كان بروكروست، في الميثولوجيا اليونانية، قاطع طريقٍ يعيش في أتيكا، وكانت له طريقةٌ
خاصةٌ جدًّا في التعامل مع ضحاياه، فقد كان يَستدْرِج ضَحِيَّته ويُضيِّفه ويكرم وفادته،
وبعد العشاء يدعوه إلى قضاء الليل على سريره الحديدي الشخصي، إنه سريرٌ لا مثيل له بين
الأسِرة إذ كان يتميز بميزةٍ عجيبة: هي أن طوله يلائم دائمًا مقاس النائم عليه أيًّا
كان،
غير أن بروكرست لم يكن يتطوع بتفسير كيف يتأتَّى لسريره أن يكون على مقاس الجميع على
اختلاف
أطوالهم، حتى إذا ما اضطجع الضحية على السرير بدأ بروكرست عمله، فجعل يربطه بإحكامٍ ويشدُّ
رجليه إن كان قصيرًا ليمطهما إلى الحافة، أو يبترهما بترًا إن كان طويلًا ليفصل منها
ما
تجاوز المضجع؛ حتى ينطبق تمامًا مع طول السرير! وظل هذا دأبه إلى أن لقِيَ جزاءه العَدلَ
على يد البطل الإغريقي ثيسيوس Theseus الذي أخضعه لنفس
المَثُلة، فأضجعه على السرير ذاته وقطع رقبتَه لينسجم مع طول سريره.
(١) ألوان من البروكرستية
إنهم يَلوون بها ويُفسدونها لكي تلائم خيالاتهم المسبقة.
فرنسيس بيكون
(الأورجانون الجديد ١: ١٧)
(١-١) البروكرستية التأويلية
… وتتكلم بعبارات غامضة … تدفع السامعين إلى التأويل، فيلجئون إلى
التخمين ويحورون الألفاظ لكي توافق أفكارَهم.
شكسبير، هملت
حين نفرض على النصوص توقعاتِنا وتحيزاتنا وإسقاطاتنا المسبقة، دون أن نكلِّف
خاطرَنا بمراجعة هذه الإسقاطات في ضوء ما يبزغ أمامنا في فِعل القراءة، حين نُخْرِس
النصَّ ونفرض عليه ما ليس فيه — فثم «البروكرستية التأويلية»، وعسى أن يعي ذلك بعض
النقاد الذين يفرضون قوالبَهم على الأعمال الأدبية أو الفنية ويُلبسونها المعنى
الذي يَتَلَبَّس بهم، أو المذهب الفني الذي يستحوذ على اهتمامهم، وعسى أن يفهم ذلك
هواةُ «المعجزات العلمية» الذين لا يخشعون لجلال النص القرآني، ويريدون أن «يحشروا
الأكبرَ في الأصغر!» وأن يُفرغوا النص من «بَلاغِه» kerygma الحقيقي ويُجنِّدوه فيما لا يقصده ولا يعنيه.
وفي مقامٍ مماثلٍ يقول فرنسيس بيكون في
«الأورجانون الجديد» Novum Organum، الكتاب الأول: شذرة ٥٤: «ومثل هذه الحماقة
يجب أن توقف وتُقمع بكل حزم، فمِن هذا المزج غير الصحي بين البشري والإلهي لا تنبثق
فحسب فلسفةٌ وهمية، بل ودينٌ هرطقي! ومن ثم فإن رأس الحكمة والرصانة أن نعطي
للإيمان ما هو للإيمان ولا نَتَزَيَّد.»
