مهاجمة رجلٍ من القش
straw man fallacy
***
هي تلك المغالطة العتيدة التي يعمد فيها المرء إلى مهاجمة نظريةٍ أخرى غير حصينة بدلًا من نظرية الخصم الحقيقية، وذلك تحت تعميةٍ من تشابه الأسماء أو عن طريق إفقار دم النظرية الأصلية وتغيير خصائصها ببترها عن سياقها الحقيقي أو بإزاحتها إلى ركن قصيٍّ متطرف، ويشبه هذا الجهد العقلي العقيم، سواء حسنت النية أو ساءت، أن يكون رميًا لخصمٍ من القش بدلًا من الخصم الحقيقي، أو قصفًا لكتيبةٍ هيكلية بدلًا من قصف الكتيبة الحقيقية! إنه لأيسر كثيرًا أن تنازِل رجلًا «دُمية» من أن تُنازِل رجلًا حقيقيًّا.
وتأتي التسمية من تلك الممارسة التي كانت شائعةً في العصور الوسطى، والتي تُستخدم فيها دميةٌ على هيئة رجل محشوةٌ بالقش لكي تمثل «الخصم» في ممارسة المقارعة بالسيف، وما تزال صيغٌ من هذه الممارسة شائعةً حتى الآن، وبخاصة في مواقف التعبير عن الاحتجاج والكراهية وفي مظاهرات المناهضة السياسية.
تتم مغالطة رجل القش بأن يَجْبُل المحاورة حجةً هشةً سهلة المنال غير حجة الخصم الحقيقية وينسبها إلى الخصم، ثم يُعمِل فيها مَعاوِل الهدم والتقويض، فيضفي انطباعًا زائفًا بأنه نجح في التفنيد، ويعلن انتصاره على خصمه، قد يتم ذلك عن عمدٍ فيكون حيلةً قذرةً وينم على الخبث وسوء النية والافتقار إلى الأمانة في الجدل، وقد يتم عن غير عمد فينم على الغفلة أو الجهل ويكون، في كل الأحوال، مضيعةً للوقت وإهدارًا للجهد في معركة وهمية غير ذات صلة وتُرَّهةٍ خارجة عن الموضوع!
ثمة طرائقُ مختلفةٌ لاتخاذك رجلَ القش: فقد تُقَدِّم الجوانب الأضعف من نظرية الخصم وتتظاهر بأنك تُفنِّد النظرية من كل جوانبها، وقد تقدم حجة الخصم في صورة مضَعَّفة أو مبسطة، وقد تشوه أو تحرِّف حجة الخصم أو تسيء تمثيلها، وقد تختلق شخصًا وهميًّا تنسب إليه أقوالًا وأفعالًا وعقائد وتتظاهر بأنه يمثل الطائفة التي ينتمي إليها الخصم.
(١) التحريف بالتجزيء
قد تتناول جزءًا صغيرًا من موقف الخصم، فتأخذه بأكثر من حجمه، وتفْرِط في تعميمه فتعامله كما لو كان ممثلًا لموقفه الكلي، بينما هو لا يمثل شيئًا ذا قيمة، وإنه لتبديدٌ للطاقة وإجهاضٌ للجدل، فضلًا عن كونه إجحافًا ومغالطة، أن تتناول بالتفنيد جانبًا هامشيًّا من جوانب المذهب أو صيغة ضعيفة مفرطة التبسيط لموقف الخصم، إن الأيديولوجيات التي كسبت أنصارًا ودامت حقبًا هي، على الأرجح، أنساقٌ تتمتع بمزايا معينة عليك أن تقف عليها وتكتنهها؛ حتى يتسنى لك أن تفندها في جوانبها القوية، فالمسألة الجديرة حقًّا بالتناول إنما ينبغي التماسُها في هذه الجوانب القوية وعلى هذا المستوى الرفيع.
