التحنيط عند قدماء المصريين
كانت الموميات المصرية على الدوام إحدى الخصائص البارزة في تاريخ مصر لا تقل شهرتها عن شهرة الأهرام السامقة أو المعابد الضخمة المنمقة أو الكنوز الثمينة الأنيقة، ويظهر أن كلمة موميا كانت تُطلق أصلًا على مادة قارية سوداء تنشع من الأرض في بعض الجهات، ولقد عدَّها الفرس قديمًا دواء لكل داء، وقد وصف أحد أطبائهم في القرن العاشر بعد الميلاد ما كان يُبذل من احتياطيات زائدة في سبيل حراسة الجبل الذي كانت تنشع منه هذه المادة، كما وصف الحفلات الخاصة بجمعها باسم الشاه، ولقد ذكر الموميا كدواء أيضًا الطبيب العربي الرحالة عبد اللطيف البغدادي، ولما كان قدماء المصريين منذ أواخر عصر الأسرات قد استعملوا القار أو مادة أخرى تشبهه في عملية تحنيط الجثث بقصد حفظها من الفناء، فيظهر أن كلمة موميا أُخذت تطلق بصفة عامة على الجثث المحنَّطة المصرية، ولم يقتصر الأمر على التسمية، بل إن فضائل الموميا في شفاء الأمراض انتقلت هي الأخرى إلى الموميات المصرية حتى لقد أصبح معظم الاهتمام بها أثناء العصور الوسطى مُركَّزًا في هذه الناحية العلاجية وحدها، ويُقال إن أول من استعمل الموميات المصرية كعقار كان طبيبًا يهوديًّا بمدينة الإسكندرية حوالي عام ١٢٠٠ بعد الميلاد، ومنذ ذلك الوقت شاع استعمالها لهذا الغرض، واستمر شائعًا في أوروبا حتى القرن التاسع عشر، وبطل استعمال الموميات كدواء لا لما قيل من عدم جدواها في الطب، وإنما لأن تجار الموميات اليهود استولى عليهم الخوف والرعب حين عُرف أنهم إنما يتاجرون في جثث حديثة بعد أن يهيئوها على صورة الموميات القديمة.
وكانت الموميات المصرية ولا تزال مثار عجب من وجهين، فأوَّلًا: ماذا كانت المشاعر العميقة التي دفعت قدماء المصريين منذ مطلع عهد الأسرات إلى ممارسة العناء الكثير وتحمل التكاليف الباهظة من أجل المحافظة على الجثة سليمة بعد أن تفارقها الحياة؟ وثانيًا: ما هي الطريقة التي كان أولئك القدماء يتبعونها في سبيل تحقيق عرضهم؟
فأمَّا من حيث الدوافع فإن قدماء المصريين لم يُفصحوا عنها فيما وصل إلينا من كتاباتهم، وإنما ينم ما لدينا من دعواتهم وما يُلاحظ من شدة عنايتهم بجثث موتاهم عن أنهم كانوا في خوف وهلع من أن تفنى أجسادهم أو تتناثر أشلاؤهم بعد الموت، والبحث عن المشاعر والعقائد التي كانت من وراء هذا الخوف وهذا الهلع هو من شأن المؤرخين، وليرجع من يشاء إلى المؤلفات الخاصة بهذا الموضوع.
