الفصل الثامن
وكانت المائدة حافلة بما طاب من «الآكال والأشواب» التى كان ابن الرومى يحسد التجار على الفوز بمثلها. وأحسب أن ما أثقلت به إنما كان من أجل هذا العم المحتال. فما يعقل أن تجتزئ هذه الكرش العظيمة باليسير أو الرقيق أو «تلك التى مخبرها ناعم. تلك التى منظرها شاحب». ان لا يفتأ يكظ لى طبقى ويحضنى على الأكل، ويزين لى طيبه وخفّته علي المعدة، وحسن ما يفيده من المتعة والصحة، كأنما يجد فى الوصف لذة كلذة الالتهام، أو كأنما هو يأكل بعينه وأذنه فضلا عن فمه — بجوارحه وحواسه جميعًا — ولا يزال يبدئ ويعيد فى الثناء على الطباخ. وكان جالساً أمامى — أعنى عمى لا الطباخ — وزوجتى — أعنى أمى — بيننا إلى صدر المائدة فلم يفتنى ما كانا يتبادلان من لحظات مختلسة أو نظرات صريحة، فقلت فى نفسى: «يا خبيث، أو تحسب أنى أجهل أن التودد إلى الابن وسيلة إلى قلب الأم؟ وأن الثناء على حذق طباخها وسيلة أخرِى؟ ولكنك تجهل أنى رجل فى زى غلام. وما أظن بك إلا أنك كنت حقيقاً أن تجتوى هذا الطعام وترتد شهوتك عنه لو اطلعت على الحقيقة».
ولم تكن بى حاجة إلى ترغيبه وحضه. ولكنى كنت أتقزز عن الطعام، من سوء ما يصنع، فقد كان تلقامة، يعظّم اللقمة ويلقى بها فى فمه كأنما يرميها فى كهف. وكان يأخذ اللحم بمقدم أسنانه، ويتمخخ العظم، ويتلمظ، ويتمطق، وتعلقت بشاربيه قطرات من الحساء. وانتشر بعض الفتات على ذقنه وصدره، حتى كرهت أن أنظر إليه، وصرت أتعجب لهذه المرأة ماذا أعجبها منه؟ ولكن النساء لغز، والذى يعرفهن معرفتهن لم يخلق بعد.
وكنت أحدث نفسى كلما وقعت عينى عليه أنه لا ينقصه من العملاق الذى روّعنى فى منامى إلا أن تُركّب له فى عذاريه مخلاة من لحية، ولا ينقصه من الدواب إلا أن تملأ المخلاة شعيرًا.
ونهضنا عن المائدة بعد أن انتقل ما كان عليها — أو معظمه — الى جوفه. وآن أن نتفرق لنستريح استعدادًا للمساء والحفل الذى سيكون فيه. وكنت أتظاهر قبل ذلك بالفتور وثقل الجفون. فلما أخلى سبيلى ذهبت أثب صعدًا إلى غرفته وأخرجت كيس النمل من جيبى، وحللته، وأفرغت معظمه فى ساقى المنامة وكميها، وأطلقت البقية بين المخدات وأغطيتها، وكررت بسرعة إلى غرفتى وقفزت إلى السرير، دون أن أخلع نعلى وتناومت.
ولم يكن هذا ما أبغى، ولكنه كان ما وسعنى. وما حيلتى وقد خذلنى الجناينى، ولم يجئنى، إلا بهذا النمل الذى لا خير فيه ولا غناء له؟ ولقد زعم أن قرصه كى، فعسى أن يصدق. وخامرنى الشك فى إمكان شعوره بدبيب النمل ولكعه جلده، فإنه سميك غليظ. ولكنى تمنيت على الله أن يحرمه النوم والراحة على الأقل، فيسوء خلقه، وترى هذه المسكينة المخدوعة، من شكاسته وجلافته وعسره، ما كان يحرص على ستره بحلاوة اللسان. والله قادر على أن يضع سره فى أضعف خلقه.
