التفكير التشبيهي (الأنالوجي الزائف)
false analogy; analogical fallacy
***
يتألف «الأنالوجي الزائف» من افتراض أن الأشياء المتشابهة في وجهٍ من الوجوه لا بُدَّ من أن تكون متشابهة في وجوه أخرى، وعليه فما دام شيئان، «أ» و«ب»، متماثلين في جانب من الجوانب فإنهما، إذن، متماثلان في جوانب أخرى، أو في جميع الجوانب!
(١) أهمية الأنالوجي ومشروعيته
وفي مجال القضاء كثيرًا ما يُستخدم القياس على سابقةٍ (أو سوابق) قضائيةٍ لوجود مماثلة مع القضية الراهنة، بل إن معنى القوانين وروحَها لا تتبلور ولا تبزغ إلا بكدح القضاة في تطبيقها على الحالات الخاصة قاضيًا تلوَ آخر، وحالةً تلو أخرى، ويكون الأنالوجي في ذلك هو قوام الفهم ومِلاك التأويل.
وليس من قبيل المبالغة أو الغلو أن نقول إن كل صور الاستدلال وإعمال العقل، وكل ضروب الإدراك الحسي والذهني، إنما تستند إلى قدرتنا على تمييز أوجه التشابه ذات الصلة ومعاينة القواسم المشتركة من خلال هذا التدفق الكاليدوسكوبي لأشياء العالم وأحداثِه ومَرائيه.
(٢) حدود الأنالوجي ومخاطره
(٣) الأنالوجي المجازي (البياني/التصويري) figurative analogy
تُعَد الصور البيانية، من تشبيه واستعارة … إلخ، وسائط ضروريةً لنقل الأفكار وتوصيل المعلومات وتقريبها إلى الأذهان، تتيح لنا الصور البيانية أن نتحدث عن مفاهيم جديدةٍ غير مألوفة للمستمعين في حدودٍ قديمةٍ مألوفةٍ لديهم، استنادًا إلى وجه شبهٍ معين بين الفكرة المجهولة التي نريد إيضاحها لهم والفكرة المألوفة التي يعرفونها من الأصل، وامتدادًا بخصائص أخرى للمألوف لكي توازي خصائصَ أخرى للمجهول، تضطلع هذه المَلَكة التصويرية البيانية بدورٍ كبيرٍ في التفكير والتواصل، وتمثل عنصرًا حيويًّا من عناصر الفهم والإفهام.
غير أن الصور البيانية لا يمكن أن تُستخدم استخدامًا مأمونًا إلا كوسيلة إيضاحِ لمعنى معين يرمي إليه المتحدِّث، إنها أدواتٌ للتعبير وليست مصادرَ للمعرفة، إنها وسائلُ لتقريب الأفكار لا للبرهنة عليها، وسائط للتوصيل لا للتدليل، للإفهام لا للإفحام، إذا أراد المرء مثلًا أن يُفسر التغيرات التي تعتور الإنسان وهو يتقدَّم من الشباب إلى الشيخوخة فإن له أن يكتب فقرةً بيانية مُنَمَّقة يقول فيها:
ما أشبهَ الحياةَ بالنهر: يدرج كغديرٍ مرحٍ، ثم يَستوي تيارًا عاتيًا، ثم يرزح في نهاية المطاف واهنًا كليلًا حتى يتبددَ في البحر.
ولكن ليس لأحدٍ أن يستمد من هذا، ومن معرفته بالأنهار، مبادئ عن إدارة الأعمال أو عن العلاقات الإنسانية!
النظام الجمهوري هو نظامٌ زائفٌ ومدمِّر؛ ذلك لأن الملك هو رأس الدولة، وإذا أنتَ فَصَلتَ الرأس عن الجسد فلن تعودَ بقية الأعضاء تؤدي وظائفها، وسيموت الجسدُ كله.
هكذا يَتَبدَّى بؤسُ التفكير التشبيهي: فالدولة لا تشبه الجسدَ الحي إلا مجازًا وتصويرًا بيانيًّا، ولا يمكن أن يُستنبَط من هذا التماثل أي قواسمَ مشتركةٍ حقيقية تجمع بين الجسد والدولة.
وقد يذهب جميع الشموليين نفس المذهب، فيقولون إن الدولة أشبه بالجسد، يعمل على أفضل نحو إذا كان ثمة دماغٌ حادٌّ يديره؛ لذا فإن الحكومات المتسلطة أكثرُ كفاءةً من غيرها من الحكومات.
لا تتطرق أي من هذه التشبيهات الزائفة التي تُشَبِّه الدولة بالجسم الحي إلى الحديث عن كبد الدولة أو بنكرياسها أو آليات الإخراج بها!
وجدير بالذكر أن تأثير الأنالوجي الزائف قد يكون مدمرًا إذا انقلب ضد من استخدَمه، فمن التقنيات الفعالة في فن المناظرة أنه إذا استخدم الخصمُ تشبيهًا لكي يدعم حجته فما عليك سوى أن تمسك بطرف هذا التشبيه وتمطه في اتجاهٍ يخدم حجتَك أنت، فينقلب السحر على الساحر! عندئذ سيضطر خصمك إلى التسليم بأن تشبيهه لم يكن موفقًا، وسيخسر نقاطًا في نظر الجمهور، مثال ذلك أن يقول رئيس اللجنة (في مشروع لا تستريح له أنت ولا تأمَن عواقبه):
ونحن إذْ نبحر قُدمًا في لجنتنا الجديدة دعوني أُعرب عن أملي في أن نتكاتف سويًّا من أجل رحلةٍ سلسة.
