الفصل السادس
بين العقل والجسم
ذكرنا في الفصل السابق كيف يميل كثيرٌ من الناس — وخاصة في أوروبا
وبينهم بعض الكُتَّاب — إلى أن يربطوا بين التفوق الحضاري الذي تتمتع
به بلادهم في الوقت الحاضر وبين بياض جلودهم، ويجعلون من هذه الحقيقة
قانونًا يحكمون به على بعض الشعوب بأنها مفطورة على التقدم والرقي،
وعلى بعضها الآخر بأنها مقضي عليها بالتأخر والانحطاط الذي لا نجاة
منه، ولقد بيَّنا ما في مثل هذه الأحكام من بعد عن العدل والصواب،
وهناك نوع آخر من مثل هذا الميل إلى الربط بين المظاهر العقلية
والمظاهر البدنية، فكثيرون ومنهم بعض العلماء يحبون أن يروا ترابُطًا
بين الذكاء وبين حجم الجمجمة وشكلها معتمدين في هذا على ما بين الدماغ
وهو مستودع الذكاء وبين الجمجمة من صلة قريبة؛ لهذا رأينا أن نفرد
فضلًا لمناقشة هذا الموضوع الطريف بشيء من التفصيل.
رأينا فيما سبق أن حجم دماغ الإنسان يبلغ نحو ثلاثة أضعاف متوسط حجم
الدماغ عند القردة العليا، إذ إن الأول يبلغ نحو
١٣٥٠سم٣، والثاني
٤٥٠سم٣، وفعلًا فإن دماغ الإنسان أكبر
دماغ على الإطلاق في رتبة الثدييات الرئيسية، ولكن ليس معنى هذا أنه
أكبر دماغ في عالم الحيوان، فدماغ الفيل يفوقه حجمًا بنحو خمسة أضعاف،
ودماغ الحوت يفوقه بنحو عشرة أضعاف، ولكن دلالة هذه النسب قد لا تتفق
تمامًا وأرقامها؛ لأن هناك ترابُطًا قويًّا بين وزن الدماغ ووزن الجسم،
فمراعاة لهذا الاعتبار يُفضل مقارنة النسب بين وزن الدماغ ووزن الجسم
في النوع الحيواني الواحد، وهذه النسب الجديدة هي: في الإنسان ١ : ٤٦،
وفي القردة العليا نحو ١ : ١٨٠، وفي الفيل ١ : ٦٠٠، وفي الحوت
١ : ٨٠٠٠، وتدل هذه الأرقام على أن الإنسان يفوق بكثير كل هذه
الحيوانات من هذه الناحية النسبية، ولكن لمرة أخرى وُجد أن هناك قردًا
صغيرًا يسكن أمريكا الجنوبية تبلغ النسبة بين دماغه وجسمه ١ : ١٨، فهو
إذن يفوق الإنسان كثيرًا في هذه الناحية نفسها، فمن هذه المقارنات
يتبين أنه لا الوزن المطلق ولا النسبي للدماغ يصحُّ أن يعتبر مقياسًا
صالحًا لتقدير الذكاء.
