الفصل الحادي عشر
وأفقت فى سريرى، على أمى بجوارى، وعمى يتمشى فى الغرفة، ولولو تضع كمِادة على خدى الوارم.
وسمعت عمى يقول: «لقد كان رأيى دائماً أن هذا الولد يجب أن يزاول ألعاباً رياضية، رياضية لتشتد عظامه، وتقوى عضلاته، ولكنك تبالغين فى الخوف عليه من النط والقفز، فانظرى ماذا صار؟ ولد صغير أصغر منه — يدقه هذا الدق ويطحنه حتى تنقطع أنفاسه، لو كان بنتاً لما كان هناك بأس، ولكنه ليس بنتاً …».
فقالت أمى تقاطعه: «ألا تكف عن هذا اللت والعجن»؟
فدار وواجهها — بكرشه — وقال محتجاًّ: «لت وعجن؟ أنا أريد أن يصبح رجلا وأنت تربينه تربية البنات. وأنصحك مرة وأخرى. فتقولين إني ألت وأعجن! سبحان الله العظيم! طيب … ولكنى لن أكف عن اللت والعجن حتى تغيرى كل هذا. إنه ابن أخى — يعنى ابنى — كما هو ابنك. ماذا تخشين عليه؟ أن تنكسر ساقه؟ أو ذراعه؟ أن يدق عنقه؟ كل الأولاد فى كل الدنيا يلعبون ولا يصيبهم سوء.
فلماذا يصيبه السوء وحده دون هذه الاَلاف المؤلفة؟ وهبيه انكسر، فالكسور تجبر».
فتنهدت وقالت: «طيب.. طيب، آمنا وصدقنا، ولكن هذا ليس وقت الكلامٍ ثم إن الدكتور قال يجب أن لا نزعجه بكثرة الكلام، فاصنع معروفاً …».
فقاطعها بدوره وقال ساخراً: «الدكتور؟ دكتور لماذا؟ لأن ولداً ضربه علقة؟ تقلبين الدنيا لأن خبطة ورم منها خده؟ هذا إسراف فى التدليل … هذا …».
فصاحت به: «يا أخى أنا فى عرض النبى، اسكت …».
فصاح بدوره: «أسكت كيف؟ إنك تفسدين حياة الولد المسكين، فكيف أسكت»؟
قالت: «طيب، تول أنت إصلاح حياته. بس فيما بعد. ولنتركه الآن مستريحاً».
ونهضت بعد أن ألقت علىّ نظرة، وإلى لولو أخرى، وسحبت عمى من الغرفة، وخيراً صنعت. فقد بدأ رأسى يوجعنى من صوته «اللجب» المضوضى.
ولمٍ يكن بى شىء يستحق الذكر غير هذا الورم الذى زاد به خدى أنتفاخاً. وكان فتح فمى ربما كلفنى بعض التعب وقد استغربت أن يكون الأمر احتاج إلى طبيب، ولكنى أحسب أن أمى أفزعها الاغماء، فاستدعته، وكنت لما هجمت على حماده أشعر أنى أقذفه منى بجبل، فإذا أنا هش ركيك البناء خرع، لا أقوى على شىء، وأخجلنى هذا الذى تبينته من أمرى ومن صدق حماده فى وصف وهنى وخورى، وجال الدمع فى عينى وأنا راقد وعلى خدى الكمادة، فربتت لولو على ذراعى وقالت بابتسام: «علقة تفوت ما حد يموت. تعيش وتأخذ غيرها».
وكانت تمزح ولا تقصد إلى التعبير. فأطلق ذلك لسانى فقلت: «لم أكن أعرف أن جسمى واه إلى هذا الحد. وقد كنت واثقاً حين هجمت عليه أنى سآكله بعظمه».
ففتحت عينيها مستغربة، وسألت: «أنت.. تقول إنك هجمت عليه»؟
قلت «نعم. فقد تحرش بى وٍ استفزنى فنفد صبرى فألقيت بنفسى عليه كان ظنى أنى سألقى عليه درسا لا ينساه، فتلقيته أنا عنه».
قالت: «لا أزال أستغرب … كيف هاجمته»؟
قلت: «ألست أقول لك إنه استثار غضبى»؟
قالت: «ولكن.. لقد كنا نظن أنه هو البادئ بالعدوان».
قلت: «العدوان باللسان. نعم، أما باليد فأنا البادئ».
قالت، وكأنها تحدث نفسها: «غريب …».
