في مَعْرِض التطور
لاحظنا عندما أخذنا في تعيين مكان الإنسان من نظام التصنيف العام بصفته نوعًا حيوانيًّا بالمعنى البيولوجي المقرر أن أقرب الحيوانات إليه شبهًا في البناء التشريحي كانت جماعة القردة العليا، ثمَّ رأينا بعد ذلك مقدار التشابه عند مقارنة الأجزاء المتقابلة من الجسم، ونحن إن كُنَّا قد اقتصرنا في المقارنة على أجزاء معينة من الجسم، فإن التشابه بين الإنسان وتلك القردة يشمل في الحقيقة أجزاء أخرى كثيرة لم نتناولها بالمقارنة، لا لسبب إلا لأنها ليست قريبة المنال للمشاهدة المباشرة، ولاحظنا أيضًا أن هذا التشابه بلغ حدًّا أباح للمصنفين أن يُدرجوا الإنسان مع جماعة القردة العليا في فصيلة واحدة سُمِّيَت على ما ورد في التصنيف الذي قدمناه فصيلة أشباه البشر، وإنه لمن الطبيعي والأمر كذلك أن يتساءل المرء عن تعليل لهذا التشابه التشريحي الشديد، لا بين الإنسان والقردة العليا فحسب، وإنما بين الوحدات في أية مجموعة من مجموعات نظام التصنيف، سواء كانت هذه المجموعة نوعًا يتألف من أفراد أم جنسًا يتألف من أنواع أم فصيلة تتألف من أجناس … إلخ، ويرى العلماء أن التعليل المعقول لمثل هذا التشابه هو التعليل الذي يتفق مع المشاهدات اليومية، ألا وهو أنه يرجع فعلًا إلى صلة الرحم أو قرابة الدم بين الوحدات المتشابهة، وبعبارة أخرى أنه إنما تتشابه مثل هذه الوحدات لأنها تفرَّعت كلها من أصل واحد أو سلف مشترك عاش في ماضٍ سحيق.
ولكن إذا كان هذا التعليل صحيحًا، فما السبب إذًا فيما نشاهده من تعدد الأنواع، وفيما نجده بين الوحدات المتشابهة من تباين في نفس الوقت كالتباين الذي رأيناه بين الإنسان والقردة؟ والجواب على مثل هذه الأسئلة عمومًا قدَّمه داروين في منتصف القرن التاسع عشر، وكان رأيه في الموضوع مثار جدل عنيف في جميع طبقات المثقفين لذلك الحين، وكان أكثر ما كرهه خصوم فكرة داروين أنها تُبرر القول بتفرع الإنسان والقردة عن أصل واحد مشترك، وليس من شأننا أن نعيد هنا شيئًا من ذلك الجدل، ولا أن ندخل في مثله من جديد.
علل داروين مسألة تفرع الأنواع المختلفة عن أسلاف مشتركة بأنه راجع إلى ما سمَّاه الانتخاب الطبيعي، وضرب من الأمثلة ما لا يُحصى على طريقة هذا الانتخاب كما يحدث في الطبيعة، ولقد دخل على آراء داروين بعد وفاته بعض التعديل والإضافة، ولا يتسع المقام هنا لمناقشة تطور نظريته التي قصد بها تفسير عملية التطور التي كان قد قال بها القدماء من الإغريق والعرب من قبله، ونكتفي بعرض مختصر جدًّا لما يقوله أحدث العلماء الإنجليز في الوقت الحاضر بشأن عملية الانتخاب الطبيعي، والإنجليز أولى الناس بالتعبير عن نظرية داروين؛ لأنه كان منهم، ويعتزُّون بأثر نظريته على التفكير العلمي في مائة السنة الأخيرة، وهم يقولون في وصف عملية الانتخاب الطبيعي ما يأتي: إن جميع الكائنات الحية ينتابها التغيير، والتغيرات القابلة للوراثة — أي التي تنشأ عن تغير يُصيب جينات الوراثة بالخلايا الجرثومية — تنتقل من جيل إلى جيل، فالأفراد الذين تعتريهم تغيرات تكون أنفع لهم ضد إخوانهم يكونون أقرب إلى السلامة عند تنازع البقاء، ومن ثَمَّ إلى التكاثر، وأمَّا الأفراد الذين ليس لهم مثل حظ هؤلاء فمصيرهم إلى فناء، وبهذا يبدو على النوع في مدى أجيال عديدة تبدُّل تدريجي يُهيئه للتوافق التام مع بيئته التي يعيش فيها، وبعبارة أخرى فإن عملية بقاء الأصلح تؤدي من تلقاء نفسها إلى تغير تدريجي في التركيب التشريحي للنوع، وهذا يعني أنها تؤدي إلى التطور، واليوم تستمد نظرية التطور أسانيد عديدة من مصادر مختلفة، منها تجارب تربية النباتات والحيوان والتشريح المقارن وعلم تكوين الجنين، ثمَّ من حفريات البقايا المتحجرة وحتى من التجارب المعملية.
