الفصل السادس
وأخيرًا جاء العم. وتلقيت قبلاته، وقاك الله السوء!
وهو شىء كل ما فيه ثقيل، تنفسه حشرجة، وصوته ضوضأةٌ، وضحكه قرقعة، وقبلته كمص الماء من كوزٍ نَصفان، وكرشه برج دبابة، وشعرات شاربيه فتلات حبل مقروضة، وعينه — والعياذ بالله — شفرٌ متفتل، وجفن محمرٌّ لا هدب له، وماء يسيل، وحاجباه شعرهما رقيق من أخر وكثيف من قُدُم، وأذنه مسترخية من رأسها ومنكسرة على وجهها كأذن الكلب، ورأسه على شكل البيضة، وقد ذهب أكثر شعره، وبقيت له طرة شعراتها متفرقة صلبة كأنها الشوك.
وما كدت أراه حتى قلت: بل هو أولى بكل ما يهيئ له هذا الجناينى الطيب العم أحمد … قواه الله ووفقه! وتمنيت أن يجيئنى بثعبانين أو ثلاثة، أدس منها اثنين فى كميه، أعنى عمى، وألف الثالث حول عنقه الغليظ المقبل إلى صدره المنتفخ.
وكان يأبى إلا أن يجلسنى على ركبته، ولا أكاد أفعل حتى تدفعنى كرشه وتدحرجنى، فيقهقه ويطخطخ، فيبح، ويسعل سعالا مشقوق الصوت، ويسيل لعابه على ذقنه، ويمسك جنبيه بيديه، كأنما يجد فيهما وخزًا، ولا يخطر له أن يخرج منديلا يستر به هذا الفم الأفوه الذى كأنه باب كهف، وما فيه من لثة ذابلة، وأسنان مسودة، سفلاها خارجة من الحنك وعلياها متقاعسة.
وكنت شديد الشوق إلى تلقى ما وعدنى العم أحمد، والتلهف عليه، فأنا لا أستقر، ولا أسكن، ولا أزال أنفى من هذا العم الذى رميت به من حيث لا أحتسب. وأمى تدعونى بغمز العين أو إشارة اليد إلى المراضاة، فلا يزيدنى هذا إلا تقطباً، وجفوة وسوء خلق، وهو لا يفطن إلى ما بى منه أو لا يحفله. ولا يكف عن «ملاطفتى» وممازحتى، ممازحة الفيل للقط، كأنه موكل برياضتى على احتمال المكاره!
وبعد لأى ما استطعت أن أفر من هذه الغرفة. فأسرعت إلى غرفتى، وأطللت على الحديقة من الشرفة فلم أجد أحدًا، وخفت إذا أنا بقيت هنا، أن يصعد العم إلىّ. فيفسد التدبير كله ويحبط، فعدت من حيث أتيت، وجعلت أمشى على أطراف أصابعى وفى مرجوى أن يكون قد غلبه النعاس فأنجو إلى حين، فإن مثله، فى مثل ضخامته، ينام ولو كان على ظهر فرس جامح.
وبلغت الباب. ولم يكن مفتوحاً كل الفتح. فاستوقفنى ما سمعت. فبقيت حيث أنا أتسمع. فسمعت أمى تقول: «إنه عنيد مثل …».
وسمعت عمى يقول: «قوليها … مثل أبيه … تماماً. ولكن المسألة أننا جميعًا، وأنا وأنت فى الطليعة، نخضع لسلطانه كأنه ملك ذو صولجان، حتى فى حياة أبيه، وأيام كان لا يزال رضيعًا، كانت جباهنا تعنو لأصابعه الصغيرة التى يطبقها على شاربى ويشد هأ هأ هأ».
فقالت أمى وهى تتنهد: «تاللَّة ما كان أحلى هذه الأصابع الحمراء … وأحسب انا قد دللناه وأفسدناه».
فقال: «من المسئول عن ذلك؟ هه؟ من الذى كان يغضى عن كل ما يفعل؟ من التى كانت إذا رأتنى أنهره وأزجره تدور من ورائى وتحمل إليه ملء سلة كبيرة من الحلوى والفواكه»؟
فصاحت به أمى: «أنت كنت تنهره؟ أنت؟ صحيح، ولكن بصوت رقيق، لين. كما يناغى ذكر الحمام أنثاه، وإذا رأيته يبكى زويت وجهك وعبست جاهدًا لتخفى الدموع التى تترقرق فى عينك، ثم تحمله وتوسعه تقبيلا».
