الفصل الثاني
بين الإنسان والقردة
من الواضح في نظام التصنيف الحيواني الذي قدمناه في الفصل السابق أن
أقرب الحيوانات إلى الإنسان شبهًا هي جماعة أشباه البشر، التي تشمل
الجوريلا والشمبانزي والأورانج أوتان والجيبون، وسنسمي هذه الجماعة من
الآن فصاعدًا القردة العليا، وإن زيارة لحدائق الحيوان لتكفي لملاحظة
ما بين هذه الجماعة وبين الإنسان من تشابه، ليس من حيث التركيب البدني
وحده، بل أيضًا من حيث بعض التصرفات، كالمشي والقبض على الأشياء
والأكل، وكذلك في الغضب من سوء المعاملة، وغير ذلك من الأمور التي
تسرُّ المشاهدين وتُضحِكهم، وإذ نأخذ الآن في المقارنة بين الإنسان
وهذه القردة سيرى القارئ أن التمييز بين طرفي هذه المقارنات لن يعتمد
على فروق نوعية حاسمة كما كان الشأن عند المقارنة بين الأصناف أو بين
الفصائل، حيث كان الصنف أو الفصيلة يتميز بخاصة تشريحية معينة لا وجود
لها في صنف أو فصيلة أخرى، وإنما سيعتمد التمييز هنا على الزيادة
والنقص في صفات مشتركة بين الإنسان وهذه القردة.
تستطيع القردة العليا الوقوف والمشي على قدمين، ولكن ليس كوقفة
الإنسان ومشيته، إذ عندما يقف الإنسان (شكل
٢-١)
يكون رأسه معتمدًا على قمة العمود الفِقْري، ويكون الظهر منتصبًا،
ويكون كل من مفصلي الفخذ والركبة في حالة بسط تام، ويكون الفخذان
مضمومتين بحيث تتلامس الركبتان أو تكادان، أي أن اعتدال القامة يبلغ حد
الكمال في الإنسان. هذا بينما أنه عند وقوف القردة (شكل
٢-٢) يميل الرأس إلى أمام العمود الفِقْري، وينحني
الظهر إلى الأمام، ويبقى مفصلا الفخذ والركبة دون البسط التام، وتكون
الركبتان منفرجتين، أي أن اعتدال القامة في هذه القردة العليا لا يبلغ
أبدًا أقصاه؛ ولذلك فهي لا تتخذ من الوقوف ولا من المشي على قدمين
عادةً لها، وتلجأ غالبًا إلى الاعتماد في الحالين على أصابع
اليدين.
ولقد أدى بلوغ هذا القدر من الكمال في اعتدال قامة الإنسان إلى تشكيل
الهيكل البشري على صورة أصبحت خاصَّة به، وأصبح كل جزء منه مختلفًا إلى
درجة واضحة عن الجزء الذي يقابله في هياكل تلك القردة، فنجد مثلًا أن
العمود الفِقْري عند هذه الحيوانات مُركَّب على شكل خط مستقيم تقريبًا،
أو في قوس منتظمة الانحناء خفيفته، في حين على العكس من هذا نجد العمود
الفِقْري عند الإنسان متعرِّجًا وبه أربعة انحناءات، واحد في العنق
وتحدُّبُه إلى الأمام، يليه آخر في منطقة الصدر وتحدُّبُه إلى الخلف،
ثمَّ يتبع هذَين انحناء ثالث في منطقة القَطَن، وهو مُحدَّب إلى
الأمام، ثمَّ يلي هذا انحناء رابع تحدُّبُه إلى الخلف، وتعاقب
الانحناءات في العمود الفِقْري على هذا النظام يجعل تحدُّب بعضها يعوض
تقعُّر بعضها الآخر، فتكون النتيجة أن يصبح محور العمود الفِقْري في
جملته خطًّا مستقيمًا ينزل عند الوقوف عموديًّا على سطح الأرض (شكل
٢-١).