السيد رئيس اللجنة على حق، ولكن تذكَّروا أن المجذِّفين كانوا دائمًا يوضعون في سلاسل ويُضربون بالسياط، وكانوا إذا غرقت السفينةُ يغرقون معها!
(٤) أنالوجي يتلمَّظ بدمٍ بشري!
إنك لا يمكنُكَ أن تصنع عجَّةً دون أن تكسر بيضًا.
منذ أن جادت قريحة لينين بهذه الصورة المعجبة أصبح هذا التشبيه البياني في القلب من فلسفة الثورات والانقلابات، وغدا ذريعةً مقنعةً غاية الإقناع لسحق المعارضة دون رحمة: أية رحمة؟! إنك في مرحلة شديدة الخصوصية من مراحل سير التاريخ، أنت فيها إما قاتل وإما مقتول، وعندما تَقتُل وأنت في هذه المرحلة فإن عليك أن تستأصل؛ لكي تستيقن من أنك وارَيت العدوَّ وثأره، أي أن تتخلص من الطبقة الحاكمة والمعارِضة وكلِّ من لديه بهما أدنى صلة حتى الأجنة في البطون! حسنٌ فالغاية تبرر الوسيلة على كل حال، وقسوتُك، بعد كل شيء، مبطنةٌ بالرحمة: الرحمة بالطبقات الكادحة وهي الغالبية العظمى دائمًا وأبدًا!
إن البشر أشبَهُ ببحارة سفينةٍ في عرض البحر: يمكنهم أن يُصلِحوا أي جزء من السفينة التي يعيشون فيها، ويمكنهم أن يصلحوا السفينة كلها جزءًا جزءًا، ولكن لا يمكنهم أن يصلحوها كلها دفعةً واحدة.
(٤-١) أمثلة أخرى للتفكير التشبيهي
-
من العبث أن نبذل كل هذا الجهد في محو أمية الكبار، ذلك أنه لا فائدة، بعد كل شيء من البكاء على اللبن المسكوب.
-
التعليم المدرسي كالعمل التجاري يحتاج إلى استراتيجية تنافسية تؤدي إلى تزايد الربح.
-
يجب أن نسمح للطلاب باصطحاب كتبهم في الامتحانات، ألا يستخدم المحامون المذكرات القضائية في مرافعاتهم، ويستشير الأطباءُ الأشعةَ في جراحاتهم؟ (لاحظ أن العنصر الجوهري في هذه الأفعال مختلف: فالمرافعة والجراحة هي «تطبيق» للمعرفة، أما الامتحانات فمن المفترض أنها «اختبار» للمعرفة.)
-
المسدس كالمطرقة، كلاهما أداةٌ معدنية من الممكن أن تستخدم في القتل، فلماذا يُباح تداول المطارق ويُحظر تداول المسدس؟
-
المستخدَمون أشبه بالمسامير، فالمسامير لا تؤدي فعلها ما لم تطرقها على رأسها، وكذلك المستخدمون.
-
العلم أشبه بالكعك، يَحْسُنُ أن تصيبَ منه جزءًا يسيرًا، فإذا أسرفتَ في تناوله أصاب أسنانك بالتسوس، كذلك العلم إذا أوغلتَ فيه وتبحرتَ أصاب عقلك بالجنون.
-
«الإنسان ليس جزيرة (منعزلة) … إلخ.» (دائمًا ما يُستخدم هذا الأنالوجي لتبرير رؤية جمعية أو تمرير أجندة اشتراكية أو شمولية، ولكن هذا بالطبع ما يكونه كل إنسان على التحقيق: الفرد فرد، يولد وحده ويموت وحده ويملك وحده امتياز الدخول إلى عالمه الذاتي الخبروي.)
-
تدفق الكهرباء أشبه بتدفق الماء، فكلما زاد سُمك السلك زاد التيار الكهربي المتدفق.
-
العقول كالأنهار، قد تكون عريضة (المجال)، وكلما كان النهر أعرض كان أكثر ضحالةً، إذن كلَّما زاد العقل اتساعًا زاد سطحيةً أو ضحالة!
-
إن لدينا قوانين نقاء الأطعمة، وقوانين سلامة الأدوية، فلماذا لا تكون لدينا قوانين تضمن نقاء أفلام السينما والروايات والقصص؟
-
الشعر أرقى من الرواية؛ لأن قارورة عطر واحدة أثمن من مائة شتلة من الفل. (يمكنك بنفس التشبيه أن تقول: نعم ولكن النزهة في مشاتل الفل هي أبهى وأبهج من حبسه في قارورة!)٤
(٥) كُتابنا والتفكير التشبيهي
من طَلَبَ شَبَهًا وجده … ثمة دائمًا وجه شبهٍ بين أي شيئين من أشياء العالم مهما تباينا واختلفا، وإذا أدمن المرءُ التفكير التشبيهي فلن يُعجِزَه أبدًا أن يجد لكلِّ شيءٍ شبيهًا وأن يُقيِّض لكل شيءٍ مثلًا.