الفصل السابع
وانكفأت إلى غرفتى، وأوصدت بابها، وتذكرت أنى فعلت ذلك بارحة طلباً للنجاة من عبث الولدين — تري كيف هما الاَن؟ — وأمهما، فصرت إلى هذا الحال المقلوب — أنا الرجل الكبير ارتددت غلامًا صغيرًا، زوجتى انقلبت أما لى يخطبها لنفسه عم وقح لا يبالى أن لها بعلا متنكرًا — بكرهه — فى هذا الاهاب الذى جُمعت وضُم بعضى إلى بعضى وحشرت فيه، والولدان الحبيبان على الرغم من العفرتة والشيطنة ماذا أصابهما يا ترى؟
وقطعت بضعة فراسخ فى هذه الغرفة الصغيرة، بين جيئة وذهوب، ثم انحططت على السرير من التعب والملل، وإذا بباب الشباك يفتح على مهل وبحذر، والعم أحمد الجناينى يدخل من الفرجة برأسه أولا، ورأى أن ليس معى غيرى فاطمأن ودخلتْ بقيتُه، فبادرته أسأله: «بماذا جئتنى»؟
قال: «بجماعة من النمل».
قلت: «نمل؟ وما خير النمل؟ ماذا أصنع به»؟
قال: «إن له لقرصًا كلسع النار وكيها.. ثم إنه ما تطلب فى كل مرة».
قلت: «ألم يكن يسعك أن تأتى ببضعة قنافذ حديدة الشوك، أو بما هو خير — عقارب شائلة الاذناب، أو أفعوان خبيث، أو طائفة من الحيات»؟
فبهت الرجل، وتلعثم، ولم يعد يدرى ماذا يقول.
ورميتُ إليه كيس النمل وقلت: «خذ. خذ. لقد خيبت أملى».
فقال وهو يحاول أن يتألفنى من نفرتى: «يعز علىّ أن أخيب لك أملاً يا سيدى. ولكن هذا ما اعتدت أن تطلب دائماً، على أنى أستطيع أن أجمع لك قليلا من الضفادع، إذا أمهلتنى ساعة أو نحوها».
فلوحت بيدى وقلت يائساً: «ضفادع ونمل؟ ما هذا الكلام الفارغ؟ ألا تفهم؟ إن ههنا جريمة يوشك أن تُرتكب، ولا يجدى فى منعها ضفدع أو نملة.. كلا. لا أقل من أفعوان كبير … أو لعل العقارب تكفى. وعسى أن يكون أمرها أسهل».
فقال: «يا سيدى ماذا جرى لك؟ أى جريمة؟ هل أنت مريض»؟
وهم بالدنو منى وجسنى، فتراجعت وأشرت إليه أن خلّك حيث أنت. وقلت بلهجة مرة: «هل أنا مريض؟ لا أسمع غير هذا السؤال كلما عجز الناس أن يفهموا عنى … كلا لست مريضًا. ولم أمرض قط، وليس فى نيتي أن آمرض إذا كان يسرك أن تعرف هذا. فاذهب وهات العقارب، وإلا فهذا آخر العهد بيننا … وخذ هذا النمل معك، فما بى إليه حاجة، وما غناء نملة صغيرة يدوس الواحد منا ملايين منها ولا يحس أنه داس شيئا؟ أو خلّه هنا … اتركه فقد ينفع الصغير من النمل فى الصغير من الأمور».
وذهب الرجل يبحث عن العقارب أو لا يبحث، فما عاد إلىّ فى نهاره، ولا رأيت وجهه إلا بعد العشاء لما … ولكن هذا سيجىء فى أوانه فلا داعى لتقديمه.
وطال انتظارى، سنة أو سنتين، فيما أحس، وما مضت إلا دقائق إذا صدقت الساعة الموضوعة قريبًا من السرير.
وضاق صدرى ففتحت الباب وخرجت إلى الردهة، فرأيت الفتاة المعهودة تهم بدخول غرفة أخرى فقلت: «سسس..».
فتنبهت وارتدت إلىّ وقالت بابتسام: «أليس لى اسم يا بابا»؟
قلت: «معذرة فقد نسيت».
قالت: «نسيت اسمى»؟
قلت: «نسيت أن أدعوك به». وأردت أن أعدل بها عن هذا فسألتها: «غرفة من هذه؟ أعنى لماذا تدخلينها الاَن»؟
قالت: «غريب. أنسيت أيضًا أن عمك يستريح قليلاً بعد الغداء».
قلت، وقد خطر لى خاطر: «كلا، لم أنس، ولكنى أريد أن أكلمك، فهل أستطيع أن آحدثك فى غرفة.. عمى»؟
قالت: «طبعًا. تعال …».
وتناولت ذراعى. فقلت لها وأنا أقاوم شدها: «اسبقينى وسألحق بك».
ففعلت، ودخلت الغرفة، وحملت كيس النمل ودسته فى جيبى.