وكانت طريقتهم في المأتم وفي الدفن كما يأتي: عندما يموت شخص ذو مقام في إحدى الأسر فإن جميع نساء الدار يلطخن رءوسهن وحتى وجوههم بالطين، ثمَّ يتركن الجثة في الدار ليدرن في المدينة يلطمن خدودهن وهن في ملابس مشمرة وصدور عارية، وجميع أقاربهن في صحبتهن، والرجال كذلك يلطمون وجوههم وهم في ملابس مشمرة أيضًا، وبعد الفراغ من هذا يرافقون الجثة في طريقها إلى التحنيط، ويوجد لهذه الحرفة عمال مهرة، فإذا ما أُحضرت إليهم الجثة فإنهم يعرضون على حملتها نماذج خشبية لجثث مدهونة لتبدو كأنها طبيعية، ويقولون إن أفضل ما لديهم يتبع طريقة من لا يليق ذكر اسمه في هذا المقام (أوزيريس؟) ثمَّ يعرضون نوعًا آخر أقل من الأول وأرخص، ثمَّ الثالث وهو أرخص الجميع. وبعد توضيح هذا كله يسأل المحنطون أية طريقة يُراد منهم تطبيقها على الجثة؟ وبعد أن يتفق حملة الجثة على الثمن يُغادرون المكان، ويبقى المحنطون في دكانهم ليأخذوا في التحنيط، وأفضل الطرق هي كما يأتي: أوَّلًا: يفرغون الدماغ عن طريق الأنف، مُزيلين بعضه بواسطة خطاف من حديد وبعضه الآخر بواسطة العقاقير، ثمَّ يقطعون بواسطة حجر إثيوبي حاد قطعًا في القطن ويستخرجون منه جميع الأحشاء، ثمَّ ينظفون الجسم ويملئونه بنبيذ البلح ويفرغونه، ثمَّ يُطهرونه بالعطريات المصحونة، وبعد أن يملئوا جوف الجسم بمطحون المر والقرفة وكل نوع آخر من التوابل ما عدا اللبان الدكر، فإنهم يخيطون الجسم، وبعد هذا فإنهم يعالجون الجسم بالنطرون لمدة سبعين يومًا لا تزيد؛ لأن العلاج لمدة أطول مُحرَّم، وبعد نهاية السبعين يومًا يغسلون الجثة ويلفون الجسم كله في أربطة من قماش الكتان المدهون بالصمغ الذي يستعمله المصريون بدلًا من الغراء، وبعد هذا وبعد أن يسترد الأقارب الجثة فإنهم يأتون بصندوق خشبي على هيئة رجل يضعون الجثة فيه بعد تجهيزه، ثمَّ يغلقون الصندوق ويخزنونه في قبر في وضع رأسي مستندًا إلى الجدران، وهذه هي أكثر الطرق تكاليف في تحضير الجثة.
وأمَّا طريقة التحنيط الثالثة، فهي ما يأتي: وهي ما يُتَّبع مع الطبقات الفقيرة بعد تنظيف البطن بواسطة مسهل (طارد)، فإنهم يعالجون الجسم لمدة سبعين يومًا ثمَّ يسلِّمونه لأهله.
ولقد زاد ديودور بعض المعلومات على ما ذكره هيرودوت، ولكن أهم ما يخصُّنا هو ما قاله من عدم إزالة الكلى والقلب عند استخراج الأحشاء من البطن.
ولقد استمر المصريون في تحنيط موتاهم إلى ما بعد ظهور المسيح ودخول الدين الجديد إلى البلاد بقليل، ولنأخذ الآن في عرض النتائج التي كشف عنها فحص عدد كبير من الموميات أو أجزاء الموميات، وسنقتصر على ذكر ما يختص بالناحية التشريحية وحدها تاركين الناحية الكيميائية والناحية الأثرية للمختصين، وليرجع إلى مؤلفاتهم من يشاء.
- (١)
ثبت ما قاله هيرودوت عن إزالة الدماغ عن طريق الأنف، غير أن ممارسة هذه العملية لم تبدأ إلى على عهد الأسرة الثامنة عشرة.
- (٢)
ثبت أن المحنطين كانوا يقطعون جدران البطن في منطقة القطن ليصلوا إلى داخل الجسم.
- (٣)
ثبت أنهم كانوا يزيلون الأحشاء عن طريق هذا القطع.
- (٤)
ثبت أن المحنطين كانوا يملئون فراغ البطن والصدر بعد إزالة الأحشاء بمواد مختلفة، وسيأتي فيما يلي ذكر الأنواع المختلفة التي كانت تُستعمل في حشو الجسم.
- (٥)
لم يثبت في أية حالة أن المحنطين كانوا يخيطون القطع في جدار البطن بعد إزالة الأحشاء وملء الفراغ بالحشو المصطنع.
- (٦)
اختلف المترجمون الإنجليز فيما عناه هيرودوت عند الكلام عن علاج الجسم بالنطرون، فهل كان المحنطون يغمسون الجثة بعد إزالة أحشائها في محلول من النطرون؟ أو كانوا يعالجونها بالملح في حالته الطبيعية أي صلبًا؟
ويرى خبراء الكيمياء أن استعمال الملح أصلح للوصول إلى الغرض المطلوب؛ ولذلك فضَّلنا في الترجمة العربية أن نأخذ بالرأي القائل بعلاج الجسم بالملح، أي بتغطيته به لا بغمسه في محلوله.
