكلاب لا بد من أن تكون قد نشأت عن نوع أولي قائم بذاته، في حين أن الخصب التام الذي نلحظه في كثير من السلالات المؤلفة، التي يختلف بعضها عن بعض في الشكل الظاهر، كصنوف الحمام من الطير، والكرنب والنبات، حقيقة تأخذ بألبابنا روعتها، ولا سيما إذا عرفنا أن كثيرًا من الأنواع قد تقاربت كل التقارب، من حيث الشكل الظاهر، ثم ظلت عقيمة لدى التهاجن.
يسوقنا كثير من الاعتبارات إلى الاعتقاد بأن خصب الضروب المؤلفة ليس له من الشأن ما يقدره الكثيرون، فمن أكثر هذه الاعتبارات عندي منزلة أن مقدار الفروق الظاهرة بين نوعين من الأنواع لا يصح أن يُتخذ قياسًا صحيحًا لمقدار ما يكون فيهما من العقم المتبادل، كما هي الحال تمامًا فيما نجد من أمثال هذه الفروق واقعة بين الضروب. وأما في الأنواع فلا مشاحة، في أن سبب العقم يرجع في الواقع إلى اختلاف كائن بين تراكيب أجهزتها التناسلية. وإذ نرى أن مختلف الحالات التي وقعت للحيوانات المؤلفة والنباتات المزرعة تحت تأثيراتها كانت ضئيلة النزعة إلى تهذيب الأجهزة التناسلية في تلك الكائنات إلى درجة ساقتها إلى العقم المتبادَل، لزمنا أن نركن في تعليل ذلك إلى قول العلامة «بالاس»، إذ يقضي بأن أمثال تلك الحالات قد تفضي دائمًا إلى القضاء على تلك النزعة، وأن الأعقاب المؤلفة الناشئة عن الأنواع الأولية، والتي يُرجح أنها كانت في حالاتها الطبيعية الأولى عقيمة بعض الشيء عند التهاجن، أصبحت ذات قدرة على الإنتاج بعضها من بعض.
أما النباتات، فإنه يبعد أن يحدِث فيها الاستنباتُ أية نزعة نحو العقم بين أنواعها المعينة، حتى إنك لتجد في كثير من الحالات الموثوق بها، والتي أشرنا إليها من قبل، أن بعض النباتات المعروفة قد تأثرت بشكل مخالف لذلك، إذ أصبحت عاجزة عن الإخصاب الذاتي، ولو أنها ظلت ذات قدرة على الإخصاب الخلطي، فإذا آمنا بصحة مذهب «بالاس»، القائل: بأن طول زمان الإيلاف يقضي على العقر، فإنه يكون من أبعد الأشياء احتمالًا، أن يصبح تتابع حالات مشابهة لحالات الإيلاف، عاملًا على إيجاد تلك النزعة، ولو أنا نجد في بعض الحالات، التي نلحظها في أنواع ذوات تراكيب خاصة بها، أن العقم قد يتولد في غرائزها من هذه الطريق ذاتها. ومن هنا نستطيع أن نفقه، على ما أعتقد كيف أن الضروب المتبادلة العقم تنتج مطلقًا تحت تأثير الإيلاف، وكيف أننا لم نعثر لتأثير هذه العوامل في عالم النبات، إلا على بضع حالات قليلة، سوف نأتي على ذكرها بعد قليل.
إن الصعوبة الحقيقية التي تواجه بحثنا في هذا الموضوع الدقيق، لا تنحصر في التساؤل: «لماذا لم ترتد الضروب متبادلة العقم عند التهاجن؟» ولكن تنحصر في التساؤل: «لماذا تتبادل الضروب الباقية في حالة طبيعية صرفة صفة العقم، بمجرد ما يطرأ على أوصافها من التحول والتهذيب قدر كافٍ لوضعها في طبقة الأنواع؟» وما أبعدنا الآن عن معرفة السبب الحقيقي في ذلك. ولا ينبغي أن يبعث فينا عدم مقدرتنا على اكتناه السبب في ذلك شيئًا من العجب والحيرة، ما دمنا على جهل تام بتأثرات النظام التناسلي، قياسية وغير قياسية.
