الفصل الخامس

الشعوب البشرية

من المشاهدات التي لا تخفى على أحد أنه ما من شخصين يتشابهان سَحْنة وبنية إلى حد التطابق التام، ومن الملاحظ أيضًا أن التباين بين الأفراد في هذه الأمور يزداد مداه كلما كبر العدد واتسعت رقعة المشاهدة، ولما كان الجنس البشري الحديث يربو عدده اليوم على ٢٥٠٠ مليون نفس، وهو يسكن جميع أقطار الأرض، فإن هناك رغبة مفهومة في تقسيم سكان العالم من البشر إلى مجموعات، أي إلى شعوب يمكن التمييز بينها على أساس من السَّحْنة والبنية والموطن الجغرافي، ولقد كان قدماء المصريين أول من سجل مثل هذا التقسيم، فميَّزوا بالألوان في رسومهم وتماثيلهم بين ثلاثة شعوب، فخصُّوا أهل الشمال باللون الأبيض وأهل الجنوب باللون الأسود، وخصُّوا أنفسهم باللون الأحمر المُسْمَر، واستمر هذا التقسيم لأمد طويل، ولكن عندما أدخل لينيوس الإنسان في عالم الحيوان كانت أمريكا قد اكتُشفت، فقسم الجنس البشري إلى أربعة شعوب على أساس من لون البشرة إلى جانب الموطن الجغرافي؛ وهي بيض أوروبا وسود أفريقيا وصفر آسيا وحمر أمريكا، ولكن اتضح فيما بعد أن مثل هذه التقسيمات البسيطة لا يمكن أن تشمل الناس جميعًا، ولقد بُذلت محاولات عديدة منذ لينيوس، وظهرت تصنيفات مختلفة ارتفع عدد الشعوب في بعضها إلى تسعة وثلاثين، وعلى الرغم من هذا فلكل تصنيف عيوبه التي تؤخذ عليه، بدليل تكرار المحاولات وعدم الاتفاق على وضع معين، ولكن الصعوبة في تقسيم الجنس البشري إلى شعوب تقسيمًا طبيعيًّا يسمح برد كل فرد من الناس إلى شعب بعينه ترجع في الحقيقة إلى سببين رئيسيين: فأولًا نجد أن التباين بين الأفراد في السَّحْنة والبنية أمر متدرج ومستمر، لا تقطعه أي فواصل خِلقية يُستعان بها في التقسيم، وثانيًا لأن الحواجز الجغرافية لم تمنع قديمًا، ولا هي تمنع الآن، اختلاط الجماعات البشرية بعضها ببعض؛ ولذلك توجد نسبة كبيرة من سكان العالم لا يمكن ردها على أساس من السَّحْنة والبنية إلى مناطق جغرافية ثابتة، كما أن هناك مناطق جغرافية عديدة ذات حدود طبيعية فاصلة، يسكن كلًّا منها أكثرُ من نموذج سَحْني واحد، فلكل هذه الاعتبارات يكون من الواضح أن تقسيم الجنس البشري إلى شعوب لا بدَّ أن يكون تقريبيًّا، وأن يعتمد إلى حد كبير على العرف في اختيار الصفات الصالحة للتمييز، وفي طريقة تقديرها، ولا يسعنا هنا إلا عرض بعض الاعتبارات العامة بهذا الخصوص.

يبدو لأول وهلة أن أية صفة بدنية قد تصلح لغرض التشعيب، ولكن وُجد عمليًّا أن بعض الصفات تفضل البعض الآخر في هذا الشأن، ولكي تكون الصفة أصلح ما تكون، يجب:
  • (١)

    ألا تكون مما يتأثر بالبيئة إلى حد كبير، كتأثُّر القامة بالغذاء مثلًا.

  • (٢)

    ألا تكون مما يتغير مع السن أو يختلف في الذكور عما هو عليه في الإناث.

  • (٣)

    أن تكون مما ينتقل بالوراثة ويمكث على حاله على عدد كافٍ من الأجيال.

ولا يجوز بحالٍ من الأحوال أن يقوم تعريف الشعب على صفة واحدة مهما كانت صلاحيتها، بل يجب الاعتماد على عدد معقول من هذه الصفات، يكون كلها مترابطًا بعضه ببعض، بمعنى أن تغير الواحدة يتبعه تغير الأخرى.

ويجب عند تعريف الشعب أن يؤخذ بعين الاعتبار تركز الصفات البدنية التي يُتفَق على أنها تميز أفراده في منطقة جغرافية معينة؛ لأن من المفروض أن تثبيت الخصائص التشريحية تلزمه العزلة الجغرافية لمدة ما في تاريخ أي شعب، فكل ما لدينا من دلائل يشير إلى أن الزنوج استكملوا خصائصهم التي نعرفهم بها في أفريقيا، وأن المغوليين كانوا معزولين في آسيا، وأن البيض نشئوا على سواحل البحرين الأبيض والأسود.

