المصادرة على المطلوب
begging the question; petitio principii
وفسَّر الماءَ بعد الجهد بالماءِ.
***
ذلك أنَّ الأصل في البرهان أن يكون أوضح وأوثق معرفةً مما يُراد البرهنة عليه، ومن البديهي أننا حين نختلف حول شيء فإننا نلجأ إلى شيء آخر لا نختلف حوله، ونحاول أن نستدل منه على ذلك الشيء الخلافي، ولكي تكون للحجة قوة إبستمولوجية أو ديالكتيكية يتوجب أن تبدأ من مقدمات معروفة ومقبولة أصلًا لدى الحضور، ثم نتقدم منها لكي نستخلص النتيجة غير المعروفة أو غير المقبولة، أما أن «نصادر على المطلوب» ونستند إلى ذات النتيجة الخلافية وقد تَنَكَّرت كمقدمة، وأما أن ندور في حلقة مفرغة ونحاول أن نَخْلُص إلى نتيجة تستند إلى مقدماتٍ ملقمةٍ بها أصلًا (أي تستند إلى ذاتها!) فهذا فكرٌ عبثي فارغ لا يمكن أن يفضي إلى أيِّ تقدم في المعرفة البشرية.
تتلون المصادرة على المطلوب بألوانٍ كثيرة، وتتخذ أشكالًا متعددة، وتُجِيد التخفي أحيانًا في هيئةٍ يتعذَّر كشفها إلا على المنطقي الخبير.
-
تستلزم العدالة أجورًا مرتفعة؛ وذلك لأن من الحق والصواب أن يكون الناس أقدر على الكسب الوفير. (وهي لا تعدو أن تقول إن العدالة تتطلب زيادة الأجور لأن العدالة تتطلب زيادة الأجور!)
-
يجب إلغاء المواد غير المفيدة كاللغة الإنجليزية من مقررات الكلية؛ وذلك لأن إنفاق اعتمادات لمادة غير مفيدة للطالب هو شيء لا يقره أحد. (نحن أيضًا لا نوافق على تبديد أموال في تدريس مواد غير مفيدة، غير أن الحجة هنا لم تثبت لنا أن الإنجليزية مادة غير مفيدة، وهو لب المسألة، وكل ما فعلَتْه هو أن «صادرت على المطلوب» وكررت النتيجة في المقدمات، دون التفات إلى المقدمة المحذوفة في هذا «القياس المضمر» enthymeme، وهي: «اللغة الإنجليزية مادة غير مفيدة».)
-
أيُّما شيء أقل كثافةً من الماء سوف يطفو فوقه؛ وذلك لأن مثل هذه الأشياء لا يمكن أن تغطس في الماء.
-
ما دُمت لا أكذب، فأنا إذن أقول الحقيقة.
يجب ألا نسمح ببيع هذه القطع من مقتنيات توت عنخ آمون إلى أيِّ بلد أجنبي مهما كان الثمن؛ وذلك لأن آثار مصر العظيمة ليست للتصدير.
أمثلة
-
(١)
«ينبغي ألا نُصدر أسلحةً لماليزيا؛ لأنَّ من الخطأ أن نُزود الأمم الأخرى بأدوات القتل.» قد يبدو هذا كأنه حجة أو برهان، غير أنه مجرد إعادة صياغة لنفس العبارة بألفاظ أخرى:من الخطأ أن = ينبغي ألا.نزوِّد = نصدر.الأمم الأخرى = الهند والصين وغانا … وماليزيا … إلى آخر قائمة الأمم.أدوات القتل = الأسلحة.
في ضوء هذا التحليل البسيط يتكشف أن الحجة لم تقل أكثر من: «ق» صادقة؛ لأن «ق» صادقة.
-
(٢)
«التجارة الحرة سوف تكون خيرًا لهذا البلد؛ والسبب في ذلك واضح للغاية: أليس من الواضح أن العلاقات التجارية غير المقيدة سوف تغدق على هذا البلد كل أنواع المنافع التي تنجم عندما لا تكون ثمة عوائق تعترض تدفق البضائع فيما بين بلدان العالم؟»
لا يعدو الأمر هنا أيضًا أن يكون إعادة صياغة، أو تكرارًا للعبارة نفسها بألفاظ أخرى، (لاحظ أن «العلاقات التجارية غير المقيدة» هو تعبير مطوَّل بعض الشيء عن «التجارة الحرة»، وأن بقية العبارة هي تعبير مطول أكثر عن قولك «خير لهذا البلد».)
