الطِّبُّ المجتمعي
الصحة العامة
بدأت حركة الصحة العامة الحديثة في القرن التاسع عشر، مستندةً بالطبع إلى هياكل سياسية واجتماعية وطبية سابقة، ولكنَّ الشكل الذي نعرفها به لم يظهر إلا منذ قرنين من الزمان. فإذا كانت العلاقة بين المريض والطبيب هي الإطار المحدِّد لطب المستشفيات، فالصحة العامة معنِيَّة بالدولة والفرد، وهي أكثر جوانب الطب خفاءً وظهورًا في الوقت ذاته؛ فعندما نذهب إلى المستشفى، لا يلاحِظ كثيرون ذهابنا، ولكن عندما يتفشَّى وباء الأنفلونزا، أو تتلوَّث إمداداتنا من المياه، يكتسب الموضوع أهمِّيَّة إخبارِيَّة.
وكما يتبيَّن من الاسم، فالصحة العامة معنِيَّة بالحفاظ على الصحة والوقاية من الأمراض أو احتوائها. وكان نطاق مسئوليتها التقليدي هو الأمراض الوبائية، لكنَّ مسألة الوقاية من الأمراض كانت تنطوي دومًا على عنصر آخر، يستهدف الحفاظ على صحة الفرد، ويُدعَى «حفظ الصحة». وعلى الرغم من أنَّ هذين العنصرين يمثِّلان مجموعتين مختلفتين من التقاليد في نطاق الطب، فكثيرًا ما يتداخلان؛ حيث يشتركان في هدف الوقاية من الأمراض. وثمة اتجاه متزايد إلى إدراج حفظ الصحة في عبارة «طِبِّ نمط الحياة». وفي كلا العنصرَيْن، تضطلع الدولة بدور محوري.
ما قبل الدولة الصناعية
تنطوي المؤلَّفات القديمة على إشارات عديدة إلى الأمراض الوبائية، والحقيقة أنَّه قبل العصر الحديث، كان تعداد البشر يتناقص بصفة دورية بفعل فارسَيْ نهاية العالم اللَّذين تحدثتْ عنهما النظرية المالتوسية؛ أي: أزمات الغذاء والمرض. فالحياة كانت شاقة وقاسية وقصيرة الأمد بالنسبة إلى كثيرين. وخلال التاريخ الطويل للضغوط المالتوسية المتمثلة في العَوَز والمرض، احتلَّت سنوات الطاعون — من منتصف القرن الرابع عشر إلى منتصف القرن السابع عشر — مكانةً بارزةً لفرط كآبتها.
ويمكن القول إنَّ الموت الأسود — مثلما أسمَاه الفيكتوريون — كان أول وباء جائح (وباء عابر للقارات أو عالمي) في التاريخ؛ فمعظم نوبات الطاعون السابقة عليه كانت أضيق نطاقًا من حيث المكان، والزمان أيضًا عادةً. استغرق الموت الأسود أكثر من أربعة أعوام لعبور طريق الحرير وصولًا من سهول الإستبس في وسط آسيا إلى أقصى غرب أوروبا والشرق الأوسط وسواحل أفريقيا الشمالية، وأبادَ ما بين رُبع ونصف السكان في أوروبا، وكان الأول ضمن سلسلة من الأوبئة الفتَّاكة التي لم تُرْخِ قبضتها على غرب أوروبا سوى في ستينيات القرن السابع عشر (جرى احتواء نوبة لتفشي الطاعون في مارسيليا خلال عشرينيات القرن الثامن عشر).
من المؤكَّد أنَّ الوباء الأسود كان «أحد أشكال» الطاعون؛ إذْ كانت تلك الكلمة تُستَخدَم للإشارة إلى أي وباء شديد الشراسة. وفي الآونة الأخيرة، راج الرأي القائل بأن الطاعون الذي انتشر في أربعينيات القرن الرابع عشر لم يكن سببه عُصَيَّة الطاعون — يرسينيا بيستيس — التي اكتُشِفَت في هونج كونج أثناء الجائحة الأخيرة التي تفشَّت في تسعينيات القرن التاسع عشر، واقتُرِحَت كائنات عدة أخرى؛ إذ إنَّ الموت الأسود حمل بعضَ سماتٍ لا تتماشى مع ما نعرفه عن السمات الوبائية للطاعون الدَّبْليِّ الحديث؛ فسرعة انتشاره وموسمِيَّته وأنماط الوفيات — إضافةً إلى أنَّ أحدًا لم يلحظ وجود كثير من الفئران المَيتة (تقترن نوبات الطاعون البشري في صورته الحديثة بطاعون الفئران أو غيرها من القوارض) — حَدَتْ ببعض المعلِّقين على تلك الواقعة إلى افتراض أنَّ الجمرةَ الخبيثةَ، أو فيروسًا مجهولَ الهوية، أو عاملَ عدوى آخرَ كان هو السبب الحقيقي وراء ذلك الوباء، كذلك ذَكَرَ البعض احتمال التسمُّم بالأرغوت.
المشكلة في تلك التأويلات البديلة هي أنَّها تُركِّز بصفة شِبه تامَّة على الجائحة الأصلية؛ الموت الأسود. أمَّا إذا نظر المرء إلى سنوات الطاعون ككل — من عام ١٣٤٥ إلى عام ١٦٦٦ — فسيجد نَمَطًا أكثر وضوحًا؛ فمع حلول السنوات الأخيرة من تلك الفترة، يمكن تمييز الطاعون (على سبيل المثال، وباء الطاعون الكبير الذي اجتاح لندن عام ١٦٦٥) بسهولة أكبر عن طريق ما وردَ من أوصافٍ طبيةٍ وغيرِ طبيةٍ. وإضافةً إلى ذلك، فإن مَنْ عايشوا نوبات تفشي ذلك الوباء المتعدِّدة نظروا إلى المرض باعتباره وحدة واحدة، وفي حين أنَّه ما من أحد حضرها كلها بالطبع، فدائمًا ما كان ثمة أطباء عايشوا الوباء الماضي أو الوباءين الماضيين. وتدور الخبرة التاريخية الجمعِيَّة حول مرض واحد متكرر يكاد يكون من المؤكَّد أنَّه طاعوننا «نحن»؛ أي المرض الذي تتسبَّب فيه عُصَيَّة الطاعون. هاجم الوباء الأول جماعة سكانية لا تتمتَّع بخبرة مناعية مُسبقة، وثمة حالات عديدة لتفشِّي مثل تلك الأوبئة الفتَّاكة في حالة أمراض أخرى (الجدري والحصبة على سبيل المثال) في مجتمعات بِكر.