غير أننا نجد أن الأنواع لا بد من أن تضطر في حالتها الطبيعية إلى التناحر على البقاء إزاء صنوف من المنافسين كثار، فتكون قد تعرضت خلال أزمان متطاولة إلى مؤثرات حالات طبيعية واحدة، لم تتيسر للضروب الداجنة. والراجح أن يكون لذلك أثر في النتائج التي يصل إليها كل من الطرفين، فإننا نعلم حق العلم أية درجة من العقم، تصيب الحيوانات البرية إذا أُسرت، واعتزلت مركزها الطبيعي الطليق، وأن خصائص التناسل في الكائنات العضوية التي عاشت طوال حياتها معرضة لقسوة الظروف الطبيعية، لا بد من أن تصبح على حالة تشتد معها حساسيتها لمؤثرات تهاجن غير طبيعي بالنسبة إليها. وإذا نظرت من جهة أخرى في الضروب المؤلفة، ووجدت أنها من أصل جبلتها ذات حساسية تامة، بحيث تتأثر من التغيرات، التي تقع على حالات الحياة المحيطة بها، كما يثبت لنا ذلك بشكل قاطع من مجرد أنها تألفت، وألفيتَ أن في مستطاعها الآن أن تقاوم مؤثرات ما يتكرر وقوعه عليها من تغاير الظروف المحيطة بها، بما أحرزته من قوة الخصب والقدرة على الإنتاج، فإنك لا مشاحة، تنتظر منها أن تنتج من الضروب ما يندر أن تتأثر قواها التناسلية تأثرًا سيئًا، إذا تهاجنت مع غيرها من الضروب، التي تكون قد نشأت نشأتها، واستحدثت بنفس الوسيلة التي استحدثت بها.
ولقد تكلمت في هذا الموضوع حتى الآن، كما لو كان الخصب في كل ضروب النوع الواحد أمرًا واقعًا لدى التهاجن، غير أننا مع هذا ليس في مستطاعنا أن نغفل عن البيانات الثابتة، التي تحبونا بها بضع حالات خاصة في درجة العقم، نستبينها في قليل من الأمثال، التي سأوجز شرحها الآن.
إن الحالات التي سوف أستشهد بها الآن لحالات، تبلغ من الخطر مبلغ الحالات التي تسوق إلى الاعتقاد في عقم كثير من الأنواع، أضف إلى ذلك أن هذه الحالات قد أوردها علماء، إن اختلفوا في وجهة نظرهم، فقد أجمعوا في كل الحالات الأخرى التي تناولتها بحوثهم على القول بأن درجات الخصب والعقم التي تصيب العضويات، أقوم دستور لاستبانة الفروق النوعية التي تفصل بينها.
احتفظ «جارتنر» عدة أعوام متتالية بصنف من الذرة القزمية حبوبها صفر، وصنف آخر من الذرة الطويلة حبوبها حمر، وظل يزرع الصنفين الواحد منهما بجوار الآخر في حديقة، فلم يتهاجنا طبيعيًّا، رغم أن لهما أعضاء تناسلية منفصلة، ثم لقَّح ثلاث عشرة زهرة في إحداها بلقح من الآخر، فلم تثمر من حب إلا واحدة، أثمرت خمس حبات فقط، والاستخصاب العملي في تلك الحال لا يمكن أن يكون مضرًّا بهذه النباتات؛ لأن أعضاء تناسلها منفصلة، ذلك في حين أنه لم يعتبر أحد من الباحثين هذين الضربين نوعين معينين، مع أن نباتاتها التي نتجت عن هذه الحبوب الهجينة، قد بلغت الغاية القصوى من القدرة على الإثمار، ومع هذا، فلم يجرؤ «جارتنر» على أن يعتبر الضربين منفصلين عن بعضهما بأي فارق من الفروق النوعية المحسوسة.
ولقد أحدث العلامة «جيرون ده بوزارنجي» تزاوجًا بين ثلاثة من ضروب اليقطين كانت، كبذرة «جارتنر» أعضاء تناسلها منفصلة، مؤكدًا أن استخصابها استخصابًا متبادلًا، يكون — ولا شك — أشد عسرًّا؛ لأن اختلافاتها وتباين بعضها عن بعض كبير. أما مقدار ما يجب أن نعقد من الثقة بهذه التجاريب، فليس في مستطاعي أن أعرب عنه الآن، وكل ما في الأمر أن الصور الثلاث التي أُجريت فيها هذه التجربة قد اعتبرها العلامة «ساجيريت»، الذي يبني تصنيفه النباتي على اختيار الخصب، ضروبًا، وأيده في رأيه العلامة «نودين».