(١-٢) البروكرستية الإكلينيكية
حين ينخذل الطبيب المبتدئ أمام «الحالة»، فيرهن ذهنه لتشخيصٍ مسبقٍ يكيِّف عليه
الأعراض والعلامات ويلوي بها لتأتي على مقاس تشخيصه، حين يمضي من التشخيص إلى
العلامات بدلًا من أن يتجه من العلامات إلى التشخيص، فإنه يرتكب خطأ «البروكرستية
الإكلينيكية»، وما كان للواقع العنيد أن يرضخ لحيل العقل والتواءاته ويدخلَ طواعيةً
في قوالبَ مسبقةٍ لا تلائمه ولا تحكمه، إنك لا تجني من الشوك العنب، وأكبر الاحتمال
أن يؤدي التشخيص الخطأ إلى العلاج الخطأ، ومن ثم إلى تفاقم المرض وتردِّي
المآل.
(١-٣) الاستخبارات البروكرستية
حين توعِز الإدارة السياسية لمرفق الاستخبارات بأن يُفَصِّل لها معلوماتٍ
استخباراتيةً على مقاس قرارٍ سياسي مُبَيَّت، بدلًا من أن يكيف القرار السياسي
وفقًا للمعلومات الاستخباراتية، نكون بإزاء صنف خبيث من البروكرستية ربما تُودي
بمرتكبها قبل أن طرفٍ آخر.
(١-٤) بروكرستية العولمة الثقافية
يطمح دعاةُ العولمة إلى صب الثقافات جميعًا في قالبٍ واحد، ظنًّا منهم أن إزالة
الحواجز بين الأمم وتدفق الأفكار والمعلومات والبشر عبر الحدود من شأنه أن ينشر
قيمَ التسامح والحرية وفهم الآخر، وأن يدمج البشرَ في ثقافةٍ عالمية متجانسة، لم
يتفطَّن هؤلاء إلى أن الانفتاح والاجتياح يُثير في النفوس أيضًا غريزة المحافظة
والانكماش والتجمد والبحث عن حدود الذات وتدعيمها لإثبات الهوية وتجنب
الانمحاء، هكذا انبعثت مع العولمة نزعاتُ
الانفصال والتفكك الداخلي وظواهر التطرف والعنف والانتماءات الأولية (القبلية
والإثنية والطائفية)، وتفككت دولٌ في الشرق والغرب وواجهت دولٌ أخرى خطر التفكك، لم
يقَدِّر دعاةُ العولمة الأوائلُ سطوة الثقافات المحلية والنزعات القومية والأصولية
ومقاومتها للتغيير، وإلى الأثر العكسي لقوى العولمة: مزيد من التفكك والحروب
الطائفية والعرقية، وتصاعد قوى اليمين المتطرف وانتشار التزمت والإرهاب وصحوة
الانتماءات البدائية الهاجعة.
١
(١-٥) البروكرستية السياسية
تعمد البروكرستية السياسية إلى صب
المواطنين جميعًا في قالبٍ واحد؛ تعميمًا للخير والتماسًا للعدالة، تَتَجَذَّر
البروكرستية السياسية في «مذهب
الماهية» essentialism الفلسفي، وهو الرأي القائل بأن «للأشياء خصائص ماهوية» de re essential properties، أي
خواص ضرورية بمعزلٍ عن تصنيفاتنا وتعريفاتنا، للإنسان، من ثم، وماهيةٌ حقيقيةٌ
تُميزه عن غيره من الكائنات: قد تكون هذه الماهية هي الروح العاقلة (الإنسان حيوان
عاقل)، وقد تكون هي الميل إلى الحياة في تجمعات مدَنِيَّة (الإنسان حيوان مدني) …
إلخ، المهم أن هناك ماهيةً ثابتةً محددة للإنسان بها يكون إنسانًا وبدونها يكون
أيَّ شيءٍ آخر، هناك «مثال أفلاطوني» أو «صورة» eidos أو «فكرة» idea أزلية
للإنسان ينبغي على الإنسان الحقيقي الأرضي أن يسعى إلى تجسيدها ويقترب منها.