تراوحت الأسباب المطروحة آنذاك ما بين الغضب الإلهي الناجم عن آثام البشر وكَسَلهم، والمجموعات الهامشية من البشر مثل اليهود والساحرات، والهواء الفاسد، كذلك تذرَّع كثيرون بأسباب مرتبطة بالتنجيم. وعلى الرغم من كَمِّ التفسيرات الخارقة للطبيعة المطروحة، فقد نمَّت أوبئة الطاعون المتكررة أيضًا الوعي بقضايا الصحة المجتمعية واستدعت اتخاذ عدد من التدابير المصمَّمَة للوقاية من المرض أو احتوائه؛ فطُبِّقت تدابير من قبيل العَزْل وفرض الضوابط الحدودية وإدخال المرضى المستشفى قسرًا، وغيرها من التدابير الموجَّهة نحو الفرد المحتمَلة إصابته، إلى جانب تدابير أكثر شمولية، مثل: الحَجْر الصحي الروتيني للسفن القادمة من مناطق الطاعون، ومراقبة حركة الأفراد والبضائع، والتفتيش الطبي. اختَبر المرض حدود نشاط الصحة العامة في أوائل العصر الحديث، وأظهرَ الصلة الحتمِيَّة بين الدولة والطب في تلك الأوقات المتأزمة. وقد أشارت بعض الدراسات التاريخية إلى أنَّ «النطاق الصحي» الذي فُرِض على طول الطرف الجنوبي والطرف الشرقي للإمبراطورية النمساوية المَجَرِية ربما كان له بعض الأثر في الحد من دخول الطاعون عن طريق الشرق الأوسط؛ حيث ظلَّ متوطِّنًا، ووبائيًّا من حين لآخر، بعد وقت طويل من اختفاء المرض من غرب أوروبا. وقد قَبِل المسافرون الأوروبيون في المنطقة خلال القرن التاسع عشر احتمال احتجازهم قيد الحَجْر الصحي في أحد مستشفيات العَزْل القائمة؛ للحد من انتشار المرض.
وعلى أقل تقدير، فقد كفلَ الطاعونُ بقاء قضايا الصحة والمرض المجتمعيَّيْن. أما مدى نجاحه في تحقيق أي بنية أساسية صحية دائمة، فهو أمرٌ لم يُحسَم بعد، وإنْ كانت مستشفيات الطاعون قد بُنِيَت في جميع أنحاء أوروبا، وكثيرًا ما كانت تُستَخدَم لعَزْل الأمراض المُعديَة الأخرى وعلاجها بعد اختفاء الطاعون. وبصفة عامة، أنشأت دول أوروبا الاستبدادية بعضَ الأنشطة الرسمية ذات الصلة بالصحة العامة لتكون جزءًا من الأذرع البيروقراطية للدولة. فبدءًا من القرن السابع عشر، نشأت فكرة «الشرطة الطبية» في الدول الناطقة بالألمانية، وبلغت ذروتها بكتاب «نظام الشرطة الطبية الكاملة» (١٧٧٩–١٨٢٧) المكوَّن من تسعة أجزاء ليوهان بيتر فرانك (١٧٤٥–١٨٢١)، الطبيب ذي التوجُّه العالمي والمُصلِح في مجال الصحة العامة. وكان فرانك يرى أنه ينبغي تخويل قطاع الشرطة الطبية الحكومي ذاك سلطاتٍ هائلةً، وقد تناولَ مؤلَّفُه الضخمُ جوانبَ الحياة كافة تقريبًا؛ من المهد إلى اللحد، من أمومةٍ وطفولةٍ ورعايةٍ للطفلِ ومَلْبَسٍ ومَسكَنٍ ورَصْفٍ للطرقِ وإنارةٍ ودفنٍ للموتى. فقطعًا لسنا أول مَنْ يدرك كَمَّ الجوانب الكثيرة في حياة الإنسان التي تؤثر تأثيرًا مباشرًا على الصحة.
ظهرت الأجزاء الأخيرة من مؤلَّف فرانك بعد وفاته، وقد غطَّت مجموعته فترةَ بدء إحلال التطعيم (الذي أيَّده فرانك بحماس) على نحو منهجيٍّ محل التلقيح، كأسلوب وقائي محدَّد ضد الجدري. وكان هذان التدبيران أولَ أسلوبين وقائيين محدَّدين، وعلى الرغم من أنَّ كليهما تبناهما الأطباءُ، فإن أصولهما ترجع إلى الطب الشعبي. وتضمَّن التلقيحُ (اللفظة الإنجليزية له مأخوذة من علم البستنة، وهي مكافئة تقريبًا لتطعيم النباتات) استخلاصَ مادة من بَثْرَة شخص مصاب بالجدري وإدخالها في جسد شخص آخر لم يُصَب بذلك المرض من قبل. وكان ذلك إجراءً منطقيًّا لسببين؛ أولًا: كان الجدري فيروسًا عالميًّا تقريبًا، أسفرَ عن معدل وفيات كبير، تراوح ما بين ٥٪ و٢٠٪ حسب الظروف. وإنَّ تشبيه تلك العملية بحفلات الجديري المائي — حيث يسعى الآباء إلى تعريض أولادهم لأطفال آخرين مصابين بالمرض حتى يلتقطوا العدوى ويكتسبوا مناعة ضد المرض فيما بعد — سليمٌ جزئيًّا؛ إذ إنَّ عملية التلقيح كانت تنطوي على خطر لا يُستهان به، ولكنَّ الاستراتيجية واحدة، وإنْ كانت المجازفة أكبر. وثانيًا: كان ثمة إدراك لحقيقة أنَّ نوبة واحدة من المرض تُكسِب المرء مناعةً مدى الحياة، وباختيار حالة إصابة خفيفة لاستخلاص مادَّة اللقاح منها، كانت فرص الوفاة تأثُّرًا بالمرض تنخفض مدى الحياة.
كان التلقيح إجراءً متَّبَعًا في الشرق منذ قديم الأزل؛ فقد مارسه الصينيون، باستخدام مسحوق من مادة المرض الطَّفْحي واستنشاقه مثل مسحوق التبغ. وفي تركيا، كانت المادة تُدخل عبر حكَّة في الجلد، وكانت تلك هي التقنية التي سمعت بها ليدي ورتلي مونتاج (١٦٨٩–١٧٦٢) خلال فترة إقامتها في القسطنطينية بصفتها زوجة السفير البريطاني، فعملت على إعطاء أطفالها — الذين لم يُصابوا بالجدري سابقًا — اللقاح، وأُصيبوا إثره بدرجات خفيفة من ذلك المرض. وقد روَّجت هي وطبيب السفارة البريطانية لذلك الاكتشاف في لندن؛ وهناك اعتُمِد، بعدما أَمَرَ الملكُ جورج الثاني الجرَّاحَ الملكيَّ بإعطاء أبنائه هو نفسِه اللقاحَ. وقد جمع جيمس جورين — أحد أطباء لندن البارزين وتلميذ إسحاق نيوتن — إحصاءات من عددٍ من ممارسي تقنية التلقيح، وأثبت بالحسابات الرياضية أنَّ تلك الممارسة تخفِّض فرص الوفاة إثر ذلك المرض بدرجة كبيرة.
بحلول منتصف القرن الثامن عشر، صارت عملية التلقيح أبسط وأكثر انتشارًا، لا سيَّما بعدما تُوفي ملك فرنسا — لويس الخامس عشر — بالجدري، وتلقَّى ابنه — لويس السادس عشر تعِسُ الحظ — اللقاح بنجاح عام ١٧٧٤. إلا أنَّ الإجراء لم يخلُ قط من الصعوبات؛ إذْ كان المرضى يَلْقَون حتفهم أحيانًا جراء المرض بعد تلقِّيهم اللقاح، وعلى أي حال فقد كانوا يتحوَّلون إلى مصدر عدوى محتمَل للآخرين.