ومما نتج أيضًا عن اعتدال القامة عند الإنسان أن أصبح عبء حَمْل
الجسم كله في الوقوف والمشي يقع على الطرفين السفليين، وقد أدى هذا إلى
تشكيل عظامهما على ما يتفق وهذه الوظائف الجديدة، وأوضح ما يُظهِر
التخصصَ التشريحيَّ هنا يَظهَر في القدم (شكل
٢-٢)،
وبخاصة في أصابعها التي فقدت طلاقة الحركة وضُم بعضها إلى بعض، وتضخمت
عظام الرُّسْغ كما تضخم الأصبع الكبير. كل هذا بخلاف ما عليه الحال في
أقدام القردة التي ما زالت تستعمل أقدامها أداة للقبض على أغصان الشجر
كما تفعل باليد تمامًا، حتى لقد رأى بعض العلماء أن يصف القردة بأنها
ذوات الأربع الأيدي، ومن مظاهر التخصص في الطرف السفلي للإنسان أيضًا
أن استطالت عظام الفَخِذ والساق وتضخمت العضلات مما جعله أطول وأكبر من
الطرف العلوي، ويتضح الفرق بين الإنسان والقردة العليا في هذا الشأن
عند المقارنة بين نسبة طول العَضُد إلى طول الفَخِذ، فهي تبلغ في
الإنسان ٣ : ٤، بينما هي في القردة تكاد تكون ١ : ١، ومن مظاهر التخصص
في الطرف السفلي أيضًا أن طوله في الإنسان يكاد يساوي نصف طول القامة،
في حين أن طوله أقل كثيرًا من نصف طول القامة عند تلك
الحيوانات.
ومما يتمشى مع تخصص الطرف السفلي أيضًا ما طرأ على الحَوْض من
تغييرات (شكل
٢-١ و
٢-٢)، فهو في
الإنسان أعرض وأوسع منه عند الجوريلا، مع أنها أكبر القردة العليا، وقد
يبلغ حجمها ضعف حجم الجسم البشري، وازدياد عرض الحوض كان ضروريًّا
لسببين: الأول لأنه أوفق لنقل ثِقْل الجسم إلى الفخذين بعد أن كمل
اعتدال القامة، وثانيًا لأنه يهيئ مخرجًا مناسبًا لرأس الجنين البشري
عند الولادة، إذ من المعروف أن رأس الجنين البشري أكبر مما يتسع له
مخرج الحوض عند الجوريلا.
هذا ما كان من شأن الطرف السفلي، أما الطرف العلوي وقد تحرر في
الإنسان من وظيفتي حمل الجسم في الوقوف والمشي، فإنه ضَمَر نسبيًّا،
ولكن الحركة في مفصل الكتف زادت، وانبسطت الأصابع فأصبحت صالحة
للاستعمال في الأعمال الدقيقة بدلًا من قبضتها عند القردة العليا، حيث
تستعمل كخُطَّاف للتأرجح على الأغصان، أو يعتمد عليها في الوقوف
والمشي، ويُلاحظ بهذه المناسبة أن أصبع الإبهام قد ضَمَر إلى حدٍّ
كبيرٍ في هذه القردة نظرًا؛ لعدم فائدته عند التدلي من غصون الأشجار
(شكل
٢-٢).
ولعل أوضح الفروق الجسدية بين الإنسان وتلك القردة العليا يظهر على
الرأس والوجه، فيُلاحظ على القردة انحسار الجبهة إلى حد الانعدام،
ويصحب هذا انخفاض ظاهر في قمة الرأس فيما فوق الأذنين، وتبدو قمة الرأس
على شكل جمالوني (شكل
٢-٣)، وذلك بسبب وجود حرف
عظمي بارز على الجمجمة يمتد من الأمام إلى الخلف، ويبرز كذلك رف واضح
من أسفل الجبهة إلى ما فوق العينين، والوجه في جملته يبرز كثيرًا أمام
العينين والأنف مما ينبئ عن تضخم الفكين العلوي والسفلي، والأنف أفطس
عريض، ونظرًا لأن العنق قصير سميك بسبب وجود عضلات عنقية كبيرة قوية،
فإن الرأس يبدو كأنه منغرز فيها، كل هذا بعكس الحال في الإنسان، حيث
يتضخم الجزء العلوي من الرأس، ذلك الجزء الذي يرقد فيه الدماغ، وعلى
العكس ينكمش الوجه حتى ليكاد يقع كله تحت مُقَدَّم الجزء الدماغي،
والجبهة مرتفعة والرأس كله أقرب إلى التكور، نظرًا لامتلاء جوانب
الجمجمة واستدارتها.