ولقد وقع اختيار المجربين على الصفات الآتية على أنها صالحة وكافية لتقسيم الجنس البشري إلى شعوب، ويُلاحظ أنها محدودة العدد، وذلك لأنه كلما كبر العدد أدى ذلك إلى زيادة عدد الشعوب إلى درجة تنقض الغرض الأساسي من عملية التقسيم، وهذه الصفات هي لون الجلد ولون قزحية العين وهيئة الجفن العلوي وشكل الأنف وشكل الشفتين وخصائص الشعر وشكل الرأس وطول القامة وفصائل الدم، ويُلاحظ أن بعضها قابل للقياس وبعضها يُقدَّر إمَّا بالعين المجردة وإمَّا بالمقارنة إلى نماذج عرفية متفق عليه، كما يُلاحظ أن بعضها خاص بالأجزاء الطرية وحدها من الجسم؛ ولذا لا تصلح إلا بالمقارنة بين الأحياء، وأن بعضها الآخر يمكن تقديره على الجسم الحي وعلى الهيكل على السواء.

ولعل لون الجلد أو البشرة هو أول صفة تستلفت النظر عند المقارنة بين المجموعات البشرية، ولقد كانت الأساس في كثير من التصنيفات، ولكن ثبت أن توزيعها الجغرافي معقَّد، إذ بينما نجد أن أكثر الشعوب السوداء يقطن المناطق الحارة من العالم، فإننا نجد أيضًا في نفس المناطق شعوبًا أفتح لونًا، وبينما نجد أن الشعوب السمراء تسكن في المناطق المعتدلة، فإننا نجد بجانبها مجموعات لا تقل سوادًا عن الزنوج القح. ومن الجدير بالذكر في هذا الصدد أن سكان أمريكا الأصليين كانوا كلهم عند اكتشاف بلادهم من لون واحد تقريبًا، سواء منهم الساكن على خط الاستواء والساكن في المناطق المعتدلة والباردة، وكل هذا يدلُّ على كل حال على أن لون البشرة يُورَّث ولا يُكتسَب، وإن يكن قد يتأثَّر إلى حدٍّ ما بالبيئة.

وأمَّا لون قزحية العين فهو قليل القيمة إلا في تمييز بعض الشعوب البيضاء عن بعض. كذلك الثنية التي توجد بالجفن العلوي، فهي لا توجد إلا في المغول الشماليين وبعض سكان الأدغال (البشمان) في أفريقيا.

وشكَّل الأنف صفة مفيدة في تمييز الشعوب، فالقَنا والفَطَس مظهران واضحان، وكذلك مقاييس الأنف تُستعمل في الدراسات الإحصائية، وأكثرها دلالة ما يُسمَّى بالمعامل الأنفي، ويُحصَل عليه هكذا:

عرض الأنف/طول الأنف × ١٠٠، وبمقتضاه تُقسَّم الأنوف إلى عريضة إذا كان المعامل أكثر من ٨٥، ومتوسطة إذا كان بين ٧٠ و٨٠، وضيقة إذا كان أقل من ٧٠، وهذه الأرقام تخص الأحياء، ويظهر أن هناك ترابطًا بين سَعة الأنف والبيئة، فمن الملاحظ أن سكان المناطق الاستوائية لهم أنوف عريضة واسعة لتوافق الجو الحار الرطب، في حين أن سكان المناطق الباردة لهم أنوف ضيقة لكي تحد من تدفق الهواء، وبذلك يُدْفَأ قبل دخوله إلى الرئتين.

وشكل الشفتين هو الآخَر صفة مفيدة، وإن تكن محدودة القيمة، إذ هي لا تُميز إلا الزنوج، فهم شفاههم متضخمة ومنقلبة إلى الخارج، في حين أن غيرهم من الناس شفاههم دقيقة غير منقلبة.

وأمَّا شكل الرأس في مجال التمييز بين الشعوب فهو صفة لا بأس بها، ومن الممكن التعبير عنه حسابيًّا كمعامل الأنف، ويُحصَل عليه بنفس الطريقة، أي:

عرض الرأس/طول الرأس × ١٠٠، وبمقتضى هذا المعامل يُوصف الرأس بأنه عريض إذا هو تجاوز ٨٠، ويُوصف بالمتوسط إذا كان المعامل بين ٧٥ و٨٠، ويُوصف بأنه طويل إذا كان أقل من ٧٥، ومن المُلاحظ في صدد هذا التقسيم أن الرءوس الحديثة تميل بصفة عامة إلى زيادة العرض بالنسبة لما كان عليه شكل الرأس في عصور ما قبل التاريخ؛ ولذلك يجب استعماله بحذر عند المقارنة بين الجماجم القديمة والحديثة، ويرى بعض العلماء أن زيادة عرض الرأس وميلها إلى التكور يرجع إلى أن الإنسان ما زال يستكمل اعتدال قامته، وهو وضع يتفق معه الرأس المُكَوَّر أكثر من الرأس المستطيل، وعلى كل حال فإن المعامل الرأسي أخذ يفقِد بعض قيمته؛ لأنه قد لوحظ في كثيرٍ من الأحوال أنه لا يُورَّث حتمًا، فقد يكون الوالدان عريضَي الرأس ويلدان أطفالًا ذوي رءوس طويلة، وبالعكس.

