الفصل العاشر
وكان مساء …
أي والله كان مساء … وأى مساء؟ لن أنساه ما حييت، فقد كان سلسلة رجات تميد بى منها الارض، حتى لقد كنت — أفرشح وأنا واقف وأباعد ما بين رجلى التماساً للثبات، من فرط شعورى بالزلزلة.
ولكنى أسبق الحوادث، فلأبدأ من البداية.
والبداية أنهم عمدوا إلى حجرة رحيبة مستطيلة رفعوا عن أرضها السجادة الوثيرة — لئلا يوسخها الغلمان بأحذيتهم الموحّلة — ومدوا فى وسطها مائدة طويلة أقاموا عليها مقصفاً، ولا قصف هناك ولا شبهه، فما كان ثم إلا الديكة، والحمام، والسمك، واللحم، والحشو وما إليه والحلواء من فطائر وولائق وما أشبه، والفواكه، وفى وسط المائدة فطيرة عظيمة مخلوطة بالصنوبر واللوز والجوز والفستق — على الرغم من انقطاع الوارد من ذلك فى هذه الحرب — غرزوا فيها عشر شمعات بعدد سني عمري. فتأمل! لو جعلوها مائة أو مائتين لما أخطأوا أو أسرفوا، فقد عشت فى هذا النهار وحده قرناً كاملا وزيادة!
وأضيئت الأنوار كلها حتى بتنا كأننا فى عرس.. فشعرت بيد غليظة تعصر قلبى، إذ تذكرت أن زوجتى المسكينة تندبنى الآن، وأن ولدىّ قد غاض معين المرح من نفسيهما، وحلت فيهما الترحة والغصة وأنا هنا يحتفي بي الناس ويسروننى ويبروننى.
و أقبل الغلمان فرادى وجماعات، وأنا أحييهم وأرحب بهم، وإن كنت أنكرهم ولا أعرفهم، وكانوا يسلمون ولا يزيدون على الابتسام، ولا يجرون ألسنتهم بكلمة تهنئة، وأحسبهم ما كان يعنيهم إلا الطعام الذى سيطعمونه، أو لعلهم كانوا على استحياء من أمى، وفزع وجزع من منظر العم الذى لا حاجة إلى تعريف جديد به.
وصاروا كثرا، وغُصت بهم الحجرة التى سيقوا إليها، ورأيتهم صامتين يتخالسون النظر فقلت فى سرى: إنه لا يطلق ألسنتهم ولا يحل عقدتها إلا الطعام، فنهضت وأشرت إليهم أن تعالوا إلى المائدة، فهزت أمى رأسها أن لا، وأشارت بأصابعها مضمومة أن تأن … وأن الله مع الصابرين.
فدنوت منها وسألتها: «ما الداعى إلى التأخير»؟
قالت: «أما إنك لغريب … ألا تنتظر الباقين؟ لماذا تأخروا يا ترى»؟
ومضت إلى الباب ونادت: «يا لولو.. لولو».
فتعجبت للولو هذه من عساها تكون. ولهذا الولع بتصغير الكبار فى بيت يصلح أن يكون ثكنة لفيلق كامل.
وجاءت لولو فإذا هى فتاتى الحسناء التى خلعت لها قلبها وذعرتُها بما حدثتها به فى الصباح، والتى أكاد أرجح أنها ما تحولت إليه الحاجّة.
وقالت لولو بأدب — تالله ما أحلى اسمها، وإن كان يذكرنى باسمٍ كلب كان لنا وأراد لص أن يسرق بيتنا فدس له سما فى طعام تمهيدا للسطو المنوىّ: «نعم يا ستى».
قالت الست: «اسألى بالتليفون عن حمادة وسعيد لماذا تأخرا واستعجليهما».