قلت: «ما هو الغريب».
قالت: «أن تكون أنت المعتدى، عهدنا بك أن يعتدى عليك، فتلوذ بالفرار ولا تثبت لاحد.»
فصرت أنا المتعجب وسألتها: «أهذا كان دأبى»؟
قالت: «كأنك لا تعرف! إنك اليوم على خلاف ما عهدنا … فى كل أمر … مدهش هذا التحول».
قلت فى سرى: «ما خفى كان أعظم، وإذا كان يدهشها إلى هذا الحد أن ترانى أتحول من الفر إلى الكر، فكيف لو اطلعت على المغيب من تحول الرجل الشديد المحتنك إلى فتى ضعيف القلب منسرق المنة»؟
وقلت لها — كالمعتذر: «لو كنت أعرف أنى ضعيف إلى هذا الحد لبقيت محافظاً على تقاليدى».
فزاد عجبها ولم ينقص، وقالت، وأغضت عن المزح الذى فى قولى: «كيف لم تكن تعرف؟ هل هذا معقول»؟
قلت: «والله ما أقول إلا الحق، ولقد حملت عليه وأنا على يقين أنى ساَخذه فى راحتى، كأنه لعبة صغيرة، ثم آلطعه وأقضى عليه. ولكنى كنت أجهل ما أنا. فما سبق أن امتحنت قوة هذا الجسم ومبلغ جلده».
فجست جبينى، وفى ظنها أنى أهذى من حمى أو غيرها. فلما لم تجد شيئا قالت: «إنك تدير لى رأسى بهذا الكلام الذى تلهج به طول النهار … فيحسن أن تسكت لئلا تتعب».
فسكتّ، فإن الاسترسال فى هذا المعنى عبث لا طائل تحته.
وكنت أرى رقتها وحدبها وهى تمرضنى، فأعجب لمثلها فى مثل جمالها كيف أخطاها الزواج، وما أخطأها فى الحقيقة، فإنها غضة السن، ولكن مثلها يخطف خطفاً؟
وقلت لها بعد قليل: «أراك هربت منى الليلة كما تقولين إنى كنت آهرب من الأولاد …».
فعبست — تكلفت التعبيس — وهل يحسنه من يضحك الجمال فى وجهه ويضيء؟ وقالت: «لست فاهمة».
قلت: «سألتك هذا المساء لم لم تتزوجى؟ فهربت من الجواب الصريح».
فضحكت، وقالت: «آه هذا … لا لم أهرب … قد يسليك أن تعلم أن رجلا ليس من طبقة الخدم مثلى خطبنى …».
وضحكت مرِة أخرى.
فقلت معترضاَ: «لست أرى موجباً للضحك …».
قالت: «نعم. رجل ذو مال … حكاية ظريفة. هل تريد أن تسمعها»؟
قلت: «طبعاً … ولكن لماذا هذه السخرية … أو هذه المرارة فى لهجتك؟.. ما عيب الرجل ذى المال»؟
قالت: «لا عيب فى ماله. وإنى لأكون كاذبة إذا ادعيت الزهد فى المال والنعيم والراحة».
قلت: «العيب فيه هو إذن»؟
قالت: «انتظر … أصر أن أتعلم الموسيقى …».
قلت: «فن جميل يزيد الحياة طيباً وسعة».
قالت: «صحيح … واشترط أن أتقن العزف على الكمان. وعليه النفقات كلها …».
فظننت أن الذى زهدّها فى الرجل طول الزمن، فسألتها، فقالت: «كلا … فإنى أتنظر بغير خطبة … فلماذا لا أنتظر بخطبة؟ ولم يكن هذا كل ما طلب وشرط. فلا بد أَن أتعلم الرقص أيضاً».
قلت: «أراه رجلا يعرف من أين تؤكل الكتف كما يقولون».
قالت: «كتف؟ … كتف إيه»؟
فابتسمت وقلت: «يعنى أنه ذكى يفهم».
قالت: «طيب … وكان ابن خمسين وأصم وله ساق من خشب …».
فلم أقل شيئا. ولكن الغلام الذى لبست جلده ضحك. أما الرجل الذي فى جوفه فحدث نفسه أن الدنيا لا تكون دنيا إلا إذا اجتمع فيها كل صنوف الناس.
وعادت تقول بابتسامة: «ولى محب عاشق ولهان آخر … أظنك تعرفه …».
قلت: «أنا أعرفه؟ … من هذا»؟
قالت: «عم أحمد الجناينى».