كل أولئك أفكارٌ ميتافيزيقيةٌ مأمونة، لا ضير أن يتداولها الفلاسفة فيما بينهم
ويختلفوا حولها على مقاعدِهم النظرية الوثيرة، يبدأ الخطر، رغم ذلك، حين تقعُ مثلُ
هذه الأفكار في أيدي (أو بالأحرى رءوس) السياسيين أولي البأس وذوي القدرة على
استخدامها في الواقع الحي ووضعها موضع التنفيذ، حين يقعُ للطاغية «المثالي» idealist تصورٌ واضحٌ عما تكونه الطبيعة البشرية
فقد يرى نفسه مضطرًّا إلى فرضها بالقوة على رعاياه وصبهم في قالبها ضربة لازب، وسحق
كل من تُحدِّثه نفسُه بالتمرد على هذا القالب الأزلي الواحد.
هكذا ينشأ ما يُسميه أنتوني فلو
Antony Flew،
مؤلف كتاب «سياسة بروكرست» ﺑ «البروكرستية الاشتراكية»
socialist Procrusteanism أو «العدالة المحافظة»
conservative justice، إنها ضرب من
اليوتوبيا الاجتماعية تريد أن تفرضَ التجانس على الناس، وتفرضَ المساواةَ المطلقة
على المواطنين، فتأخذ من البعض وتعطي البعض الآخر حتى يعتدل الميزان.
٢
إن أنتوني فلو هو بمثابة «ثيسيوس معاصر» يريد أن يحطم البروكرستيةَ بأن يكشِفَ
زيفَها وتهافتها ويفضح طبيعتها المؤذيةَ المظلمةَ ويخرجها إلى وَضَح النهار: الأمر
هنا ليس مجرد مبدأ شخصي يدعو إليه من يدعو، بالحكمة والموعظة الحسنة، أو ربما
بتقديم مثالٍ في التضحية والبر (على طريقة ليو تولستوي مثلًا)، ولكنه منهجٌ سياسي
وإداري يُراد فرضُه على نطاقٍ هائلٍ بقوة الآلة الحكومية الجبارة.
لم يقف جنون البروكرستيين السياسيين عند حد:
-
فمنهم من لم يقنع بإعادة توزيع الثروة على الأفراد بالعدل والقسطاس،
فذهب إلى ضرورة تحطيم «نظام الأسرة» — منبع التفاوت بين الناس ومعقل
اللامساواة وحصنها الحصين.
-
ومنهم من ذهب إلى ضرورة فرض «المساواة المعرفية» cognitive equality، فلا ينبغي أن «يعرف» شخصٌ أكثر
مما يعرف الآخرون.
-
بل ذهب بعضُهم إلى ضرورة «تحسين النسل» (اليوجينيا eugenics) لاجتثاث التفاوت من المنبع … من
البيولوجيا!
من السخرية أن البروكرستية يمكن أن تبلغَ مأربَها وتَشفِي صدرَها ﺑ «المساواة في
الجهل» بقدر ما تشفيه ﺑ «المساواة في العلم»، وأن تقضي وَطَرَها بالإساءة بقدر ما
تقضيه بالإحسان! إن مذهب المساواة هو عماد الرفاه، وعماد الضنك أيضًا، ما لم
يُستبدَل به مبدأٌ آخر من مبادئ الواجب.
يذهب أنتوني فلو إلى أن مُثُل المساواة في الحرية وتكافؤ الفرصة لا تتفق مع مثل
المساواة في الحال المعيشية أو في النتيجة (وهي البروكرستية الحقيقية)، يبدو أن
هناك توترًا معينًا بين بعض القيم التي نَصبو إليها ونَوَدُّ أن نحققها جميعًا،
بحيث إن الترتيبات الاجتماعية التي تدعم إحداها من شأنها بالضرورة أن تنال من
الأخرى: ثمة توترٌ بين «العدل» و«الكفاية الاقتصادية»، وتوترٌ بين «المساواة» (في
الحال) و«الحرية»! ويبقى أن نختارَ القيمة الأكثر أهمية للمجتمع والأَوْلَى من ثم بالتحقيق.