(٢) التصنيف والتنميط
يميل العقلُ البشري بطبيعته إلى تصنيف الأشياء وتنميطها (حتى ليغدو ذلك شرطًا من شروط الإدراك)؛ لأن العقل لا مَحِيد له عن أن يفرض نظامًا على الفوضى ويضفي معنى على الشواش، ربما لذلك يميل المرء أحيانًا إلى أن يصنف الخصم تصنيفًا خاطئًا ويتوسَّم فيه غيرَ ما هو، ويُسقط عليه من تصنيفاته الفئوية الخاصة ما لا يناسبه، وكان المرء هنا يكشف عن ذات نفسه أكثر مما يكشف عن الآخر، ويَسرِي عليه قول سبينوزا: «إنَّ ما يقوله بولس عن بطرس يخبرنا عن بولس أكثر مما يخبرنا عن بطرس.»
(٣) رجل القش المتطرف
كان دور رجل القش تاريخيًّا هو أن يُهوِّل مخاطر التغيير! يذكرنا التاريخ أن بضعةً من المفكرين والمصلحين يدعون إلى التحرر والتسامح قد تم سحقهم بفيالق جرارة من «رجال من القش» يدعون إلى الفوضى والإباحة وتدمير المجتمع … إلخ، وكان دور رجل القش سياسيًّا، وما يزال، هو تأليب الرأي العام بالتعبير الخاطئ عن مواقف الخصوم السياسيين أو زعماء الأحزاب الأخرى.
(٤) كيف نحدد موقف الخصم الذي سنتناوله بالتفنيد
علينا، مثلما أوصى أرسطو من قبل، أن نمثل رأي الآخرين، تمثيلًا أمينًا وكاملًا وجوهريًّا، ولن يتسنى ذلك إلا بأن نحدد قائمة التزامات الخصم بكاملها، تلك الالتزامات التي ألزم نفسه بها في الحوار، والمسجَّلة عليه كتابيًّا أو صوتيًّا من خلال أسئلته أو إقراراته التي طرحها طوال الحوار، المشكلة هنا مشكلة عملية: كيف يمكنك أن تثبت أن موقفًا ما لخصم ما قد تم تحريفه في حالةٍ معينة؟ الأمر هنا يتوقف على تأويل ما عناه الخصم بقوله، واستشفاف موقفه الحقيقي في مسألة معينة، وهي مهمة صعبة أحيانًا بسبب تعدد التأويلات الممكنة.
من الأفضل بطبيعة الحال أن يتم التسجيل الدقيق لمجريات الحوار: صوتًا وكتابةً وشهودًا؛ وذلك لتجنب عثرة «أنت قلت/لا لم أقل»، غير أنه ليس من الميسور في المجالات اليومية المعتادة أن نتجنب هذه العثرة، وذلك لقصور الذاكرة البشرية من جهة، ولتفاوت الفهم وتأويل الأقوال من جهةٍ أخرى.
(٥) مبدأ الإحسان principle of charity
وهنا تتجلى أهمية المبدأ المسمى «مبدأ الإحسان» في تأويل النصوص وفهم الآخرين: فحيثما تشعَّبت التأويلات الممكنة لقول الخصم، فإن من الحكمة أن تفسر الشك لمصلحة الخصم وأن تتناول التأويل الأوجه والأقوى بالنقد والتفنيد.
وقد استَنَّ كارل بوبر في مواجهة خصومه الفكريين مبدأ جديدًا يعد في ذاته درسًا من أهم الدروس المنهجية المستفادة من كتاباته، لقد دأب المفكرون طوال تاريخ الجدل والمناظرة على مهاجمة النقاط الضعيفة في دعوى الخصوم، لا نستثني من ذلك أعتى المجادلين من أمثال فولتير، غير أن لهذه الطريقة عيوبًا كبيرة: ذلك أن لكل دعوى جوانب قوية وجوانب أضعف، ومن البديهي أن جاذبية أي دعوى إنما تكمن في جوانبها القوية دون الضعيفة؛ ولذا فإن مهاجمة الجوانب الضعيفة في النظرية قد تحرج دعاتها، ولكنها لن تقوض الجوانب القوية التي يرتكزون عليها بدرجة أكبر، لعل هذا هو السر في أننا قلَّما نجد الناس تتنازل عن آرائها بعد أن تخسر جدلًا، فالأغلب أن تؤدي مثل هذه الخسارة في النهاية إلى تقوية موقفهم، إذ تدفعهم إلى التخلي عن الجوانب الضعيفة من نظريتهم أو تقويتها.