ويُفيد طول القامة في تمييز الشعوب في أحوال قليلة فقط؛ لأن مدى تغيره واسع حتى في أكثر الجماعات عزلة؛ ولذلك لا يمكن الاعتماد عليه إلا بحذر، لا سيَّما أنه كذلك يتأثر بالبيئة والغذاء، فقد ثبت أن بعض جماعات اليابان ازداد متوسط القامة عندهم بعدما تحسنت ظروفهم المعيشية، ويُظَن أيضًا أن هناك ترابطًا بين الطول الفارع في جماعات الدنكا والشلوك عند أعالي النيل وبين ما يقتاتون به من أطعمة فقيرة في بعض المواد.

ويبقى من المظاهر البدنية التي يُعتمَد عليها في تمييز الشعوب خصائص الشعر، فهو قد يكون مستقيمًا أو متموِّجًا أو أكرت ملتويًا، وانتشار الشعر على الجسم وكثافته يتغيران كذلك من شعب إلى شعب، فقد يكون كثًّا أو متوسط الانتشار أو خفيفًا، وقد يكون كثيفًا في مواضع معينة من الجسم وخفيفًا في غيرها، ولقد تبين أن هذه الصفات تُورَّث كما هي ولا تتأثر بالغذاء، ولا بالبيئة ولا بالجنس (أي الذكورة والأنوثة).

كانت هذه الخصائص التي قدمناها هي التي وقع عليها اختيار جمهور المجربين على اعتبار أنها صالحة وكافية — لو أنها استعملت جماعة لا فرادى — للتمييز بين الجماعات والشعوب البشرية، وكلها كما هو واضح مظاهر تشريحية قد يكون كل منها مفيدًا في أحوال معينة، وليس منها ما يفيد في جميع الأحوال، وكان من جراء هذا النقص الذي لا يُنكر في المظاهر التشريحية لغرض تعيين الشعوب البشرية أن تَطلَّع العلماء إلى عوامل غير تشريحية قد تكون أوفى بالغرض المطلوب وأدعى للاطمئنان، ولقد انعقد الأمل بتوزيع فصائل الدم بين الناس، وإنما يلزم هنا أن نوضح أولًا ما هي فصائل الدم.

توجد في جميع سوائل الجسم، سواء كانت في الدم أو في الأنسجة، مواد كيماوية تتفاعل على صورة مخصوصة مع دم الأشخاص الآخرين، فعندما يُضاف إليها هذا الدم الآخر فإن خلاياه الحمر تتلازن، أي تتلاصق وتتكتل، وقد وُجد أن هذا التفاعل يحدث على أربع صور ليس إلا، واعتمادًا على ذلك قُسِّمت دماء الناس إلى أربع فصائل، يختص كل منها بتفاعل واحد، وسُمِّيَت هذه الفصائل الأربعة: و، أ، ب، أب، وقد لُوحظ أن فصيلة الدم عند شخص ما ثابتة على مدى حياته، ويُورِّثها الوالدان لأبنائهما وبناتهما بطريقة ثابتة، وهي لا تتأثر بالغذاء ولا بالبنية، وإن كان من الممكن أن تتغير بالطفرة، أي بحدث يصيب جينات الخلايا الجرثومية، وينتقل عن طريقها إلى الجيل التالي.

وهذه الفصائل الأربعة موزَّعة بنسب مختلفة في كل مجموعة كبيرة من الناس، ولقد أوجد هذا الاختلاف في التوزيع أملًا كبيرًا في صلاحية فصائل الدم لتعيين الشعوب البشرية، ولكن وُجد مع الأسف أن توزيع فصائل الدم لا يمتُّ بصلة للموقع الجغرافي، فقد وُجدت نفس النسب في مناطق بعيد بعضها عن بعض، كما أنه وُجد أن أصحاب الفصيلة الدموية الواحدة لا يربط بينهم أي تشابه في السَّحْنة أو البنية، إذ منهم الأسود والأبيض والقصير، ولقد أدَّت هذه الحقائق إلى خيبة الأمل في فصائل الدم كعامل حاسم في تصنيف الشعوب البشرية، وأصبح كل ما تؤدي إليه دراستها لا يعدو أن يكون توجيهًا إلى احتمال بعيد لهجرة بعض القبائل في اتجاه معين، أو أن يكون تعضيدًا إضافيًّا لم يكشف عنه توزيع الصفات البدنية المعلومة، ومن الجدير بالذكر في هذا المقام أن فصائل الدم الأربعة المذكورة قد ثبت وجودها جميعًا في القردة العليا.