٣
تقوم الفكرةُ الديمقراطية على أن الناسَ سواسيةٌ قانونيًّا وسياسيًّا، صحيح أنهم
خُلِقوا غير سواسية في المواهب الطبيعية، إلا أن هذا التفاوت ليس حجةً على المساواة
وإنما هو حجة لها، فالمساواة أمام القانون ليست حقيقةً موضوعية ولا قانونًا
طبيعيًّا، إنما هي مطلبٌ سياسي قائمٌ على قرارٍ أخلاقي، ولا علاقة لها البتة
بالنظرية القائلة بأن الناس وُلِدوا سواسيةً بالطبيعة، بل إن المساواة «في الفرصة»
هي التي تضمن وترعى التفاوت العقلي بين بني البشر؛ لأن مساواة الفرصة تضمن للمواهب
الفردية حق التميز والنمو، وتحمي أصحاب المواهب من أن ينالهم اضطهادٌ ممن يقلون
عنهم موهبة.
في رواية «ثيسيوس» لأندريه جيد يقول ثيسيوس بعد أن أسْهَب في تبيين طريقته في فرض
المساواة: «وقد استمع بيريتوس لهذه الخطبة التي ألقيتُها على السادة، فقال لي إنها
خطبةٌ رائعة، ولكنها سخيفة، وكان يعلل ذلك بأن المساواة بين الناس ليست طبيعيةً بل
ليست شيئًا يُبتغَى، فمن العدل أن يتفوق الأخيار على طغام الناس بما تُخوِّلهم
الفضيلة من امتياز، وهؤلاء الطغام إذا لم تُثر بينهم التنافسَ والتزاحم والغيرة
ظلوا هامدين خامدين أشبه شيء بالماء الراكد الآسن، فليس لهم بدٌّ من حافز إلى العمل
… وسواء أردتَ أم لم تُرِد فإن هذه التسوية الأولى التي تطمح إليها وهي تكفل للناس
جميعًا تكافؤ الفرص ليسعوا إلى الحياة من مستوًى واحد، ستنتهي قطعًا إلى اختلاف
والتفاوت، فتنشأ طبقات تتأثر بما يتمايز الأفرادُ به من الكفاية وحسن البلاء، ستنشأ
طبقةُ العامة الشقية والأرستقراطية السعيدة.»
وفي كتابه الكلاسيكي «نظرية في
العدل»
a theory of justice يطرح جون رول
John Rawl
(١٩٢١–…) نظريةً ربما تكون أهم نظريات العقد الاجتماعي المعاصرة وأبعدها أثرًا،
فيصور المجتمع العادل بأنه ذلك المجتمع الذي سوف تختاره الكائنات العاقلة لو أنها
حُمِلَت على اختيار المؤسسات والقوانين «من وراء حجاب من الجهل»
behind a veil of ignorance أي
دون أن تعلم ما ستكونه مراكزهم الاجتماعية الفعلية، قد يسبق إلى الظن أن مثل هذه
الكائنات حَرِيةٌ عندئذٍ أن تختار حالةً من المساواة المطلقة كأفضل رهانٍ لها. إلا
أن رول يَبْدَهُنا بغير ذلك، ويقنعنا بالحجة أن هؤلاء المتعاقدين الأصليين الذين
حُجِبَت عنهم الحقيقة هم حَرِيُّون أن يختاروا (ويَعُدُّوه عدلًا) نظامًا
اجتماعيًّا ينطوي على تفاوتٍ في الثروة ما دام هذا التفاوت يجعل أقلَّ المواطنين
حظًّا هو أفضل حالًا مما يكون عليه تحت أي توزيع بديل، بذلك يمكن أن تقوم حجة،
باتباع طريقة رول، بأن الرأسمالية التنافسية هي نظام عادل رغم أن بعض الناس فيها
أغنى من الآخرين بما لا يُقاس، إذ إن الأقل حظًّا في هذا النظام سيكون أسوأ حالًا
وأشد فقرًا لو أنه كان في نظامٍ آخر أكثر مساواةً (ولكن أقل في الكفاية الاقتصادية).