حمادة، سعيد؟ ما أغرب هذا الاتفاق! وهممت أن أسألها من يكون هذان؟ ولكنى تذكرت أنى أعرفهما، أعنى أن المفروض أنى أعرفهما، ولابد أن العلاقة وثيقة ما دامت أمى تعطل الحفلة كلها وتؤخرها من أجلهما.
وخرجت لولو. ولكنها لم تذهب إلى التليفون، بل دارت على عقبيها وقالت ويدها على الباب: «ها هما يا ستى».
وصدق حدسى، وكنت أرجو أن يكذب. فما كان حمادة وسعيد غير ولدي الشقيين. ودارت بى الأرض حتى لم أعد أدرى أواقف أنا على قدمى أم على رأسى. ولما استقرت الأشياء فى مواضعها، وعادت، كما كانت، ثابتة لا تترنح ولا تميل كل مميل، مسحت العرق المتصبب من جبينى ومددت يدى إليهما واحداً بعد واحد. فضغطها كل منهما ضغطة خفيفة، وغمز بعينه. نعم هما الشقيان ولا شك، فإن هذا الضغط وذاك الغمز دأبهما أبداً. وهى لغة لهما يعنيان بها أشياء شئ — تترجمها أنت على مقتضى الحال إذا كنت تعرفهما، فمرة يكون المراد التهنئة أو التحية، وتارة يكون التذكير بعبث شاركا فيه، وسرا به، أو بعبث اتفقا معك عليه، وطوراً يكون إنذاراً بما ينويان أن يركباك به، فإنهما يأنفان أن يأتيا شيئاً من هذا القبيل لم يسبق الإنذار به والتحذير منه، وهكذا إلى آخره إن كان لهذا آخر.
ولم يكن يبدو عليهما قلق، أو ما يشى بقلق، فكدت أجن … أهذا حال فتَيين أصبحا فإذا أبوهما قد شق الأرض — والسرير — واختفى؟ أو وجداه جثة هامدة؟ مستحيل! إذن ماذا؟ أترانى هنا وهناك فى آن معا؟ أيمكن أن أكون انفلقت اثنين، فبقى منى واحد، حيث كنا جميعاً، وجىء بواحد إلى هنا؟
وكررت إليهما الطرف فإذا هما على عهدى بهما، لا يحفلان أن أمى لا تنفك داخلة خارجة، وأن هذا العم الضخم قائم كأحد تمثالى رمسيس فى مدخل وادى الملوك بطيبة، فهما يدغدغان هذا تحت إبطه، وذاك فى خاصرته، ويدسان أيديهما فى جيوبهما، ويخرجان مالا أدرى، ويضعانه بخفة فى قفا ثالث أو أذن رابع فيصرخ وينط، ويدفع يده إلى ظهره، فيقرقر الشقيان سروراً، وتوقعت أن لا أنجو من عبثهما، ولكن هذا لم يكن يعنينى قدر ما كان يعنينى أن أتبين ماذا صنع الله بى هناك … عندهما … أعنى شطرى الثانى الذى انفلقت عنه، إذا كنت انفلقت شطرين.
وآليت لاجلون هذا الأمر فجذبت حمادة من ذراعه ونأيت به عن الجماعة التى وقف معها، وتوقعت وأنا أمضى أن ينظر إلىّ يمؤخر عينه على عادته فأدرت وجهى إليه لأرى هل فعل؟ وصح ظنى، فكان ما توقعت، فزال كل شك يمكن أن يختلج فى الصدر.
وسألته: «من أين جئت»؟
قال: «ومن أين أجىء إلا من البيت»؟
قلت: «! …! وكيف حال الأسرة»؟
فقهقه اللعين وأشار إلى أخيه سعيد وقال: «إنه يسألنى كيف حال الاسرة»؟
قلت: «ماذا يضحكك»؟
قال: «أتكره أن أضحك يا سونه هانم»؟
فدهشت وسألته: «سونه هانم؟ هل سمعتك تقول سونه هانم»؟
قال ببساطة وبابتسامة فيها معنى التحدى: «إن أذنك حادة».