ولما لحقت بها رأيتها تخرج من الخزانة منامة كبيرة تتسع لثور، وتطرحها على السرير وتضع على الأرض قريبًا منه، صندلا وقبقابًا، كبيرين كما لا أحتاج أن أقول. ولم أسألها لماذا هذان، فقد أدركت بذكائى، أن الصندل ليتبختر به فى الغرفة، والقبقاب ليدخل به الحمام. فيا له من تزيد!
وأردت أن أصرفها فقلت: «ألم تنسى شيئًا»؟
قالت: «ماذا»؟
قلت: «إنه أكول، والجو حار، وسيظمأ، فأين الماء البارد»؟
قالت: «إنك تمزح».
قلت: «لا، أبدا. إنى جاد جدا».
قالت: «ما عليه إلا أن يدق الجرس فنحمل إليه ما يريد».
قلت: «ولماذا لا تعفين نفسك من رؤية وجهه الغليظ»؟
قالت: «أراك اليوم ساخطًا عليه فهل أغضبك منه شىء؟» قلت: «كل شىء يسخطنى عليه». واندفعت فقلت: «لقد سمعته يغرى..! أمى بأن تتزوجه..».
قالت: «لا»؟ غير مصدقة.
قلت: «نعم، سمعته بأذنى هذه». وشددتها بأصبعين على سبيل التأكيد.
قالت: «وهل.. هل قبلت»؟
قلت: «أخشى».
قالت: «يا للمصيبة. بعد سيدى تتزوج هذا …»؟
فقبلتها، فما كان يسعنى غير ذلك. ولكنها كانت قبلة شكر واغتباط، لا قبلة … كلا وأقسم! وقلت لها: «لم يخب ظنى. أنت أجمل فتاة، وأطيب فتاة، وأشرف فتاة، رأيتها فى حياتى الطويلة (فتبسمت راضية ومستغربة) والاَن يجب أن نقصى هذا المحتال عن البيت، فإن أمى صغيرة ساذجة (فكادت الابتسامة تصبح ضحكا) فما قولك؟ لقد أطلعتك على السر، ووافقتنى على أنه رهيب، فلا ينبغى أن تخذلينى …».
فقعدت على كرسى وقالت وهى تحدق فى وجهى: «لا أدرى.. إني فى حيرة … أنظر إليك فأراك صغيرا، وأسمع منك مثل كلام الكبار».
وهزت رأسها، وطأطأته، فدنوت منها وأرحت يدى على كتفها وقلت: «آه! هذا سر آخر أشعر أن فى وسعى أن أأتمنك عليه، ولكنى أخشى أن لا تفهمى، أو لا تصدقى، أو تظنى أنى جننت».
فرفعت رأسها وزوت ما بين عينيها النجلاوين وقالت: «سر؟ أى سر؟ لقد كثرت الأسرار اليوم؟»
فنازعتنى نفسى أن أبيحها إياه، وأن أقول بشجو، وأطرح عن صدرى هذا العبء الثقيل وأشركها فى أمرى، لعلها تستطيع، ولكنى أنا خليق أن أستريح بعد البث، ولكنى كنت أشفق أن تظن بى الخبل، أو تعد الأمر كله هذيان غلام يجمع به خياله الطائش، فقلت: أخطو بحذر.
وسألتها: «هل تصدقين أنى لا أعرف من أنت ولا ما اسمك لأنى ما رأيتك إلا اليوم»؟
وما كدت أقول ذلك حتى عضضت شفتى، فقد أدركت — بعد الأوان — أنى بدأت من حيث كان ينبغى أن أنتهى، فلا عجب إذا كانت قد وثبت إلى قدميها، وتناولت كتفى وهزتنى بعنف وسألت: «إيه؟ لا تعرفنى؟ لم ترنى من قبل؟ ماذا أصابك اليوم؟ إنك من أول النهار حالك حال لم أعهده منك، فماذا جرى لك؟ قل لى …».
فنحيت يديها عنى، وتحسست رقبتي التى كادت تنخلع وقلت: «آلم أقل لك؟ كلا! لا يمكن أن تفهمى أو تصدقى، فلأقصر فإنه أرشد. وخلنا فى عمى وآمى..» وضحكت «لم يكن ينقصنى إلا آم وعم يسقطان علىّ من السماء، ويتم بهما …».
ولم أتمها فقد صاحت بى: «ماذا تقول؟».
فانفجرت، وقد نفد صبرى، وصحت، كما تصيح: «أقول إنى لست هذا الغلام الذى تسمونِه «سونه»، وما كنت أعرف أن هذا اسمه إلا بعد أن نادتنى به أمى … وهى أيضًا ليست أمى بل زوجتى … قولى ما شئت وظنى بعقلى الظنون، فما عدت آبالى ولكنها الحقيقة، أيضًا أن هذا العجل السمين الذى تظنونه عمى، ليس عمى، فما لى أعمام …».