أما الحالة التي سوف أذكرها الآن، فأبعد خطرًا من سابقتيها، وقد تلوح بعيدة التصديق لأول وهلة، لو لم تكن نتاجًا لتجاريب فذة عديدة، أجراها في تسعة أنواع من «البوصير» جهبذ كبير، كالعلامة «جارتنر» في خلال عدة سنوات، ومحصل هذه التجربة: أن ضروب هذه الأنواع ذوات اللون الأصفر وذوات اللون الأبيض، إذا تهاجنت أثمرت عددًا من الحب أقل مما تثمره هذه الضروب بذواتها، إذا تهاجن كل ضرب من نفس النوع مع ما يشابهه لونًا، وهو يؤيد فوق ذلك أنه إذا تهاجنت ضروب من ذوات اللون الأبيض واللون الأصفر تابعة لنوع واحد، مع ضروب أخرى من اللون ذاته تابعة لنوع «معين» آخر، كان التهاجن بين الضروب ذوات اللون الواحد أكثر إنتاجًا للبذور منه، بين الضروب المتباينة الألوان. كذلك أجرى «مستر سكوت» تجاريبه في أنواع وضروب من «البوصير»، وبالرغم من أنه لم يستطع أن يؤيد بتجاريبه ما وصل إليه «جارتنر» في تهاجن الأنواع المعينة، فقد وجد أن الضروب المتباينة الألوان، قد أنتجت بذورًا أقل بنسبة ٨٦ إلى ١٠٠ من إنتاج الضروب ذوات اللون الواحد، ذلك، في حين أن هذه الضروب لا تختلف في شيء، اللهم إلا في لون أزهارها، في حين أن ضربًا منها قد يُستولد من بذور الآخر.
من هذه الحقائق، لا نستطيع أن نقضي بأن الضروب إذا تهاجنت ظلت ذات قدرة على الخصب في كل الحالات، فإذا نظرنا في الصعوبة التي تحول بيننا وبين معرفة مقدار عقم الضروب في حالتها الطبيعية؛ لأنه إذا أمكن البرهنة على عقم ضرب ما من ضروب إلى درجة معينة، فإن ذلك كافٍ في نظر الباحثين لإلحاقه بطبقة الأنواع. ثم لحظنا أن الإنسان لا يأبه إلا بالصفات الظاهرة، التي يُؤخذ بها بصره في ضروبه الداجنة، ووعينا فوق ذلك، أن هذه الضروب لم تقع تحت تأثير حالات حياة ثابتة، غير متغايرة أزمانًا متطاولة قضينا، إذا لم نغفل عن هذه الاعتبارات في مجموعها، بأن الخصب لا يصح أن يُتخذ قاعدة أساسية للتفريق بين الضروب والأنواع لدى التهاجن، أما درجة العقم التي نلحظها في الأنواع المتهاجنة، ففي مستطاعنا أن نعتبرها — غير مجازفين — صفة راجعة إلى تحولات، تصيب طبيعة خاصة في أجهزتها التناسلية، نجهلها الآن كل الجهل، لا كما كانت تعتبر من قبل صفة مستفادة، أو جبلة مؤصلة في عناصرها الجنسية.
(٧) الهجن والصور الخلاسية بعضها مقيس ببعض، مع غض النظر عن خصبها
إذا نظرنا في أنسال الأنواع والضروب لدى تزاوجها نظرة بعيدة عن خصبها، أو عقرها، وقفنا على وجوه من المشابهات الأخرى تصلح للموازنة بينها. ولقد وقع «جارتنر»، ذلك العلامة الذي صرف كل همه في سبيل اكتناه حد فاصل، يفرق به بين الأنواع والضروب، على فروق قلَّ عددها كما قلَّ خطرها، تفصل بين الغبن الناشئة عن تزاوج الأنواع كما يُقال، وبين الأخلاس الناشئة عن تهاجن الضروب، كما أنه ألفى، من جهة أخرى، أنهما يتشاركان جد المشاركة في كثير من الاعتبارات ذات الشأن والخطر. وسوف أعالج هذا الموضوع بكل اختصار.
