مُقدِّمة
الحكيم هو من يُفَصِّل اعتقادَه عَلى قَدِّ البيِّنَة.
***
وإذ أخَذْتُ نفسي دائمًا بأن أحاول، جهد ما أستطيع، أن «أُعلِّم القارئَ كيف يصطاد بدلًا من أقدم إليه سمكًا» — فقد رأيتُ أن أعود إلى هذا المبحث، الحديث نسبيًّا، وأسلط عليه الضوء، وأقدمه إلى القارئ بطريقةٍ سائغةٍ قريبة المأخذ، مُرتكزًا في ذلك على الجانب السلبي من المبحث، وهو «المغالطات المنطقية»: تعريفها وتشريحها، وكيف نكشفها ونتجنبها، والحالات التي تَصِحُّ فيها ولا تعودُ مغالطة.
(١) ما هو المنطق غير الصوري؟
ترتبط نشأةُ المنطق غير الصوري بالحركات الاجتماعية والسياسية في ستينيات القرن العشرين، وما صَحِبها من دعوةٍ إلى تعليمٍ عالٍ أوثق اتصالًا بالحياة والتصاقًا بالواقع المعيش، هنالك ألحَّت الحاجة إلى تطبيق التحليل المنطقي على أمثلةٍ حَيَّةٍ ملموسةٍ من تفكير الحياة اليومية، والتخلِّي عن الأمثلة المصطنعة والحجج المفتعلة التي تعجُّ بها كتبُ المنطق القديمة، على أن المنطق غير الصوري لم يتأسس كفرعٍ بحثي مستقل إلا في أواخر السبعينيات من أعمال رالف جونسون وأنتوني بلير، الفردية والمشتركة، وإصدارِهما صحيفة «المنطق غير الصوري».
وعلى الرغم من مرور أكثر من ربع قرنٍ على نشأة المنطق غير الصوري، فإنه ما زال في طور التكوين، تصطَرِع فيه تياراتٌ متباينة وتتنازعه اتجاهاتٌ مختلفة، وما زال يتلمسُ طريقه ويفتش عن هوِيَّته، وما زال يتساءل عن جدوَى نظرية المغالطات ومبادئ المنطق الصوري بالنسبة إليه، وعن أهمية استخدام الرسوم البيانية، وعن دور نظريات التواصل والاعتبارات الديالكتيكية والحوارية في تقييم الحُجج، وما زال في كلِّ ذلك يلتمسُ العونَ من أفرعٍ بحثيةٍ قريبةٍ ويتداخل معها: علم البلاغة (الخطابة)، علم اللغة، الذكاء الصناعي، علم النفس المعرفي، التواصل الكلامي … إلخ.
-
التمييز بين الأصناف المختلفة من الحوار التي يمكن للحجة أن تَرِد فيه (النقاش العلمي مثلًا غير التفاوض أو عقد الصفقات).
-
تحديد المعايير العامة للحجة الصائبة (الاستنباطية والاستقرائية …)
-
دراسة مفهوم اللزوم — أو الترتُّب — المنطقي، الذي يُفسِّر لنا متى يصح أن نقول إن هذه الجملة تترتب منطقيًّا عن تلك.
-
دراسة المغالطات المنطقية وأهميتها في تقييم الحجج.
-
دراسة المواضع التي يصِحُّ فيها ما نأخذُه عادةً مأخذ المغالطة (الاحتكام الصائب إلى السلطة، الهجوم المبرَّر على شخص الخصم، التفكير الدائري الصحيح … إلخ).
-
تَفَهُّم الدور الذي تضطلع به المشاعر (الباثوس) والشخصية (الإيثوس) وغيرهما من المفاهيم البلاغية في تحليل الحجة وتقييمها.
-
تبيان الواجبات الجدلية المنوطة بالحجج في أنواعٍ معينةٍ من السياقات.
(٢) أهمية الإلمام بالمنطق غير الصوري
يقول أفلاطون في محاورة جورجياس: «في جدالٍ حول الغذاء يدور أمام جمهورٍ من الأطفال فإنَّ الحلواني كفيلٌ بأن يهزم الطبيب، وفي جدالٍ أمام جمهورٍ من الكبار فإن سياسيًّا تَسَلَّح بالقدرة الخطابية وحِيَلِ الإقناع كفيلٌ بأن يَهزمَ أيَّ مهندسٍ أو عسكري، حتى لو كان موضوعُ الجدال هو من تخصص هذين الأخيرين، وليكن تشييد الحصون أو الثغور! إن دغدغة عواطف الجمهور ورغباته لَأشَدُّ إقناعًا من أي احتكامٍ إلى العقل.»