fig20
شكل ٥-١: خريطة العالم القديم. مواقع الشعوب البشرية الكبرى.
fig21
شكل ٥-٢: جمجمة من الشعب النوردي.
fig22
شكل ٥-٣: جمجمة من الشعب الألبي.
fig23
شكل ٥-٤: جمجمة من الشعب الألبي.
fig24
شكل ٥-٥: جمجمة مصرية نموذج للشعب الأسمر.
والآن، فلنقدم تصنيفًا للشعوب البشرية التي تعمر العالم في الوقت الحاضر (شكل ٥-١)، ولقد اخترنا تصنيفًا يقسم الناس إلى ستة شعوب، لبعضها فروع؛ لأن مثل هذا العدد لا يعد تغاليًا في التقسيم، ويشمل في الوقت نفسه كل المجموعات البشرية الكبرى منسوبة إلى مواطن جغرافية معلومة، وهذه الشعوب هي:
  • (١)
    الشعب القوقازي، وهو أوسع الشعوب انتشارًا على سطح الأرض، يغلب على البشرة فيه اللون الأبيض؛ ولذلك يحلو للبعض تسميته بالشعب الأبيض، ولكن هذا خطأ؛ لأن لون البشرة يتفاوت في هذا الشعب من الأشقر إلى الأسمر، وكذلك يتراوح فيه طول القامة والمعامل الرأسي على مدًى واسع؛ ولذلك فهو يُقسَّم إلى فروع:
    • (أ)
      النوردي (شكل ٥-٢) وهو مُركَّز في شمال غربي أوروبا، ويغلب فيه اللون الأبيض والأشقر، والشعر الأشقر المستقيم أو المتموج، والعيون الزرقاء، والأنف الضيق الأقنى، ومعامل الرأس وطول القامة فيه متوسطان.
    • (ب)
      الشعب الألبي (شكل ٥-٣ و٥-٤) ويُنسب إليه الشعب الأرمني أيضًا، وهو يقطن المناطق الجبلية في أواسط أوروبا وجنوبها الشرقي وعلى جوانب بحر قزوين في آسيا، ويغلب فيه اللون الزيتوني، والشعر الكستنائي أو الأسود الكثيف، والرأس المكور، والأنف الضيق المرتفع، والعيون العسلية، والقامة المتوسطة.
    • (جـ)
      الشعب الأسمر (شكل ٥-٥) وهو منتشر على سواحل البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، وإلى الشرق منها في جنوب آسيا على المحيط الهندي، ويغلب فيه اللون الزيتوني والأسمر، والشعر المتموج، والرأس الطويل، والعيون العسلية والسوداء، والقامة المعتدلة والبنية الرقيقة.
  • (٢)
    الشعب المغولي (شكل ٥-٦ و٥-٧)، ويلي الشعب القوقازي في كثرة العدد، وهو مُركَّز في شمال آسيا ووسطها، ويتفاوت لون البشرة من بُرُنزي إلى أصفر، والشعر خفيف أسود مستقيم، والوجه مسطح، والخدود عالية، والعيون ضيقة سوداء، وفي الجماعات الشمالية منه تُوجد ثنية الجَفن العلوي، والأنف عريض، ولكنه غير أفطس، والقامة قصيرة؛ ولهذا الشعب فروع تتميز كلها عن النموذج السابق وصفه باختفاء الثنية الجفنية وببروز الأنف شيئًا ما.
    fig25
    شكل ٥-٦: جمجمة من الشعب المغولي.
    fig26
    شكل ٥-٧: جمجمة من الشعب المغولي.
    • (أ)

      المغول الشرقيون، ويسكنون الصين الشمالية وكوريا واليابان شمالًا، ويسكنون التبت والملايا وإندونيسيا جنوبًا.

    • (ب)

      الهنود الحمر، وهم سكان أمريكا الأصليين قبل كشفها، ويُظنُّ أنهم دخلوها من آسيا عن طريق بوغاز بيرنج في أقصى الشمال من المحيط الهادي، ومما يُلاحظ عليهم أن سكان أمريكا الشمالية منهم أقرب سَحْنة إلى المغول الأصليين من سكان أمريكا الوسطى وأمريكا الجنوبية، ويتميز الهنود الحمر عن المغول بالأنف الأقنى.

    • (جـ)

      التركمان، وهم أقوام تقطن آسيا الوسطى فيما بين القوقاز والصين؛ ولذلك نجد سَحْنتهم وسطًا بين الشعب القوقازي والشعب المغولي.

  • (٣)
    الشعب الزنجي (شكل ٥-٨)، ويتميز بسواد البشرة وفَطَس الأنف، وبروز الوجه والتواء الشعر، وله فرعان هما:
    • (أ)

      فرع زنوج أفريقيا، وهو أكثر الزنوج عددًا، إذ يُقدَّر بنحو مائة مليون نفس، وهو منتشر في أفريقيا كلها ما عدا شمالها وشمالها الشرقي المُطل على البحر الأحمر والمحيط الهندي، ويتميز هؤلاء القوم بالشعر الملتوي الخفيف الانتشار، وبالأنف العريض السميك الأفطس، وبالشفاه السميكة المقلوبة، وبالوجه الضيق البارز، والعيون السود، وبالرأس المستطيل، ويتراوح لون البشرة بين الأسود الحالك والأسود المشرب بالحمرة.

      fig27
      شكل ٥-٨: جمجمة زنجية.
    • (ب)

      فرع زنوج جنوب الهادي، وهم يشبهون زنوج أفريقيا، ولا يدعو للفصل بينهما سوى بُعد المواطن.

  • (٤)
    الأقزام: وميزتهم الخاصة أن متوسط القامة فيهم لا يزيد على متر ونصف، وقد يكون في بعض جماعاتهم ١٢٠سم فقط، ولهم ثلاثة فروع متباعدة المواطن، وهي:
    • (أ)

      أقزام أفريقيا الوسطى، ويُقدَّر عددهم بنحو ١٠٠٠٠٠، ويقطنون ما بين منابع النيل والكونغو الجنوبية، وهم أخفُّ سوادًا من جيرانهم زنوج أفريقيا.