- (١)
إن الأنواع الحية التي تعيش جنبًا إلى جنب في الوقت الحاضر تُعتبر كلها أطراف فروع نشأت عن أصول قديمة جدًّا، لا سبيل إلى معرفتها إلا بالتقريب استنادًا إلى ما لدينا من معلومات أكثرها مأخوذ عن التشريح المقارن؛ ولذلك فهي ليست بحال من الأحوال معلومات مباشرة.
- (٢)
مع أن المعلومات المأخوذة عن التشريح المقارن ليست مباشرة، ومع أن ما يُبنى عليها من تطورات قد يدخله بعض الحدس والتخمين، فقد تحقق الحدس فعلًا في بعض الحالات، وخاصة فيما يتعلق بتطور الحصان والفيل، فقد عُثر على بقايا متحجرة من أسلاف كل منهما، وأمكن ترتيب هذه البقايا في كل حالة على أساس التدرج في التعقيد التشريحي ترتيبًا اتفق تمامًا مع ترتيبها الزمني، والنجاح في مثل هذه الحالات يُبرر الحدس إلى حد ما في الحالات الأخرى ما دام يكون قائمًا على قواعد يُقرها المنطق السليم.
- (٣)
لا يمكن لنوع حديث أن يكون هو نفسه سلفًا لنوع آخر حديث، فليس الإنسان مثلًا جوريلا مهذبة، كما أن الجوريلا ليست إنسانًا ممسوخًا، وإنما الذي يصح أن يُقال هو أن الإنسان والقردة العليا انحدروا جميعًا من أصل واحد لم يكن إنسانًا ولا جوريلا ولا شمبانزي.
- (٤)
لا بدَّ أن يكون الأصل المشترك لعدة أنواع أقل من أي نوع منها تعقيدًا في تركيبه التشريحي.
- (٥)
قد يصيب التطور والتخصص عُضوًا أو جهازًا من الجسم ولا يصيب غيره، أو يصيبه إلى درجة قليلة، فنجد مثلًا أن مخ الإنسان هو أكثر أعضائه تعقيدًا وتخصصًا، ولكن إلى جانب ذلك نجد أن الذراع لم يتخصص والجهاز الهضمي لم يتخصص بنفس القدر، وفي الحقيقة يُعتبر الإنسان من أقل الثدييات العُليات تخصُّصًا إلا فيما يختص بالدماغ (المخ والمخيخ معًا)، حتى أنه ليُظنُّ أن عدم تخصصه هذا كان من أهم العوامل في نجاحه في معارك تنازع البقاء، فهو يستطيع السباحة في الماء كالأسماك، وهو يستطيع الجري كالحصان، وهو يستطيع تسلق الأشجار كالقردة، وهو يستطيع كل ذلك لأن الأجهزة المؤدية لهذه الوظائف لم تتخصص إلى الحد الذي يفقدها قدرتها على التكيف على حسب الظروف.
والآن هل يمكن تصور ذلك الأصل أو السلف المشترك للإنسان والقردة العليا جميعًا؟ الجواب نعم بشرط مراعاة ما تقدم كله، والسير في تكوين الصورة المطلوبة يكون على الوجه الآتي: فمثلًا إذا كان مخ الإنسان أكثر تعقيدًا من مخ القردة، فلا بدَّ أن يكون مخ ذلك السلف البعيد أقل تعقيدًا من مخ القردة، وإذا كانت الذراع واليد عند القردة قد تخصصت لتناسب العيش في الغابات وتسلق الأشجار والتنقل بين فروعها، واتخذ التخصص صورة تضخم الذراع واضمحلال إبهام اليد، فيلزم إذن أن تكون ذراع ذلك السلف أقرب إلى ذراع الإنسان التي لم تتخصص، وأيضًا إذا كانت سن الناب عند القردة كبيرة الحجم مدببة نظرًا للحاجة إليها كسلاح في الهجوم والدفاع، فيجب أن تكون سن السلف المشترك أقل حجمًا وأقل تدبُّبًا من سن القردة، ولكن هل كانت مثل سن الإنسان؟ لا، وذلك لأنه بالرغم من أن ناب الإنسان ليست لها وظيفة خاصة، إذ إنها تُستعمل في القضم فقط مثل القواطع، بالرغم من هذا فإن لها جذرًا طويلًا لا يُبرر وجوده إلا القول بأنه موروث من السلف القديم؛ ولذلك يتقرر أن تكون ناب السلف المشترك وسطًا بين ناب الإنسان وناب القردة، ومثلًا آخر يتصل بالقدم، فهي تخصصت في الإنسان استجابة لداعي القامة المعتدلة، فضُمت أصابعها بعضها إلى بعض، وتضخمت أُصبعها الكبيرة، وعلى الرغم من هذا فتوجد في القدم البشرية عضلات تخص الأصبع الكبيرة غير المتحركة تشبه عضلات اليد التي تخص الإبهام كثيرة الحركة، ولا معنى لهذا إلا أن تكون عضلات الأصبع الكبيرة بالقدم موروثة عن سلف كانت قدمه أشبه باليد، وهناك غير هذا أمثلة كثيرة.