- (٧)
ذكر هيرودوت أن المحنطين كانوا يدهنون قماش اللفائف بالصمغ بدل الغراء، ولم يذكر شيئًا عن القار مع أن لفائف الموميات التي ترجع إلى عهد الأسرة السادسة والعشرين وما بعدها — أي قبل هيرودوت بقرن من الزمان على الأقل — كانت كلها مدهونة بالقار أو بمادة سوداء تشبهه.
- (٨)
عُثر على جثث ملفوفة كلف الموميات ولم يُعثر بها على فتحة في البطن، كما لم يثبت أن أحشاءها كانت قد أُزيلت قبل اللف عن طريق الفتحات الطبيعية؛ ولذلك ليس من السهل إثبات أو نفي الطريقة الثانية للتحنيط في رواية هيرودوت.
- (١)
لم يُعثر حتى الآن على أي أثر من عهد ما قبل الأسرات يدل على محاولة صيانة الجسم من الفساد بعد الموت، وإن يكن قد عُثر فعلًا على بعض الجثث وهي على حال جيدة من الحفظ بفعل الطبيعة وحدها دون أي تدخل مُصطنع، فقد كانت الجثث لذلك العهد تُدفن في الرمل مباشرةً، ولعل هذا بالإضافة إلى حرارة الشمس — وخاصة بمصر العليا حيث وُجدت تلك الجثث — كان سببًا في جفاف بعضها بسرعة مما أدى إلى سلامتها من التحلل، ولكن هذا التحنيط الطبيعي ليس هو موضوعنا هنا.
- (٢)
عُثر على نماذج عديدة من بقايا جثث كان من الواضح أنها لُفَّت في عهد الدولة القديمة بطبقة كثيفة من الأربطة، وكان يُعثر إلى جانب بعض هذه النماذج على أوعية معينة عُرف عن مثلها فيما بعد أنها كانت خاصة بحفظ الأحشاء بعد إخراجها من الجسم عند إعداده للعلاج بالتحنيط، فلكل هذا تعد تلك النماذج أقدم ما لدينا من آثار لعملية التحنيط الصناعي، ولا يُستبعد أن تكون هذه العملية بدأ إجراؤها منذ عهد الأسرة الأولى على الأقل.
ولقد كشف فحص تلك البقايا عن فشل التحنيط في الدولة القديمة في تحقيق ما قُصد إليه من محافظة على الجسم بعد الموت كاملًا، إذ لم يكن يوجد داخل اللفائف إلا عظام عارية من اللحم؛ ولذلك قرر الفاحصون من العلماء أن المحنطين لذلك العهد لم يكونوا على علم بوسائل حفظ الأنسجة الطرية على الرغم من علمهم بضرورة إزالة الأحشاء قبل علاج الجسم بالتحنيط، ولقد استند العلماء في تعزيز قرارهم أو حكمهم هذا على أولئك المحنطين الأوائل إلى أنهم — أي العلماء — لاحظوا على بعض موميات الدولة القديمة ظاهرة غريبة جدًّا، هي إحياء ملامح الميت بتشكيل قماش المومياء ذاته بعد غمسه في مادة قد تكون قلفونية على صورة وجه الميت، فالأنف وحتى الفم وأعضاء التناسل الظاهرة كانت كلها تُشكَّل ببراعة زائدة في الرجل وفي المرأة كلاهما، وكذلك الثدي وحلمته في حالة النساء، ومما ثبت للعلماء أيضًا بخصوص هذه الموميات أن الأطراف كانت تُلف كُلٌّ على حدة أوَّلًا، وكان الذراعان توضعان إلى جانب الجسم، ثمَّ يُلف كله ليتخذ الشكل المألوف عن الموميات.