وعلى غرار كثير من الممارسين العموميين، كان إدوارد جينِر (١٧٤٩–١٨٢٣) يعطي مرضاه اللقاح من حين لآخر؛ ففي ريف جلوسترشير على مقربة من عيادته، كان من المعروف أنَّه ثمة مرض عارض يصيب الماشية — جدري البقر — يُسْفر أحيانًا عن بَثْرَة واحدة فيما يبدو على أيدي عاملات المحالب، وإنهن بَدَوْنَ محصَّنات من نوع الجدري الأكثر خطورة. وعلى الرغم من أنَّ مزارعًا يُدعى جِستي وآخرين سبق أنْ حَقنوا أفرادًا بمادة جدري البقر بِنِيَّة الوقاية من الجُدري، فقد كان جينر هو مَن أجرى التجربة الفائقة الأهمِّية في عام ١٧٩٦ وروَّج لتلك الوسيلة الوقائية الجديدة، فقد استخلص بعض المادة من تلف ناتج عن جدري البقر على يد عاملة في محلب تُدعَى سارة نِلمز وحقنها في ذراع صبي — اسمه جيمس فيبس — لم تسبق إصابته بالجدري العادي؛ فأُصيب بتقرُّح وجُلْبَة على ذراعه، ولكنه ظلَّ بصحة جيِّدة، باستثناء إصابته بالحمى يومًا واحدًا. وبعد ستة أسابيع، أعطاه جينر لقاح مادة الجدري العادي، فلم يُصبه المرض؛ مما أثبت اكتسابه مناعة ضدَّه.
وقد قال ملك المستقبل — إدوارد السابع — لأحد الأطباء سائلًا: «إذا كانت الوقاية ممكنة، فلمَ لا؟» كان ذلك سؤالًا وجيهًا، لكن الإجابة المحبِطة هي أنَّ تكلفته قد تكون أعلى من اللازم، أو أنَّه ليس ثمة إرادة سياسية أو طبِّيَّة كافية، أو أنَّه لا غنى عن توعية الناس (وأطبائهم) بشأن الوقاية، وتلك التوعية لا تأتي بأثر شامل مطلقًا. وعلى الرغم من أنَّ قصة الجدري آلت في نهاية المطاف إلى ما تنبَّأ به جينر نفسه؛ أيِ استئصال المرض تمامًا في عام ١٩٧٩، كان ذلك هو الاستثناء وليس القاعدة؛ فطالما كانت الوقاية أضعف صور التطبيب وأقلها أهميةً، على الرغم من كونها قضية مُلِحَّة في المجتمعات في طور التحوُّل إلى التصنيع.
الكوليرا والفقر: محرِّكات الصحة العامة
اعتاد المؤرِّخون رؤية حركة الصحة العامة للقرن التاسع عشر على أنَّها استجابة مباشرة لسلسلة متتالية من أوبئة الكوليرا الجائحة خلال تلك الفترة، فلا شكَّ أنَّ أوَّل وباء كوليرا يصل إلى أوروبا نَشَرَ الوعي بقضية الأمراض المجتمعية (تلاشى أثر أول وباء كوليرا في الفترة ١٨١٧–١٨٢٣ تدريجيًّا بعد انتشاره من الهند إلى الشرق الأوسط وشمال أفريقيا). وبدءًا من عام ١٨٢٧ — عندما بدأ الوباء الثاني ينتشر من موطنه الطبيعي في شرق الهند — راحت أوروبا تراقب دُنُو المرض متوجسةً، وكثير من الدول الأوروبية أرسلت وفودًا في مرحلةٍ ما أثناء فترة الانتظار التي بلغت أربعة أعوام، لبحث أمر المرض وإصدار التوصيات بشأن السبيل الأمثل لمنعه من الوصول إلى أوروبا.
كان ثمة سببان رئيسيان للقلق؛ أولًا: كان المرض جديدًا على الغرب؛ فقد كان مرضًا «غريبًا» لم تتوفَّر خبرة سابقة به إلا لدى مستعمري المناطق الاستوائية. طافت الجائحة الثانية أنحاء أوروبا حتى دخلت أمريكا الشمالية، وعَرَّفتْ مهنة الطب باضطراب جديد خطير مقترن بأعراضٍ ومعدل وفيات مقلقَيْن. وقد قادت حداثة المرض وسِمته الوبائية كثيرًا من المعلِّقين إلى الحديث عن عودة الطاعون، وهو ما فاقمَ الشعور بالقلق؛ إذْ كان يبدو أنَّ الطاعون الدَّبْليَّ بصورته القديمة قد اختفى من الغرب إلى غير رجعة.
ثانيًا: كان نمط انتشار المرض محيِّرًا؛ فقد كان ثمة نموذجان فكريَّان تفسيريَّان متداولان لشرح الأمراض الوبائية: النموذج الوبالي ونموذج العدوى. ذهب أنصار النموذج الوبالي إلى أنَّ الأمراض المجتمعية تنتشر عبر الهواء، نتيجة أحوال جوية أو جسيمات عالقة في الجو. وكان المصدر المقترَح الأكثر شيوعًا للمرض هو المادة العضوية المتعفِّنة؛ كالمخلَّفات والبراز، أو في الواقع أي شيء بغيض أو كريه الرائحة. يسهل إدراك قوة هذا النموذج الفكري؛ فالهواء سمة مشتركة في أي منطقة، ويمكنه تفسير سبب إصابة أفراد كُثُر بالمرض. كذلك فقدْ ساعد ذلك الفكر على التمييز بين المناطق «الصحية» والمناطق «غير الصحية»، في إطار نموذج فكري كان يبدو مألوفًا لمؤلِّف الأطروحة الأبُقراطية «الأجواء والمياه والأماكن». وكان ذلك هو التفسير السائد للمجموعة المركَّبة من الأمراض التي قابلها الأوروبيون في المناطق الاستوائية، وكثيرٌ منها كان مجهولًا في العالم القديم. كان يُطلَق عليها في العموم «أمراض المناخ الدافئ»، وكان الحرُّ والرطوبة الخانقان والغطاءُ النباتيُّ الغريبُ أشياءَ ظاهرةً إلى حدٍّ جعل الاستناد إليها في تفسير أنماط المرض منطقيًّا.
أمَّا أنصار نموذج العدوى فافترضوا أنَّ الأمراض الوبائيَّة تنتقل من فرد مصاب بالمرض إلى آخر. وقد يفسِّر ذلك الرأيُ كثيرًا من أوجُه الأمراض الوبائية؛ مثل حقيقة أنَّ الأشخاص الذين يقومون على رعاية المرضى كثيرًا ما يُصابون هم أنفسهم بالمرض. وقد برَّرت نظرية العدوى الرغبة الغريزية في تجنُّب الاتِّصال بالأشخاص المصابين بأمراض خطيرة، كما أنها تمثِّل الركيزة التي قامت عليها ممارسة الحَجْر الصحي. استغل ذلك الفكرُ أيضًا مخاوفَ الجموع من أنْ يكون منشأ الطاعون وغيره من الأمراض المخيفة هو الجماعات المهمَّشة.