قلت: «آه … هذا الذى نهيتنى عن الكلام معه»؟
قالت بحدة: «لم أنهك. وإنما نقلت إليك كلام الست …».
فأستغربت حدتها، وقلت: «إنه رجل طيب … وله علىّ فضل … أذكره ولا أجحده. وإن كان قد خيب أملى قليلا».
فصارت هى المستغربة، وسألتنى بلهفة: «خيب أملك؟ كيف؟ إنه يحبك حباًّ شديداًّ، ويحب التراب الذى تمشى عليه …».
فسألتها مستدرجاً لها: «هل قال لك ذلك»؟
قالت ببساطة: «مراراً كثيرة … إنه لا يكاد يكون له حديث إلا عنك».
فحدثت نفسى أن فى الزوايا خفايا كثيرة، وفى الدنيا أعاجيب لا تنتهي. هذه فتاة يخلب جمالها الألباب. وفى وسعها لوشاءت أن تقطع هذه العزوبة وتتزوج فى أية طبقة.
فما يستطيع أن يقاوم فتنتها من تتصدى له … فتعرض عن المال والجاه. وتقصر أملها علىِ بستانى فقير، تحذَيه شر من الحفى … فالحق أن الحب أعمى. والحظ أيضاَ. وماذا ترى أعجبها من هذا البستاني؟ وماذا يروقها من حديثه، أو مجلسه أو حاله على الجملة، حتى تروح تنشد لقاءه، وتنعم به — أيضاً فى غفلة من الرقباء؟ وإنه لرجل طيب، ولكن هذا لا يكفى. وقلت لنفسى: «خسارة. خسارة والله».
ويظهر أنى تكلمت بصوت عال، وأن هذا صار عادة لى. فقد سألتنى: «ماذا تقول»؟
قلت: «لاشىء …».
قالت: «ولكنك كنت تقول شيئا».
قلت: «نعم، كنت آعرب عن أسفى لأن عم أحمد جاءنى بنمل، ولم يجئنى بما هو أجدى وأفعل وأكفل بأن يحمل صاحبنا علىِ الهرب».
قالت، وهى تضع سبابتها على شفتيها: «أظنه اتياَ الآن … ليعودك فإنى أعرف دبة رجله».
قلت: «إذن سأتناوم حتى تنقشع السحابة أو ينحسر ظل الجبل». وغطيت عينى بذراعى.
ولم يخطئ ظنها، فقد كان هو القادم بعينه — أو بطوله وعرضه وكرشه — ولم أره لأنى لم أرفع ذراعى عن عينى ولكنى سمعتة يقول هامساً: «أهو أحسن»؟
وأحسبها هزت رأسها فما سمعت صوتها. فعاد يقول: «عال! الحمد للّه. مسكين هذا الولد. عسى أن يصبح بخير …».
ثم كأنما خطر له خاطر وهو يمضى. فارتد وقال: «اسمعى يا لولو. أرجو أن لا … لا تذكرى شيئا عن زيارتى هذه لستك فإنها … فاهمة؟ آشكرك».
وخرج ورد الباب بحذر وخفة لئلا يوقظنى.
وسألت لولو: «ماذا يعنى»؟
قالت: «إنه ثقيل ولا مؤاخذة، ولكنه طيب القلب».
قلت. «ولكن ماذا يعنى»؟
قالت: «ستى دائماً تعيره أن قلبه يرق لك على الرغم من الثورات العنيفة التى يثورها. وهو أيضاً يقول عنها ذلك … الحقيقة أن الاثنين، يحبانك حبا لا مزيد عليه».
قلت: «شكراً لهما … وهل تحبيننى مثلهما»؟
قالت: «أتشك فى ذلك»؟
قلت: «قدر حبك لعم أحمد»؟
فاتقد وجهها واعترفت إذ سألتنى: «من أدراك»؟
قلت: «فضحَك وجهك ونم عليك هذا الأرجوان الذى صبغه».
فآطرقت حياءً فَقلت أطمئنها: «لا تخافى على سرك. فسيظل مطويّا مع سرى».
فرفعت رأسها وسألت: «سرك؟ وما هو»؟
قلت: «آه … هذه هى المسألة … إنه لا يبقى سراً إذا أفضيت به إليك».
قالت: «يا لك من ماكر! هل تعرف أنك تبدو لى أحياناً أكبر مما أنت؟»
قلت: «أوه. جدًا. جدًّا».