ولقد كان هذا هو الرأي المألوف عن التحنيط في عهد الدولة القديمة عام ١٩٤٧، حين أُتيح للمؤلف أن يفحص بعض البقايا التي عُثر عليها داخل هرم الشواف المشرف على قرية سقارة الحالية من الجهة الغربية، وكانت كل الظروف المحيطة بالكشف عن هذه البقايا تدعو إلى الاحتمال القوي بأنها لصاحب الهرم نفسه، وهو من ملوك الأسرة الخامسة، ومع ذلك اشتملت البقايا على بعض الأنسجة الطرية التي كانت في حال من الحفظ تُثير الدهشة حقيقةً، فقد كانت العضلات والأوعية والأعصاب وحتى الأغشية المخاطية كلها سليمة، ولو أنها جافة وهشَّة، ولقد كان الوقوع على هذه الحقيقة التي تناقض رأي العلماء السابقين داعيًا قويًّا لمراجعة فحص كل ما يتيسَّر من بقايا موميات الدولة القديمة، ولقد كشفت هذه المراجعة عن نتائج مهمة تناقض تمامًا ما كان سائدًا من قبل عن فن التحنيط في عهد الدولة المصرية القديمة، إذ تبين وجود أجزاء من موميائين، إحداهما كانت في داخل هرم زوسر من الأسرة الثالثة، والأخرى كانت داخل هرم أوناس من الأسرة الخامسة، ومومياءان تكادان تكونان كاملتين من الأسرة السادسة، ونظن أن إحداهما لابن بيبي الأول أشهر ملوك هذه الأسرة، وكانت هذه الموميات وأجزاء الموميات في حالٍ من الحفظ جيدة للغاية، فقد كان الجلد سليمًا ويبدو كأنه مدبوغ، وكان الشعر في بعضها لا زال موجودًا.
- (أ)
كان تجويف الجسم يُحشى بعد تفريغه من محتوياته بقماش اللفائف.
- (ب)
يدل وجود الأوعية الخاصة بحفظ الأحشاء في هرم الشواف على أن الأحشاء كانت تُحفظ بعد إخراجها من الجسم.
- (جـ)
كانت موميات بعض الملوك على الأقل تُلفُّ بنوعين من القماش، نوع رقيق للغاية يُلصق بالجسم، ونوع سميك يُستعمل في اللفائف الخارجية.
- (١) كانت اللفائف تُستعمل بسخاء بالغ، ولا شك أن القماش كان يُدهن أو يُغمس قبل استعماله في مادة صمغية أو قلفونية، وكانت أشرطة القماش تُلفُّ في اتجاهات مختلفة، فمنها ما كان دائريًّا ومنها ما كان مائلًا ومنها ما كان على شكل الرقم ثمانية الإفرنجي 8 في الطبقات الخارجية خاصَّة، وقد تبين أن رأس هذه المومياء كان مُشكَّلًا من القماش فقط ولم يحو أية أجزاء تشريحية في باطنه.
- (٢)
تبين أن هذه المومياء كانت تحوي عظام بومة واحدة وخمسة خفافيش، ثبت أنها جميعًا من أنواع تعيش حاليًّا في منطقة سقارة الأثرية، وتبين أيضًا أن هذه الحيوانات كانت مُقطَّعة إلى أجزاء قبل لفها كتلة واحدة.
- (٣)
من المعلوم أن البوم والخفافيش كلها حيوانات ليلية، وكلها يطير، غير أن الأول طيور حقيقية في حين أن الثانية حيوانات ثديية، ولما كانت هذه هي المرة الأولى التي يُعثر فيها على خفافيش مُحنَّطة، فليس من المعروف إذا كان قدماء المصريين عرفوا طبيعتها الحيوانية الصحيحة أم لا.
وكان لصاحب الهرم المنحرف السابق ذكره — وهو سنفرو، أول ملوك الأسرة الرابعة، ووالد خوفو صاحب الهرم الأكبر بالجيزة — كان له هرم آخر غير منحرف، يقع إلى الشمال من الهرم المنحرف، ولقد عُثر في عام ١٩٥٠ في داخل الهرم غير المنحرف على بعض أجزاء من مومياء بشرية تُرجِّح كل الظروف أنها كانت لصاحب الهرم نفسه، وكان من بين الأجزاء التي عُثر عليها قطعة من اللفائف التي كانت حول القدم اليمنى للمومياء لم يكن ظاهرًا بداخلها إلا جزء من العظم المشطي الخامس، وكان من الواضح أن أصابع هذه القدم كانت ملفوفة كُلًّا على حدة، ولكن لم يكن باقيًا إلا أصبعان الرابعة والخامسة، وعند فحص قطعة اللفائف بالأشعة السينية تبين أن أصبعيها المشار إليهما لم يكن بداخلهما أي عظام، وبذلك يتضح أن المحنطين هيئوا اللفائف على شكل أصابع غير موجودة، وفي هذا تعزيز لما سبقت ملاحظته من أن المحنطين في عهد الدولة القديمة كانوا يجهدون أنفسهم في تمثيل ما يسقط من أعضاء الجسم الظاهرة في قماش اللفائف حتى تبدو المومياء كأنها لجسم سليم كامل.