هذا ما كان عند المقارنة بين الأنواع الحيوانية، فإذا انتقلنا إلى
المقارنة بين الأنواع البشرية المندثرة وبين الإنسان الحديث وجدنا
عَجَبًا آخر، فحجم الدماغ عند إنسان جاوه يتراوح بين ٧٧٥
و٩٠٠سم٣، أي أن الدماغ الأصغر — وقد
كان صاحبه عند مماته مكتمل النمو — لا يتجاوز دماغ طفل في العام الأول
من عمره تقريبًا، وأمَّا عند إنسان بكين، فقد تراوح حجم الدماغ بين
٩٠٠سم٣
و١٢٢٥سم٣ بمتوسط نحو
١٠٤٠سم٣، وصحيح أن هذا المتوسط يقع
داخل مدى التفاوت في حجم دماغ الإنسان الحديث، وهو يمتد من
٩٥٠سم٣ إلى
٢٠٠٠سم٣ بمتوسط
١٣٥٠سم٣، ولكن من الواضح أن حجم الدماغ
عند إنسان بكين كان قريبًا جدًّا من الحد الأدنى لحجم الدماغ عند سليمي
العقل من أبناء الإنسان الحديث، ولقد كان حجم الدماغ البشري عند هذا
القدر المنخفض أيضًا في جميع النماذج الأشيولية التي خلَّفت إنسان
بكين، والتي عُثر عليها حتى الآن، ولكن عندما ظهر إنسان الحضارة
الموستيرية (إنسان نياندرتال) ارتفع حجم الدماغ فجأة ارتفاعًا كبيرًا،
إذ إنه كان يتراوح بين ١٢٠٠سم٣
و١٦٠٠سم٣ بمتوسط
١٤٠٠سم٣، وهو متوسط يفوق مقابله عند
الإنسان الحديث، حيث يكاد يكون متوسط حجم الدماغ عنده ثابتًا منذ ظهر
على وجه الأرض من نحو ٧٠٠٠٠ سنة مضت، ولكن على الرغم من هذا الدماغ
الكبير الحجم فقد اندثر إنسان نياندرتال لأنه لم يقو على المنافسة
عندما أخذ الإنسان الحديث في الظهور على المسرح، وفي هذا أكبر دليل على
أن الذكاء ليس كله راجعًا إلى حجم الدماغ.
وإذا ما قارنَّا أحجام الدماغ عند الشعوب المختلفة في الوقت الحاضر
نجد تفاوتًا محسوسًا بين بعضها والبعض الآخر، فمتوسطه عند الأستراليين
الأصليين يبلغ نحو ١٢٥٠سم٣، في حين أنه عند
الإسكيمو وهم من المغول يبلغ نحو ١٤٨٠سم٣،
وهو يتفاوت في بقية الشعوب البشرية بين هذين القدرين، ويحلو لبعض الناس
ومنهم العلماء أن يجدوا في الفروق بين الشعوب من هذه الناحية دلائل على
فروق بينها في ناحية القوى الذهنية، ولقد فات هؤلاء ما ذكرناه من سَعة
مدى التفاوت في حجم الدماغ، فهو يمتد في كل شعب على حدة من
٩٥٠سم٣ إلى
٢٠٠٠سم٣؛ وعلى ذلك يكون في كل شعب عدد
لا يُستهان به من كبيري الأدمغة، أو من العباقرة، لو أن العبقرية تُقاس
بحجم الدماغ، وفاتهم أيضًا ما ذكرناه عن كبر حجم الدماغ في إنسان
نياندرتال مع قصور حضارته، ثمَّ بالإضافة إلى هذا فإن بعض الأفراد من
الإنسان الحديث ممن كانوا ممتازين في حياتهم لم يكن حجم الدماغ عندهم
يزيد إلا قليلًا على الحد الأدنى لحجم الدماغ عند سليمي العقول من
الناس، ومن الأمثلة على هذا الفيلسوف «إيمانويل كانت»، والكاتب الكبير
«أناتول فرانس»، والخلاصة من هذه المناقشة أن من الواجب مراعاة الحذر
الشديد عند محاولة تقدير الذكاء عن طريق حجم الرأس والدماغ، فإن الحجم
لم يكن دائمًا عنوان الكفاية في أداء الوظيفة، فمثلًا يتراوح طول
الأمعاء عند الإنسان بين خمسة واثني عشر مترًا، ولا يستطيع أحد أن يزعم
أن صاحب الأمعاء الطوال أحسن هضمًا من صاحب الأمعاء القصار.