إن أبعد تلك الفروق شأنًا في نظر الطبيعي، تنحصر في أن الجيل الأول من الأخلاس يكون أكثر استعدادًا للتحول من الهجن. غير أن «جارتنر» على اعتقاد، بأن الجيل الأول من الهجن الناشئة عن تهاجن أنواع ظلت تُزرع منذ أزمان موغلة في القدم، كثيرًا ما تكون ذات استعداد للتحول في الجيل الأول. ولقد خبرت كثيرًا من الأمثال التي تؤيد هذه الحقيقة بنفسي. ويعتقد «جارتنر» فضلًا عن هذا، أن الهجن الناشئة عن تزاوج أنواع ذات قرابة في النسب الطبيعي، أشد استعدادًا للتحول من الهجن الناشئة من تزاوج أنواع معينة بعيدة الأنساب، وهذا يدل أوضح دلالة على أن الاختلاف في درجات الاستعداد للتحول وقبوله يتدرج في الزوال من طبائع الصور الحية. ومما هو ذائع أن الأخلاس، والهجن التي تكون أكثر خصبًا وإنتاجًا، إذا استولدت عدة أجيال متعاقبة استفادت في العادة مقدارًا عظيمًا من قابلية التحول، يظهر جليًّا في أنسال كل منها. غير أن لدينا قليلًا من الأمثال، نسوقها في هجن وأخلاس ظلت ثابتة على صفاتها لا تتحول أزمانًا طويلة. على أنَّا بالرغم من هذا نرجح أن التحولية في أجيال الأخلاس، أكثر منها أثرًا في أجيال الهجن.
ولا يجب أن تبعث فينا زيادة التحولية في الأخلاس، عما هي في الهجن شيئًا من العجب والحيرة، فإن آباء الأخلاس ضروب، وأكثر ما تكون داجنة (لأن إجراء التجاريب في الضروب الطبيعية قليل)، وذلك يدل على أن قسطًا من التحولية قد استفادته حديثًا تلك الضروب، ومن المستطاع أن يستمر تأثيره في طبائعها بما يقف فعل تلك المؤثرات التي تنجم عن تهاجنها. كذلك ضعف التحولية في الجيل الأول من الهجن، لدى مقارنتها بتحولية الأجيال المعقبة على الجيل الأول، فإن هذه حقيقة فيها من الغرابة ما هو جدير بصرف قسط من العناية في بحثها؛ لأن هذه الحقيقة ترجع في أصلها إلى نظرية، سقت فيها الكلام لدى النظر في أسباب التحول العادي؛ إذ أثبت أن الأجهزة التناسلية، لما فيها من حساسية التأثر بتغاير الظروف المحيطة بها، تعوق في تلك الظروف عن القيام بوظيفتها في إنتاج أنسال تقارب صفاتها صفات آبائها، التي أنتجتها مقاربة تامة في كل الاعتبارات. فالهجن في الواقع، عبارة عن جيل أول ينتج بتهاجنه أنواع لم تُستغل بالزراعة منذ عصور بعيدة، ولم تتأثر أجهزتها التناسلية، بمؤثر ما، ولم ينشأ في طبائعها قدر كبير من التحول. ولكنك إذا نظرت في الهجن ذاتها ألفيت أن أجهزتها التناسلية، قد تأثرت إلى حد بعيد، وأن نتاجها قد استفاد قدرًا عظيمًا من الاستعداد للتحول.
ولنعد الآن، إلى الكلام في الموازنة بين الأخلاس والهجن، فإن «جارتنر» يعتقد أن الأخلاس أكثر جنوحًا للرجعى إلى صفات أحد أبويها الأولين من الهجن، ولكن هذا، إن صح كان اختلافًا في الكم والدرجة لا غير، ويعتقد هذا العلامة فوق ذلك أن الهجن الناشئة عن تهاجن أنواع نباتية مزروعة منذ أزمان بعيدة، أكثر نزوعًا إلى الرجعى من الهجن الناشئة عن أنواع لا تزال في حالتها الطبيعية الصرفة، وقد تكون هذه الحالة سببًا، فيما ظهر من الاختلافات الجُلَّى بين النتائج، التي وصل إليها كثير من جهابذة الباحثين، فإن «ماكس وتيخورا» يشك في أن الهجن قد تنزع في الرجعى إلى صفات أصولها، وحاول أن يثبت ذلك بتجاريب اتخذها في أنواع من الصفصاف البري، في حين أن «نودين» يؤكد من جهة أخرى، صحة القول بأن الهجن تنزع إلى الرجعى، متخذًا تجاريبه في النباتات المزرعة سبيلًا إلى إثبات ذلك. ويقول «جارتنر»، فضلًا عن هذا: إنه إذا تهاجن نوعان مهما كان تقاربهما في النسب شديدًا، مع نوع ثالث، كانت هجنهما الناشئة عن تزاوج كل منهما بذلك النوع كبيرة الاختلاف والتباين، في حين أن ضربين معينين تابعين لنوع واحد، إذا تهاجنا مع نوع آخر، لم تشتد الفروق الكائنة بين هجنهما. غير أن هذه النتيجة على ما يظهر لي منها، كانت نتاجًا لتجربة واحدة في مثال واحد، وهي تظهر فوق ذلك، على نقيض النتائج، التي وصل إليها العلامة «كولرويتر» في تجاريبه.