(٦) أمثلة لمهاجمة رجل من القش
-
(١)
السيد النائب يطلب خفض الزيادات المخصصة للخدمات الصحية بنسبة ٢٠٪، ولكن كيف لنا أن نبخس الصحة نصيبها من اهتمامنا ونحرم أطفالنا من حقهم في التطعيم والرعاية. (قد لا نوافق النائب على اقتراحه، ولكن لاحظ أن الخفض الذي يطالب به النائب هو خفض في زياداتٍ مضافة، وليس خفضًا فيما هو قائم، وأن النسبة المطلوب خصمها (الخمس) لا تبلغ أن تكون «بخسًا»، وأن محصلة الاقتراح لن تفضي إلى النتيجة الكارثية المزعومة (لا تطعيمات، لا رعاية)، وأن النسبة المدخرة قد تقيَّض لمرفقٍ آخر ليس أقل أهمية من الصحة، كالتعليم والبحث العلمي … إلخ.)
-
(٢)
«إن التصويت لجولد ووتر إنما هو تصويت للحرب النووية» (ليندون جونسون في حملته الانتخابية عام ١٩٦٤).
-
(٣)
«كيف تحظى نظرية أينشتين بكلِّ هذا القبول وهي تذهب إلى أن كلَّ شيء مباح، وأن الأخلاق إنما هي شأن نسبي يختلف من بيئة ثقافية إلى أخرى.» (لاحظ الخلط بين نسبية أينشتين theory of relativity الفيزيائية الخالصة والنسبية، أو النسبوية، الأخلاقية moral relativism التي تتحدث عن المجال الأخلاقي والقيمي ولا صلة لها بمجال الفيزياء من قريب أو بعيد.)
-
(٤)
كثيرًا ما تؤخذ المادية الحديثة، والتي تُسمَّى أحيانًا «المذهب الفيزيائي» physicalism بجرائر المادية الكلاسيكية الساذجة القديمة.
-
(٥)
وكثيرًا ما تُفنَّد الوضعية المنطقية logical positivism تفنيدًا لا ينطبق إلا على وضعية كونت.
-
(٦)
وكثيرًا ما يؤخذ المذهب الشكلي عند أمثال كلايف بِل على أنه تركيز على الشكل على حساب المضمون، بينما تعني نظرية كلايف بِل شيئًا مختلفًا تمامًا ويكاد يتجه إلى العكس!
-
(٧)
ينبغي زيادة الدعم للأمهات المطلقات العاطلات عن العمل خلال العام الأول من الولادة حتى يتسنى لهن تقديم الرعاية اللازمة لمواليدهن.
إنك تطالب بأن تنال بضع طفيليات عاطلات متبطلات ما طاب لهن من عرق دافعي الضرائب من المواطنين العاملين الشرفاء.
(٧) الاستخدام المشروع لرجل القش
•••
ومهما يكن من شيءٍ فإن مهاجمة خصم من القش بدلًا من الخصم الحقيقي هي في أغلب الأحيان ضرب من الغش والجبن، وخروج عن الموضوع، ومضيعة للوقت والجهد، ومحاولة بائسة لإحراز انتصارٍ رخيص، تنم بالأحرى عن افتقارٍ إلى انتصارات حقيقية غير مختلقة، وتعطُّشٍ إلى نجاحات واقعية غير موهومة.
كن رجلًا إذن، ولا يكن دَيْدَنُك أن تنسج الدُّمى وتحشوها قشًّا وتُوسعها لكمًا، متحاشيًا بين ذلك التقاء الخصوم وبأسَ الرجال:
كن محسنًا لخصمك، واعرِض حجتَه في أدق صورة وأقواها، ثم قَوِّضها تَكن قد فَعَلت شيئًا يُذْكر.