فاستغربت أن ينطوى هذا الفيل الضخم على كل هذه الرقة، ولكنى ما عرفته إلا اليوم فلى العذر واضحاً، وماذا تقول العامة؟ من لا يعرفك فهو يجهلك، صدقوا والله … وسرنى أن يكون فى هذه الكرش العظيمة شىء غير المعدة والأحشاء. وصارت المسألة عندى هى: هل أمضى فيما انتويت من معابثته بمعاونة عم أحمد الجناينى بما لا أعمل؟ وزهدني فى ذلك أن قلبه كبير، وأغرانى به طمعى الجديد فى حلمه وحبه. وخيل إلى وأنا بين هذه الدوافع والجواذب، كأنى مشدود إلى حصانين يجريان فى اتجاهين مختلفين، وأحسست كأن ساعة انقضت فى هذا التردد، وأشفقت أن يضيع الوقت سدى، فتفلت الفرصة وتذهب إلى غير رجعة، وتأدى إلى صوت هذا العم الفاضل الطيب يقول: «إنك تعلمين يا فيفى ما أنطوى عليه لك من زمان طويل …» فقلت في سرى — وأذنى مع ذلك مرهفة للتسمع — آه لقد عرفنا اسمك يا ماما! لم يسعنى إلا أن أتعجب لأهل هذا البيت الرحيب الذى يتسع «للتكبير» إلي أقصى حد وأبعد مدى، لماذا يحتاجون أن يلجأوا إلى «التصغير» فيه؟ فأنا «سونه» والله أعلم بالأصل المستكثر على. وأمى «فيفى» ولست أستغرب أن يكون ما يُدعى به الاَخرون ممن رأيت ومن لم أر «توتر» و«لولو» و«توحه» و«كوكو» … وتذكرت بيتا نزلت فيه ضيفًا — قبل أن أصغر — مع ستة غيرى من الإخوان. وكان صاحبه ممن لا يحتاج ابن الرومى أن يتعجب لهم كيف أخطأهم الجسم، فأرقدنا فى حجرة كالهيكل، رص لنا فيها سبعة أسرة غير الخزانات والمناضد والكراسى، كانت تبدو لنا مع ذلك فارغة. وكان الواحد منا يستطيع أن ينام على سريره طولا أو عرضًا كما يشاء من فرط سعته. وأصبحت فقصدت إلى الحمام فإذا هو يصلح أن يكون ميدانًا للركض أو ساحة للرقص. ولما صرت فى الحوض خيل إلىّ أنه حوض سباحة، وأنى فيه سمكة من «البساريا» فى مجرى النيل العظيم، وأشفقت أن أغرق، وصحت أطلب النجدة، وتوقعت أن يجىء مضيفى بدلو عظيمة يلقى بها إلى، فأصعد فيها، أو يدلى لى حبلا أشد به وسطى ويرفعنى فأخرج إلى الشط. وقلت لمضيفى لما نجوت: «لم لا تؤجر هذا الحوض للأسطول البريطانى فيتخذه قاعدة له»؟ على أن هذا كان منى ظلمًا له، فما عدا الرجل أن شيّد بيته وفصله على قده. فلا وجه للوم أو السخرية.
وهنا تجرى الأمور على نقيض ما ينبغى. فيصغرون الكبير حتى ليمسخون الرجل ذا الشاربين المفتولين واللحية الكثة التى يضنيه حلقها كل صباح، فيجعلون منه غلامًا أمرد ….
وصرفنى عن الاسترسال فى هذه الخواطر كلام آخر سمعته كان له وقع اللطمة القوية، فقد كان العم يقول: «وما قولك فى أن نجعل هذا العيد مزدوجًا؟ إنك تعلمين أنى أنا وأخى عليه رحمة الله أحببناك وتنافسنا عليك. وقد آثرته علىّ واخترته دونى، فنزلت على حكمك، وكنت على حق. فإنه كان خيرًا منى. ثم اختاره الله إلى جواره … فأكرمتك ونزهتك عن الالحاح عليك بحبى لك. وتركت لك هذه المهلة الطويلة — سبع سنوات كاملة — وأحسب أن فى سبع سنوات من الترمل الكفاية. ثم إن سونه يحتاج إلى عنايتنا ورعايتنا وتعهدنا معا، وأنت وحدك لا تقدرين على شىء …».
ولم أطق أن أسمع غير ذلك.. هذا العم الذى راجعت نفسى فى أمره وأقنعتها بأنه رجل طيب كبير القلب، لم تخطئ فراستى فيه أول ما وقعت عينى على دمامته المجسدة! وهو الاَن يراود أمى! بل زوجتى … أى نعم زوجتى التى يموهها الحلم ويزورها، ويلقى فى حجرها صوفا تنسجه، ليوهمنى أنها غيرها وأنها أمى! فيا له — الرجل لا الحلم — من سفيه مستهتر، ومتهتك سادر لا يبالى أن يخطف زوجات الرجال وهم ينظرون — أو يسمعون.. وما أراه يريد أن يتزوجها إلا على مالها، فإنها تبدو ذات ثراء، بل هى كذلك بلا مراء. ويزعم الخبيث المحتال أنه إنما يفعل ذلك رقة على ولدها — الذى هو أنا فيما يتوهم وتتوهم معه — وليقوم حضرته بأمرى. بففف! ولم تبق عندى ذرة من الشك فيما صار أهلا له. وآليت لأكونن أبغض الناس إليه، وأثقلهم عليه، ولأوقدن له نارًا تزغرد شعاليلها، ويسطع مريجها، ويضرب لظاها عليه مثلَ الخباء. وكلما تفرق عنها ما يسعرها، أو خبا شواظها، حششتُ لها حتى تعود ذات معمعة وقرقعة كضحكته الثقيلة، وحينئذ نرى أيهما يطيب له — الزواج أم الفرار؟