وآخذنى النوم وأنا أتعلق بالأمل فى النمل، وأتحول شيئا فشيئا إلى الاعتماد عليه والثقة به. وما أدرى أطال نومى أم قصر. ولكن الذى أدريه أنى استيقظت مذعورًا على صرخات مجلجلة ودبدبة شديدة فى الردهة، وأصوات مختلفة ولجب عظيم. فأيقنت أن الله قد أجاب دعوة هذا الطفل الغرير البرىء الطاهر النفس. وترددت، هل آخرج أو أبقى؟ وزهدنى فى الخروج علمى أنى جنيت هذا وخوفى أن يفضحنى وجهى، ورغبّنى فيه أن اختبائى شبهة كافية، وقرينة دالة. ولا يُعقل أن أظل مستغرقًا فى نومى — وإن كنت طفلا — على الرغم من هذه الزعقات الشديدة، والصرخات العالية، والهرج العظيم، والخبط والدب. واشتهيت أن أراه وهو ينط، ويتلوى، ويتعوج، ويتحرق ويشتم. وتصورت منظره وهو يفعل ذلك فضحكت. لم يبق محل للتردد والاحجام.
ولم أجد فى الردهة غير أمى والخدم من رجال ونساء. وكانوا جميعا يتلاغطون ويضوضون، ولا يحفلون أن أمى بينهم. فسألت عن الخبر وأنا أتكلف الجهامة، فالتفتت إلىّ أمئ، وأراحت يدها على رأسى وقالت بحنو: «مسكين.. تعال نم فى غرفة أخرفة أخرى بعيدة من هنا.. لا حول ولا قوة إلا بالله! ألا يستطيع الولد أن يستريح ساعة»؟
وهمّت أن تمضى بى، فثبّت قدمى. فما يجوز أن تفوتنى ثمرة مجهودى! وسألتها: «ولكن ما هى الحكاية؟».
قالت: «علمى علمك. كل ما أعرفه أن عمك خرج يصيح ويصرخ، ويضرب الأرض برجليه، وفى يده إحدى قطعتى المنامة. فلما خرجنا إليه أسرع فدخل وأقفل الباب وظل يصيح من خلفه ويسب ويلعن … وقد سكن الاَن قليلا … فعد إلى غرفتك أو تعال معى».
قلت: «كلا» ونحيّت يدها «سأدخل عليه لأرى ماذا جرى له».
ودققت عليه الباب فصاح من ورائه: «لا يدخل أحد..».
قلت: «أنا سونه يا … عمى».
فصرخ: «امش يا خنزير يا قليل الحياء».
قلت وأنا أغالب الضحك: «أقول لك أنا سونه».
قال: «آه! تقتل القتيل وتمشى فى جنازته. هيه؟ تحشو لى ثيابى نملا وتجئ تسأل عنى … لتنعم بمنظر جلدى المشوى.. طيب يا ملعون والله لأؤدبنك».
فالتفتُّ إلى أمى، وكانت قد تبعتنى لما سمعت صوته، وقلت: «هل سمعت؟ إنه يزعم أنى وضعت له نملا فى ثيابه. فمن أين أجىء بهذا النمل، ولا نمل فى البيت»؟
فجذبتنى أمى من ذراعى وقالت: «سخيف … ثقيل.. تعال».
فطربت، وكدت أرقص، من الفرح، وهممت بأن أنط وأبوسها، ولكنى رددت نفسى مخافة أن ترتاب فيفسد التدبير.
ولما عاد كل امرئ من حيث جاء، وسكنت الضجة، دخلت الفتاة الحسناء التى كنت لا أزال أجهل اسمها، وأشارت إلىّ وسبقتنى إلى الشرفة، ثم قالت لى بصوت كالهمس: «فى المرة المقبلة أرجو أن تكون أكثر حرصًا».
قلت: «ماذا تعنين»؟
ونسيت أنى كنت فى الصباح قد رجوت منها أن تكون فى حِلفى على عمى.
قالت: «لا تحاول أن تكابر، فليست هذه بالمرة الأولى، ثم إنك قد تركت هذا الكيس». ورفعت به يدها لأراه.
فسألتها: «أين وجدته»؟ وأدركت أنى اعترفت.
قالت: «لمحته على السرير فأُخذته».
قلت: «هل رآه»؟
قالت: «لا، كان هذا قبل دخوله لينام».
قلت: «إنه يتهمنى على كل حال» وهززت كتفى.
قالت: «نعم، ولكن الكيس دليل مادى يقدمه إلى ماما فتقتنع، أو تشك على الأقل، فلا ترميه بالتحامل عليك. أما الاَن …».
ومطت شفتيها.
قلت: «هاته».
قالت: «ليعثروا به عندك؟ كلا.. سأحتفظ به».
قلت، وآنا أهز كتفىِ: «إنه كيس فارغ».
قالت: «لم يكن فارغاً جدًا لما وجدته. وقد تُسأل عنه: من أين لك هذا؟ فتلجأ إلى الكذب. ولست أحب لك هذا».