٤
وعلى ذِكْر نظرياتِ العدل والبروكرستية الاشتراكية تقفز إلى الذهن أبياتٌ للعقاد
تترجم شطرًا كبيرًا من هذا النقاش السياسي المحتدِم، يقول العقاد (على طريقته في
استقصاء المعنى):
إنَّا نريدُ إذا ما الظلمُ حاق بنا
عدلَ الأناسيِّ لا عدلَ الموازينِ
عدلُ الموازينِ ظلمٌ حين تنصبُه
على المساواة بين الحُرِّ والدُّونِ
ما فَرَّقت كفَّة الميزان أو عَدَلَت
بينَ الحُليِّ وأحجار الطَّواحين
(١-٦) بروكرستية الإدراك الحسي
ثمة عنصرٌ بروكرستي في كلِّ إدراك حسي، وربما في كل إدراك ذهني على الإطلاق،
فالإحساس البصري المحض، على سبيل المثال، لا يقدم لنا أكثر من بقعٍ فسيفسائية
مبعثرة، هي «المعطيات الحسية» sense data (sensa)،
ثم يأتي «المخطط الذهني» schema، أو «النموذج» أو
«الجشطلت»، فيُضفِي هيئةً ومعنى معينًا على هذا الهُلام الحِسِّيِّ الغُفل، ونحن في
إدراكنا الحسي لا نملك إلا أن نملأ الفراغات ونسد الثغرات ونسبغ الكمال على الأشكال
الناقصة، ونضفي الاتصال على المنفصل، والاستمرار على المتقطع … إلى آخر تلك الآليات
التي فصَّلها الجشطلتيون في سيكولوجية الإدراك.
«المخطط الذهني» أو «البناء
الذهني» mental construct أو «النموذج المرشِد» … هو شرطٌ ضروري للإدراك، فنحن في
حقيقة الأمر لا نرى موضوعاتٍ محددةً من مثل البشر والحيوانات والأشجار والموائد
والكراسي … بل نرى بقعًا لونية مشتتة، ومن هذه الخامة الحسية «نستدل» عندئذٍ على
العالم المعتاد أو «نُشيِّده»، الإدراكُ الحسي إذن هو في حقيقته «تشييدٌ ذهني» mental construction تضطلع فيه قوالبُ العقل
المسبقة (أسِرَّة بروكرست) بدورٍ محوري!
وقد أشار الفيلسوف الأمريكي شارلس ساندر بيرس إلى أن الإدراك الحسي هو ضربٌ من
التأويل أو الاستدلال: «… فالأمر اللافت في «الخُدَع» illusions البصرية جميعًا هو أن نظريةً معينة لتأويل الصورة تبدو
معطاةً في الإدراك بوضوح تام، وحين تنكشف لنا للمرة الأولى تبدو خارجة تمامًا عن
سيطرة النقد العقلي شأنها شأن أي إدراك حسي.»
تلك هي البروكرستية المُقدَّرةُ على الكائن البشري والمبيتة في كل إدراكٍ يدركه،
والتي تجعلنا نرى ما نتوقع أن نراه، ذلك أن إدراكنا يعتمد تمامًا على مخططاتنا
التصورية، وهذه الأخيرة تعتمد بدورها على خلفياتنا الاجتماعية والثقافية، على
«نظرياتنا»! يقول نلسون جودمان: «ليست هناك عينٌ بريئة! المادة الخام للرؤية لا
يمكن استخلاصُها من المنتَج النهائي، قد تتغير مخططاتنا وتتطور، قد تُنقَّح
وتُستبدَل، قد توحِي بها أو ترشدُها عواملُ من كل صنف، غير أنه بدون مخططٍ ما فلن
يكونَ إدراكٌ.»