فإذا نحن تركنا حجم الجمجمة وتناولنا شكلها بالفحص، متتبعين ما
يُلاحظ عليه من خصائص تتغير من نوع حيواني إلى نوع آخر أو من شعب إلى
شعب، فإننا نجد أن شكل الجمجمة عند القردة العليا يميل بصفة عامة إلى
الاستطالة مع الضيق والانخفاض (شكل
٢-٣ و
٢-٥)، وأن قَبْوتها جمالونية الشكل، وإذا ما نظرنا
إلى شكل الجمجمة عند إنسان جاوه أو إنسان بكين أو إنسان نياندرتال
وجدناه قريب الشبه من شكلها عند القردة المذكورة، ولكن عندما ندرس
جمجمة الإنسان الحديث نجدها أميل إلى التكور، فقد امتلأت واستدارت
جوانبها جميعًا، غير أن أكبر امتلاء واستدارة كانا حول وسطها مقابلة
المنطقة الجدارية الصُّدْغية، وإلى حدٍّ ما في المنطقة الجبهية، ولقد
نتج عن ارتفاع الجمجمة أن قمتها تظهر على شكل قَبْوة أو خيمة منتظمة
(شكل
٢-٣ و
٢-٤).
ولما كان شكل المخ يتفق إلى حد كبير مع شكل الجمجمة لوحظ فعلًا أن
المنطقتين الجدارية الصُّدْغية والجبهية من القشرة السِّنْجابية على
سطح المخ قد تضخمتا إلى حدٍّ كبيرٍ في المخ البشري إذا قيستا بقدرهما
عند القردة العليا، ولقد سبق لنا أن ذكرنا أن المنطقة الجدارية
الصُّدْغية من القشرة السِّنْجابية هي مقر الذاكرة بالنسبة لجميع
الأحاسيس الناشئة عن اللمس والسمع والبصر، وأن المنطقة الجبهية من
القشرة نفسها هي مركز الفهم وحسن التقدير، فمن الواضح إذن أن هذه
الملكات وهي العناصر الأساسية للذكاء لم تبلغ عند القردة ولا عند
الإنسان المنقرض إلا بعض ما بلغته عند الإنسان الحديث، ولعل في هذا
تفسيرًا لضعف إنسان نياندرتال من الناحية العقلية بالرغم من كبر دماغه
الذي يفوق دماغ الإنسان الحديث حجمًا.
وعندما ننتقل بالدراسة إلى الشعوب البشرية المختلفة نجد أن شكل
الجمجمة فيها كلها من النوع البشري البحت لا يمكن أن يُشتبه فيه، ولكنه
مع ذلك ليس واحدًا في الجميع، فهو عند بعض الشعوب يَقرُب جدًّا من
التكور الكامل، ويقل عن ذلك عند البعض الآخر كما يدل على ذلك معامل
الجمجمة، أي عرضها/طولها × ١٠٠، وهو معيار شكلها، فكلما كان المعامل
أكبر كانت الجمجمة أقرب إلى التكور، ولقد قُسِّمت الشعوب إلى عريضة
الرأس، أي أقرب إلى التكور، إذا كان المعامل أكثر من ٨٠، وإلى متوسطة
الرأس إذا كان المعامل بين ٨٠ و٧٥، وإلى طويلة الرأس إذا كان أقل من
٧٥.
