الفصل الثالث
فكأنما أوصدته دون عالمى كله..
وكنت قد أشعلت سيجارة، واستلقيت على جنبى معتمدًا بكوعى على المخدة، ومسندًا رأسى إلى كفى، وذهبت أفكر فى أمر هذه الزوجة الصالحة التى لا تفتأ تغرى ولدينا بالمعابثة وتشاركهما فيها. وحدثت نفسى أنهما ولدان صغيران غريران، وإن كانا عفريتين، وأنها هى ليست إلا امرأة، والمرأة فيما تصفها الحكمة المأثورة أو الشائعة على الأقل، ينقصها العقل والدين. ولأنا خليق، بفضل السن، والتجربة، والخيال، وسعة الحيلة، والقدرة على الابتكار، أن أقهر ثلاثتهم فى هذا المعترك، وإنى لأعلم أن الكثرة تغلب الشجاعة، وأعرف أن هؤلاء الثلاثة لا تنقصهم الشجاعة، ولكنى أعرف أيضًا أن شجاعتهم هذه إن هى إلا ثمرة تدليلى لهم، وطول أناتى وحلمى معهم. وإنما يتعفرتون، ويتشيطنون، ويركبون رؤوسهم بالعبث، لأنى أستملح ذلك وأحبه لهم وأوثر تفكيههم بما يطيب به عيشهم، ويجمل الحياة والدنيا فى عيونهم، وقد أوهمهم طول مساناتى لهم، وفرط ترفقى بهم، أنهم يستطيعون أن يبذونى ويسبقونى فى هذه الحلبة، فيحسن أن أريهم «بعض» النجوم فى الظهر الأحمر … أى نعم، أدب هين آؤدبهم إياه، يزجرهم زجراً كافياً عن طمع مسرف يطمعونه فى حلمى.
وغلبنى النعاس، وأنا أحدث نفسى بهذا. ونمت ملء جفونى على هذه النية الطيبة السارة بإذن الله.
وكان النوم عميقاً هنيئاً لا حلم فيه فاستوفيت حظى منه كاملا لا ينقص دقيقه واحدة، ثم استيقظت على نور الصبح، فتعجبت لهذه البلجة من أين جاءت، وأنا قد غلقت الشبابيك والباب قبل أن اوى إلى الفراش؟ وفركت عينى لأستثبت. ولكن الضوء الساطع كان يحوجنى إلى تغميض عينى، والمداناة بين جفونهما. على أنى ما لبثت أن فتحت عينى جدًّا، فقد رأيت امرأة فى مئزر أبيض، تنحى ستائر عن شباك — كاباب — عريض لا عهد لى به. فغضضت البصر وأدرت وجهى إلى الحائط، وفى ظنى أن هذا حلم يتراءى لى. ومن أين بالله يمكن أن تجىء المرأة ذات المئزر الأبيض؟ ومن أين تدخل والباب موصد ومفتاحه فيه — أو لابد أن يكون فيه فما رفعته منه؟ وأنى لى هذه الستائر الرقاق الموشاة بمثل صور الطير، وليس فى بيتي من الأستار إلا كل غليظ النسج قاتم اللون؟ وما هذا الشباك العريض كالباب؟ بل هو باب، وغرفتى ذات شباكين ولا باب فيها إلا ما أوصدت.
إنه حلم على التحقيق، فلننعم به ما دام. وألفيتنى أدعو الله فى سرى أن يجعل المرأة ذات المئزر خودا منظرانية، فإنه ما دمنا نحلم ولا نرى حقا فلا أقل من أن نحلم بخير.
وسرعان ما استجاب الله دعائى، فليته يفعل ذلك فى اليقظة — يقظتى آنا، كما لا أحتاج أن أقول فإنه — سبحانه — لا ينام — فاستدارت، فإذا هى من البيض الحسان والحواريات المسمورات، حلوة رقراقة ناعمة، ووضيئة قسيمة، مستغنية بجمالها عن كل زينة، فتبسمت لها، وقد رف لها قلبى، وهى مقبلة علىّ، تهفو كالنسيم، ولا تكاد تمس الأرض، فما كنت أسمع وقع قدميها وهى تمشى إلىّ، وعلى ثغرها النضيد إبتسامة ما أحلاها وأعذبها! فلماذا يا ترى نُحرم مثل هذا فى عالم الحقيقة، ونخايل به فى أحلامنا، وأشفقت — وأنا أرنو إليها مغتبطًا بدنوها منى شيئا فشيئًا، متطلعا إلا حلاوات سأتذوقها مها، ولذات سأفوز بها من قربها — أقول آشفقت أن يكون مصور الحلم قد جعل لها قدمين على هيئة السمك أو ذنبه، وخفت أن تنقلب الغرفة بحيرة والسرير زورقًا، وتذهب تسبح بنت الماء هذه، وتطالعنى من هنا وههنا وتحاورنى، فأحاول أن أدركها، فيضطرب الزورق فى الماء وأغرق فما أحسن السباحة، أو أبتل على الأقل.