فغلى الدم فى عروق الرجل الباطن وسأل ببرد متكلف: «ولماذا بالله»؟
قال بلهجة الزراية: «هذا الشعر البناتى الجميل، والصوت الستاتى الناعم».
فالختلط الأمر فى جوفى، وتنازعتنى دوافع شتى، وأشبهت مجلس سكارى يتلاغطون ولا يصغى منهم أحد. فهذا رجل ثار غضبه وتلهب فهو يهم أن يصيح: «اخرس»! هذا غلام يدفع رجله ليركل حماده وكفه ليلطمه. ولكن الرجل يتذكر أن حماده ابنه — أو أن له وجهَ ابنه — فيكظم غيظه ويرد القدم الممدودة، ويجذب الكف المرفوعة فتهوى كأنما ليس فى كمها شئ. ويؤلم الغلام عجزه عن التشفى فيجول الدمع فى عينيه.
وقال حماده وقد رأى ما أسفرت عنه هذه المعركة الباطنة: «ألم أقل لك إنك بنت»؟
واصطلح علىّ عجزُ الغلام الظاهر وشفقة الأب الباطن. فأوليت حماده ظهري وخرجت من الغرفة كلها إلى ردهة مجاورة، ورأتنى لولو مستنداً إلى الحائط، وأصابعى تنكف الدمع فخفّت إلىّ، وسألتنى: «مالك؟ هل حدث شىء»؟
وجمعتنى، وضمتنى إليها، فدفنت وجهى فى بطنها، وتركت الدموع تنهمر.
وأحست أنى هدأت فرفعتنى عنها ومسحت لى وجهى.
انتحت بى ناحية وسألتنى: «خبرنى ماذا جرى»؟
قلت: «زعم حماده أنى كالبنت بشعرى وصوتى».
قالت: «اخص عليه، وفى عيد ميلادك أيضا»!
قلت: «المصيبة أنه مصيب. فإن شعرى وصوتى يبدوان حتى لى أنا كما وصف».
قالت: «بل هو قليل الأدب».
فقالت البطانة المحجوبة عن عينيها بلسان الظهارة الصبيانية التى يسمونها سونه: «لا، لا، لا، لا تقولى هذا. إنه ولد طيب. وقد رباه والداه فأحسنا تربيته. صدقينى فإنى أعرف».
قالت: «بل أنت الطيب لا هو. يشتمك فى بيتك، وينغص عليك عيدك … هل هذا من حسن الادب والتربية»؟
قلت: «إن مظهرى، كما وصفه، وأنا أعترف بهذا. وكيف أكابر فى واقع محسوس ملموس؟ ولكن قذفهَ به فى وجهى مؤلم … أما لو كان يعرف»؟
فسألت: «يعرف ماذا»؟
قلت: «لا شىء، يحسن أن أعود إلى ضيوفى».
ودخلت فى هذه اللحظة سيدتان، على إحداهما مسحة من ملاحة، والأخرى شابة تامة الحسن. فلم أعرفهما كما لا أحتاج أن أقول، وإن كانتا قد أوسعتانى تقبيلا وتهنئة. وكان من غريب أمرهما أن إحدهما — سريعة الكلام، ولكنها تتكلم بأقصى حلقها، ففى صوتها مقمقة لا تخف على الاذن، والأخرى كلية اللسان ولثغاء بالراء.
وقد غافلتهما، وهززت رأسى للولو مستفسراً عنهما، فابتسمت وخبطت كفًّا بكف فملت إليها وقلت: «إنما أريد أن تحدثينى عنهما، لا أن تعرفينى بهما».
فقالت: «إنهما كما تعرف أختان، وقد تزوجت الكبرى ومات عنها زوجها فرجعت إلى أهلها، فكان هذا من من سوء حظ أختها. فقد كان خطابها كثرا فقلوا بفضل أختها».