وكان ثمة جماعة وَسَطِيَّة — أنصار نظرية «العدوى المشروطة» — أقل تشدُّدًا وأقدر على التكيُّف بسهولة مع الحالات الشاذة التي وجدَ النموذجان الفكريان الرئيسيان صعوبةً في تفسيرها. فأنصار تلك الجماعة قالوا إنَّ الأمراض يمكن أنْ تكون وبالِيَّة أو مُعدية، حسب الظروف. على سبيل المثال، قد يصل المرض إلى المجتمع عن طريق الهواء الفاسد، ولكنَّ بعض الأفراد قد يُصابون به على نحو يجعل منهم بؤَرًا لانتشار العدوى. وقد أدَّى ذلك إلى المزجِ بين فئات الأمراض على النحو الذي تقتضيه المشاهدات، وتغطيةِ الجبهات كافة. ولكن للأسف فإنَّ النظريات التي تشرح كل شيء كثيرًا ما لا تفسِّر سوى القليل.
كان ثمة بضعة أمراض — مثل الجدري والحصبة — يُنظَر إليها دائمًا على أنَّها مُعدية، ولكنَّ معظم الأمراض المُعدِيَة اتَّسمت بأنماطٍ للإصابة والانتشار معقَّدةٍ بما يكفي لإفساح مجال كبير للنقاش. وكان لنظريةِ جرثوميةِ المرضِ أنْ تقدِّم فيما بعدُ نموذجًا فكريًّا جديدًا للأمراض المُعْدِيَة والأمراض الوبائية — وإنِ اشتمل أيضًا على بعض أوجُه الشذوذ — مفاده الآتي: لماذا يمكن لشخصين تعرَّضا لمصدر العدوى ذاتِه أنْ تتباين ردود أفعالهما على هذا النحو؛ بحيث يُصاب أحدهما بالمرض فيما يظل الآخر سليمًا مُعافًى؟
قبل نظرية جرثومية المرض، لم يحدث إجماعٌ على هذا الشأن، وفي الواقع غطَّت المجتمعات الاحتمالين على حدٍّ سواء. على سبيل المثال، أثناء نوبات تفشي الطاعون، اقترن الحَجْر الصحي والعَزْل بإشعال نيران — لتطهير الجو وتنقيته — وباقات زهور صغيرة، عبَّقت رائحتها الأنفاس في محيطها المباشر، وعند الشك، كان الإجراءان يُستخدَمان.
وقد أثارت الكوليرا تلك القضايا الأزَلِيَّة بصورة مُلِحَّة؛ فقد رجعَ المراقبون الذين ذهبوا لتتبُّع مسيرتها نحو الغرب بردود أفعال متضاربة؛ حيث رأى بعضهم أنها مُعدِية وأفضل استجابة يمكن أنْ تأتي بها أوروبا هي العَزْل والحَجْر الصحي، بينما رأى آخرون أنَّ الهواء هو حامِل المرض وأنَّ إجراءات تحسين الصحة العادية — تحسين الصرف، والحِفاظ على نظافة الشوارع — كانت خير وسيلة للحماية. استمعت الحكومات الأوروبية إلى الآراء المتنوعة، ولكنَّها في أغلب الأحيان كانت تركن إلى الحل القديم المتمثل في الحَجْر الصحي ومعاينة الأشخاص والبضائع الوافدة من المناطق الموبوءة.
وحتى بريطانيا — مَعْقِل حرية العمل والتصرف — طبَّقت الحَجْر الصحي على نطاق محدود أثناء أول جائحة وصلت إلى غرب أوروبا، بدءًا من عام ١٨٣٠. وصلت الكوليرا إلى بريطانيا في أواخر عام ١٨٣١، في ميناء سندرلاند بشمال شرقي بريطانيا، ثم تنقَّلت تدريجيًّا في جميع الاتجاهات، حتى وصلت إلى لندن في أوائل عام ١٨٣٢. وقد أقنع نمطُ انتشارها أنصارَ النموذج الوبالي أنَّ الهواء هو مصدر المرض، بينما أقنع أنصارَ العدوى أنَّها تنتشر عن طريق البشر. وكانت النتيجة التي خلص إليها الجميع تقريبًا بعدما انتهى الوباء هي أنَّ نظام الحَجْر الصحي لم يؤدِّ الوظيفة المرجوة منه. ومنذ ذلك الحين، اعتَمَدت السياسة البريطانية بالأساس على تفقُّد الموانئ وعزل الحالات المشتبه فيها، لتغطِّي بذلك النموذجين الفكريين الرئيسيين. كانت بريطانيا آنذاك صاحبة أكبر التزام بَحرِيٍّ بلا منازع؛ ومن ثَمَّ كانت معرَّضة لأكبر خسائر إثر تطبيق سياسة الحَجْر الصحي على نحو مكلِّف ومعرقِل لسير العمل. وقد عُقِدت سلسلة من مؤتمرات الصحة الدولية بدءًا من عام ١٨٥١، مَعنية بالكوليرا بالأساس. وكوَّنت بريطانيا والهند البريطانية جبهة متحدة قوية في معارضة اتِّخاذ الحَجْر الصحي عامِلًا روتينيًّا في السيطرة على المرض. وكانت العواقب الاقتصادية لمثل تلك السياسة جليَّة للجميع، وقد كانت السياسة العلمية البريطانية قائمة على الاعتبارات التجارية دون مواربة.
كان مِمَّنْ عضَّدوا موقف الوباليين إحدى الشخصيات البارزة في حركة الصحة العامة البريطانية المبكرة؛ ألا وهو إدوين شادويك (١٨٠٠–١٨٩٠). تدرَّب شادويك في مجال المحاماة، وكان آخر سكرتير للفيلسوف والمُصلِح النفعي جيريمي بنثام (١٧٤٨–١٨٣٢). تشرَّب شادويك مبادئ بنثام المتمثِّلة في الكفاءة والمساواة البسيطة بين النَّفْع والسعادة (حيث كان شعار المدرسة النفعية هو «أكبر نَفْع لأكبر عدد»). دخل شادويك مجال الصحة العامة من باب الاهتمام بالفقر، ولا سيَّما بآلية عمل قانون الفقراء، الذي مثَّل السبيل التشريعي إلى التعامل مع القضايا المتعلِّقة بتخفيف الفقر والعَوَز؛ فقانون الفقراء القديم — الذي يعود إلى أواخر القرن السادس عشر — كان قد فقد جدواه تمامًا على نحو مُحزِن في ظل مجتمع يخوض تحوُّلًا سريعًا نحو التصنيع والتمدُّن. كانت بريطانيا أول دولة صناعية، ولم تعد الأساليب القديمة للتعامل مع الفقراء تصلح في ظل اقتصاد قائم على الأجور الصناعية، فضلًا عما اقترن بها من البطالة الموسمية، والفقر الحضري، وتنامي الوعي الطبقي.