ولقد تبين عند فحص بقايا الموميات من الدولة القديمة أن هناك آثار احتراق في بعض العظام، ولكن لم يكن من الممكن القول هل كان هذا الاحتراق جزءًا من عملية التحنيط أم حدث بعد ذلك بزمن ما عند سرقة الموميات مثلًا.
والخلاصة في هذا الشأن أن المحنطين لعهد الدولة القديمة كانوا على علم وافر بالعملية التي استمرَّت من بعدهم طويلًا جدًّا، ولم يدخل عليها إلا تعديلات قليلة معظمها يمس التفاصيل فقط. فقد كانوا يزيلون أحشاء الجسم ويحشون مكانها بقماش اللفائف مغموسًا في مادة قد تكون صمغًا أو قلفونية، كما أنهم كانوا يحفظون الأحشاء ذاتها في أوعية خاصة، وكانوا من البراعة بحيث إنه عندما كانت تسقط بعض أجزاء الجسم الظاهرة بسبب التعفن كانوا يشكِّلونها على صورتها الطبيعية في قماش اللفائف ذاته.
فإذا نحن انتقلنا الآن إلى عهد الدولة الوسطى فيما حوالي ٢٠٠٠ق.م، وجدنا أن المعلومات التي لدينا عن التحنيط ليست من الوضوح على درجة كافية، وهذا إمَّا لأن كثيرًا من موميات هذا العهد كان في حالة لم تسمح بالدراسة المجدية، وإمَّا لأنه لم يُنشر عنه تقارير وافية، وعلاوةً على ذلك لم يؤد فحص ما عُثر عليه من موميات سليمة إلى نتائج حاسمة.
فقد عُثر على عدد من هذه الموميات السليمة التي يرجع تاريخها إلى الأسرة الحادية عشرة في مدافن تتصل بمعبد منتوحتب الثاني بالدير البحري في الأقصر، ودل فحص هذه الموميات على أن الأحشاء لم تكن قد أُزيلت قبل لف الجثة، ولقد أثارت هذه الحقيقة احتمال الالتجاء إلى الطريقة الثانية للتحنيط على ما رواه هيرودوت، ولكن فحص بعض الموميات من الداخل أثبت وجود الأحشاء في مكانها، وإن تكن في حالة من الفساد لم تسمح بالجزم فيما إذا كانت أية محاولة قد بُذلت لإذابتها عن طريق حقنة شرجية كما قال هيرودوت؛ ولهذا يُظن أن حفظ الجثة كانت نتيجة للتجفيف فقط، وإن تكن طريقة هذا التجفيف غير معروفة (هل كان بالتعريض للشمس فقط؟ أو كان بالتسخين في فرن؟) وعلى كل حال، فإن هذه الموميات جميعها يدلُّ على أن الجسم كان يُصاب بالتعفن إلى درجة كبيرة، فقد سقطت مساحات كبيرة من الطبقة السطحية للجلد، كما سقطت الأظافر، ثمَّ أُعيد وضعها في أماكنها وثُبِّتَت بقطع من الخيط.
وليس من الممكن الجزم الآن فيما إذا كانت هذه العادة — عادة تثبيت الأظافر — استُعملت لأول مرة في عهد الدولة الوسطى أم إذا كانت قد استُعملت في عهد الدولة القديمة أيضًا، وذلك لأن شيئًا لا يُعرف عن حالة الأظافر في الموميات ذات التاريخ الأسبق.
وأمَّا في عهد الأسرة الثانية عشرة، فيدلُّ فحص الموميات وقد عُثر على أكثرها في منطقة الأهرام بمصر الوسطى على أن المحنِّطين كانوا يتبعون طريقة الدولة القديمة في إزالة الأحشاء وحشو مكانها بقماش اللفائف، غير أنه ليس بين موميات هذا العصر التي وُصفت حتى الآن واحدة احتفظت بشيء من الأنسجة الطرية.