وصوبت عينى إلى الأرض فاطمأنت نفسى. فما زلنا فى الغرفة. وإن للفتاة لقدمين دقيقتين جميلتين، وإن ساقيها لممشوقتان.
واتكأت على السرير براحتيها، ومالت، وصار محياها فوق وجهى، وبينهما شبران، أو أقل، فليتها تختصر المسافة أو تختزلها أو تمحوها! وقالت بأعذب صوت صافح أذنى: «صباح الخير يا بابا..» فحيرنى قولها «يا بابا»، أهو تدليل لى أو مفاكهة؟ إن كان هذا فأنا خليق أن أسر، أم هي إشارة إلى ما بيننا من فرق السن؟ إن تكن الأخرى فهى ليست من حسن الذوق على الريق. وخطر لى أنى جدير — على الحالين — أن أسر بأن أصبح على هذا الوجة الحسن، وراقتنى، وأنا أنظر إليها — بل أحدق فيها — نقرتان عند الشدقين حفرهما الابتسام، فافتررت لها كما تفتر وقلت لها أمازحها مثل مزاحها، وإنها لأولى بذلك من الحاجة!
«صباح الخير يا ماما …».
وما كدت أفعل، حتى وجمتُ، ووضعتُ يدى على فمى فما كان هذا بصوتى ولا هو يشبهه، وإن صوتى لأجش، جهير، وفيه برجمة، وغلظ، وكثيرًا ما عابتنى به امرأتى وزعمته صلبًا شديدًا، مبالغة منها على عادتها، عندما تمزح. وقد قالت فى صفته مرة إنه «ضوضاء». أما هذا الذى سمعته من نفسى حين حييتها فصوت ناعم دقيق مع ارتفاع، كأصوات الصبيان قبل أن يبلغوا الحلم، أو أصوات البنات، فماذا جرى؟ هل أصاب حلقى شىء؟
وتحسست رقبتي، وبلعت ريقى لأستوثق، فلم أشعر أن بى شيئاً.
ورأت الفتاة سهوم وجهى، وشرود نظراتى، فأراحت كفها على كتفى وسآلتنى: «مالك؟ ألست بخير هذا الصباح»؟
فتنبهت. ووقع فى نفسى ما فى صوتها من الحنو. وأسرعت فقلت: «نعم بخير. شكرًا لك».
وارتعتُ ثانية لما سمعت هذا الصوت الجديد الناعم، وأحسب أن وجهى امتقع فقد حنت علىَ، وراحت تمسحه لى بكفها الرخصة، وتجسه، وكاد طيب لمسها يذهلنى عن تعجبى لصوتى وإنكارى له.
وسمعتها تقول: «كلا. لا شىء بك. وسأجيئك بطعامك فتهيأ له»، وألقت إلىّ ابتسامة وانصرفت خفيفة كمر النسيم.