-
(٣)
«السرقة فعل غير مشروع؛ لأنها لو لم تكن كذلك لما كان حرَّمها القانون.»
تتظاهر هذه الحجة بأنها تُبيِّن السبب الذي من أجله تُعَد السرقة خطأ أو عملًا غير مشروع، غير أنها ليست أكثر من تكرار للقول نفسه بصيغة أخرى، ولا تعدو في نهاية التحليل أن تقول: السرقة ضد القانون لأن السرقة ضد القانون، أو: السرقة غير مشروعة لأن السرقة غير مشروعة!
-
(٤)
«التلباثي (التخاطر) خرافة لا وجود لها؛ لأن الانتقال المباشر للأفكار بين الأشخاص هو أمر مستحيل.»
(التلباثي = الانتقال المباشر للأفكار بين الأشخاص؛ خرافة = مستحيل.)
-
(٥)
«إن السماح لكلِّ إنسان بحرية مطلقة في الحديث ينبغي أن نعده أمرًا في مصلحة الدولة؛ وذلك لأن من الأمور التي تصب دائمًا في مصلحة المجتمع أن يتمتع كل فرد بحرية كاملة غير منقوصة في التعبير عن عواطفه.»
-
(٦)
«القتل الرحيم active euthanasia مقبولٌ أخلاقيًّا، إن من اللطف والرحمة وحسن الخلق أن تعين كائنًا إنسانيًّا آخر على أن ينجو من المعاناة والألم من خلال الموت.»لنضع ذلك في صورة مقدمة ونتيجة:من اللطف وحسن الخلق … إلخ أن تعين إنسانًا … من خلال الموت؛إذن القتل الرحيم مقبول أخلاقيًّا.
والآن إذًا نحن ترجمنا المقدمة سنجد أن القائل لم يَعْدُ في حقيقة الأمر أن كرَّر الشيء نفسه مرتين: «من اللطف وحسن الخلق» تعني شيئًا قريبًا جدًّا من «مقبول أخلاقيًّا»، «تعين إنسانًا آخر … من خلال الموت» تعني «القتل الرحيم»، هكذا نجد أن الحجة لم تُقدِّم لنا أسبابًا عقلية تجعل القتل الرحيم مبررًا أخلاقيًّا، وتترك السؤال لدى المتلقي مفتوحًا: «حسن، لماذا إذن نعتقد أن القتل الرحيم جائز؟»
-
(٧)
الإجهاض هو القتل غير المبرَّر لكائن إنساني، وهو، من ثم، قتل، وما دام القتل جريمةً نكراء، فالإجهاض جريمة في جميع الأحوال.
نحن أيضًا لا نريد إباحة الإجهاض دون قيد أو شرط؛ غير أن الحجة السابقة تجعل النتيجة متضمَّنةً سلفًا في المقدمات، وتصادر منذ البداية بأن الإجهاض قتلٌ غير مبرر دون أن تبين لنا لماذا كان ذلك.
(١) الاستدلال الدائري reasoning in a circle
نحن إذن بإزاء شكل من أشكال المصادرة على المطلوب يعتمد فيه صدق الدعوى المقدمة على دليل يعتمد بدوره على الدعوى ذاتها التي يُفترَض أن يبرهن عليها، وبذلك يدور البرهان في دائرة مغلقة وتعتمد كل قضية فيه على الأخرى.
ويُعَد الاستدلال الدائري مغالطة لنفس السبب الذي يجعل المصادرة على المطلوب مغالطة: وهو أنه لا يُقدِّم لنا دليلًا مستقلًّا عن الدعوى ذاتها، وأنه يفشل في أن يربط لنا ما هو غير معروف أو غير مقبول بما هو معروف ومقبول، وفقًا لقاعدة «الأصل في البرهان أن يكون أوضح وأوثق معرفةً مما يُراد البرهنة عليه»، وكل ما يفعله الاستدلال الدائري هو أنه يقدم لنا مجهولين (أو أكثر) كلٌّ منهما مشغولٌ بتعقُّب ذيل الآخر! بحيث لا يتسنى له أبدًا أن يصل نفسه بالواقع.
أمثلة
-
(١)
الروح جوهر بسيط لأنها خالدة، لا تتجزأ ولا تتحلل ولا تفسد.