حقًّا … ليس بالحق وحدَه تَكسِبُ جدالًا أو تقهر خصمًا أو تُقنِع الناس، من هنا يتبين لنا أهميةُ دراسة الحجة كما تَرِدُ في الحياة الحقيقية وتتجسد في اللغة العادية.
ذلك أن الحجة حين تَرِد في الواقع الحي لا تأتي مجردةً مُصَفَّاة، ولا تَكشفُ صيغتَها المنطقية للمتلقي بسهولةٍ وطواعية؛ إذن لَكان تمحيصُها أيسرَ عليه بما لا يُحد، إنما تأتي الحجة دائمًا ممتزجةً بلحم اللغة ودمها، متلفعةً بانفعالات الناس وأعرافِهم، مُؤَرَّبَةً بتضاريس الواقع، وبشئون الناس وشجونها.
(٢-١) أمثلة لعملية التجريد في المنطق غير الصوري
مثال ١
إنه لمن أشد دواعي البؤس والجزع ألَّا أحصل على درجة
A.
|
(مقدمة ١) |
إنَّ عليك ألَّا ترمي بي في حضيض البؤس والجزع. |
(مقدمة ٢) |
عليك، إذن، أن تمنحني درجة
A.
|
(النتيجة) |
ورغم أننا نُسَلِّم بأن هذه الحجة تندرج ضمن فئة «الحجج الانفعالية» التي تَحَدَّث عنها جلبرت، فليس ما يمنع أن نعاملَها كغيرها من الحجج، فنفحص مقدماتها ونُقيِّمها من حيث القبول والرفض، وننظر فيما إذا كانت النتيجة فيها تلزم عن المقدمات.
مثال ٢
إذا تناولت كينا بسليري صِرت قويًّا مفعمًا بالنشاط. |
(مقدمة ١) |
النشاط والقوة أمران مرغوبان. |
(مقدمة ٢) |
إذن من المرغوب فيه أن تتناول كينا بسليري (تشتريها). |
(النتيجة) |
- (١)
منعُ مباريات الكرة كفيلٌ بمنع حوادث الشغب في الملاعب.
منع الشغب في الملاعب أمرٌ مرغوب؛
إذن علينا منع مباريات الكرة.
- (٢)
إلغاء خطوط السكك الحديدية يُفضي إلى انتفاء تصادم القطارات.
انتفاء تصادم القطارات أمر مرغوب؛
إذن ينبغي إلغاء خطوط السكك الحديدية.
- (٣)
وجودي في العتبة يعني أنني في القاهرة.
أنا الآن في القاهرة؛
إذن أنا الآن في العتبة.
(٣) أهمية دراسة المغالطات المنطقية
قلنا إنَّ اهتمام المنطق غير الصوري كان متركزًا في البداية على مبحث المغالطات، وكان التعريف التقليدي للمغالطات هو «تلك الأنماط من الحجج الباطلة التي تتخذ مظهر الحجج الصحيحة»، ولعل من الأصوب أن نقول إنها أنماطٌ شائعة من الحجج الباطلة التي يمكن كشفها في عملية تقييم الاستدلال غير الصوري.
ويقول شوبنهاور: «يتوجَّب على مَن يدخل في مناظرة أن يعرف ما هي حِيَل الخداع، ذلك أن من المحتم عليه أن يصادفَها ويتعاملَ معها.» عليك إذن أن تلم إلمامًا جيدًا بالمغالطات المنطقية حتى يتسنَّى لك أن تتجنب الطرقَ المسدودة أثناء الحوار وتتعرف على «النقلات الخاطئة» في الجدل، وأن تُظهِرَ خصمَك على الخطأ الاستدلالي الذي ارتكبَه، بل أن تُقيِّض لهذا الخطأ اسمًا؛ لكي يعلم الخَصمُ أنك تجيد التفكير، وتفهم حجته ربما أكثر منه! كما أن كشف المغالطة وتسميتها وتحليلها من شأنه أن يُقصِي الحجة الباطلة من ساحة الجدل إقصاءً نهائيًّا ولا يكتفي بإضعافها أو تحجيمها، ذلك أن الخصوم المتمرسين بالجدل والمِراء لديهم من الخبرة والمهارة ما يُمكِّنهم من إنعاش حجتهم الجريحة وإعادة تجنيدها في حلبة الصراع.