فاستزدتها فقالت: «الصغرى لا تخلو من سذاجة. وكلما خطبها خاطب، راحت الكبرى تدور من ورائها وترمى نفسها على هذا الطالب، وفى مرجوها أن تفوز هى به فتنفره، وهكذا، فلا أمل للصغرى فى زواجٍ ما لم يسق الله من يحمل الكبرى ويريح أختها من حماقتها».
فسألتها — لم يسعنى إلا أن أسألها: «وأنت يالولو، أصدقينى، أليس لك خطب»؟
فدفعتنى بيدها وقالت وهى تضحك: «لا تسخر منى».
قلت: «إنك كنز، حصان رزان، لبيقة عطوف. وإن الذى يظفر بك لسعيد».
قالت وهى تتنهد: «ومن ذا الذى يرغب فى خادمة فقيرة؟ ثم إنى راضية قانعة بما أنا فيه. وللّه الحمد».
وتنهدت مرة أخرى، وندت عن صدرها «إيه» طويلة ممطوطة ثم تنبهت وقالت لى: «اجر العب مع ضيوفك … اذهب … ماما تشير».
ودخلنا إلى حيث المائدة، وتقدمتُ الصفوف، وإلى يمينى ويسارى حماده وسعيد، ولم أخترهما أنا وإنما اختارتهما أمى — تلك التى أعرف بشقى المستور أنها زوجتى — فحمدت اختيارها على الرغم من تطاول حماده على بالقول الجارح والوصف الممض، واصطففنا أمام المائدة من الجانبين. وحمدت لأمى مرة أخرى أنها أعفتنا من العم والسيدتين ومضت به وبهما إلى غرفة أخرى وتركتنى مع أترابى أحرارا. وما كادت تخرج، حتى صارت الغرفة كالحمام الذى ليس فيه ماء، فعلا الصياح، وكثرِ اللغط، وتدافعت الأيدى، وانطلقت صرخات من هنا وههنا، لأن واحداَ داس على قدم جاره، أو ضرب ساقه العارية بطرف حذائه، المحدد، أو رفسه بمؤخره، أو قرصه، أو فعل غير ذلك مما يُغرى به الغلمان.
وكان حمادة وسعيد لا يأكلان إلا بقدر، وكنت أحثما وأشجعهما فيبتسمان ولا يزيدان، فسرنى وساءنى هذا — سرنى منهما القصد وقلة التهالك، وساءنى أن أراهما يأكلان دون الشبع.
وآن أن ننفخ الشمعات ونطفئها، وكان شر ما فى ذلك أن الأم وضيوفها عادوا ليشهدوه، فخفتت الأصوات، وصارت همسات مقرونة بخبطات خفية ووخزات الجنوب، ونخسات من الخلف، وركلات تحت المائدة، وكان بالى إلى الجمع وعينى عليه لا على جارىّ اللذين كانا يبدوان ساكتين رزينين. وقد أقلقنى منهما هذا السكون، فإنى أعرفها، لا يكون سكون طائرهما إلا نذيراً بالشر.
وأدنيَتْ الفطيرة بالشموع المغروزة فيها، واحتجت مع ذلك أن أشب عن الأرض لأطولها. ولم تكف نفخة واحدة، فتكرر النفخ مرات إلى اليمين وإلى اليسار، وشغلت بذلك عن كل ما عداه، حتى إذا فرغت منه تناولت الشوكة والسكين وعكفت على الفطيرة أقطع منها وأوزع. وناولت منها الكبار نصيبهم، فحملوه فى أطباقهم ووقفوا حلقة على مسافة منا يتحدثون، وإذا بهؤلاء الصبيان ينفجرون ضاحكين مقهقهين، مكركرين، مطخطخين، ويلقون بالأطباق على المائدة فترتج وتقع الأشواك أو بعضها على الأرض، ويروح بعضهم يصفق، والبعض يضرب المائدة بجمع يده أو ببطنها، وأنا أنظر إليهم، وأدير عينى فيهم، وفمى فاغر كالأبله من الدهشة.