    • (ب)

      سكان الأدغال (البشمان)، وقد كانوا منتشرين في النصف الجنوبي من أفريقيا إلى أن دخله المستعمرون الأوروبيون، فعملوا على إبادة السكان الأصليين، وأخيرًا عزلوا من بقي منهم في صحراء كلاهاري، ويُقدَّر عددهم بنحو ٢٠٠٠٠ على ما يُقال، وهؤلاء الناس يتميزون بوجود الثنية في الجَفن العلوي، وهي التي لا توجد إلا في المغول الأصليين في شمال آسيا، حيث الجو القارس البرد والرياح الشديدة، ويتميزون كذلك بتراكم الشحم على الأَلْيتَين، ومن لطيف ما يذكر بهذه المناسبة أن هناك رسمًا مصريًّا قديمًا يمثل ملك بلد أفريقي (قد يكون بلاد الصومال) يُقدِّم زوجته الملكة إلى سفراء حتشبسوت ملكة مصر لذلك الوقت في عهد الأسرة الثامنة عشرة، ويُبين الرسم بوضوح تراكم الشحم على أَلْيتَي الملكة الزنجية.

    • (جـ)

      أقزام الشرق الأقصى، وهم منتشرون في بلاد الملايو وإندونيسيا وغينيا الجديدة والفلبين، وهم سود وشعرهم خفيف الانتشار، ولكنه غير ملتوٍ كشعر زنوج أفريقيا، ويسكن هؤلاء الأقزام جزر أندمان بخليج البنغال، وقد أخافوا «ماركوبولو» أحد الرحَّالة القدامى في أواخر القرن الثامن عشر، فوصفهم بقوله: «إنهم كالوحوش الكاسرة، ووجوههم تشبه وجوه الكلاب العريضة الفم.»

  • (٥)
    شعب أستراليا الأصلي (شكل ٥-٩): ويُقدَّر في الوقت الحاضر بنحو ٥٠٠٠٠ نفس، وهم سود حالكو السواد، وشعرهم كثيف متموج، ويتميَّزون ببروز قاعدة الجبهة فوق الأنف، وبطول الذراعين والساقين، وبالأنف العريض، والرأس الضيق المستطيل.
    fig28
    شكل ٥-٩: جمجمة الأستراليين الأصليين.
  • (٦)

    شعب أينو: ويقطن في جزر اليابان الشمالية، ويُقدَّر عدده بنحو ١٠٠٠٠ شخص، وهم أقرب إلى البياض منهم إلى الاصفرار، وشعرهم أكثف منه في أي شعب آخر، وهو متموج وليس مستقيمًا كشعر جيرانهم المغول، كما أن شفاههم أرق.

هذه هي الشعوب البشرية، اعتمدنا في تصنيفها على مبدأ الموازنة بين التشابه والتباين في الجماعات المختلفة، من حيث صفات بدنية معينة انتُخبت لوضوح دلالتها، ولأن تكاثفها يقع في حدود جغرافية ثابتة، وهذه هي الطريقة نفسها التي تطبق في علوم الأحياء بصفة عامة عند تقسيم أي نوع بيولوجي غير النوع البشري، ولسنا ندَّعي أن تصنيفنا الذي قدَّمناه بلغ حد الكمال، أو أنه أفضل من غيره مما يكون قد أُعِدَّ بنفس الطريقة العلمية الخالية من التحيز، وقد بيَّنا من قبل أن السبب في عدم كفاية أي تصنيف هو تعقد الموضوع، وقصور أدواتنا ومعلوماتنا الحالية عن إيجاد معايير أكثر صلاحية لقياس وتعليل الفروق الحيوية بين الأفراد أو بين الجماعات.

ولقد كان لهذا القصور آثار سيئة عندما انتقل استعمال كلمة شعب إلى ميادين الاجتماع والسياسة، فقد حملت هذه الكلمة كثرة من المعاني حتى كادت تصبح لا معنى لها، وهذا لأنه بدأ يدخل في تعريف الشعب البشري عوامل غير بدنية، أي غير طبيعية كالتاريخ والثقافة، مما فتح الباب للربط بين التاريخ والثقافة من جهة وبين شكل الرأس ولون البشرة من جهة أخرى، ومن ثَمَّ فتح الباب لدخول التحيز في تصنيف الشعوب، فكل باحث ما هو إلا إنسان لرأسه شكل معين ولبشرته لون معين، كما أن له ولقومه تاريخًا وثقافةً.

فمن أمثلة سوء استعمال كلمة شعب أن يتحدث البعض عن شعوب سامية وحامية، ويكفي تعليقًا على مثل هذا الاستعمال أن أصحابه لا يقدمون لنا صِوَرًا من حام أو سام أو يافث أبناء نوح، ولا صورًا لزوجاتهم؛ حتى يمكن المقارنة بين هذه الصور وبين ذرية أصحابها فيما يزعمون.