استُشعِرَت وطأة أول وباء كوليرا أوروبي في عام ١٨٣٢، الذي كان عامًا حافلًا بالأحداث من نواحٍ أخرى؛ فقد أحرزت وثيقة إصلاح برلمانية بعض النجاح في تدارُك التفاوت في التمثيل البرلماني، الناتج عن التحوُّلات السكانية المترتِّبة على النمو السريع للمدن الصناعية. كذلك فقد وسَّعت الوثيقة نطاق حق التصويت، وأنشأ البرلمان لجنة قانون الفقراء للنظر في آلية عمل قانون الفقراء القديم وإصدار التوصيات بشأن إصلاحه. وجاء ذلك عقب سنوات من النقاش المحتدم، جزءٌ منه مدفوع بمقال تي آر مالتوس «بحث في مبدأ السكان» (الطبعة الأولى، ١٧٩٨؛ الطبعة السادسة، ١٨٢٦). كان مالتوس قد أشار إلى أنَّ تخفيف الفقر سلاح ذو حدَّين؛ فإبقاء الفقراء على قيد الحياة من شأنه ببساطة أنْ يفاقم البؤس الناتج عن الندرة والعَوَز في الأجيال اللاحقة، حين تولِّد تنشئة الفقراء المعوزين مزيدًا من التبعية. وقد نَصَّ «قانون السكان» الذي صاغه مالتوس على أنَّه في جميع أشكال الطبيعة دائمًا ما تفوق قدراتُ الكائنات على التناسل عددَ الذرية التي يمكن لها البقاء فعليًّا على قيد الحياة. ولم يكن البشر يمثلون استثناءً في ذلك القانون الصارم؛ حيث ينشأ التفاوت عن تزايد عدد السكان بمتوالية هندسية مقابل تزايد الموارد اللازمة للبقاء بمتوالية عدديَّة؛ فالفقر والبؤس والحرب والرذيلة والحاجة تخفض أعداد السكان، والتدخل في هذا النظام بإبقاء المزيد من الأطفال الفقراء على قيد الحياة غير مُجدٍ على المدى الطويل.
كانت المعضلة المالتوسية مجرد واحدة من القضايا التي عُنِيَت بها لجنة قانون الفقراء عام ١٨٣٢. كان شادويك أمين اللجنة وأبرز أعضائها؛ إذْ كان العقل المدبِّر وراء الاستقصاء المنهجيِّ الكيفيةِ التي تدير بها الأبرشيات المحلية البالغ عددها ١٥ ألف أبرشية قانون الفقراء القديم. وكان ذلك التشريع — الذي بدأ العمل به في عهد الملكة إليزابيث الأولى، في أواخر القرن السادس عشر — مُصَمَّمًا لتوفير ضمانة أخيرة عن طريق الضرائب المحلية للأشخاص العاجزين عن إعالة أنفسهم في حالة المرض والإصابة والبطالة وغيرها من نوائب الدهر. وازداد عدم جدوى ذلك القانون، الذي وُضِع من أجل مجتمع راكد وريفي في معظمه، في ظل تحوُّل المجتمع البريطاني إلى مجتمع أكثر حركة وتصنيعًا وتمدُّنًا، وبلغت الأمور حدًّا متأزِّمًا بعد انتهاء الحروب النابليونيَّة في العقد الثاني من القرن التاسع عشر، عندما عاد آلاف الرجال العسكريين إلى ديارهم وعجزوا عن العثور على عمل. ونتج عن إدارة ذلك القانون مِن قِبَل ١٥ ألف وحدة محلية مختلفة تفاوتٌ كبيرٌ، وهو ما تعارضَ بشدة مع ميول شادويك النفعية. وقد أوصى تقرير أعضاء اللجنة — الذي نُشِر عام ١٨٣٤ ومثَّل أساس قانون الفقراء الجديد الذي صدر في العام نفسه — بتعميم آلياته وتوحيدها، بحيث يجري العمل وفقًا لقواعد وضوابط متشابهة في جميع أنحاء البلاد.
مثَّل قانون الفقراء الجديد ذاك — الذي كرهه كثيرون لشدته — الآليةَ المُستخدَمة لتخفيف الفقر حتى أُلغِي عام ١٩٢٩. كان شادويك يرغب في أنْ يرأس تلك الإدارة الحكومية الجديدة، ولكنه اضطُرَّ إلى أنْ يرضى بتعيينه أمينًا لها نظير أجر. وكان من المحتَّم أنْ تضع إدارة قانون الفقراء الجديد شادويك وجهًا لوجه بصفة يومية مع العلاقات القائمة بين الفقر والمرض؛ فطالما لاحظ الأطباءُ أنَّ الأمراض الوبائية عادةً ما تصيب الفقراء أكثر مما تصيب الأغنياء، وافترضوا أنَّ لذلك صلةً بظروف معيشتهم المزدحمة، وقلة الغذاء المتاح لهم، وغير ذلك من العوامل المصاحِبة للعَوَز. وكان شادويك منشغلًا في الأصل بحقيقة أنَّ كثيرًا من مقتضيات وجود قانون الفقراء كانت ناتجة عن مرض ربِّ الأسرة وعجزه عن العمل.
إذن يمكن للمرض أن يُفقِر أُسْرَة، إلا أنَّ الافتراض العكسي كان أقل وضوحًا؛ ألا وهو: هل يتسبب الفقر نفسه في المرض؟ كان شادويك وكثير من معاصريه يروق لهم إضفاء سمة أخلاقية على الفقر في حد ذاته، زاعمين أنَّ السبب الأساسي فيه هو الإخفاق الفردي؛ متمثِّلًا في الزيجات غير الحكيمة، والفشل في الادخار، والإنفاق على الشراب وغيره من الرذائل. على الرغم من ذلك، فبما أنَّ المرض كان عاملًا رئيسيًّا في إحداث الفقر، فقد ترتَّب على ذلك أنَّ الوقاية ممَّا أسمَاه «أمراض القذارة» من شأنها أنْ تخفف العبء عن ضريبة الفقراء. وبصفته وباليًّا متعصِّبًا، كان يُعزي أمراض القذارة مثل الكوليرا والتيفوس والحمى القِرْمِزية إلى الروائح الكريهة للمواد العضوية المتحلِّلَة. وكان الحل سهلًا: النظافة؛ فإذا كانت القذارة تسبِّب المرض، فالنظافة تقي منه.