ولكنهم كانوا معذورين، فقد كان منظرى يضحك الثكلى. وتصور غلاما فى ثياب جديدة نفيسة، وجيوبه تطل منها وتتدلى قشور الفواكه، من مثل الموز والبرتقال والليمون الحلو! حتى العُرَى أدخلت فيها «قصاصات» من هذه القشور، وعقدت على هيئة الأنشوطة، حتى زيق السترة المحيط بالعنق تدلى من تحته قشر الموز، حتى الرأس رشقت وردتان على جانبيه، وزينِ اليافوخ بنثار الزهر.
وكنت حقيقاً أن أحمل كل ذلك على محمل المداعبة، ولكن العيون ضربتْ على من حدق نطاقا، وكانت سخرية النظرات والضحكات بينة، لاخفاء بها، ولم يخالجنى شك فى أن حمادة وسعيد هما اللذان صنعا بى هذا، ولو اقتصر الأمر على قشور الفاكهة التى حليت بها ثيابى لما كبر على ذلك، ولكنهما — والويل لهما، وإن كانا ولدىّ — رشقا لى الورد فى شعرى ونثرا لى غلائل الزهر عليه تشبيهاً لى بالبنات وتشنيعاً علىّ، ولمزاً فعابانى فى وجهى، وحقرانى على ملأ من أحداث لاشك أنهم سيجعلونى مضعه فى أفواههم طول الأسبوع، بل الشهر على الأرجح.
ورميت الورد، ونفضت نثار الزهر عن رأسى، أول شىء، فقد كان هذا هو الذى أمضنى وأرمضنى، ونزعت أمى ما على ثيابى، وهى تضحك — سامحها الله — وتقول لى: إنه مزاح لاينبغى أن يغضبنى.
ولكنى كنت مغيظاً محنقاً ولافائدة من محاولة التسرية عنى، فدفعتُ يدها عنى بعنف، وانطلقت خارجاً من الغرفة إلى الحديقة، ورحت أتمشى، مطرقاً، وأفكر فيما ينبغى أن أصنعه، فما بقى مفر من أن أصنع شيئا أميط به عنى هذا الذى يلصقه بى الولدان اللعينان، ويجعلانى به أضحوكة وهزؤاً بين الغلمان، ولافائدة ترجى من الترقق بهما والحنو عليهما، فما يعرف أحد ما أعرف من نفسى، وكل مايعرفه هؤلاء الصبيان أنى ولد مثلهم، وأن حمادة وسعيد مازحانى هذا المزاح الثقيل، وزعمانى كالبنت، وأنى جبنت فالخير كل الخير أن أؤدبهما، وإن كانا ضيفىّ، وإن للضيف لحرمة عند الكبار، ولكن الصغار لايرعون حرمة لشىء، وسيحملون حلمى على الجبن وضعف القلب، ويتقرر فى نفوسهم أنى كما زعم الخبيثان فلا أزال بعد ذلك أقع كل يوم فى بلية، وأتعرض لحديث الأولاد وسخرهم وعبثهم.
واستقر رأيى على أن أضربهما علقة، فى هذه الليلة، وفى هذه الحديقة، وأنسانى الغيظ والموجدة، أنى لو كنت فى إهابى المنزوع لهان ذاك وتسنى، وأنى صغير مثلهما، ولعلى أضعف منهما وأضوى جسما وأقل شدة عظام.
ودرت لأدخل وأستدرجهما إلى الخروج، ثم آخذهما بما فعلا. ولكنى لم أحتج إلى تكلف ذلك. فما كدت أخطو خطوات، حتى رأيتهما مقبلين على مهل. فوقفت في مكانى، أنتظرهما، فلما صارا أمامى قال أكبرهما (سعيد): «لقد كان منظرك ممتعاً».