ومن هذا النحو أيضًا أن يتكلم آخرون عن شعب آري ينسبون إليه الكثير من التفوق والجلال، هذا مع أن القول بشعب آري كان اختراعًا، وكان للاختراع قصة، فيُقال عن أصله إن مستشرِقًا إنجليزيًّا يُدعى سير وليم جونز (١٧٨٦) اكتشف صلة قرابة بين اللغات اللاتينية والإغريقية والألمانية والسنسكريتية، وقفز إلى استنتاج وجود صلة رحم بين جميع أصحاب هذه اللغات ما دامت بينهم هذه الصلات اللغوية، وهذا بالطبع استنتاج ليس له ما يبرره؛ لأن اللغة أمر يمكن اكتسابه بصرف النظر عن رابطة الدم، ولكن جاء بعد جونز عالم آخر يُدعى ماكس ميللر في القرن التاسع عشر، فزاد الطين بِلَّة، إذ زعم أن الآباء الأولين للهنود وجميع الأوروبيين الذين يتحدثون تلك اللغات كانوا يعيشون في أرض آريانا بأواسط آسيا، ثمَّ هاجروا من هناك متجهين بعضهم إلى الجنوب وبعضهم إلى الغرب، حاملين معهم ليس لغتهم فقط، بل حاملين أيضًا حضارة ميكانيكية فاخرة، من بين مظاهرها العربات ذات العجلات، وكان لكلام ماكس ميللر عندما قاله تأثير كبير في أوساط أوروبا، ونُوقش جديًّا في المحافل المختلفة، وبدأ البحث عن سند للهجرة الثقافية التي زعمها، ولكن لم يُعثر على مثل هذا السند حتى الآن، ومن طريف ما يُحكى بشأن هذا الموضوع أن ماكس ميللر نفسه شعر بوخز الضمير بسبب قولته على ما يظهر، فكتب في عام ١٨٨٨ يقول: «يلوح لي أن الحديث عن شعوب آرية ودم آري لا يقل خطيئة عن الكلام عن قاموس طويل الرأس وأجرومية عريضة الرأس.»

ولا يقل إن لم يزد سوءًا عن الكلام عن شعوب لغوية أن يُتحدث عن شعوب دينية، كما يفعل اليهود حين يسمُّون أنفسهم شعب الله المختار، وحين يدَّعون أن جميع يهود العالم من نسل رجل واحد هو إسرائيل، ولقد تبع اليهود كثيرٌ من كُتَّاب أوروبا وأمريكا، فيتحدثون عن شعب يهودي، وليس أدل على جهل القائلين بأن اليهود شعب أو أدل على سوء قصدهم من أنهم لا يذكرون ولا يعرفون أن هناك يهودًا من كل سَحْنة وكل لون، فمنهم الأحباش والهنود والصينيون والأوروبيون واليمنيون، ولا يجمع بين كل هؤلاء إلا الدين اليهودي، إذ إن كل طائفة من هؤلاء لا يمكن تمييز أفرادها على أساس من السَّحْنة أو البنية عن أبناء البلاد التي يعيشون فيها ممن ليست اليهودية دينهم، فيهود الهند والحبشة لونهم بُرُنزي، ويهود الصين صُفر وعيونهم ضيقة كأي صيني صميم، ويهود اليمن ومصر سمر، ويهود مراكش وأوروبا بيض، وهكذا. فأين هذا التباين في الصفات البدنية من دعوى وحدة الأب التي يدَّعونها مع وحدة الدين؟ ولقد دُرس يهود أوروبا عن كثب فتبين أنهم فريقان رئيسيان، واحد كان إلى عهد قريب مركَّزًا في جنوب أوروبا الغربي في الأندلس وإيطاليا، والآخر كان مُركَّزًا في ألمانيا وبولندا وروسيا، فأمَّا أبناء الفريق الأول فيُشبهون الإسبان والطليان ونطبق عليهم أوصاف الشعب الأسمر الذي يقطن حوض البحر الأبيض المتوسط، فالشعر أسود متموج، والعيون سوداء أو عسلية، والرأس مستطيل، وأمَّا أبناء الفريق الثاني فهم كجيرانهم بيض البشرة، والعيون إمَّا زرقاء وإمَّا رمادية، ورءوسهم تميل إلى العرض والتكور، أي أنهم يختلفون جد الاختلاف عن يهود الجنوب في إسبانيا أو إسطنبول، وصحيح أن هذا الفريق الثاني يشيع فيه تشمُّع الجلد الذي يبدو كأنه لا حياة فيه، كما يشيع فيه الأنف المعقوف، ولقد كان هذا النوع من الأنف يُعد صفة خاصة باليهود دون غيرهم، ولكن ثبت أنه لا ارتباط بين الدين اليهودي والأنف المعقوف، وأن شيوع بعض الصفات الخاصة بين يهود شمال شرقي أوروبا إنما يرجع إلى العزلة لمدة طويلة وما أدت إليه من تزاوج منحصر في طائفة قليلة، إذ إن هذه الطائفة من اليهود حبست نفسها أو حبسها جيرانها منذ القرن الثاني عشر بعد الميلاد في أحياء معينة من المدن لا يتعدونها، ولعل هذه العزلة التي فرضت على هذه الطائفة من اليهود في شمال شرقي أوروبا، والاضطهاد الذي عانته الطائفة الأخرى من الجنوب الغربي في نفس القارة، لعل هذا كله كان هو أيضًا العامل على اكتساب اليهود بعض الصفات الاجتماعية التي اشتُهروا بها، فقد تخصصوا في مهن معينة مثل المعاملة بالربا ودراسة القانون والتجارة في الكماليات، وكلها حِرَف لا تدعو إلى الاختلاط بعامة الناس، إنما تقصر التعامل على أن يكون مع طبقة الأثرياء والحُكَّام؛ ولذلك أتقن اليهود فن المداهنة، وانطبعت فيهم الذِّلَّة والمسكنة أمام السلطان، وأكل الحقد على غيرهم من الناس أفئدتهم، فزادوا تعصُّبًا لدينهم وحرصًا على جمع المال من أي سبيل، حتى أصبح هذا يُعدُّ من خصائصهم التي يُوسمون بها دون أن تكون راجعة إلى أي تخصص في تكوين أبدانهم.

