مغالطة التَّشييء
Reification; hypostatization; substantialization of abstracta
***
في هذه النادرة الكوميدية «يُشَيِّئ» جحا تعبيرًا بيانيًّا رائجًا، ويُحمل استعارةً بريئةً ما لا تحتمل ويأخذها بغير ما قصدَت إليه، وفي هذه النادرة تضخيمٌ كاريكاتوري لمغالطةٍ شائعةٍ نقع فيها جميعًا، ربما كلَّ يوم، ونبتلعها جميعًا، ربما كلَّ لحظة، حين تأتي في صورةٍ أشَدَّ خفاءً، وتكتسي برداءٍ أكثرَ اعتيادًا وإلفًا.
لقد برع بنو الإنسان حقًّا في خلق تصورات مجردة ومفاهيم ذهنية تساعدهم على حصر الأشياء والأحداث، وتصنيفها واختزالها اختزالًا يتيح لهم من الاقتصاد الذهني ما يمكِّنهم من الإحاطة بأشياء العالم وتناولها، غير أن المأساة تكمن في أن هذه العملية قد تجري أيضًا في الاتجاه العكسي: أي معاملة التصور المجرد كما لو كان «شيئًا» حقيقيًّا، حين يحدث ذلك نكون بإزاء مغالطة منطقية عتيدة مُبيَّتة في صميم العقل البشري ذاته وفي طريقة أدائه لوظيفته.
للتشييء رغم ذلك مجالُه الذي يُستخدَم فيه، عن قصد وإدراك، لخدمة الحقيقة والتعبير عن الواقع، ذلك هو المجال البياني البلاغي كما يتجلى في ألوان الاستعارة والمجاز والتشخيص، وهي وسائل لغوية شديدة الأهمية والجدوى في الأدب والشعر (بل في العلم نفسه في بعض الأحيان!) وبعيدة عن المغالطة بحكم طبيعة التعبير ذاته وموقفنا فيه ومأخذنا له، على ألا نمتد بتلك الاستعارات البريئة إلى غير مقصدها ونَحمِلَها على غير مَحمَلِها.
إن التشييء ضربٌ من الجنون العقلي سهل الانكشاف في حالة البارانويا، غير أنه أصعب انكشافًا في الحالات الأكثر اعتيادًا وإلفًا، والتي نصادفها كل لحظة في حياتنا اليومية وفي حواراتنا وقراءاتنا ومشاهداتنا التليفزيونية.
يُشيِّئ العرَّافون وزبائنهم مفهوم «المستقبل» وكأنه «شيءٌ» يمكن أن يقبع في المرمدة أو الفنجان أو كرة البلور، أو كأنه نوع من البلاد قائم هناك حيث تجري الحوادث التي سوف يُعاد إنتاجها على هذه الأرض حين يأتي أوانها، إنها «هناك» تمكن رؤيتها على نحوٍ غامض في الكف وثفالة البن وأوراق اللعب، وما عليك سوى انتظار وصولها مثلما تنتظر خطابًا هو في البريد بالفعل.
الدولة هي الفكرة الإلهية كما توجد في الحاضر … إنها القوة المطلقة على الأرض، إنها غاية ذاتها وموضوع ذاتها، إنها الغاية النهائية التي لها الحق الأعلى على الفرد.
ورغم أننا يمكن أن نفهم هيجل فهمًا استعاريًّا يبرِّئه من التشييء، إلا أن كلماته صارت تُفهم فهمًا تشييئيًّا لدى ملايين البشر من مختلف الاتجاهات: منها الماركسي، ومنها النازي وغيره من ضروب الشوفينية البغيضة، وصارت تعني أن الأمة غايةٌ عُليا بمعزلٍ عن رخاء الفرد وصالحه، بمعنى أن هناك كائنًا عملاقيًّا قائمًا يسعد ويشقى ويصح ويمرض يُقال له «الأمة» نضحي من أجله بالأفراد ونذبحهم تقدِمةً لجلاله.
أمثلة أخرى
-
(١)
«الطبيعة تبغض الفراغ» (لاحظ أن الطبيعة لا تبغض شيئًا).
-
(٢)
«أغراض الطبيعة دائمًا نبيلة، ومِن ثَمَّ ينبغي علينا أن نقبل بالطبيعة» (لاحظ أن الطبيعة لا أغراض لها).
-
(٣)
«وحدها القوانين العادلة ما يداوي آلام المجتمع» (القوانين لا «تداوي» شيئًا، و«المجتمعات» لا تتألم).
-
(٤)
«الصناعة خطر على الطبيعة والمجتمع» (الصناعة ليست «شيئًا»، ولا تجترح أي فعل، والطبيعة والمجتمع ليسا «أشياء» لكي يُفعل بها أي شيء، بعض الصناعات قد تسبب ضررًا ببعض الأشياء الطبيعية أو بعض الأشخاص في مجتمعٍ ما، غير أن معاملة أيٍّ من هذه ككيانات، حتى لو كانت كيانات جمعية، هي مغالطة).
-
(٥)
ماذا تساوي الاعتبارات الشخصية إلى جانب حاجات المجتمع، ومصير الأمة، والحفاظ على الثقافة؟ (لاحظ أنه ما دام «المجتمع» لا حاجات له، و«الأمم» لا مصائر لها، وليس هناك «شيء» من قبيل «الثقافة» لكي تحفظه، فإن الاعتبارات الشخصية في حقيقة الأمر هي كل ما يتبقى هناك!)
يمكننا بالطبع أن نفهم «الطبيعة» و«المجتمع»، و«الصناعة»، و«الأمة»، و«الثقافة» في الأمثلة السابقة فهمًا استعاريًّا مجازيًّا فلا تعود في الأمر مغالطة، غير أن الناس كثيرًا ما تعامل مثل هذه «الأنساق» الكلية كم لو كانت «كيانًا شبيهًا بالشيء»، وهنا تبدأ بالمغالطة.
كان هتلر في أواخر أيامه، وقد صار على يقين من الهزيمة، يتحدث عن «الأمة» وكأنها كائنٌ حقيقي قائم بمعزلٍ عن الأفراد … كائن أعلى ينبغي أن يفديه الأفرادُ جميعًا بأرواحهم حتى لو قضوا عن آخرهم!