ولقد استمر اتِّباع طريقة التحنيط الأولى نفسها بدون تعديل تقريبًا إلى آخر عهد الأسرة السابعة عشرة، ولكن منذ أحمس أول ملوك الأسرة الثامنة عشرة دخل على عملية التحنيط إجراء إضافي جديد كان له أوضح الأثر على نتائج تلك العملية، بدليل كثرة الموميات المحتفظة بكثير من الأنسجة الطرية وخاصة الجلد الذي تساعد سلامته على الاحتفاظ بالملامح الأصلية، ولو إلى حد ما، وكان الإجراء الجديد الذي طُبِّق في عهد الدولة الحديثة وما بعدها من تاريخ مصر القديم هو إزالة الدماغ عن طريق الأنف، وحشو فراغ الجمجمة بقماش اللفائف بعد غمسه في مادة صمغية أو قلفونية، ومن التفاصيل الإضافية أيضًا التي لجأ إليها المحنطون في هذه الحقبة أنهم كانوا يُثبِّتون الأظافر في أماكنها إمَّا بخيط وإمَّا بواسطة كئوس صغيرة (كالكُستُبان)، كما كانوا يغطُّون سطح الجسم بالمادة الصمغية أو القلفونية لوقاية الجلد من فعل العوامل الخارجية الضارة، ولقد لُوحظ في بعض الموميات أن فراغ الجسم كان يُملأ أحيانًا بالعشب أو نشارة الخشب أو بمعجون النطرون مع الدهن.
ثمَّ استمر التحنيط على هذه الطريقة على عهد الأسرات الثلاثة، من الثامنة عشرة إلى العشرين، وهي أزهر حقبة في تاريخ مصر لعهد الدولة الحديثة، فلما حلَّت الأسرة الحادية والعشرين — وكانت من قساوسة آمون — كانت مقابر الفراعنة السابقين في طيبة قد انتُهكت وعبث اللصوص بالموميات الملكية عبثًا شديدًا، فأمر القساوسة بإصلاح ما فسد من تلك الموميات المقدَّسة.
ويظهر من فحص هذه الموميات المُعاد معالجتها أن المحنطين على عهد الأسرة الحادية والعشرين وضعوا نصب أعينهم لا وقاية الجسم من الفساد فقط، بل تحويله أيضًا إلى تمثال يعبر أكمل تعبير عن شخصية صاحبه أثناء الحياة؛ ولذلك كانوا يدهنون الجثة بالأصباغ بعد علاجها بالتحنيط، كما كانت تُدهن التماثيل، وكانوا أيضًا يعيدون الأحشاء التي يستخرجونها من الجسم إليه ثانية ليستكملوا بذلك شخصيته، ولكي لا يفقدون بركة الأوعية الخاصة بحفظ الأحشاء، فإنهم كانوا يمثلون الآلهة التي تُعبر عنها تلك الأوعية بتماثيل من الشمع يُلفُّ كل منها مع العضو الذي يناسبه، ويُقال إن التمثال ذا الرأس البشري «أمسيتي» كان يوضع مع الكبد، وتمثال القرد «حابي» مع الرئة، وتمثال الثعلب إمَّا مع المعدة أو الأمعاء، وتمثال الصقر مع الأمعاء.
ولقد وُجد من موميات نفس العصر موميات بعض ملوك صالحجر في شمال الدلتا، ويظهر من وجود الأوعية الخاصة بالأحشاء إلى جانب هؤلاء أن المحنطين في الشمال لم يعيدوا الأحشاء إلى الجسم بعد نزعها منه.
وكان مما لجأ إليه محنطو الأسرة الحادية والعشرين في طيبة على خلاف أسلافهم في عهد الأسرات الثلاثة السابقة أنهم كانوا يحشون فراغ الجسم بنشارة الخشب، حيث كانوا يدفنون لفائف الأحشاء مع تماثيلها، كما أنهم كانوا يحشون أجزاء الجسم المختلفة تحت الجلد إمَّا بالطين وإمَّا بالرمل لكي يعيدوا إليها شكلها الطبيعي الأصلي، وكانت الأرجل تُحشى من أعلى الفخذ حتى القدم، وكانت الرقبة تُحشى عن طريق الصدر، كما أن الفم والخدود كانت تُحشى إمَّا بالقماش وإمَّا بمعجون النطرون والدهن، ومن الواضح أن جسمًا يُعالج بهذه الطريقة يكون غير قابل للفساد ما دام ملفوفًا لفًّا مُحكَمًا ولا يُعرض للرطوبة.