وإذا نحن قارنَّا بين جمجمة الإنسان وجماجم القردة (شكل
٢-٤،
٢-٥)، أمكن تحقيق كل ما ذُكر
من فروق في شكل الرأس وفي السَّحْنة بصورة أوضح، ويمكن علاوة على هذا
ملاحظة بضعة فروق جديدة، فعند فحص الجمجمة من أسفلها (شكل
٢-٦) يُلاحظ: (١) أن الثقب الكبير — حيث يلتقي الدماغ
بالنخاع الشوكي (شكل
٢-٦) — يقع عند منتصف هذا
السطح الأسفل من جمجمة الإنسان، في حين أنه يقع أقرب إلى مؤخر الجمجمة
عند القردة، وهذا يتفق مع ما سبق ملاحظته عند الكلام على اعتدال القامة
من ميل الرأس إلى الأمام في هذه الجماعة. (٢) الحَنَك (أي سقف الفم)
أوسع مساحة عند القردة. (٣) إن الجزء من هذا السطح الواقف خلف الثقب
الكبير عليه نتوءات وخطوط بارزة، حيث تندغم عضلات العنق، وبروز هذه
النتوءات والخطوط كبير لدرجة ملحوظة يتفق مع تضخم العضلات العنقية في
القردة، وأمَّا عند فحص الجماجم من أعلى فمما يستلفت النظر بروز
القوسين الوجنيتين إلى درجة تؤكد اختناق الجزء الجبهي عند
القردة.
ومما يُلاحظ على الفك الأسفل ضخامة وعرض فرعه الصاعد، وانحسار الذقن
انحسارًا تامًّا عند القردة، وفي الواقع يُعدُّ البروز الذقني صفة خاصة
بالإنسان الحديث وحده (شكل
٢-٤).
تتفق أسنان القردة العليا وأسنان الإنسان عددًا ونوعًا وترتيبًا،
فعلى كل ناحية من الفك ثماني أسنان مرتبة من الأمام إلى الخلف على
الشكل الآتي: قاطعتان، تليهما الناب، فضِرْسان، ثمَّ ثلاث طاحنات، غير
أن هناك بعض الفروق تميز أسنان الإنسان عن أسنان غيره، ففي القردة تكون
الأسنان أكبر حجمًا وخاصَّةً سن الناب، وتمتاز هذه السن في القردة إلى
جانب حجمها الكبير بأن نهايتها مدببة ترتفع فوق مستوى الأسنان المجاورة
لها (شكل
٢-٦)، وبأن العليا منها تفصلها مسافة
صغيرة عن القاطعة التالية لها.
أشرنا من قبل إلى تضخم الجزء الدماغي من الجمجمة البشرية وإلى امتلاء
جوانبه، واستدارتها، وتدلُّ هذه المظاهر نفسها على شكل الدماغ الذي
يشغل فراغ هذا الجزء من الجمجمة، ولشكل الدماغ ما لشكل الرأس من دلالة
كبيرة في التفريق بين الإنسان والقردة، ومع ذلك فإن حجمه أكثر دلالةً
كما يتضح من الأرقام، فمتوسط حجم الدماغ البشري يبلغ نحو
١٣٥٠سم٣، في حين يبلغ المتوسط عند
القردة ٤٥٠سم٣ فقط.