تلك هي الفروق الضئيلة، التي استطاع العلامة «جارتنر» أن يعثر عليها، واقعة بين الهجن والأخلاس. وإنا لنرى من جهة أخرى، أن درجات المشابهة الواقعة بين الأخلاس والهجن وبين آبائها وكيفيات تلك المشابهة، وبخاصة في الهجن الناشئة عن تزاوج أنواع متقاربة الأنساب، تتبع كما يقول «جارتنر» تلك السُّنة عينها، فإذا تهاجن نوعان، فقد يكون لأحدهما في بعض الأحيان القدرة التامة على نقل كل صفاته إلى الهجين الناشئ عن تلاقحهما، وذلك ما أعتقد أنه واقع بين ضروب النبات، وكما هي الحال في الحيوانات، إذ يكون لضرب من الضروب نفس القدرة على ضرب آخر، والنباتات المتهاجنة الناشئة عن تهاجن متبادل، غالبًا ما يشابه بعضها بعضًا مشابهة قريبة، وهذه هي الحال بذاتها في النباتات الخلاسية الناشئة عن تهاجن متبادَل، ولا مرية في أن الهجن والأخلاس من المستطاع رد صفاتها إلى صفات أصولها الأولية خالصة، بتكرار تهاجنها، خلال أجيال متعاقبة مع أحد أبويها الأولين.
ولقد علَّق بعض الباحثين شأنًا كبيرًا على زعم، مؤداه أن أنسال الأخلاس وحدها، هي التي تنحصر فيها القدرة على مشابهة أحد أبويها دون الآخر، وأنها لن تكون ذات صفات وسطى بين صفات الأبوين، غير أن ذلك قد يقع في بعض الأنغال بعض الأحيان، وإن كنت أعتقد أن هذه الظاهرة من الهجن أقل شيوعًا منها في الأخلاس، فإني إذ أنظر في الشواهد، التي استجمعتها في الحيوانات المستحدثة بالتهاجن، وهي تشابه آباءها كل المشابهة، وإذ أجد أن المشابهات تنحصر غالبًا في الصفات التي تكون واضحة في طبيعة آبائها، والتي ظهرت فجأة في تراكيبها، كالحسبة أو دكنة البشرة، أو فقدان الذَّنَب أو القرون، أو زيادة عدد الأصابع في الأيدي أو الأقدام، لا ترجع مطلقًا إلى الصفات التي تكون قد اكتُسبت بالتهذيب التدرجي من طريق الانتخاب. كذلك النزعة للرجعى إلى صفات الآباء كما هي، تظهر أكثر حدوثًا في الأخلاس المولدة عن ضروب، غالبًا ما تكون قد استُحدثت فجأة، وتكون ذات صفات تنزع إلى الشذوذ عن القياس العام، عما هي في الأنغال. ومهما يكن من الأمر، فإني أتفق ودكتور «بروسبار لوكاس»، الذي قضى بعد الجهد العظيم في استجماع كثير من الحقائق الذائعة في طبيعة الحيوان بأن سُنن المشابهات بين الطفل وبين آبائه واحدة، سواء أكان اختلاف الأبوين بعضهما عن بعض كبيرًا أم ضئيلًا، فالأنسال الناشئة عن تزاوج أفراد من ضروب مختلفة أو أنواع معينة، شَرَعٌ في حكم ذلك.