- (١)
كانت الذراع منثنية عند المرفق واليدان فوق الصدر، ولم يشذ عن هذا الوضع إلا حالة واحدة لطفل، حيث كانت الذراعان ممدودتين إلى جانب الجسم.
- (٢)
كانت أصابع اليدين والقدمين تُلفُّ كل منها على حدة قبل لف الطرف، سواء كان ذراعًا أو رجلًا، وكانت الأطراف تُلفُّ كل على حدة، كما كان يُلفُّ الجِذْع وحده والرأس والعنق وحدهما، كل هذا قبل أن يُلفَّ الجسم كله في لفائفه النهائية.
- (٣)
عند لف الجسم كانت تُملأ جميع الفراغات على سطحه، أي بين الفخذين وحول الوسط مثلًا بالقماش حتى يكون منظره بعد اللف مستويًا غير مُضرَّس.
- (٤)
كانت تُوجد بين اللفائف أعداد كبيرة من التمائم والجعارين المصنوعة من مواد مختلفة، وكانت توجد في ثلاثة مواضع بلا استثناء، عند العنق وعلى الصدر تحت اليدين وحول السرة، وفي بعض الحالات وُجدت بصلة موضوعة بين الفخذين أو على الصدر أو على الفك الأسفل.
- (٥)
كانت الأنسجة الطرية جافة تظهر عليها آثار الاحتراق، وقد أمكن في بعض الحالات معرفة بعض العضلات.
- (٦)
لم يمكن اكتشاف موضع القطع في جدار البطن، ولكن كان يوجد في كثيرٍ من الحالات أجسام تشبه الصفائح من حجر أو معدن موضوعة حيث كان ينتظر وجود القطع على مثل ما كان يحدث في موميات العصور السابقة.
- (٧)
لم يمكن التعرف على أية أحشاء داخل تجويف البطن الذي كان مملوءًا بالقار المخلوط بالتراب، ولكن كانت تُوجد كُتل مبرومة في تجويف البطن والصدر، قد تكون لفائف الأحشاء.
- (٨)
كان الفم وصِماخا الأذنين كلها مملوءة بالقار وغير محشوة بالقماش.
- (٩)
كان سقف الأنف يوجد دائمًا مكسورًا، مما يدلُّ على إزالة الدماغ من هذه الطريق، وكان مُؤخَّر تجويف الجمجمة دائمًا مملوءًا بالمادة القارية.
والآن نلاحظ أن القار أو مادة سوداء تشبهه قد بدأ استعماله في التحنيط على عهد الأسرة السادسة والعشرين على الأقل، كما يظهر أن استعماله لغمس قماش اللفائف كان خاصًّا بهذا العهد وحده؛ لأنه حتى في عصر البطالسة حيث كان يُستعمل القار في تغطية الجسم، كانت تترك اللفائف الخارجية بيضاء نظيفة، ويدل وجود القار بهذه الكثرة وبين جميع اللفائف على أنه كان يُستعمل سائلًا وفي درجة عالية من الحرارة، مما أحدث احتراق الأنسجة والأقمشة، وربما كان الجسم يُغمس كتلة واحدة في ذلك السائل الأسود أو كان السائل يُصبُّ على الجسم.
ومنذ عهد البطالسة أخذ تحنيط الجسم لا يلقى العناية الكافية، وانصرف اهتمام المحنطين إلى تنميق اللفائف والأغلفة التي كثيرًا ما تنطوي على عظام عارية، وفي بعض الحالات كانت توجد عظام مختلطة ليست كلها لهيكل واحدة ملفوفة بعضها مع بعض في مومياء واحدة.
ولقد استمر تحنيط أو لف الجثث حتى العصر الروماني، وإلى ما بعد ظهور المسيحية، ولكن عندما انتشر الدين الجديد في البلاد انقرضت إحدى عاداتها التي طبعت تاريخها بطابع خاص لأكثر من ثلاثة آلاف عام.