(٤) فن التعامل مع المغالطات
غير أنَّ النَّاس — الخصم الفكري أو السياسي، والقضاة، وجمهور الحاضرين — ليسوا جميعًا مناطقةً ملِمِّين بفقهِ المغالطات وسُبُل كشفِها وإقصائها؛ ومن ثم فإن عليك أن تتقن فن التعامل مع المغالطات وكشفها وإقصائها؛ حتى لا تفشلَ حملتُك وتأتي بعكس المرجو منها وتجعلك غرَضًا للتهكم والسخرية، عليك باختصار أن تجعل ردَّك جزءًا من مساق الحديث، غير ناشزٍ أو مُستغرَب، عليك أن تُسمِّي المغالطة باسمها، بالعربية واللاتينية إن استطعت، وأن تُبادر بتبيان ما تعنيه المغالطة، ولماذا هي مغالطة، وأن تفعل ذلك بليونةٍ وخِفَّةٍ وإيجاز، دون أن تعلوك سيماءُ التعالم والتكلف والحذلقة، عليك أن تَذْكُر اسمَ المغالطة وفحواها كما لو كنت تُعِيد على مسامع القاضي الذكي شيئًا بسيطًا يعرفه من الأصل، ثم تُثنِّي بمثالٍ بالغِ الوضوح يَزِيد مقصدَك جلاءً وسطوعًا، ثم تختم حجتَك وكأنك تداوي خصمَك وتفتح له طريقًا آخر للجدل غير مغالطته البائدة، قل شيئًا كهذا:
(٥) التفكير النقدي مرحلة متقدمة من النمو المعرفي
في غياب التفكير النقدي نكون رهائن للمؤثرات المحيطة: فلا يسعنا إلَّا أن نُكرر، تكرارًا أعمى، تلك الاستجابات التي تعلمناها من قبل، ولا يسعنا إلا أن نقبل، قبولًا أعمى، كل ما يقال لنا في أبواق الدعاية السياسية والتجارية، وفي الصحافة والكتب، وكل رأي يصدر عن «سلطة».
إن التفكير النقدي والعلمي ليس شيئًا فطريًّا نأتيه بالطبيعة ونعرفه بالسليقة، وإنما هو عمل حرفي يتطلب حذقًا ومهارة، ليس من الصحيح أن لدينا قدرة طبيعية على التفكير الواضح والنقدي بغير تعلم وبغير ممارسة، ولا ينبغي أن نتوقع من غير المدرَّب أن يُفكِّر تفكيرًا واضحًا أكثر مما نتوقع من غير المدرَّب أن يجيد لعب التنس أو الجولف أو العزف على البيانو.
ذلك أننا إذ نمارس التفكير العلمي والنقدي إنما نمضي ضد مقاومةٍ شديدة ونسبح ضد تيارٍ عارم من التحيزات المتأصِّلة والأوهام الجِبِلِّية، ونتجشم اجتياز العديد من العوائق «الطبيعية» التي تحول بيننا وبين التفكير الواضح: فنحن بطبيعتنا لا نتحمل الغموض ولا نطيق معايشة السر! وإن بنا نزوعًا طبيعيًّا إلى طلب اليقين حيث لا يقين، والتماس الإجابات البسيطة عن الأسئلة المعقدة، وشغفًا بالدعاوى العريضة و«نظريات كل شيء» محمولة على ظهر بيِّنةٍ ضامرة هزيلة، وميلًا إلى الأخذ بالفرضيات التي تُرضِي رغائبنا وتدغدغ أمانينا، والالتفات إلى أضغاثٍ من الأمثلة التي تُؤَيِّد فرضيتنا وغض الطرف عن تلال من الأمثلة المفنِّدة، وإلى تذكر الرميات الصائبة وتناسي الرميات الخائبة، وإلى أخذ الاستعارات التوضيحية والتشبيهات المقرِّبة مأخذ الدليل، وإلى الانضواء مع القطيع والتلفُّع بالرايات والانضمام إلى «الزفة»، وإلى قتل الرسل بدلًا من تفنيد الرسالة، وإلى التخلص من عبء البرهان وإلقائه على عاتق الخصم، وإلى الاستدلالات الدائرية وتحصيلات الحاصل، وإلى التعويل الزائد على السلطة والانبهار الزائد بالمشاهير، وإلى التعميم الكاسح المتسرع، وإلى تحويل التعاقُب أو الاقتران إلى عِلِّيَّة، … إلى آخر تلك الأغاليط التي نغرق فيها إلى الأذقان، والتي يتناولها هذا الكتاب بالتحليل والدرْس.