٥
هذا ما عَناه نوروود رِسل هانسون N. R. Hanson
بقوله، الذي أصبح من مأثورات فلسفة العلم الجديدة، «الإدراك مُحَمَّلٌ بالنظرية» Perception is theory-laden،
فخلفياتنا النظرية، تصوراتنا واعتقاداتنا وتوقعاتنا، تؤثر فيما نراه، أو على الأقل
في كيفية رؤيتنا له، ويجرنا ذلك تلقائيًّا إلى الحديث عن بروكرستية الملاحظة
العلمية.
(١-٧) بروكرستية الملاحظة العلمية
على الرغم من أن الواقعَ قائمٌ «هناك» بمعزلٍ عن الملاحظ، فإن إدراكنا للواقع
متأثرٌ بنظرياتنا التي تحدِّد طريقتنا في تَفَحُّص الواقع، يشمل ذلك إدراكاتنا
ويشمل أيضًا أدواتنا العلمية التي هي امتداد لإدراكاتنا، مثال ذلك أن حجم
التلسكوبات كان دائمًا يُشكِّل ويعيد تشكيل فكرتنا عن حجم الكون، فحين نَصَبَ إدفين
هوبل تلسكوباتِه الجديدة في جنوب كاليفورنيا أتاح للفلكيين لأول مرة تمييز النجوم
المفردة في المجرات الأخرى، هنالك تَبَيَّن أن تلك الأشياء الغائمة المُسمَّاة
«سُدُمًا»، والتي كنا نحسبها ضمن مجرتنا، هي في الحقيقة مجراتٌ منفصلة.
في القرن التاسع عشر كان «قياس
الجمجمة»
craniometry يُحدد الذكاء بأنه حجم المخ، وابتُكِرَت أجهزةٌ معينة
لقياس الذكاء على هذا التعريف، واليوم يُعَرَّف الذكاء بأنه كفاءة الأداء في مهمات
معينة يقيسها جهازٌ آخر هو «اختبار
الذكاء»
I.Q. test، يوضح سير أرثر ستانلي هذه المشكلة بتشبيهٍ حاذق: فلنتصور
أن عالمًا في الأسماك
ichthyologist يستكشف الحياة
في المحيط، فيلقي بشبكة في الماء ثم يُخرج تنويعةً سميكة، وإذ يقوم بفرز صيده فإنه
يمضي على الطريقة المعتادة للعلماء وينظِّم ما اكتشفه، فيصل إلى تعميمين:
في هذا «الأنالوجي» يرمز الصيد إلى مادة المعرفة التي تشكل العلم الطبيعي، وترمز
الشبكة إلى الأدوات الحسية والفكرية التي نستخدمها في تحصيل المعرفة، وترمز عملية
إلقاء الشبكة إلى الملاحظات.
قد يعترض مشاهدٌ بأن التعميم الأول خاطئ: «فهناك كائنات بحرية كثيرة أقل طولًا من
بوصتين، كل ما في الأمر أن شبكتك غير مكيفة للإمساك بها.» غير أن عالم الأسماك يرد
على هذا الاعتراض بازدراء قائلًا: «كل ما لا يمكن إمساكه بشبكتي هو، بحكم طبيعته ذاتها ipso facto، خارجٌ عن النطاق المعرفي
لعلم الأسماك وليس جزءًا من مملكة الأسماك التي تم تعريفُها بأنها الموضوع المعرفي
الذي ينصَبُّ عليه علم الأسماك، أو، باختصار، ما لا يمكن لشبكتي أن تُمسك به فهو
ليس سمكًا.»
كذلك الحال بالنسبة للتلسكوب والذكاء: ما لا يراه تلسكوبي ليس موجودًا هناك، وما
لا يقيسه اختباري ليس ذكاءً، من البديهي أن المجرات موجودة، والذكاء موجود، الخَطْب
أن طريقةَ قياسنا وفهمنا لها تتوقف بشدة على أدواتنا المتاحة.
(١-٨) بروكرستية البحث الأكاديمي
كلما طال الأمَدُ على البحث الأكاديمي ترسَّخت فيه معايير معينةٌ للدراسة، تتحول
في النهاية إلى «سريرٍ بروكرستي» علينا أن نُطَوِّع له عملنا وننتقي ملاحظاتنا
وبياناتنا بحيث تفي بالمعايير وتأتي على مقاس السرير!