فإذا غضضنا الطرف عن مسألة الخصب والعقم، ظهر لنا في كل الاعتبارات الأخرى، أن المشابهات سواء أكانت قريبة أم بعيدة، أمر واقع بالفعل في الأنسال الناشئة عن تهاجن الأنواع والضروب.
أما إذا نظرنا في الأنواع، نظرة مَن يعتقد أنها مستقلة منذ بدء الخليقة، وفي الضروب، نظرة مَن يعتقد أنها نتيجة تفاعل سُنن ثانوية، فلا مرية في أن هذه المشابهات تبعث فينا من الحيرة ما لا حد له، في حين أنها تتفق تمام الاتفاق مع القول: بأن ليس بين الأنواع والضروب من فروق ثابتة، أو فواصل جوهرية.
ملخص
عرفنا من قبل، أن أول تهاجن يقع بين صور فيها من الصفات ما تتفرد بها كل منها، بحيث تكفي لوضعهما في طبقة الأنواع، وكذلك هجنهما الناشئة عنهما تكون أنسالها عقيمة، لا على وجه الإطلاق، وأثبتنا من ثم أن للعقم درجات متفاوتة، وقد تبلغ درجة العقم من الضئولة وحقارة الشأن مبلغًا، طالما أدى بأبعد المجرِّبين حنكة، وأشدهم حذرًا إلى الوصول إلى نتائج متناقضة في ترتيب الصور العضوية؛ إذ يتخذون من درجات العقم سبيلًا إلى تبين مراكزها الطبيعية الحقيقة بها. كذلك، رأينا أن العقم في الأفراد التابعة لنوع واحد، شيء قابل للتحول بطبيعته، وأنه يخضع كل الخضوع لمؤثرات الحالات المحيطة بتلك الأفراد، من حيث موافقتها لأمزجتها، أو عدم موافقتها، وأن درجة العقم لا تتبع دائمًا قواعد القرابة التصنيفية، بل إنها ترجع إلى عدة سُنن غريبة متشابكة الحلقات، متناسجة الصلات، وأنها تكون في الغالب مختلفة عند التهاجن المتبادل بين نوعين بذاتهما، وأنها قد لا تكون متساوية الدرجة في أول تهاجن، أو في الهجن الناشئة عن هذا التهاجن.
إن العقم الذي نراه ذائعًا في أول تهاجن، أو في الهجن التي تنشأ عنه، صفة لم تستفدها الطبائع العضوية من طريق الانتخاب الطبيعي. فالعقم عند أول تهاجن يرجع في الظاهر إلى ظروف عديدة، ففي بعض الحالات، يكون راجعًا في أغلب الأمر إلى موت الجنين وشيكًا، كما أنه يرجع في الهجن، على الظاهر من أمرها، إلى أن نظامها العضوي يكون قد انتابه شيء من الاضطراب، سببه تدامج تراكيب صورتين معينتين، على أن العقم في تلك الحال يكون شبيهًا كل الشبه بالعقم، الذي يصيب الأنواع الخاصة لدى وقوعها تحت مؤثرات طارئة غير طبيعية، وكل مَن في مستطاعه أن يكتنه سبب العقم في هذه الحالات الأخيرة، يكون بلا ريبة قادرًا على اكتناه سببه في الهجن. ووجهة هذا النظر تؤيده من جهة ثانية موازنة قياسية، ذات طبيعة أخرى، فإنا نعرف (أولًا) أن حالات الحياة المحيطة بالعضويات إن تحولت تحولًا ضئيلًا، زاد ذلك إلى قدرتها على الخصب والإنتاج، وأن ذلك عام في كل الكائنات الحية، و(ثانيًا) أن تهاجن الصور، التي تكون قد تعرضت لظروف متغيرة تغايرًا ضئيلًا، أو التي تكون قد تحولت بالفعل، تحبو أنسال تلك الصور بفوائد جمة، تظهر في حجمها وغلبتها وخصبها. أما الحقائق، التي سقناها في تهاجن النباتات، ذوات التشكل الثنائي تهاجنًا لا قياسيًّا، ونتاجها الناشئ عن ذلك، فقد تلزمنا ترجيح أن هنالك رابطة غير معروفة تربط في كل الحالات بين مختلف درجات العقم، التي نراها في أول تهاجن وبين ما نراه في أنسالها. وإنا إذا أنعمنا النظر في الحقائق، التي أوردناها في النباتات الثلاثية التشكل، وفي النتائج المستمدة من التهاجن المتبادل، انسقنا إلى الاعتراف بأن السبب الأول، والباعث الأوحد على عقم الأنواع متهاجنة، راجع إلى اختلاف عناصرها التناسلية، في حين أننا لا نعرف مطلقًا، ذلك السبب الذي أمعن بعناصر التناسل في الأنواع المعينة في سبيل التحول والتهذيب تهذيبًا كبيرًا أم ضئيلًا، أدى إلى تبادلها صفة العقم. والظاهر، على أية حال، أن سبب ذلك راجع إلى أن الأنواع قد وقعت خلال أزمان طويلة متلاحقة، تحت مؤثرات حالات حياة ثابتة، غير متغايرة.