وأمسكت — اضطرِرت أن أمسك — فقد سقطت على الأرض مغشيًّا عليها! لم تقل شيئا، ولم تصرخ، بل هوت، كما يهوى الثوب، الفارغ، فاضطربت، وتلفت، وأشفقت أن أستنجد بأحد فتحدثهم بما سمعت، فيحملونى إلى مستشفى الامراض العقلية، ولمحت زجاجة كولونيا فخطفتها وصببت منها على وجهها، وعلى كفى وأنشقتها، وجعلت أضرب لها وجهها، حتى فتحت عينيها ثم جلست وقالت وهى تفرك عينيها: «ياله من حلم» وتنبهت إلى وجودى فسألتنى: «سونه، ماذا جرى لى»؟
قلت: «لا شىء. رأيتك تترنحين كالسكرى ثم تسقطين».
وحدثت نفسى أن خير ما أصنع هو أن أشجعها على الظن بأنها كانت تحلم، وأنها سمعت فى غيبوبة لا منى.
سألتنى: «هل كنت تقول لى شيئا»؟
قلت: «نعم، كنت أسر إليك …».
فصاحب بى وكفها على جبينها: «لا، لا، لا، لا تفعل … يكفى يكفى …».
قلت: «ولكنك كنت موافقة على أن هذا الزواج لا يجوز ويجب أن يحال دونه»؟
قالت: «إيه؟ زواج»؟
قلت: «نعم. هل نسيت ما حدثتك به من أن عمى يريد أن يتزوج أمي»؟
قالت: «آه. صحيح.. وو …».
قلت: «وكنا نتشاور فى الوسيلة لمنع ذلك، وإذا بك يُغشى عليك».
قالت: «أهذا كل ما كان»؟
قلت: «كله».
فتنهدت، وقالت: «الحمد لله. ولكنه حلم لن أنساه. ما أفظعه»!
قلت: «ماذا رأيت فيه»؟
قالت، وهى تنهض إلى قدميها: «لا، لا، لا … لا أستطيع. أووف يا حفيظ يارب»!
وسحبتنى معها وخرجت بى من الغرفة.
وهكذا ضاعت الفرصة، وعدت بالنمل مدسوسًا فى جيبى كما جئت ورجعت إلى غرفتى، وعضنى الجوع، ولم أجد شيئا يؤكل. فاستلقيت علي السرير فأغفيت، ورأيت فيما يرى النائم اْنى صبى صغير من خشب، وأنى أرتدي ثيابًا من ورق، وعلى رأسى طربوش أسمر من لباب الخبز، فأخوف ما أخاف النار والفيران. وبصرت بملعب على بابه رجل ينقر علي طبلة بعصوين ويدعو الناس أن يدخلوا، فتسللت من بين الأرجل، وإذا علي المسرح صبيان مثلى من خشب يرقصون، فما إن رأونى حتى كفوا عن الرقص وصاحوا جميعًا: «هذا أخونا التائه قد رُد إلينا». ودعونى إليهم فقفزت فإذا أنا على صلعة رئيس الجوقة التى تعزف، وقفزت مرة أخري فإذا أنا معهم، فأقبلوا على يحيوننى ويعانقوننى. ودخل علينا عملاق يشبه عمى، نهرنا وزجرنا عن العناق وساقنا أمامه. وإذا نحن فى المطبخ وإذا كبش عظيم يشوى على النار، وانطرح العملاق على كرسي ونفخ نفختين ثم قال: «النار تكاد تخبو وتهمد، وعشائى لم ينضج، فتعال أنت (وأشار إلىّ) لألقى بك علبها فتذكو».
فجعلت أتوسل إليه وأقول إنى يتيم ولا أريد أن أموت — فعطس فقلت: «يرحمك الله» ودنا منى أخ من خشب خيل لى أن فيه مشابه من أحد ولدي وهنأنى بالنجاة، وقال إن صاحبنا يعطس إذا رق قلبه وأدركه العطف وسمعت العملاق يصيح مرة أخرى: «ولكنى لن أتعشى إذا تركت النار تخبو، فتعال آنت». وأشار إلى الأخ الذى يشبه ابنى فبكى، وبكيت ثم رفعت رأسى وقلت: «كلا. إذا كان لابد من إلقاء أحدنا علي النار فأنا أولى». فعطس العملاق عطستين، فتبادلنا التهنئات، ونظر إلي وقال: «تعال أقبلك». فقفزت حتى صارت قدماى على لحيته، فضمنى إليه بأصبع، ثم حطنى على الأرض وقال: «كنت أرجو أن أنعم شيه ولكنه لم يبق لى مفر من أكله ملهوجًا … لا بأس لا بأس».
فأقبل بعضنا على بعض يعانقه ويهنئه. والعملاق يهبر ويلقى فى فمه ولا يلقى إلينا عظمة، فالتهبت جوعًا وتلوت أمعائى، وذهبت عيناى فى رأسى واسترخيت فانحنى ظهرى، وصرّ، ورثيت لنفسى، وانهملت دموعى كالخيط المتصل، وأحاط بى إخوتى ينقرون على كتفى، ويسألوننى: «مالك تنتحب»؟ ويهزوننى فرفعت عينى إليهم فإذا أمى حانية علىّ تسألني: «مالك يا سونه»؟
قلت: «جوعان..».
قالت: «الأكل حاضر يا حبيبى. قم».