كل هذه حقائق علمية لا يمكن إنكارها، ولكنها لم تسلم من سوء
الاستعمال، ومع الأسف لا تزال آثار سوء الاستعمال شائعة بين كثيرٍ من
الناس — وخصوصًا في أوروبا — ممن يحبون أن يقرنوا بين الملكات الذهنية
سواء للأفراد أو الجماعات وبين شكل الرأس، ففي أوائل القرن الماضي زعم
عالم تشريح من أصل فرنسي ألماني يُدعى جال أن النتوءات والبروزات التي
تُرى أو تُحس على سطح الجمجمة تصلح مقياسًا لكفاءة مناطق المخ الواقعة
تحتها، ثمَّ قسَّم قمة الرأس إلى مناطق قال إنها تُقابل مراكز المواهب
الآتية: الخلق فالتدين فالثبات ثمَّ الكبرياء، على هذا الترتيب من أمام
إلى خلف، وبعد جال ادَّعى آخرون في أواخر القرن الماضي أن للتفوق في
الحساب مركزًا في المخ، وللتفوق في الموسيقى مركزًا آخر، وأن مثل هذه
المراكز يُحدث بروزًا يمكن حسه على سطح الجمجمة، وبعد هؤلاء جاء من غطى
عليهم وزاد في القرن العشرين، فادَّعى كُتَّاب وصحفيون من ألمان
وفرنسيين أن أنواع الفضائل والرذائل تقترن بشكل الرأس الذي يُعبر عنه
المعامل السابق ذكره، فقال أحدهم — وهو ألماني: «إن طويلي الرءوس من
السلالات الألمانية يمثلون حملة الحياة الروحية العالية، وهم يشغلون
المناصب ذات السلطان، وهم الذين اختارهم القدر ليكونوا حماة الوطن
ونظامه الاجتماعي … ولكن ذوي الرءوس المكورة يفضِّلون الوقوف بمعزل عن
كل اهتمام خالص بالعلوم … وما ميلهم إلى النظريات الديمقراطية التي
تدعو إلى المساواة إلا لأنهم هم أنفسهم لا يرتفعون عن مستوى العامة،
ولا يشعرون إلا بالاشمئزاز إن لم يكن بالكراهية نحو العظمة التي لا
يفهمونها»، ولقد قام آخر منهم بقياس رءوس عدد من الناس بينهم الجامعيون
والعسكريون وموظفو الشركات ورجال الأعمال والكَتَبَة والعمال، ثمَّ كتب
يقول: «على نسبة ارتفاع المقام وضخامة المرتب يزداد طول الرأس»، وكل
هذا بطبيعة الحال هُراء لا سند له من الحقيقة أو الصواب، إذ إنه وإن
يكن من الصحيح أن شكل الجمجمة يتفق بوجه عام مع شكل المخ، فإن الشكل
كالحجم تمامًا لا يدلُّ مُطلَقًا على كفاية العضو في أداء وظيفته، وفي
المخ مظاهر أخرى تدل على الكفاية أكثر من حجمه وشكله، فسمك القشرة
السِّنْجابية هو الآخر آية على عدد ما بها من خلايا، وهذه الخلايا هي
الوحدات الأساسية في نشاط المخ، فكلما تنوعت وظائف المخ وتخصصت مناطقه
لتقوم كل منها بعمل معين زادت الحاجة إلى خلايا جديدة لتقوم بالوظائف
المختلفة، ولتربط بين المراكز المختلفة، ومع أهمية هذا الأمر فإن زيادة
سمك القشرة السِّنْجابية على سطح المخ لا تدعو إلى زيادة تُذكر في حجم
الدماغ كله ولا إلى تغيير في شكله العام، ومما يدخل في هذا الباب أيضًا
ظاهرة أخرى تبدو على سطح المخ، ألا وهي أن القشرة السِّنْجابية تنثني
على نفسها بصورة تلافيف تفصل بينها ميازيب (شكل
٢-٧)، وشكل القشرة على هذه الصورة يزيد من رقعتها زيادة كبيرة جدًّا دون
حاجة إلى زيادة حجم المخ أو إلى تغيير شكله العام، وإلى جانب هذه
الخصائص الظاهرة التي تدركها العين المجردة فهناك الأنواع المختلفة من
الخلايا، فمنها الصغير ومنها الكبير، وهناك ترتيب الخلايا على طبقات
ترتيبًا يختلف من منطقة إلى منطقة، وأخيرًا فهناك الكفاءة الفردية
للخلايا، وهي أمر لا تدركه العين المجردة ولا الميكروسكوب. كل هذه
المظاهر والخصائص لا تترك أثرًا على الجمجمة لا من الداخل ولا من
الخارج، وإنما هي تتركنا على جهل حتى الآن بأهم العناصر المسئولة عن
نشاط المخ البشري المبدع وبأسباب التفاوت في الذكاء بين الأفراد وبين
الجماعات.