كأنما يباهى بما صنع، ولا يحفل ما أورثنى من ألم وخجل، فلم أقل شيئا، ورميته بنظرة سخط واشمئزاز.
وقال الاَخر (حمادة): «ما كان أحلى الورد فى شعرك … لو كان الوقت اتسع لضفرت لك منه إكليلا … يا خسارة … إذن لكنت كالعروس ليلة الزفاف».
فطار عقلى، وارتميت عليه اريد أن آخذ بتلابيبه، وأجذبه إلى الأرض وألقيه على وجهه أو شقه، وأعجنه بقدمى، ولكنه كان كأنما توقع ذلك. فقد انحرف عن طريقى بخفة، فوقعت على الأرض — بوجهى — كالحجر، وانغرس أنفى فى التربة الطرية، فلبثت هكذا ثوانى، لا أتحرك، ثم رفعت رأسى وجذبت رجلىّ ونهضت متثاقلا، وشرعت أمسح ما لطخ به وجهى من الطين، وهما يضحكان، ومن ورائهما جمع يضحك معهما، فقد تبعهما الباقون، وأنا لا أدرى.
وصار موقفى أبعث لى على السخط، ولهم على الهزؤ، وأدركت أنه لا خير فى مثل ما صنعت، فقلت لحماده: «لو لم تكن جباناً لما أجفلت …».
فضحك وقال بهدوء غريب: «إنما تنحيت عن طريقك إشفاقاً عليك، فإنك مسكين هش لاعظم فى بدنك، ولوشئتُ لدفعت فى صدرك فحطمت لك ضلوعك أو لبططت لك أنفك وشوهت وجهك البناتى».
قلت: «طيب خذ». وألقيت نفسى علية مرة أخرى، وحرصت على أن لا أدعه يفلت كما فعل من قبل، ولكنه أخذ بناصينى وثنى عنقى، حتى خلت من ألمى أنه سينقطم، وراح يضرب صدغى بجمع يده، وبطنى بركبته حتى أيقنت من شدة الوجع أنى طائح هالك لا محالة ثم خلانى ودفعنى بكلتا يديه فانطرحت على ظهرى، انطراح من لا ينوى أن يقوم بعد ذلك أبداً.
ولم أكن — وأنا راقد — أفكر فى شىء أو أحس شياً سوى هذا الفتور الذى جعلنى أخلد إلى رقدتى، وسمعت صوتاً تأدى إلىّ من بعيد يقول: «يظهر أنه استحلى الرقدة، فتعالوا يا جدعان».
وتالله ما أقسى قلوب الصغار وأغلظ اكبادهم، إن صح أن لهم أكباداً، وهو ما أشك فيه، فقد تناولونى من ذراعى، ورجلى، ورفعونى بينهم عن الأرض وراحوا يطوحوننى يميناً وشمالا، كأنى لعبة فى أيديهم، لا مخلوق مثلهم مشفِ على الهلكة، وكنت لا أصيح، ولا أقاوم، لأنه لم تبق لى قدرة على صياحَ أو حركة وإن كنت مدركاً لما يفعلون محسًّا به. ولو كان الأمر إليهم لقتلونى وما عبأوا شيئاً. وما زلت إلى هذه الساعة أتعجب لشدة نقمتهمِ على من تقمصت جسمه، وقلة عطفهم عليه ورحمتهم له، فما سمعت واحداَ منهم يزجرهم أو يدعوهم إلى القصد وينهاهم عن الشطط، فلولا أن عم أحمد — جزاه الله خيراً — أقبل فى تلك الحظة، لظلوا فى لهوهم القاسى. وما كادوا يبصرونه حتى تخلوا عنى وذهبوا يعدون فى أرجاء الحديقة، فهويت إلى الأرض مرة أخرى، كالحجر ….