-
فكِّر بنفسك لنفسك؛ ذلك لأن التقدم في التفكير النقدي لا يتم إلا كرحلة فردية وكدحٍ شخصي، صحيح أن هناك سُبُلًا كثيرة يمكن أن تجعل من الفلسفة جهدًا مشتركًا ومهمة جماعية، شأنها في ذلك شأن العلم، إلا أن على كل شخص في النهاية أن يفكر لنفسه، وألا يَكِلَ إلى غيره أن يفهم نيابةً عنه («افهم لي ذلك من فضلك» هو نموذج لطلبٍ مستحيل!)٩
-
اكتسب القدرة على الانفصال عن رأيك، و«مَوضَعَتِه»، ووضعه على محك التحليل والنقد، مثلما تفعل مع آراء الغير.
-
لا تُصدِّق كلَّ ما تسمع، ونصفَ ما ترى! ولا تبخل بجهدٍ من أجل الخروج من «مركزية العرق» ethnocentrism … من كهف الآراء الشائعة في عُرف جماعتنا الإثنية، والتمييز بين حقائق العالم وبين مجرد المسايرة لما تَصادَفَ أن يكون هو رأي الأسلاف أو اتَّفق أن يكون هو الرأي السائد في مسقط رأسنا وزمان وجودنا.
-
كن على استعداد، من حيث المبدأ، للتخلي عن رأيك إذا ما تَبَيَّن خطؤه، اسأل سؤالًا حقيقيًّا، سؤال مَن يبحث عن الحق لا عن مجرد تبرير لما يعتقده سلفًا.
-
تعلَّم كيف تَسُل الافتراضات التي تتبطن الرأي، وتضعها تحت أضواء النقد، ليكن ولعُك بالأسس، وانتحاؤك إلى الأسس.
-
لا تُسقط رغباتِك على الأشياء ولا تجعل من أمانيك معيارًا للحق، فأكبر الظن أن العالم لم يُخلق من أجلها ولم يُفصَّل على مقاسها.
-
«خذ» البلاغة، ولا «تؤخذ» بها، وفرِّق دائمًا بين الخطابة والبرهان، ولا يَخْلِبك زخرفُ القول عن جوهر الحجة، ولا تقف عند التشبيه البليغ وتظنه المحطة النهائية وتأخذه مأخذ الدليل.
-
لا تجعل من درجة حرارة الاعتقاد معيارًا لصوابه، فكثيرًا ما تتناسب قوة هذا الانفعال عكسيًّا مع قوة البينة، بحيث يمكننا تعريف «التحيز اللامعقول» بأنه «ما يجلب الغضب عند مساءلته»، ويمكننا أن نحدد مكمن تحيزاتنا بأن نلاحظ متى أخرجتنا الآراءُ الأخرى عن طورنا وأثارت غضبنا!
-
ومهما بلغ نضجُك في التفكير النقدي ستظل بحاجة أبدًا إلى تحصيل العلم واكتساب المادة المعرفية التي تُعمِل فيها فكرَك النقدي، ولا يَغِب عن بالك قولُ رَسِل «المنطق والرياضيات هما أبجدية كتاب الطبيعة، وليسا الكتاب نفسه!»
وأخيرًا، تَعَوَّد صحبةَ السِّر، وتَذَوَّق لذةَ التساؤل.
الأجوبةُ تُثقِلُك وتُطفِئُكَ وتُجمِّدُك،
وَحدَها الأسئلة ما يَشُوقُك ويهزك ويحدوك،
وربما اقتضى المرءَ عمرَه كله كي يَعرِفَ أن هذا الشوقَ وهذا الولوع هو الغاية القصوى والثروة النهائية.
[email protected]