امتدَّت رحلة شادويك منذ كان مُصلِحًا لقانون الفقراء إلى أنْ أصبح مهووسًا بالوقاية من الأمراض بضعة أعوام، بدءًا من عام ١٨٣٤ ووصولًا إلى عام ١٨٤٢، عندما نشر نصًّا كلاسيكيًّا من نصوص حركة الصحة العامة المبكِّرة، بعنوان: «تقرير عن الحالة الصحية للسكان العاملين في بريطانيا العظمى»، وفيه استخدم النُّهُج الإحصائية الجديدة آنذاك (بدأ تقييد المواليد والزيجات والوفيات في السجل المدني عام ١٨٣٧) ليقدِّر كَمِّيًّا الفروق المذهلة في معدَّلات الوفيات ومتوسط معدل الأعمار المتوقع عند الميلاد بين المناطق الحضرية المزدحمة بالسكان والمناطق الريفية، وبين الأغنياء والفقراء. وبغية حل مشكلة أمراض القذارة، اقترح شادويك ما أسماه منظومة شريانِيَّة وريدِيَّة لإمداد المياه والصرف الصحي، فإنْ توفَّر إمدادٌ من المياه الجارية المضغوطة إلى المنازل، فستصير النظافة أسهل؛ وإنْ نُقِلَت مياه الصرف عبر أنابيب مصقولة مقاوِمة للتسريب، حُلَّت مشكلة حُفَر الأقذار وتلوُّث الأرض. وإضافةً إلى ذلك، فإنْ نُقِلَت مياه الصرف بعيدًا عن المدن إلى مصانع المعالجة، يمكن تحويلها إلى سماد عضوي، يُباع إلى المزارعين بربح، وتزيد المحاصيل؛ مما يفضي إلى تحسُّن حالة الغذاء. وكان ذلك حلًّا هندسيًّا بارعًا لمسألة الصحة العامة، ملائمًا في سياقه، وإنْ لم يقدِّم حلًّا لجميع المشكلات التي ارتآها شادويك برؤيته المحدودة لمسبِّبات المرض.
نال شادويك فرصته لترك بصمته في مجال الصحة العامة عام ١٨٤٨، عندما عاد وباء الكوليرا، وأُنشئ مجلس للصحة مكوَّن من ثلاثة أعضاءٍ أحدُهم شادويك (أُضيف عضو رابع — طبيب — لاحقًا). كان القانون البرلماني المنشئ للمجلس جوازيًّا إلى حد كبير؛ إذ أجاز للمجتمعات المحلية تعيين مسئول طبي للصحة إذا طالب ١٠٪ من دافعي الضرائب فيها بذلك. ولم يكن تعيين مثل ذلك المسئول إلزاميًّا ما لم يتخطَّ معدل الوفيات الخام في المنطقة ٢٣ فردًا في كل ألف. كان ذلك الشرط الجوازي بمنزلة حصان طروادة؛ إذ روَّج المسئولون الطبيون للصحة لعملية الوقاية، ودعوا إلى تعيين مسئولين مثلهم في جميع أنحاء البلاد، على أساس قانوني. وصار ذلك التحوُّل من التشريع الجوازي إلى التشريع القانوني نمطًا سائدًا في المجتمعات الليبراليَّة القائمة على حرية العمل والتصرُّف، بأساليب لا يزال صداها يتردد في وقتنا الحالي. وإنَّ بحث أي قضية اجتماعية تقريبًا يكشف قضايا أخرى تستدعي الانتباه.
وطوال حياة شادويك الطويلة، لم يتخلَّ قط عن فكرته عن أمراض القذارة، ولا عن القوة الشافية للنظافة، وقد ترك منصبه مرغَمًا عام ١٨٥٤، على الرغم من عودة الكوليرا؛ فقد أكسبه أسلوبه الديكتاتوري أعداءً كُثُرًا، وكان يريد إدخال التشريعات المُلزِمة من الباب الأمامي، إلا أنَّها جاءت مجزَّأة وتدريجية، من الباب الخلفي.
في ذلك الوقت، كان المفهوم المتعلِّق بطبيعة أمراض القذارة في طور إعادة الصياغة؛ فالناس لم يدركوا إلا بأثر رجعي أنَّ مختص الفحص المجهري فيليبو باتشيني (١٨١٢–١٨٨٣) وصف الكائن المسبِّب للكوليرا أثناء جائحة عام ١٨٥٤. وعلى القدر ذاته من الأهمية، أثبت جون سنو (١٨١٣–١٨٥٨) اختصاصيُّ التخدير والوبائيَّات والممارِسُ العامُّ في لندن، أنَّ الكوليرا لا تُنقَل عبر الهواء وإنما الماء. كان سنو طبيبًا تحت التدريب أثناء وباء الكوليرا الأول في ١٨٣١-١٨٣٢، ودَرَسَ المرض بعد أنْ أصبح طبيبًا ممارِسًا طموحًا معترَفًا به أثناء الوباءَيْن اللذين ضربا لندن في عام ١٨٤٨ وعام ١٨٥٤، وقدَّم أدلة قوية من وباء عام ١٨٤٨ على أنَّ المرض ينتقل عن طريق المياه الملوثة بالبُراز، مؤيِّدًا حُجته عبر تجربتين مجتمعيتين كلاسيكيتين أجراهما عام ١٨٥٤. أشهَر التجربتين كانت تجربة مضخة شارع برود ستريت؛ وهي التجربة التي صارت خليقة بالأساطير. كانت تلك المضَخَّة — في حيِّ سوهو بوسط لندن (يحمل شارع برود ستريت الآن اسم شارع برودويك ستريت) — تخدم منازل كثيرة، معظمها لا يتوفر لديه مصدر إمداد مباشر من المياه الجارية. وبإجراءِ دراسةٍ منهجية لكل البيوت التي ظهرت فيها حالات المرض في منطقة تستخدم مضخة مياه واحدة، وتتبُّعِ حالاتٍ أبعد لأشخاصٍ شربوا من مياه المضخَّة؛ أثبت إدانة المياه بوصفها مصدر المرض؛ فقد كان ثمة أنبوب صرف مفتوح يصبُّ فيها. وقد انطوت الحركة الدرامية لفكِّ مقبض المضخة على دلالة رمزية أكثر منها عملية؛ إذ كان الوباء في طريقه إلى الزوال بالفعل، ولكن تلك الواقعة اجتذبت اهتمامًا كبيرًا.
كان بحثه الثاني في الوبائيَّات أكثر إثارةً للاهتمام؛ فقد قارن بين حالات شراء الناس مياه نهر التيمز من شركتين منفصلتين؛ إحداهما تُرَشِّح المياه وترسلها أعلى النهر، قبل أن تَصُبَّ فيها مصارف لندن، بينما تستخدم الأخرى مياهًا غير مرشَّحة من مصب النهر، بما فيها من مياه صرف وغيرها من الملوِّثات. وفي بعض الحالات، كان سكان شارع واحد — يعيشون في ظل ظروف سكنية متشابهة، ويتنفسون الهواء نفسه — يتعاقد كلٌّ منهم مع إحدى الشركتين، فأثبت سنو أنَّ الأشخاص الذين يستخدمون مياه الشركة «السيئة» كانت فُرَص إصابتهم بالكوليرا أعلى ١٣ مَرَّة من فرص إصابة الأشخاص الذين يستخدمون مصدر المياه الأفضل.
تبدو الأدلة التي قدَّمها سنو بديهية بالنسبة إلينا، ولكنها لم تكن بديهية بالنسبة إلى معظم معاصريه، وقد ظلَّت طبيعة الكوليرا وأسبابها محل نقاش لعقود من الزمان، حتى — على ما يبدو — بعدما وصف روبرت كوخ للجرثوم المسبب للمرض عام ١٨٨٤، في عصر علم الجراثيم. فأساليب التفكير القديمة لا تتغير بسهولة، وإنْ كان عدد الذين استمعوا لكوخ حين ضربَ وباءُ الكوليرا هامبورج في تسعينيات القرن التاسع عشر أكبر ممَّنِ استمعوا لسنو قبل أربعة عقود من الزمان. وكانت الأدلة التي قدَّمها قوية، ولكن كذلك كانت الأدلة التي قدَّمها سنو. وكما سنرى في الفصل القادم، فإنَّ الأبطال الحقيقيين لم يظهروا في ميدان الطب الحديث إلا بمجيء العلم.