يطول الأمدُ فننسى أننا أصحاب المنهج وصانعوه، وأننا مسئولون «عنه» بقدر ما نحن
مسئولون «أمامه»! وما المنهج في نهاية التحليل؟ إنه عاداتٌ تحدِّد لنا الطريقة التي
نُعرِّف بها الأشياء ونمارس العمل، عاداتٌ شكَّلتها أيديولوجياتٌ خفية (يسميها
رولان بارت بالأساطير في السيميوطيقا الخاصة به)، ثم تَكَلَّست بفعل التكرار حتى
أصبحت سريرًا بروكرستيًّا جاسيًا يحدد لنا حدودَ ما نقبله وما نرفضه، ويضع لنا
مسبقًا معايير «الصدق»
validity٦ في عملٍ يُفترَض فيه أنه ابتكارٌ دائمٌ وكشفٌ للخَفِي وارتيادٌ
للمجهول، وما كان للحقيقة أن ترضخ لمنهجٍ صنعناه بأيدينا ثم عبدناه كإله من الحلوى،
وما ظنك بمآل ذلك في كل مرحلةٍ من مراحل العلم القياسي؟ إنه العُقم وجفاف الدم في
عروق البحث، تعقبه «أزمة»
crisis وتراكم
«شذوذات»
anomalies ثم «ثورة علمية»
scientific revolution تمس المنهج نفسَه فيما
تمس.
الحق أن «المنهج»
method و«الموضوع»
object لا يمكن أن ينفصلا: لقد حدَّد لنا المنهج
مقدمًا ما سوف نراه! لقد أنبأنا ماذا يكون الموضوعُ بوصفه موضوعًا؛ لهذا السبب يُعد
كل منهجٍ تأويلًا بحد ذاته، غير أنه أحد التأويلات فحسب، والموضوع الذي يُرى بمنهجٍ
آخر سيكون موضوعًا آخر.
٧
يبدو أن فكرة «المنهج» بألف لام التعريف لا تستقيم وفكرة «المجهول» الذي نريد
ارتيادَه وكشفَه، المجهول «مجهول» بطبيعته وتعريفه فكيف نريد اصطياده بمنهجٍ
«معلوم» يُحدد لنا سلفًا ما سوف نصطاد؟! إنما يبزغ «المنهج» على رِسلِهِ
«بعديًّا» a posteriori من البحث وفي البحث،
ربما لذلك لم تَعُد هناك إبستمولوجيا عامة تصلح لكل شيء، وانتقلنا الآن إلى
«إبستمولوجيات جهوية» modal epistemology على
حدِّ تعبير جاستون باشلار، يقول باشلار في «فلسفة لا»: «في اعتقادنا أن مهامَّ
فلسفة العلوم تُطرَح في مستوى كل مفهوم على حدة: فكل افتراض وكل نقطة، كل تجربة وكل
معادلة تتطلب فلسفتها الخاصة.»
ويبدو أننا بحاجة، فضلًا عن مناهج البحث التقليدية، إلى منطقٍ آخر للحدس الذكي،
لتلك اللحظة الفنية من لحظات الكشف العلمي، لتلك القفزة الإبداعية التي تتجاوز
دائمًا المعلومات المتاحة وتضيف إليها شيئًا غيبيًّا لم يكن مبذولًا للإدراك
العادي، نحن بحاجة إلى معايير أخرى لما هو افتراضي، مبدئي، تأملي، معايير إستطيقية
معينة تُقدِّر جمالَ الظني والحدسي.