والروح لا بُدَّ لها مَن أن تكون خالدة؛ لأنها جوهر بسيط.
-
(٢)
أنا لم أفعلها أيها المعلم، وزميلي عليٌّ يضمن لك صدقي.
ولماذا يتعين عليَّ أن أثق بكلام عليٍّ؟
عليَّ؟! إنني الضامن لك أنه صادق أيها المعلم.
-
(٣)
نحن نعرف عن طبيعة الرب وصفاته من الإنجيل.
ونحن نعرف أن ثقتنا في الإنجيل مطلقة؛ لأنه مُوحَى به من الرب.
-
(٤)
إنني أطلب منك أن تضطلع بهذه المهمة لأنني أُقدِّر كفاءتك.
وكيف أعرف أنك تقدر كفاءتي؟
هل كنتُ أطلب منك أن تضطلع بمثل هذه المهمة لو لم أكن أقدر كفاءتك؟!
-
(٥)
هذه اللآلئ السبع التي سرقناها سوف نقسِّمها على ثلاثتنا: خذ أنت اثنتين، وأنت اثنتين، وأنا آخذ ثلاثًا.
ولماذا تستأثر لنفسك بثلاث؟
لأنني «الريس».
وما الذي نصَّبك «ريسًا» علينا؟!
لأن لَدَى كلٍّ منكما لؤلؤتين ولَدَيَّ ثلاث لآلئ أيها الغبي!
(١-١) هل كل استدلال دائري هو مغالطة بالضرورة؟
إذا نظرنا إلى المنطق الاستنباطي للقضايا فإن المصادرة على المطلوب («ق» إذن «ق») صائبةٌ استنباطيًّا، أين يكمن الخطأ إذن؟! ومتى تكون المصادرة على المطلوب أو الحجة الدائرية مغالطة؟
-
في «التحليلات (الأنالوطيقا) الأولى» يتناول المصادرة على المطلوب في ضوء قوله المأثور بأن البرهان يمضي مما هو أكثر يقينًا أو أوثق معرفةً: فإذا حاول المرء أن يثبت ما هو غير واضح بذاته عن طريق افتراضه والتسليم به بادئ ذي بدء، فإنه بذلك يصادر على المطلوب الأول، أو يُسِلِّم بالمسألة الأصلية، إنه يفترض ما ينبغي عليه إثباته، يُعَد هذا توصيفًا إبستيميًّا للمغالطة: فأن تُصادر على المطلوب هو أن تنتهك المبدأ الإبستيمي القائل بالأولوية المعرفية للمقدمات فوق النتيجة في أيِّ برهان من البراهين.
-
غير أن أرسطو في «الطوبيقا» (المواضع الجدلية) يتناول المصادرة على المطلوب من حيث هي واردة في نزاع جدلي بين طرفين أو خصمين: تقع المصادرة على المطلوب عندما يطلب صاحب دعوى ما «ق» إلى خصمه المعارِض أن يُسلِّم ﺑ «ق» إلى خصمه المعارِض أن يُسلِّم ﺑ «ق» كمقدمةٍ عليه قبولها، ويُعَدُّ هذا توصيفًا جدليًّا للمغالطة.
يُقدِّم أرسطو خمس طرق يمكن للحجة بها أن تصادر على المطلوب، ويتفاوت تناوله للمغالطة بعض الشيء بحسب السياق الذي يتناول فيه المغالطة: السياق الإبستيمي (في تناوله للبرهان على سبيل المثال) أو السياق الجدلي (كما في الطوبيقا).
أما عندما تُقدَّم نفس الحجة (من الوجهة السيمانتية/هُوِيَّة سيمانتية) إلى طرفٍ متلقٍّ يعتقد في النتيجة ويلتزم بها اعتقاديًّا، فإنها في هذا السياق التداولي المختلف لا تعتبر مغالطة.
– سيظل القرآن الكريم إلى يوم القيامة محفوظًا من كلِّ التصحيف والتحريف.
– ما الدليل على ذلك؟
– الدليل أن الله يقول في كتابه العزيز: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ.
من البين أن هذه الحجة تنطوي على مصادرة على المطلوب لأن المتلقي ليس لديه التزامٌ عقائدي بالقرآن، ومِن ثَمَّ فإن الدليل المطروح لا يضمن عنده أن يبقى القرآن محفوظًا بما فيه إِنَّا نَحْنُ.