نشأة الجهاز البيروقراطي للصحة العامة
«في البدء كان الكلمة.» هكذا جاء في إنجيل القديس يوحنا. والآن، صارت الغلبة للرقم؛ فنحن نعيش محكومين بالوقت، ونتابع صعود وهبوط أسواق الأوراق المالية أو أسعار الفائدة على الرهون العقارية، ونقيس حالة الطقس الشهرية حسب أعلى درجات حرارة أو رطوبة وَرَدَت منذ بدء السجلات المناخية، فالأرقام متغلغلة في المجتمع المعاصر، وتسيطر على حياتنا.
ومن المحتَّم أنْ تكون الأدلة في مجال الصحة العامة رقمية، فإذا كانت حركة الصحة العامة هي إلى حدٍّ كبير نِتاجَ حركةِ التصنيع والتمدُّن التي بدَّلت شكل العالم الغربي منذ أواخر القرن الثامن عشر، فقد استندت أيضًا إلى العقلِيَّة الرقمِيَّة التي صاحبت الأرباح والخسائر في منظومة المصانع، وفي تسخير البُخار، ونظام القيد المزدوج، والتعداد الوطني. ومثلنا، شعرَ الناس في العصر الفيكتوري بالارتباك من كَمِّ الحقائق والبيانات الذي انهال عليهم.
ينبغي تسليط الضوء على ثلاثة أبعاد لعملية القياس الكمِّي للطب (والمجتمع على نحو أشمل)، وهي: الدراسات الاستقصائية، والمراقبة، والدلالة.
تمثِّل الدراسات الاستقصائية أبسط الأبعاد الثلاثة؛ فقد وُصِفَت لجنة قانون الفقراء لعام ١٨٣٢ بأنَّها الدراسة الاستقصائية الرائدة على الصعيد الوطني، ولا شك أنَّها كانت ممارسة مستحدَثة في زمنها، فقد أرسلَ شادويك وزملاؤه أعضاءُ اللجنة استبيانًا مفصَّلًا لكلٍّ من الأبرشِيَّات المسئولة عن الإعانات المنصوص عليها في قانون الفقراء، وحاولوا التنسيق بين ردودها. وفي أواخر ثلاثينيات القرن التاسع عشر، أمر شادويك بإجراء دراسات استقصائية عن العلاقة بين الفقر والازدحام السكاني وأمراض القذارة. وكان أحد الإجراءات الأولى التي اتَّخذها جون سايمون (١٨١٦–١٩٠٤) بصفته خَلَف شادويك في زعامة حركة الصحة العامة البريطانية، هو إجراء دراسة استقصائية تشمل أوروبا كلها عن التطعيم ومدى فعالِيَّته، فيما يتعلق بقضية فرض التطعيم الإلزامي. وقد أقنعتْه تلك الدراسة بأنَّ السبيل إلى الوقاية من الجدري هو إعمال سياسة نشطة للتطعيم المجاني. وأثناء السنوات التي قضاها سايمون في منصبه، أدرك تدريجيًّا عدم جدوى الإقناع كأداةٍ لتحقيق أهداف الصحة العامة؛ وتحت قيادته، أنشأت بريطانيا نظام تطعيم بتمويل حكومي، مجانيًّا وشاملًا وإلزاميًّا، مصحوبًا بعقوبات في حالة عدم الامتثال.
وقد أدرك العالم المتقدم كله قوة الأرقام في العقود الوسطى من القرن التاسع عشر، وتكرَّر إجراء الدراسات الاستقصائية لبحث القضايا الاجتماعية ذات التبعات الطبية؛ ومن ثَمَّ خضعت قضايا متعددة للتدقيق؛ كالفقر، وعمالة الأطفال، وأحوال المصانع، والغِشِّ في المواد الغذائية، وإمدادات المياه، والبِغاء، ومعايير البناء، والأمراض الوبائية طبعًا. وكان تقصِّي إحدى القضايا يطرح على الأغلب قضايا أخرى تستدعي الاهتمام؛ على سبيل المثال، فإن الانشغال بعمل الأطفال الصغار في وظائف شاقة بأجور متدنِّيَة أثارَ قضايا أشمل متعلقة بالتعليم وصحة الطفل. لم يكن السيد جرادجرايند في رواية تشارلز ديكنز الشخصَ الوحيدَ الراغبَ في «الحقائق» في أوروبا في القرن التاسع عشر، وقد تزايد ورود «الحقائق» في صورة جداول أو غيرها من الصور الكَمِّيَّة.
وإذا كانت الدراسات الاستقصائية قد أثارت القضايا الطبية والاجتماعية من الأنواع والأشكال كافة، فإنَّ المراقبة كانت استراتيجية مُكَمِّلة، ترمي إلى تتبُّعِ الاتجاهات بصورة منهجية أو متابعةِ المشكلات المثيرة للقلق. وكثير من الهياكل المستخدمة في المراقبة يرجع إلى زمن بعيد؛ على سبيل المثال، منذ العصور الوسطى، كان الجزَّارون الفرنسيون يتوقعون زيارات دورية من مفتِّشين يفحصون اللحوم التي يبيعونها، وكانت الأسواق والمعارض تُقام وفقًا لضوابط، وكذلك أُقيمت تحصينات على الحدود والموانئ والمدن المسوَّرة، لا سيَّما في أوقاتِ تفشِّي الطاعون وغيره من الأمراض الوبائية؛ فكان تفتيش الأشخاص والبضائع أمرًا متوقَّعًا. وعلى أي حال، فقد كان الملوك المطلَقون والحُكَّام المستبدُّون يحتاجون إلى معلومات عن تحرُّكات أعدائهم، فثمة أسلاف كُثُر لمكتب المباحث الفيدرالية الأمريكية ووكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية والمكتب الخامس البريطاني وجهاز الاستخبارات السوفييتي (كيه جي بي)، وإن كانت معظم شبكات المراقبة المبكِّرة كانت معنِيَّة بالأمن والسيطرة لا بالصحة.
وبمجرد أن تُدَوَّن القوانين، فلا بد من وجود رقابة عليها؛ وقد أصبح المسئولون الطبِّيون للصحة، وجرَّاحو المصانع، والسلطات الطبية للموانئ، وغير ذلك من طائفة الأفراد المعنيين بالصحة العامة؛ جزءًا ملحوظًا من المجتمع الغربي في القرن التاسع عشر. ونجد أبرز مثال على الوظائف الرقابِيَّة لمسئولي الصحة العامة — إضافةً إلى ممارسي الطب العاديين — في نشأة مفهوم الأمراض التي يجب الإبلاغ عنها؛ فقد أصرَّ عدد من المجتمعات المحلية على ضرورة إبلاغ السلطات المركزية بحالات الجدري. ومنذ ثمانينيات القرن التاسع عشر — في أعقاب ظهور علم الجراثيم — وُضِعت خطط على الصعيد الوطني وحُدِّدَت أمراض عدة باعتبارها مُعدِية وتشكِّل خطرًا على الصحة العامة؛ فأصبح الجدري والحمى القِرْمِزية وحمى التيفوئيد وأخيرًا السُّل والزهري أمراضًا ارْتُئِيَ فيها خطرٌ على عامة الناس يفوق قيمة الخصوصية وتلقِّي الفرد علاجه على يد طبيب. وطُلِب إلى ممارسي الطب إضافة المراقبة إلى مهامهم الأخرى (قَلَّت مقاومتهم للبيروقراطية بعدما باتوا يتقاضون أجرًا نظير مَلء الاستمارات)، وعلى الرغم من أنَّ المسئولين الطبيين للصحة ونظراءهم في مختلف البلدان كانوا في خط المواجهة، فقد كان متوقَّعًا من جميع الأطباء أنْ يقفوا وراءهم.
