السبب الزائف (أخْذُ ما ليس بعلةٍ عِلةً)
false cause; non causa pro causa
***
(١) لماذا تحدُثُ الأشياء؟
يميل البشرُ بطبيعتهم إلى تفسير الأحداث وإدراك سببها؛ ولذلك أسَّسُوا العلم، الأصيلَ منه والزائف. ما سببُ المرض؟ ما سبب الدمار، والحروب، والكسوف والخسوف، والزلازل، والأعاصير، والركود الاقتصادي …؟ إن في جِبلَّة العقل البشري أن يربط الأشياء لِتُكوِّن نمطًا أو هيئةً أو شكلًا، وأن يصل النقاطَ المنفصلة، ويملأ الثغرات، لِيَستوِي له نمطٌ ذو معنى لديه، وهو يرتبك ويتأزم إذا لم يميز أنماطًا؛ لأن به ولوعًا بالتنبؤ، ورغبةً في السيطرة على الأحداث.
- (١) المصادفة البحتة coincidence.
- (٢) وجود سببٍ ثالثٍ أعم من وراء كلا الحدثين، وتسمى المغالطة عندئذ: «إغفال سببٍ مشترك» ignoring a common cause، أو «المعلول المزدوج» joint effect.
- (٣) كما أن الاتجاه الحقيقي للعلاقة السببية قد يكون معكوسًا، وتسمى المغالطة هنا: «الاتجاه الخطأ» wrong direction.
(٢) الخلط بين السببية ومجرد المصادفة
-
(١)
وُجِدت ارتباطات شبه تامة بين معدل الوَفَيات في حيدر أباد بالهند من ١٩١١ إلى ١٩١٩ وبين تغييرات في عضوية الرابطة الدولية لعلماء الميكانيكا خلال نفس الفترة، ولا يمكن لأي عاقل أن يعتقد حقًّا في وجود أي شيء يتجاوز المصادفة المحضة في هذه الواقعة العجيبة (والتافهة في الوقت نفسه!)
-
(٢)
وُجد ارتباطٌ إحصائي وثيق بين مستويات تمويل الفنون في بريطانيا وبين أعداد طائر البطريق في القطب الجنوبي!
-
(٣)
وُجد ارتباط كبير بين أعداد طائر اللقلق في أماكن معينة من أوروبا وبين معدل المواليد من الأطفال. (من الخَطَل أن نستدِل من هذا الارتباط وحده على أن وجود طائر اللقلق سبب لولادة الأطفال!)
(٣) إغفال سبب مشترك neglect of a common cause
يكثر الخلط بين المَعِية والسببية حين يتم إغفال سببٍ مشترك للحدثين كليهما؛ أي حين يكون الحدثان ناتجين عن حدثٍ ثالث، أو معلولين لعلةٍ مشتركة.
أمثلة
-
(١)
قبيل اندلاع الحروب يتزايد معدل التسليح لدى الأطراف المتصارعة؛ إذن زيادة التسليح تؤدي إلى اندلاع الحروب. (ربما يكون الصواب أن التوتر والخلاف بين الأمم يفضي إلى كل من التسلح والحرب.)
-
(٢)
الحمى (ارتفاع الحرارة) تؤدي إلى الطفح الجلدي. (قد يكون فيروس الحصبة هو السبب من وراء كلٍّ من الحمى والطفح الجلدي.)
-
(٣)
وُجد ارتباطٌ قويٌّ بين معدلات بيع الأيس كريم وبين معدلات الجريمة؛ إذن تناول الأيس كريم يؤدي إلى ارتكاب الجرائم! (الصواب أن ارتفاع حرارة الجو هو السبب في ارتفاع معدلات الجريمة (بما يُفضي إليه من توتر قلق) وفي ارتفاع مبيعات الأيس كريم.)
-
(٤)
كلَّما كبر مقاس حذاء الطفل كان خطُّه أفضل! إذن كبر حجم القدم يُسهِّل عملية الكتابة! (الصواب أن النمو المتصل للطفل يؤدي إلى كلٍّ من زيادة حجم القدم ونمو القدرات المدرسية جميعًا بما فيها خط اليد.)
-
(٥)
ثمة انخفاض ملحوظ في البارومتر أثناء هبوب عاصفة؛ إذن العاصفة سببت انخفاض البارومتر. (الصواب أن انخفاض الضغط الجوي هو سبب كل من العاصفة وانخفاض البارومتر.)
-
(٦)
كشفت التحليلات وجود بكتريا معينة بكمية كبيرة لدى أحد المرضى، فاستنتج الطبيب أن البكتريا هي سبب المرض، ثم تبيَّن أن البكتريا غير ذات خطر وأن هناك فيروسًا هو سبب كلِّ من المرض ونمو البكتريا الانتهازية التي تكاثرت نتيجة ضعف المريض.