ومن الأغلاط الشائعة فيما يتصل بموضوع الشعوب البشرية ما يُقال عن شعوب نقية وأخرى هجين، وما يُقال عن شعوب راقية وأخرى منحطة، وإلباس كل هذا ثوب العلم، وهذه الأمور يتداخل بعضها في بعض، وكلها متصل بعلم الوراثة. فأمَّا النقاء فله في هذا العلم معنى محدود يتعلق بالجينات، وهي عوامل كامنة في جسم الفرد، وهي المسئولة بنشاطها وتعاونها عما له من صفات ظاهرة كلون الجلد وشكل الأنف … إلخ، وتنتقل هذه الجينات بالوراثة عن طريق الخلايا الجرثومية، ولكن انتقالها من جيل إلى جيل يخضع لقوانين مُعقَّدة، كما أن وراثة أية صفة من الصفات يحكمها ويُنظمها قانون خاص بها، وما زال علم الوراثة في دور الطفولة؛ ولذلك فهو جذاب، ولكن جهده ما زال قليلًا، وخاصَّة فيما يتعلق بوراثة الصفات البشرية؛ ولذلك فهو مُعرَّض للتجني ولتقلبات الأهواء، فمن المعروف مثلًا أن بعض الصفات البشرية كطول القامة ينتقل بالوراثة تبعًا لقانون خاص، ومع ذلك نجد أحيانًا أن زوجين طويلين يُنتجان ذرية كل أفرادها طويل، وفي أحيان أخرى نجد أن زوجين طويلين يُنتجان ذرية بعض أفرادها طويل وبعضها متوسط وبعضها قصير، وفي مثل هذه المواقف يُقال إن طول الزوجين في الحالة الأولى كان نقيًّا، وفي الحالة الثانية كان غير نقي، فالنقاء ينصبُّ على صفة بذاتها، ولا شأن له بالفرد بله الشعب الذي يتبعه الفرد.

وتتضح الصعوبة إن لم تكن الاستحالة في معرفة النقي من غير النقي من الصفات لفرد واحد إذا عُلم أن عدد الجينات التي تحملها الخلية الجرثومية الواحدة يبلغ آلافًا عديدةً، فكم يكون إذن عدد التباديل والتوافيق التي يمكن تأليفها عند امتزاج خليتين جرثوميتين، واحدة عن الأب والأخرى عن الأم؟ إن هذا العدد يكاد بالطبع لا يُحصى، وعلاوة على هذا فإن نشاط الجينات يتأثر بالبيئة وبالطفرة أثناء توارثها، وكل ما في الأمر هو أن بعض الصفات يتغير أو يتبدل نشاط جيناتها بسرعة، في حين أن نشاط الجينات الخاصة بصفة أخرى لا يتبدل ولا يتغير إلا ببطء وعلى أجيال عديدة، فيبدو لنا أنها ثابتة وما هي بثابتة، فلكل هذه الاعتبارات يمكن القول باختصار بأنه يكاد يكون من المستحيل أن يتكرر الفرد، وبالتالي لا يمكن القول بأن الشعوب ثابتة لا تقبل التغيير؛ وعلى ذلك أين يكون الشعب النقي؟ هذا شيء لم يُوجد ولن يُوجد.

وأمَّا التهجين بين الجماعات فأمر شائع بين الحيوانات، ويصطنعه الإنسان مع الحيوانات المستأنَسة؛ لتحسين النسل وإنماء بعض الصفات التي يستهدف إنماءها لأغراضه الخاصة، وتدل تجارب التهجين على أن نتائجه لا تكون دائمًا على وتيرة واحدة، فقد تنجح التجارب ويكون النتاج الهجين خيرًا من أبويه، وقد تفشل ويكون النتاج أسوأ من أبويه، والتهجين بين الشعوب البشرية يحدث كل يوم، ولا بدَّ أنه كان يحدث في الماضي، وسيحدث في المستقبل، وهو دائمًا خصب، غير أن كثيرًا من الناس يميل إلى تجنب التهجين مع من ليس من شعوبهم أو سلالاتهم، ويُبررون هذا بما ظهر من النتائج في بعض تجارب التهجين بين الحيوانات، ولكن لم يثبت إلى الآن أن للتهجين بين الشعوب البشرية مهما اختلفت لونًا وموطنًا أية مضار خاصة به، وأن نتائجه تخضع لقوانين الوراثة بصفة عامة، ويظهر أن كراهة التهجين ترجع في الحقيقة إلى عوامل نفسية.