ويقول: إنَّ المقدمة الكبرى «كل إنسان فان» تفترض النتيجة مسبقًا بمعنى أننا لا يمكن أن نُوقن بصدقها ما لم نكن موقنين بصدق النتيجة «أفلاطون فان»، فإذا كان من المشكوك فيه أن أفلاطون فان فسوف يكون من المشكوك فيه، بنفس الدرجة على أقل تقدير، أن جميع البشر فانون.
(١-٢) أمثلة أخرى للحجة الدائرية
(أ) الخطة القومية
يذكر البريطانيون تلك «الخطة القومية ١٩٦٤–١٩٧٠م»، وهي ممارسة للتخطيط الاقتصادي القومي الذي كان صيحة رائجة في ذلك الوقت: فقد طُلِبَ من الشركات أن تتخذ معدل نمو قدره ٣٫٨٪، وأن تُقَدِّر على هذا الأساس ما ستكونه خططها الخاصة للتوسُّع، ثم أضافت الحكومة هذه التقديرات المختلفة، واستنتجت أن الخطط المشتركة للصناعة البريطانية تُومئ إلى معدل نمو قدره ٣٫٨٪! لا غرو كانت الخطة القومية لا قيمة لها وما تزال، اللهم إلا لخبراء المغالطة المنطقية ممن يُسعدهم الحظ بالحصول على نسخ منها لدى باعة الكتب المستعملة!
(ب) الدور الديكارتي
(ﺟ) التحليل النفسي
تَعِج كتابات رائد التحليل النفسي وأتباعه بمصادرات على المطلوب تؤدي لدرس المنطق أضعافَ ما تُؤدِّيه لدرس السيكولوجيا من خدمات!
-
في كتابه «تفسير الأحلام» يقول فرويد بالنص الحرفي: «وأرادت مريضة أخرى (هي أمهر حالماتي) أن تنقض نظريتي في الأحلام، فأمكن أن يحل حلمها حلًّا أقل تعقيدًا وإن ظل متفقًا مع ذات القاعدة: أن عدم تحقق إحدى الرغبات معناه تحقق أخرى، ذلك أنني شرحت لها يومًا أن الحلم يحقق رغبة، فأتتني في اليوم التالي بحلم رأت فيه أنها تسافر مع زوجة أبيها لتقضيا فصل الصيف في الريف، وكنتُ أعلم أنها قد ثارت ثورةً عارمةً على فكرة المصيف قريبًا من زوجة أبيها، وأنها قبل ذلك بأيام قد أفلحت لحسن حظها في الإفلات من هذه الصُّحبة المخوفة؛ فاستأجرت منزلًا في الريف يبعدها عن حيث كانت امرأة أبيها كل البُعد، وها هو ذا الحلم قد أتى فإذا هو يقلب هذا الوضع رأسًا على عقب، ألا ينقض ذلك نظريتي في تحقق الرغبة بوساطة الحلم أقطع نقض؟ يقينًا، ولا يحتاج المرء إلى أن يستخرج النتيجة التي تخلص من هذا الحلم لكي يحصل على تفسيره: إن الذي يخلص من هذا الحلم هو أنني كنت على خطأ، وهكذا فقد كانت رغبتها هي أن أكون على خطأ والحلم يريها تحقق هذه الرغبة.»٩
-
يذهب أنصار التحليل النفسي إلى أن المشاهدات الإكلينيكية تؤيد نظرياتهم، من حيث هي وقائع تجريبية تربط النظرية بالعالم ربطًا اختباريًّا فتمنحها الصفة العلمية، غير أن هذه الملاحظات الإكلينيكية، شأنها شأن كل الملاحظات الأخرى، هي تأوُّلات في ضوء النظرية؛ ولهذا السبب وحده تكتسب مظهر المدَعِّم لتلك النظريات التي تم في ضوئها تفسير هذه الملاحظات، إنها أشبه بثوبٍ خُلِع «من» النظرية ثم خُلِع «عليها» … فَهالَهُم أنه انطبق على النظرية وأيَّدَها تأييدًا، وهو منطقٌ معكوس يقع فيه كل من يقرأ فكرتَه ويتأوَّلها في كلِّ شيءٍ ويراها في كلِّ شيءٍ لأنه لا يرى إلا بها! وهو منطق معكوس تجد له أمثلة لا تحصَى في النظريات الميتافيزيقية التي تبدو الوقائعُ مؤيدة لها، ولو دققنا النظر في هذه الوقائع لَتَبَيَّن لنا أنها اختيرت في ضوء النظريات عينِها التي نريد اختبارها بها.