ويتجلَّى نطاق القضايا القانونية والطبية والأخلاقية التي شملتها عملية المراقبة في حالة ماري مالون الشهيرة (١٨٦٩–١٩٣٩)؛ أو «ماري التيفوئيد». عملت تلك المرأة الأيرلندية المَوْلِد طاهيةً لسلسلة من عائلات نيويورك الثرية في العقد الأول من القرن العشرين. كانت سليمة الصحة تمامًا، ولكنها تجلَّت فيها جميع الخصائص التي كان روبرت كوخ قد وصفها قبل فترة قصيرة بلقب «حالة حامل المرض»؛ أي إنَّها كانت تنشر بكتيريا حمى التيفوئيد دون أنْ تعاني هي نفسها أعراضَ المرض. وقد أصابت أفرادًا من عائلات عدَّة بالعدوى، وتولى مسئولو الصحة العامة تقصِّي تلك النوبات المنعزلة من تفشي المرض. فتلك المهاجِرة المحدودة التعليم وغير المدرِكة لارتكابها خطأً ما، مثَّلت رغم ذلك خطرًا على الصحة العامة، وأُودِعت في الحبس جزاءَ «الجُرم» الذي ارتكبته.
كان إجراء الدراسات الاستقصائية مُهمَّة المسئولين الحريصين على كشف صلات جديدة، بينما كانت المراقَبة مُهمَّة أيِّ طبيب يجد مريضًا مصابًا بمرض يجب الإبلاغ عنه. أما الإحصاءات فأصبحت مجال اختصاص الأشخاص الذين تلقَّوا تدريبًا خاصًّا على فهم طبيعة العلاقات الارتباطية والسببية. وقد نشأت حركة الصحة العامة الحديثة بالتوازي مع الجمعيات الإحصائية، ولكثيرٍ من الأسباب ذاتها؛ فكلتاهما كانتا استجابةً للتصنيع، كما تألَّفت حركة الصحة العامة والجمعيات الإحصائية من كثير من الأفراد المعنيين أنفسهم.
على الرغم من أنَّ رياضيات الاحتمالات نشأت منذ أواخر القرن السابع عشر، فإنَّ الشريك الرياضي المعاصِر لها — وهو «الإحصاء» — كان أقل تطورًا بكثير في أوائل القرن التاسع عشر. كانت الجمعيات الإحصائية مكرَّسة بالأساس لجمع عدد كبير من المشاهدات وتقديمها في جداول، وقد أفضى بدء تقييد الوفيات في السجل المدني في كثير من البلدان الأوروبية إلى تمثيل أسباب الوفاة سنويًّا في جداول، وفي الوقت نفسه تطلَّب بذل محاولات دولية لتوحيد الفئات التشخيصية. وعلى الرغم من أنَّ كثيرًا من فئات الأمراض القائمة على الأعراض (مثل «الحمى» أو «اليرقان») لزمَ استبعادها من فئة الأمراض القائمة بذاتها، فقد احتفظ علم تصنيف الأمراض بأهميته؛ إذْ رغبَ الأطباءُ على الصعيدين الوطني والدولي في التأكُّد من الأمراض التي توضَع في شهادات الوفاة أو التقارير السنوية للمستشفيات.
وبالقدر نفسه من الأهمية الدائمة، دخلت «الدلالة» مجال الإحصاء، وذلك في البداية من خلال عمل فرانسيس جالتون (١٨٢٢–١٩١١) ابن عم تشارلز داروين؛ فقد انجذب جالتون إلى طبيعة عملية الوراثة، وابتكر أساليب حسابية لدراسة الإسهامات النسبية للوالدين — إضافةً إلى الجدود وغيرهم من الأسلاف — في التكوين الموروث للفرد. وبصفته مؤسِّس علم تحسين النسل، فقد عُنِي بصفة خاصة بما اعتبره تباينًا في معدل المواليد بين الآباء الفقراء غير المسئولين والآباء المسئولين من الطبقة الوسطى، وقاسَ كثيرًا من الخصائص البشرية؛ مثل الأطوال ومعدلات الأعمار والقوة العضلية و«النجاح» في الحياة. وهو مَنْ أدخلَ الوراثة في معادلة الصحة العامة، في مجالٍ كان فيما مضى معنيًّا بالقضايا البيئية في المقام الأول؛ مثل: الازدحام السكاني والتلوث. وبعد جالتون، صار لا بد من أخذ كلٍّ من «الطبيعة» و«التنشئة» في الاعتبار.
وعلى الرغم من تلقِّي جالتون تدريبًا في مجالَي الرياضيات والطب (لم يمارس أيًّا منهما قط)، فقد كان تلميذه كارل بيرسون (١٨٥٧–١٩٣٦) هو مَنْ وضع الإحصاء في مركز الصدارة لكلٍّ من العلوم التجريبية والطب السريري. وكثيرٌ من مفاهيمنا عن الدلالة — بما اشتملت عليه من القيمة «الاحتمالية» (مستوى الثقة البالغ ٩٥٪ في أنَّ المتغير الخاضع للقياس صحيح) — يُعزَى إلى بيرسون. وقد درس دور الوراثة في السُّل وإدمان الكحوليات، ولكنه كان مهتمًّا بالأساس بدورها في علم الأحياء التطوُّري. وقد احتلت الرياضيات على يد تلاميذه وأتباعه مكانة مركزية في علم الأوبئة وفي تقييم العلاجات الجديدة من خلال اختراع التجارب السريرية.
أحدثت تلك التطورات المتحقِّقة في القرن العشرين تحوُّلًا في شكل الدراسات الاستقصائية والجداول البسيطة التي استخدمها أنصار الصحة العامة في الماضي، لكن رسالة القرن التاسع عشر التي دعا إليها الأشخاصُ المعنيون بالأمراض داخل المجتمع ظلت راسخة؛ ومفادها أنَّ الحقائق مهمة، وكذلك الأرقام. امتدَّ أثر «الطريقة العددية» التي برعَ لوي في استخدامها داخل المستشفى إلى خارجها أيضًا؛ فصارَ من اللازم تقييم البيانات — في المستشفى والمجتمع والمعمل — واكتسبت الأدوات الرياضية والإحصائية اللازمة لذلك التقييم أهميةً متزايدةً في مجالَي أبحاث الصحة الحديثة والوقاية من الأمراض.