(٢) المناعة الأيديولوجية، أو «مشكلة بلانك»
من دأبنا جميعًا، في حياتنا اليومية كما في صعيد العلم، أن نقاوم أن أي تغيير في
النموذج المعرفي الأساسي (النموذج الشارح
paradigm)،
يطلق عالم الاجتماع ستيوارت سنيلسون على هذه الظاهرة «جهاز المناعة الأيديولوجي»
ideological immune system، يذهب
سنيلسون إلى أنه كلما تراكمت المعرفة لدى الأفراد وترسَّخت نظرياتهم فإن ثقتهم بهذه
النظريات يتعاظم ويكتسبون «مناعة» ضد أي نظريات جديدة لا تعزز النظريات السابقة، ويطلق
مؤرخو العلم على هذه الظاهرة «مشكلة
بلانك»
Plank problem، نسبةً إلى عالم الفيزياء الشهير ماكس بلانك الذي أبدى هذه
الملاحظة فيما يتعلق بالعلم: فقلَّما اتفق لتجديد علمي هام أن يشق طريقًا هينًا سلسًا
ويحمل مناوئيه على التخلي عن نموذجهم والتحوُّل إليه طواعية واقتناعًا، فمن النادر أن
يتحول «شاول» إلى «باول»،
٨ أما الذي يحدث بالفعل فهو أن المعارضين يموتون عن نموذجهم واحدًا بعد
الآخر، وينشأ الجيل القادم على إلفٍ بالفكرة الجديدة منذ البداية! ومن النتائج البحثية
اللافتة ما وجده عالم النفس ديفيد بيركينز من ارتباط موجب بين درجة الذكاء (كما
تقدِّرها اختبارات الذكاء القياسية) وبين القدرة على تعضيد الرأي والدفاع عنه، وارتباط
سالب بين الذكاء وبين القدرة على أخذ الآراء البديلة بعين الاعتبار، وبتعبير أبسط: كلما
ارتفع معدل الذكاء كان الفرد أكثر مناعةً أيديولوجية وأقل قدرةً على الاستجابة للفتوحات
الفكرية الجديدة (!).
ويبدو أن المناعة الأيديولوجية هي شيء متأصل في الأداء البحثي العلمي، حيث تعمل ﮐ
«مُرَشِّح» أو «مصفاة» تُرشِّد اندفاع التجديدات العلمية وتردها إلى الحصافة والحذر،
من
دأب المجتمع العلمي أن يقاوم التجديدات العلمية الثورية لا أن يفتح لها ذراعيه! لأن لكل
عالمٍ ناجحٍ مصلحةً مكتسبة (فكرية واجتماعية بل ومالية) في الحفاظ على الوضع القائم،
ولو أن كل فكرة جديدة ثورية استُقبِلَت بالترحاب لكانت النتيجة هي فوضى كاملة وشواش
تام.
بوسعنا تعميم ذلك على أصعدة الحياة جميعًا فنرى إلى مسيرة التقدم في كل شيء على أنه
توتر محسوب بين بروكروست وثيسيوس! بين التقليد والتجديد، بين الموالاة والمعارضة، بين
اليمين واليسار، في مسرحية «أوديب» لأندريه جيد يلخص «كريون» هذه القضية تلخيصًا
مُحكمًا في الفصل الثاني، إذ يقول لأوديب: «… لو لم نكن متباينين إلى هذا الحد لما وجد
أحدٌ منا هذه المتعة حين يفهم عن صاحبه: وإني أيها الصهر العزيز لأحب حديثك؛ لأنك تفتح
لي آفاقًا لم أكن لأهتدي إليها وحدي، فلك الابتكار والتجديد، أما أنا فيُقيدني الماضي،
وأنا من أجل ذلك أحترم التقاليد والعادات والقوانين المقرَّرة، ولكن ألا ترى أن من
الخير للدولة أن يمثل هذا كله، وأني أحقق التوازن المفيد بإزاء عقلك المجدد، فأحول بينك
وبين الاندفاع أو أهَدِّئ من مغامراتك الجريئة التي توشك أن تحطم نظام الجماعة إذا لم
تؤخذ بشيء من القصد يأتيها من هذا السكون، ومن هذا التشبث بالقديم …»
٩