وجلست على السرير وقلت لنفسى: «هذه خلوة يحسن أن أقضيها في جلاء هذا الأمر»، ورفعت يدى إلى رأسى أسوى شعرى وأسرحه بأصابعى، وإذا بيدى تقف وعينى تشخص، فإن شعرى قليل خفيف، على طوله، وقد استوى بياضه وسواده أما هذا الذى تخللته بأصابعى فكثير مجتمع مسترسل إلى القفا، وهوت يدى إلى خدى من الدهشة، فإذا الصفحة ملساء ناعمة أسيلة، وبضة طرية لا أثر فيها لشعر نابت يحتاج إلى الموسى لحلقه. فأدنيت أصابعى فى حذر وإشفاق من شفتى العليا فكان ما خفت أن يكون، ولم أجد شيئاً. وزاد عجبى أن أحسست فى هذه الشفة انقلابا يسيرا واسترخاء. فدفعت الغطاء وانتفضت أريد الوثوب إلي الأرض لانظر فى المرآة وأتبين ما حلّ بى، ولكن الغطاء لم يكد يطرح وينحسر حتى جمدت مكانى. فقد ألفيتنى فى ملابس الصبيان — سراويل قصير لا ساق له، وقميص مقوَّر الجيب بغير كم، والجرم كله جرم حدث، لا جرم الرجل الذى أعرف أنى هو — أو أنى كَنتُه — ودليت ساقى من فوق السرير فلم تبلغا الأرض، فجعلت أهزهما وأتأمل بضاضة بشرتهما، وأتعجب أين ذهب الجسم الذى كنت فيه؟ وكيف دسست فى هذا الإهاب الجديد؟ واشتقت أن أسمع صوتى فرحت أتكلم بصوت خفيض مخافة أن يدخل علىّ داخل فيستقل عقلى. واشتهيت أن أرى وجهى وصورتى فى مرآة، فإنى أرى معظم بدنى، ولا أرى وجهى وطولى وعرضى، ولكنى خفت أن يباغتنى أحد وأنا أتأمل نفسى فى المرآة وأدور امامها، فقلت أنتظر حتى أغتسل أو أغير ثيابى. فلابد أن لى ثيابًا أخرى وعسى أن تكون فى هذه الخزانة.
واستثقلت هذا الحلم، وضاق صدرى بالتحول الذى تحولته فيه، وإذا طال الحلم فستتراخى السنون وتتعاقب قبل أن أبلغ مبالغ الرجال مرة أخرى، ثم ضحكت، فإن الأحلام تبدو لرائيها كالدهر طولا فيما يحس، ولكنها لا تستغرق أكثر من ثوان أو دقائق، وفاء بى هذا الخاطر إلى حد من السكينة والرضا، فقلت إنها على كل حال رؤيا سينسخ الإصباح كل ما فيها من صور، ولا منطق للأحلام، ولاضابط، ولا ايين تجرى عليه فإنما هى خيالات تتمثل، وأضغاث كسمادير السكْر، وليس بمستغرب فى حلم أن يرتد المرء حدثا ابن عشر — ترى كم بلغت؟ — ووالله لقد نسيت كيف كنت إذ أنا طفل، فلعل ما أنا فيه يجدد لى الذكرى ويحيى ما غمض، وينشر ما انطوى.
ولمحتُ الباب يفتح فاستحييت أن ترانى هذه الفتاة المليحة عارى الساقين، فآسرعت فرفعت رجلىّ إلى السرير وتغطيت بالملاءة وأسندت رأسى إلى شباك السرير.
وكانت تحمل صينية كبيرة عليها أطباق شتى مغطاة وفنجان وإبريق وفوطة. فوضعتها على منضدة قريبًا من الشباك أو الباب على الأصح ثم انثنت إلىّ وقالت: «ألا تزال فى سريرك؟ ما هذا الكسل؟ تعال».
وحنت علىّ، وطرحت الملاءة عنى، وراحت تدلك لى جسمى من فوق. فأغمضت عينى مستحليًا ذلك منها، ولكنها هوت بكفيها إلى الفخذين فدفعت يدها وتغطيت وصحت بها، وقد أنسانى الحياء ما أنكر من صوتى: «كله إلا هذا»!
قالت متعجبة: «ماذا جرى لك اليوم؟ ألست أفعل هذا كل يوم تقريبًا»؟
كل يوم..؟ إن هذا الحلم أطول مما أعرف! فما أغربه من حلم مقتضب يبدأ من نصفه؟ وهل ترى اسمى فيه بقى كما أعرفه أو تغير هذا أيضاً؟ وهل ترانى أجرؤ على الاستفسار؟
أم ستتاح لى فرصة فأعرفه بلا سؤال؟
وسمعتها تقول: «مالك لا تعجب؟ إنك اليوم متغير».
فقلت فى سرى: «لو عرفت لعذرتنى». ثم لها: «لاحاجة بى إلى التدليك. ثم إنه غير لائق».
فاستضحكت ثم قالت: «غير لائق؟ هذا جديد … هذا ممتع».
قلت: «ممتع أو غير ممتع، سيان. لا أريده والسلام».