وعلاوة على ما ذُكر بخصوص الدماغ، فإن هناك بين مخ الإنسان ومخ
القردة فروقًا تشريحيةً لها دلالة فسيولوجية بالغة، ونقدِّم شرحًا
مختصرًا لهذه الفروق فيما يلي:
يتركب المخ من فصين كبيرين أيمن وأيسر، يغطي سطح كل منهما قشرة
سِنْجابية اللون متموجة السطح (شكل
٢-٧ و
٢-٨)، ولقد ثبت أن القشرة السِّنْجابية على كل فص مخي
هي التي توجِّه وتسيطر على نشاط النصف المضاد له من الجسم، وثبت أيضًا
أن بهذه القشرة مواقع معينة (شكل
٢-٧) يسيطر كل
منها على وظيفة معينة؛ ولذلك يُسمَّى مركزًا لها، فهناك مراكز للحركة
ولحواس اللمس والإبصار والسمع والشم، وعلى الفص الأيسر وحده من المخ
البشري يوجد مركز خاص بالكلام المفهوم، ولو أن واحدًا من هذه المراكز
أُصيب بتلف نتيجة لمرض أو لحادث لأدى ذلك إلى فقدان الوظيفة التابعة له
في النصف المقابل من الجسم، ولقد تبين أيضًا وجود مناطق في القشرة
السِّنْجابية ليس لها سيطرة على وظائف معينة، إلا أن إصابتها بتلف تؤدي
إلى فقدان الذكاء إلى حد كبير أو صغير على حسب مقدار الإصابة،
وَتُسَمَّى هذه المناطق مناطق الربط بين المراكز، وأهم مناطق الربط هذه
اثنتان:
المنطقة الجبهية والمنطقة الصُّدْغية الجدارية، ولقد وصف أحد العلماء
هاتين المنطقتين بقوله: «إن المنطقة الجدارية الصدغية هي خزانة
الذكريات الخاصة بالوعي الناجم عن أحاسيس السمع والبصر واللمس، وتدرج
نموها وتخصصها هو معيار كفايتها لأداء وظيفتها … وأمَّا المنطقة
الجبهية فتتولى شأن الانتباه والتنظيم المحكم للنشاط النفساني الصادر
عن المخ في مجموعه».
فإذا نحن قارنَّا بين مخ الإنسان (شكل
٢-٧) ومخ
القردة (شكل
٢-٨) من هذه الوجهة التشريحية
الفسيولوجية، لوجدنا أن جميع مراكز الحس والحركة موجودة في مخ القردة
كما هي في مخ الإنسان، ما عدا مركز الكلام طبعًا، ولوجدنا أن الأمر ليس
كذلك فيما يتعلق بمناطق الربط، فهي عند القردة أقل رُقعةً بكثيرٍ منها
عن الإنسان، وفعلًا ينسب أكثر التضخم في حجم الدماغ البشري إلى تضخم
مناطق الربط بالذات.
ولا يفوتنا هنا أن نذكر أن تموج سطح القشرة السِّنْجابية على سطح
المخ هو الآخر تعبير عن زيادة كبيرة لا يكشف عنها حجم الدماغ ولا شكله
العام، ولقد وُجد أن التموج على سطح المخ البشري أكثر تعقيدًا مما هو
على سطح المخ عند القردة، ومن الجدير بالذكر في هذا الصدد أن بعض
الباحثين قد يستعين على معرفة حالة التموج على سطح القشرة السِّنْجابية
بفحص داخل الجمجمة أو بفحص قالب مأخوذ عنه، ولكن هذه الطريقة غير
مأمونة لقلة ما تكشف عنه، ولا يبررها أحيانًا إلا أن تكون الجمجمة لنوع
منقرض لا سبيل إلى الحصول على مخه من جديد.
ويستخلص من المقارنات التي قدمناها حتى الآن أن معظم الفروق البدنية
بين الإنسان والقردة العليا يمكن نسبته إلى خاصتين أساسيتين، هما كمال
اعتدال القامة وتضخم الدماغ عند الإنسان، وإلى عهد قريب كانت هاتان
الخاصتان تُعتبران متلازمتين، لا يتمتع بهما أو بإحداهما كائن غير
الإنسان، غير أنه عُثر في السنين الأخيرة على بقايا متحجرة لحيوان يشبه
القردة، ثبت أنه كان يمشي معتدل القامة كالإنسان تمامًا، في حين أن حجم
دماغه كان أقل من نصف حجم دماغ الإنسان، وسيكون هذا الحيوان العجيب
موضوع الفصل التالي.