وليس هنالك ما يدعو إلى العجب، إذا ما رأينا أن الصعوبة في تهاجن نوعين، وعقر أنسالهما المهجنة، قد تتعادل في نتائجها، وإن كانت ترجع إلى أسباب متفرقة؛ لأن الأمر في كلتا الحالتين مقصور على مقدار الفروق الواقعة بين النوعين المتهاجنين، كما أني لا آنس من شيء يسوق إلى الحيرة، إذا ما نظرنا في سهولة استحداث تهاجن أول، أو في خصب الهجن الناشئة عنه، أو في قدرة بعض الأشجار في النماء، تطعيمًا على سوق بعض — وإن كانت هذه القدرة تعود في أصلها إلى أسباب مختلفة كل الاختلاف — ألفينا أن جماع هذه الحالات إنما تعود، إلى حد محدود، إلى القرابة التصنيفية في الصور، التي تتناولها هذه التجاريب؛ ذلك لأن القرابة التصنيفية تتضمن كل المشابهات على اختلاف ضروبها.
كذلك، رأينا أن التهاجن الأول بين الصور المعروفة بالضروب، أو الصور التي يقع بينها من المشابهات ما يكفي أن تعتبر ضروبًا، ومولداتها الخلاسية، تكون على وجه العموم، لا على وجه الإطلاق، ذات خصب وقدرة على الإنتاج، ولا مرية في أن هذا الخصب، وتلك القدرة على الإنتاج، أمر مستغرب في ذاته، إذا وعينا أننا إنما ندور بالبحث في حلقة مفرغة، إذا حاولنا النظر في الضروب في حالتها الطبيعية، ولا سيما إذا تذكرنا أن الضروب لم تنشأ في ظل الإيلاف إلا بانتخاب أخص الفروق ظهورًا فيها، وأن هذه الضروب لم تظل معرضة لأعاصير حياة ثابتة غير متغايرة أزمانًا متطاولة، مما يؤدي إلى إضعاف صفة العقم؛ ولذلك يبعد أن يكون الإيلاف سببًا فيه.
أما إذا نظرنا في الأمر نظرة بعيدة عن مسألة العقم والخصب، فإنا لا نجد مشابهات عديدة واقعة بين الهجن والأخلاس، وعلى الأخص في استعداد كليهما للتحول، وفي مقدرة أحدهما على استفناء الآخر، بتكرار وقوع التهاجن بينهما، وبتوارثهما الصفات الذائعة في آبائهما.
والمحصل أن جهلنا بالأسباب الصحيحة، التي تسوق إلى العقم عند التهاجن الأول وفي الهجن، إن كان لا يقل عن جهلنا بالأسباب، التي ترتد معها الحيوانات والنباتات عقيمة إذا ما وقعت تحت مؤثرات حالات غير طبيعية لأمزجتها، فإن الحقائق التي أتينا على ذكرها في هذا الفصل لا تُعانِد، على ما يلوح لي، معتقد الذين يؤمنون بأن الأنواع لدى أول تأصلها، كانت في عصر من العصور مجرد ضروب، تشتد بينها المشابهات.
• الصور الثالوثية: الأنواع الثالوثية: الأنواع ثلاثية الصور: Trimorphic Forms or specis.
• الصور الكثرية، الأنواع الكثرية، الأنواع كثرية الصور: Polymorphic forms of secies .
• الكثريات Polymosphies.
– الثالثوتيات Tuniosphies.
– الثنويات Dimosphics.
• الكمثرية Polymorphism.
– الثالوثية Trimorphism.
– الثنوية Dimorphism.