-
قلَّما يخضع التحليل النفسي للاختبار في الممارسة الحقيقية، وحتى حين يعرض للاختبار فإن الاستدلال كثيرًا ما يكون دائريًّا، بمعنى أن تفسير المعطيات نفسها يتطلب افتراض صدق النظرية، مثال ذلك ما ورد عن نتائج دراسة حول عقدة أوديب Oedipus Complex حيث كانت نسبة الفتيات أكبر من نسبة الأولاد بدرجة عالية الدلالة فيما يتصل بتخيل الصورة الذكرية ترتقي الدرَجَ وتدخل الغرفة، وهو بالطبع أقوى دليل على صدق نظرية فرويد، حيث إن ارتقاء السلم في نظرية فرويد هو رمز للجماع،١٠ مثل هذا الدليل مشكوك فيه إلى حد كبير؛ لأن هذا الفرق المذكور بين الذكور والإناث لا ينهض دليلًا على صدق نظرية فرويد إلا إذا تبنى التفسير الرمزي الذي يتضمن أن الفتيات يُفكرن في الاتصال الجنسي بأبيهن، أي ﺑ «مصادرة على المطلوب»، وما من نتيجة إلا ويمكن أن تكون مؤيَّدة إذا نحن أفرغنا عليها التفسيرَ المطلوبَ تأييده.
(٢) تفسيرات تحصيل الحاصل
والحق أن كثيرًا من الفكر الأخلاقي الرائج لا يقول أكثر من ذلك! «افعل ما فيه المصلحة» (وما المصلحة؟!) «لا تفعل ما فيه مفسدة» (وما المفسدة؟!) «كن وسطيًّا» (بين ماذا؟!) وقلَّما يدرك المتحدث المخلص أنه في حقيقة الأمر لم يزد مستمعيه علمًا بأي شيء، وأنه في حقيقة الأمر لا يزيدهم إلا رضا ذاتيًّا زائفًا، وأنه لا يغادرهم إلا وقد زاد طبعهم جفاءً وزادَ أرواحَهم غِلظة!
•••
وبعد، فمن شأن الحجة السديدة لإثبات دعوى معينة أن تقدم دليلًا مستقلًّا لتبرير الاعتقاد بهذه الدعوى، وأن تتجنب الاعتماد على الدعوى، أو شطرٍ من الدعوى، لإثبات ذاتها، وما يكون لعاقلٍ أن يفترض، كدليل أو بينة، ذات الشيء الذي يحاول أن يُثبته، غير أننا كثيرًا ما يجرفنا الانفعال الأيديولوجي والالتزام بصدق مذهبنا السياسي أو الأخلاقي ويَعْصِب أعيننا عن رؤية أننا، في حقيقة الأمر، نفترض مقدمًا صدق ما نريد أن نبرهن عليه؛ ولذلك تجد المصادرة على المطلوب مرتعًا خصيبًا لها في مثل هذه المجالات، وحيثما فرغت ساحةٌ من البراهين الصلبة والحجج الوقائعية المستقيمة تم استدعاء الحجج الدائرية لتَوَلِّي الأَزِمة واتخاذ اللازم، ولو أن هناك براهين مقنعة على الأيديولوجيات، المتكثرة تَكَثُّر الأهواء والمصالح، لكان عسيرًا على ذوي العقول أن يختلفوا حولها، ومن البين المتواتر أنه كلما توافر للناس حججٌ أكثر قبولًا وصلابة زاد انصرافهم عن الحجج الدائرية لتبرير دعواهم.
ربما تخدع المصادرة على المطلوب قائلَها أكثر مما تخدع متلقيها؛ لأنَّ المرء حين يكون مُشْربًا منذ البداية بموقفٍ ما فإن من السهل أن يتراءى له كلُّ مكافئٍ أو صنوٍ لهذا الموقف كأنه برهانٌ عليه، ثمة فرق بين أن تعتنق رأيًا وبين أن تكون قادرًا على تبرير هذا الرأي، وعلى محبي الحكمة أن يتعلَّموا من درس الفلسفة أن هناك فرقًا بين الموقف نفسه وبين الحجج التي يستند إليها الموقف، ومن لم يتعلم هذا التمييز سيكون عُرضةً دائمًا للانخداع بمغالطة «المصادرة على المطلوب».