-
(٧)
خلال العشر سنوات الأولى من انتشار أجهزة التليفزيون في أي بلد من البلدان وُجِد أن معدلات جرائم القتل ترتفع إلى الضعف؛ إذن التليفزيون هو السبب في العنف. (الصواب أن انتشار أجهزة التليفزيون هو مجرد عَرَض لتغيرات اجتماعية عريضة النطاق، تشمل اكتمال بنيةٍ تحتيةٍ كهربائية، وتَكَوُّن طبقة وسطى كبيرة قادرة على شراء أجهزة التليفزيون وغيرها من الأدوات، من السذاجة إذن أن نَعُد التليفزيون في هذه الحالة متغيرًا مستقلًّا تمامًا.)
-
(٨)
في بعض الولايات الأمريكية وُجد أن معدلات الإدمان تتزايد مع زيادة الفقر؛ إذن الفقر يؤدي إلى الإدمان. (الصواب أن التمييز العنصري في هذه الولايات كان يُفضي إلى الإحباط والتراخي فيؤدي إلى كلٍّ من الفقر والإدمان معًا.)
(٤) الاتجاه الخطأ (للعلاقة السببية) wrong direction
في هذه المغالطة نجد العلاقة بين العلة والمعلول (السبب والنتيجة) معكوسة، حيث يؤخذ المعلول كعلة وتؤخذ العلة كمعلول.
أمثلة
-
(١)
انتشار مرض الإيدز ناتج عن زيادة الثقافة الجنسية. (العكس هو الصحيح: وهو أن زيادة الثقافة الجنسية ناتجة عن انتشار الإيدز وتَخَوُّف الناس منه.)
-
(٢)
يزداد انتشار الأمراض الفِصامية بين الطبقات الاجتماعية الدنيا؛ إذن تَدَنِّي الطبقة الاجتماعية يُؤدِّي إلى الفصام العقلي. (الصواب أن المرض العقلي المزمن يؤدي إلى تدهور أداء المريض الدراسي والمهني والاجتماعي، فيهبط به شيئًا فشيئًا إلى طبقة اجتماعية أدنى، وهكذا من يُصاب وراثيًّا من نسله، وتُسمى هذه الظاهرة drift phenomenon)
-
(٣)
وُجِد أن هناك ارتباطًا بين معدل امتلاك السلاح في بعض الولايات ومعدل ارتكاب الجرائم؛ إذن امتلاك السلاح يؤدي إلى انتشار الجرائم. (الصواب أن انتشار الجرائم يُقلِق المواطنين الآمنين فيستخرجون رخص الأسلحة للتحوُّط والحماية.)
(٥) بعد هذا إذن بسبب هذا (المغالطة البَعدِية/بِعَقِبِه إذن بسببه) post-hoc ergo propter hoc a posteriori fallacy
أما الاكتفاء بمجرد التعاقب الزمني كدليل على علاقة السببية فهو تفكير شديد الفجاجة والسوقية، وهو سوقي لأنه يتسم بالشيوع والدخل، وبه يَتَقَوَّم كلُّ التفكير الخرافي والسحري وحكايا العجائز والوصفات الطبية الشعبية وثرثرة مجالس الفراغ والتبطُّل.
كان مؤرخو الإغريق دائمًا يُفسِّرون الكوارث الطبيعية كنتاجٍ لأفعال البشر، فإذا حدث زلزالٌ مروِّعٌ مثلًا ودَمَّر مدينةً بكاملها، فإن هيرودوت يعمد بهمةٍ وجد إلى تفصيل الأحداث البشرية السابقة على الزلزال، ثم يستنتج أن المذبحة التي ارتكبها أهل المدينة، مثلًا، قبل الزلزال كانت سببًا في وقوعه.
وما تزال هذه الطريقة في التفكير تعشش في أذهاننا حتى اليوم، فالتسونامي الآسيوي سببه تفاقم ذنوب البشر (مع أن التسونامي نتاج زلزال تحت المحيط ناجم عن انزلاقٍ طبقي، والضحايا ربما كانوا أقل أهل الأرض ذنوبًا) وإعصار كاترينا سببه السياسة الأمريكية (مع أن الأعاصير سببها حركة الرياح فوق ماء المحيط)، وما دامت هناك حقًّا فجوة في معرفتنا، فلن يمكنك أن تُقنع من مال به هواه إلى تفسيرٍ معينٍ دون سواه.
على هذه المغالطة السوقية تقوم حِرَفٌ وترتزق طوائف: العِرافة والفأل والتنجيم والرُّقي والتعازيم والكهانة والعلاج الشعبي.
يُبشِّرك العرَّاف بأحداثٍ سعيدة، وتأتيك أحداثٌ سعيدة؛ لأن الأحداث السعيدة تحدث طوال الوقت على كل حال، ويُنْذِرُك المنجِّم بعواقب وخيمة، وتنزل بك نوازل غير سارة؛ لأن النوازل غير السارة تنزل دائمًا على كلِّ حال، ويصف لك المشعوذ حجابًا يشفي مرضك، ثم تُشفَى من المرض؛ لأن أغلب الأمراض يُشفى تلقائيًّا بمرور الوقت (وإلا لما بقي حيٌّ على الأرض إلى اليوم) يتذكر الناس الرميات الصائبة والتوقعات الناجحة، ويتداولونها فيما بينهم مضخَّمة ومُنتقاة، فتستقر في ذاكرتهم دليلًا على صدق العراف أو المنجِّم أو المعالج، بينما تُنسى تلقائيًّا تلك الرميات الخائبة والتوقعات الفاشلة، وهي الأكثر والأعم بما لا يُقاس، وتنسدل عليها ستائر النسيان.