وبعد هذا، ألا يجوز التساؤل عما إذا كان قد اكتُشف ذلك الأصل المفقود أو بعض سلالاته؟ والجواب نعم، فقد عُثر على عدد لا بأس به من الأنواع المنقرضة التي تُعتبر علامات على الطريق التي سلكها الإنسان في تطوره، ولكن هذه الأنواع لا تدل على الطريق كلها، فهناك فجوات يتطلع العلماء إلى ملئها في المستقبل، وقبل أن نقدم قصة البقايا المتحجرة نُنبه إلى أن للصدفة في العثور عليها شأنًا كبيرًا، ويرجع هذا بالطبع إلى أن تحجر حيوان ما على صورة يستفيد منها العلماء بعد ملايين السنين من موت ذلك الحيوان لا بدَّ أن يكون أمرًا نادرًا جدًّا، وإذا صح هذا بصفة عامة، فإنه أصدق فيما يتعلق ببقايا الثدييات الرئيسية التي تعيش في الغابات، تلك البيئة التي لا تصلح مطلقًا لحفظ الحيوانات بعد موتها، ولا تُساعد على تحجرها، وعلى الرغم من هذا كله فإن ما وُجد حتى الآن من هذه البقايا يسمح بتكوين سلسلة يُظن أنها تمثل بعض الخطوات الحقيقية على طريق تطور الإنسان، وفيما يلي عُجالة عما تُنبئ به تلك السلسلة التي سنُضمِّنها بعض الأنواع التي لم يسبق تناولها بالوصف.
وفي ختام هذا الفصل نلم إلمامة خاطفة بأبرز مظاهر التطور البشري. لقد كان تضخم حجم الدماغ أوضح خاصة تشريحية في تطور الإنسان، ويليه اعتدال القامة، إذ بسببه تحررت الذراع واليد واستُعملتا في تناول الطعام وفي القبض على الأشياء، وبذلك بطل نهش الطعام وتمزيقه بواسطة الأسنان، فأدَّى هذا بدوره إلى صغر الفكين واضمحلال عضلات المضغ؛ مما خفف العبء على عضلات القفا المختصة برفع الرأس؛ فضمرت هي الأخرى، وأدَّى اعتدال القامة كذلك إلى الحاجة إلى اتزان الرأس فوق العمود الفِقْري، فدعا هذا إلى انتقال المفصل بين العمود والجمجمة إلى وسط قاعدتها بعد أن كان عند مُؤخَّرها.
ولكن ما المصير؟ رأينا كيف تتميز الشعوب البشرية بعضها عن بعض بخصائص تشريحية قابلة للوراثة، وكان داروين قد رأى — ويتبعه كثيرٌ من العلماء في الوقت الحاضر — أن الشعوب من أي نوع ما هي إلا أنواع جديدة لا تزال في دور التكوين، وكل ما يلزمها هو الوقت الكافي لتثبيت خصائصها الوراثية، ويُقدِّر العلماء أن تكوين نوع بيولوجي يحتاج إلى نصف مليون سنة إن لم يكن أكثر، وهناك فعلًا أنواع حية مضى عليها أكثر من ٣٠ مليون سنة ولم تتحول ولم تنقرض، فعلى هذا الحساب يكون الإنسان العاقل في مطلع تطوره، فإذا هو لم يقض على نفسه بالقنابل الذرية والهيدروجينية وعاش إلى أن يحين الوقت المناسب، فسيكون حينئذٍ قد تفرَّع إلى عدة أنواع لا يكون التزاوج بينها خصبًا كما هو الحال بين الشعوب البشرية الآن، ويصبح من اللازم حينئذٍ تعديل نظام التصنيف الحيواني بعض الشيء، ومن يعش يره.