وأمَّا فيما يُقال عن وجود شعوب راقية وأخرى منحطة، فيجب أن نذكر أوَّلًا أنه لا يقول بمثل هذا إلا أولئك الذي يدَّعون لأنفسهم رُقيًّا ليس لغيرهم، وما كان لنا أن ندخل مع هؤلاء في جدل يكون ولا شك عقيمًا، غير أن الأمر لا يقف عند حد الادِّعاء المذكور، وإنما يتخطاه إلى ادِّعاء أقبح، هو أن بين المَلَكات العقلية والمظاهر البدنية ترابُطًا طبيعيًّا أو وراثيًّا، فيدَّعي أبناء الشعب النوردي مثلًا ومركزهم في الركن الشمالي الغربي من أوروبا أنهم خالقو الحضارة، وأنهم أرقى الشعوب طُرًّا بما في ذلك جيرانهم من أبناء الشعب الألبي الذي يتركز في أواسط أوروبا، ويدَّعي عامة البيض من أهل أوروبا أنهم أرقى من الملونين في آسيا وأفريقيا، حتى لقد تساءل واحدٌ منهم، وهو فرنسي يُدعى الكونت جوبينو في كتاب له بعنوان «عدم التساوي بين الشعوب البشرية»، نعم تساءل جوبينو عن الزنوج: هل شملتهم التوراة عند ذكر الإنسان؟ وهل هم من سلالة غير سلالة آدم؟ ولكيلا نُتَّهم بالتحيُّز الذي نعيبه على غيرنا، فإننا نترك الرد على مثل هذه المزاعم لبعض العلماء من أولئك البيض أنفسهم.

يذكر «وايدنريخ» عن عالم نفساني كبير يُدعى أرنست كرتشر قوله: «إن الحضارة العالية في أبرز مظاهرها لم تظهر في دائرة الشعب النوردي إلا حيث تعرض هذا الشعب لاختلاط شديد بشعوب أخرى … ومن جهة أخرى فمن المؤكد أن المناطق التي تسكنها سلالات نوردية خالصة فقيرة نسبيًّا في العبقرية والإنتاج الحضاري، إذ إن أكثر الحضارات الأوروبية تقدُّمًا لم تكن مراكزها الروحية في اسكنديناوه وعلى سواحل ألمانيا الشمالية ولا في اسكتلندا، وإنما كانت دائمًا مناطق حدث فيها اختلاط بين الشعوب.»

ويقول «مانتشب هوايت» — وهو إنجليزي — بعد أن ذكر أن المصريين القدماء «أصحاب الحضارة الأولى في العالم» يدخل في تكوينهم عناصر من عدة أقوام أفريقيين، يقول هوايت: «إن في هذا الأصل الهجين لأصحاب هذه الحضارة التي لا تفوقها حضارة لشهادة كافية على ما ينطوي عليه الوهم بانفراد شعب واحد بالتفوق من خطأ»، وفي مكان آخر يقول هوايت نفسه: «إنه لمن المشروع أن نقول إن الرخاء الطويل الأمد الذي تمتعت به مصر القديمة يرجع إلى حد ليس بالضئيل إلى التسامح المصري التقليدي في أمور الشعوب والأديان».

ويقول «بواس» — وهو أمريكي: «لو أن الإغريق القدماء أو من سبقهم من المصريين والصينيين كانوا لجئوا إلى القول بانحطاط شعوب وتفوق آخرين لصنفوا الأوروبيين الشماليين بين الشعوب المنحطة، وقالوا إنهم غير أهل لأي تفوق حضاري.»

وخلاصة القول في هذا الشأن أنه لم يقم أي دليل على احتكار التفوق في شعب من الشعوب، وأن الحضارات لا يبتدعها شعب مُعيَّن، وأن الكفاءة الذهنية متوفرة في جميع الشعوب على السواء، تنتظر الظروف الملائمة للإعلان عن وجودها، وإنما الأيام دُوَل.

ولا يسعنا قبل ختام هذا الفصل إلا أن نشير إلى أن إقحام المواهب العقلية على موضوع تصنيف الشعوب كان ذا أثر بالغ السوء بين شعوب أوروبا بعضهم وبعض، وبينهم جميعًا من جهة وبين شعوب آسيا وأفريقيا من جهة أخرى، إذ إنه أفسد العلاقات ليس بين الأفراد فحسب، ولكن بين الدول أيضًا، مما حدا بهيئة الأمم المتحدة إلى أن تعهد إلى بعض العلماء بمراجعة الموضوع برمته وإبداء رأيهم فيه، فأصدر هؤلاء العلماء بيانًا منذ بضع سنوات بيَّنوا فيه ما يُحيط بموضوع تصنيف الشعوب من تعقيد، وانتهوا إلى أن الجنس البشري لا يمكن تشعيبه على الطريقة المعروفة في علوم الأحياء، ولكننا نظن أن هذا الرأي مبالغ فيه، ونتفق مع وايدنريخ في قوله: «مثل هذا الرأي يطيح بالطيب مع الخبيث، وليس بوسع أحد أن يزيح جانبًا مشكلة بأكملها؛ لأن تطبيق الوسائل المألوفة ضل الطريق أو لأن البعض أساء استعمال ما أسفر عنه ذلك من نتائج في أغراض غير علمية.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