فهزت رأسها وقالت: «إنك لطفل غريب. لا ينقضى منك عجبى، طيب. قم إلى طعامك».
فسألتها: «ألا أغتسل أولا»؟
قالت: «طبعًا. تعال».
وتقدمتنى إلى باب لم أفطن إليه من قبل، يفتح على حمام، ورأيتها تسبقنى إليه فناديتها فخرجت إلىّ فما أسرع ما اندفعت داخلا وأغلقت الباب ورائى.
ورأيت فى الحمام مرآة فوق الحوض، إلا أنها عالية لا ترينى إلا وجهى وصدرى. ولم يخطئ ظنى. فقد كان الوجه صابحًا والشعر شعر حدث، ولكنه لم يعجبنى، فقد كان — أى وجهى — كأنه منتفخ الصفحتين، وكانت الشفتان شديدتى الحمرة وعلياهما منقلبة قليلا قليلا كما ظننت، حيث ينبت الشارب، على أني حمدت للذى صورنى هذه الصورة آنه لم يجعلنى أشرم.
ونظرت بعد ذلك إلى ألوان الطعام ثم إليها وسألتها: «ألا تشاركيننى»؟
فابتسمت، وشكرتنى وقالت إنه طعامى وحدى.
فقلت: «كل هذا لى؟ أتعنين أنك تتوقعين أن أحشو معدتى وأكظها بكل هذا؟ إذن سأمرض بلا شك».
قالت: «كلام فارغ، إنك أكول مبطان، أو تحسب أنى لا أعرف ماذا تلتهم فى نهارك بين الوجبات من شكولاته، وفول سودانى، وحمص وغير ذلك؟ كل وأنت ساكت، ولا تتظاهر بهذه الزهادة، فلولا شفقتى عليك لأخبرت آمك».
قلت فى سرى: «ولى أم أيضاً.. ترى كيف هى»؟ ثم للفتاة: «ولكن.. زبدة وجبن وبيض مقلو مع اللحم المتمَر، وقشدة، وعسل، ولبن وشاى، وهذا. ما هذا؟ آه خبز مكسر على السمن. فماذا تظنينى بالله؟ غولا.. ألا تعرفين أن «الغازات» تسود عيشى؟ فكيف آكل هذا وآمن فورتها وسورتها»؟
ونسيت وأنا أقول هذا أن الذى ردنى طفلا، وكرّ بى راجعا كل هذا الزمن لابد أن يكون قد عُنى بأن يضع لى مكان معدتى العتيقة، معدة جديدة شابة. فما يعقل أن يكون هذا قد فاته، وإلا صار ما صنعه بى تخليطًا لا يستقيم معه الأمر.
وقالت الفتاة: ألا ليت أحدًا يناديها باسمها فأعرفه فقد أحتاج إليه،ثم ليتها تدعونى باسمى لأعرف من أنا؟: «ما هذا الكلام الذى تقول؟ إنه أشبه بالهذيان. سم بالله وكل».
فأطعت. وهل كان لى معدى عن الصبر؟ وجعلت فى أول الأمر أتناول بحذر وتقية، وآكل على مهل وبحساب، وأمضغ مضغاً طويلا مستأنئاً فيه، ثم أحسست وأنا ألوك أن رغبتي تشتد، وشهوتى تقوى، فعكفت على الطعام عكوف المنهوم الرّغيب الذى لا تنتهى نفسه ولا تمتلئ عينه، وما هى إلا لحظة حتى كنت قد قششت كل ما أمامى. ثم اضطجعت وربتّ على بطنى وحدثت نفسى أن أملى لم يخب فيمن صنع بي هذا، فليتنى أعرف حيلة أستبقى بها هذه المعدة لما بعد اليقظة.
وتذكرت قول ابن الرومى:
وتمنيت، وقد آتانى هذه المعدة الفتية، أن لو كان آتانى أيضًا عقل حدث. وأحسبه نسى أن يغير لى نفسى كما غير لى جسمى، على أنى ما أظن إلا أنه لو كان فعل لما فطنت إلىِ أنى تغيرت.
وسمعت فتاتنا تقول: «هنيئاً مريئاً يا بابا».
قلت؟ «شكرًا».
ووددت لو نسيت «بابا» وذكرت اسمى..
وخطر لى أن خادمتنا الحاجة لعلها صغرت مثلى!