أمثلة أخرى
-
(١)
لَبِستُ هذا القميص اليوم وذهبت إلى الامتحان فأجبت عن جميع الأسئلة بإجادة تامة، إذن هذا القميص فألٌ حسن ولسوف أرتديه في كل الامتحانات القادمة. (غني عن البيان أنني أجَدْتُ في الامتحان لأني كنت مستعدًّا له استعدادًا طيبًا بالمذاكرة والدرس، وليس لأنني لبست هذا القميص أو ذاك!)
-
(٢)
تَكسِفُ الشمسُ، فيُهرَع أفرادُ القبيلة عن بكرة أبيهم، ويظلون يدقون الطبول بعنف، ثم تبرز الشمس من وراء الحجاب، إذن دق الطبول يسترد الشمس ويُخرجها من كسوفها.
-
(٣)
أصيب حسن بصداع شديد، فعجنت له جدته عجينة من الدقيق والخل وزيت السمك وبول الأرنب، لصقها برأسه ونام، فذهب عنه الصداع بعد دقائق. (كثيرًا ما يذهب الصداع تلقائيًّا بذهاب سببه الحقيقي.)
-
(٤)
تشوَّشت الصورة في تلفاز سعيد، فخبط بقوة على التلفاز، فانصلحت الصورة، إذن خبط الجهاز هو أيسر طريقة لإصلاح أعطال التلفاز.
-
(٥)
عطس منصور في منزله بالقلعة، وبعد ثوانٍ وقع تسونامي المحيط الهندي، إذن عطسة منصور فجَّرت كارثة التسونامي.
(٦) تذييل: الأثر البلاسيبي placebo effect
-
يزيل بعض الأطباء أنواعًا من الزوائد الجلدية بدهانها بصبغة خاملة براقة والوعد بأنها تزول مع زوال الصبغة!
-
وفي دراسات عن الربو الشعبي تبين أن استنشاق بلاسيبو يُوسِّع الشعب الهوائية توسيعًا حقيقيًّا مَقِيسًا.
-
وفي التهابات القولون وُجد تحسنٌ حقيقي في خمسين بالمائة من المرضى إثر تعاطيهم دواءً خاملًا (بلاسيبو).
-
ومن الروايات البحثية الفذة ما سجله أحد أطباء القلب بصدد الإجراء الجراحي المعروف بربط الشريان الثديي الداخلي في بعض حالات الذبحة الصدرية (لزيادة المدد الدموي إلى عضلة القلب): فقد وجد الأطباء، بالمصادفة، أن الجراحة الوهمية المتضمنة لمجرد الفتح الجراحي من دون ربط الشريان قد أدت إلى نفس الأثر العلاجي. (وهو تحسن ٩٠٪ من المرضي!)
-
قد يكون هذا الأثر من خلال إطلاق «الإندورفينات» endorphins في مواضعها ومساراتها العصبية.
-
وقد يكون من خلال حفز جهاز المناعة.
-
وقد يكون من خلال تنشيط محورٍ عصبي هرموني هو «محور المهاد التحتي-النخامية-الكظرية» hypothalamo-hypophyseal-adrenal axis.
قد يقول قائل: وما الضَّير؟! وماذا يُجديني أن أعرف كيف يحدث الشفاء ما دام الشفاء يحدث؟
والجواب أن هذه الضروب من «تناسخات البلاسيبو»، على فوائدها التصادفية في بعض الحالات، إنما تُغشِّي على المسار الجاد للبحث الطبي الحقيقي، وتُضِلُّ عن التماس العلاج الصحيح في مظانه الصحيحة، وتستبدل به هُراءً بلاسيبيًّا «تَفتُّه» لأناسٍ ذاهلين بالمرض غارقين في الأغاليط، إن البلاسيبو لن يستأصل ورمًا، ولن يجبر كسرًا، ولن يكبح صَرَعًا، ولن يُوقف نزيفًا، ولن يغسل كلَى، ولن ينقذ حالة حرجة … ولو كان هامش البلاسيبو يكفي لعلاج الناس لما نشأ المرفق الطبي لدى البشر منذ البداية.
وبعد، فإن تناسخات البلاسيبو تريد أن تبيعنا بضاعةً بأكثر من ثمنها، فالأثر البلاسيبي قائم ومبذول ومتضمَّن ومبيَّت سلفًا في كل دواء وفي كل إجراء علاجي، إنما تسعى الأبحاث الدوائية إلى إثبات جدوى علاجية تتجاوز الأثر البلاسيبي بفارقٍ ذي دلالة.