قلت: «ألم أقل لك إنك أجمل فتاة وأطيب فتاة رأيتها»؟
فابتسمت، وشردت نظراتها، وقالت كأنما تناجى نفسها: «لا أدرى لماذا أحبك كل هذا الحب، وإن كنت شيطانًا صغيرا».
فوددت أن أسآلها: هل تشيطنت عليها؟ ولكنى رأيت شرود لحظها، واستغراق خواطرها لها فعدلت. ومضت هى فى المناجاة فقالت: «غريب. فى الصباح تعجبت لاستحيائك أن أدلك لك جسمك — وآنا الاَن أتعجب لنفسى — آشتهى آن أبوسك وأستحى أن أفعل! لعلها عينك، فإن فى نظراتها لشيئا».
فهممت أن أكر إلى ما أفضيت به إليها فى الصباح. وخفت أن ترتاع كما ارتاعت، وألفيتنى أستطيب ما أجد من حنوها علىّ وأنسها بى، ومراضاتها لى. وحدثت نفسى آن فى وسعى أن أحبها بذلك الجانب من نفسى المكنون فى ضمير الفؤاد، لا لعطفها، بل لذاتها، ولحسن وجهها واكتمال آنوثتها. ولكن ما الرأى فيما نكبت به من هذا المظهر الصبيانى؟ ولأخلق بها أن تسخر منى أو تسايرنى ضاحكة لاهية.
وردنى ذلك إلى التفكير فى أمرى، وأمر زوجتى وولدى، ماذا صنع الله بهم؟ ماذا قالوا وفعلوا حين أصبحوا فوجدوا سريرى خاليًا؟ أو وجدوا جسمى ممدودأ عليه ولا حياة فيه ولا روح؟ أليس واجبى أن أبتغى وسيلة إليهم، وأن أبلغهم أنى ما زلت حيا أرزق، وإن كنت قد مسخت طفلا، ليطمئنوا؟ وإنى لأجهل فى أية رقعة من الأرض أنا. وللذى صيرني غلاما قادر على أن ينفينى من الأرض ويقذف بى إلى كوكب أخر. ولكن أرى الناس هنا كما عهدت. فأنا ما زلت على الارض، وهم يتكلمون لغتى، فأنا فى بلادى، فليس لقاء أهلى بممتنع. ولكن هبنى لقيتهم فهل يعقل أن يصدقوا أن الطفل الأمرد هو رجلهم الذى اختفى بقدرة قادر؟ أو مات؟ وهبنى اتخذت التليفون وسيلتى إلى إبلاغهم ما كان ألا يعذرون إذا ظنوا أن غلامًا يتماجن عليهم فى محنتهم؟ ولكن ألا أن تنوب عنى هذه الفتاة الكريمة فى أداء هذا الواجب؟ وماذا يكون حكم الله إذا ذعرت مرة أخرى وأغمى عليها؟ لا بأس من التجربة علي كل حال. ولنمض على حذر. والله المعين.
وسألتها: «أليس هنا تليفون»؟
فكأنما لطمتها على وجهها.
ولما أفاقت من دهشتها قالت: «يخيل إلىّ أنك تريد أن تطير لى عقلى فهل سلفت منى إساءة إليك حتى تعاملنى هذه المعاملة»؟
فسألتها مستغربا: «لماذا؟ ماذا قلت مما يمكن ان يُحمل على هذا المحمل»؟
قالت: «تسأل عن التليفون كأنك لا تعرف … وفى الصباح تقول لى إنك لا تعرف اسمى، ولم ترنى من قبل و…».
قلت: «ألا تزالين تسيئين بى الظن، وتحسبين أنى لا أقول الحق»؟
قالت: «رجعنا إلى ماكنا فيه صبحاً! (وتنهدت) الأمر لله (وكأنما تذكرت فقالت) هل تعنى أنك لا تعرف أن فى البيت تليفونا»؟
قلت بابتسامة مُرة: «وأنىّ لى أن أعرف؟ ألم أقل لك …»؟
قالت: «لم أر طفلا أعسر منك أو أصعب مراسًا».
قلت: «حلمك … كل ما أريد منك، ويطمعنى فيه حبك لى، هو أن تذهبى أنت إلى التليفون، فى غفلة من الرقباء، وتطلبى رقمًا سأكتبه لك، وتقولى لزوجتى أو أحد ولدى أو الحاجّة، إنى …».
ولم أتمها، فقد راحت تنفخ نفخًا شديدًا كأن فى جؤفها بركانًا فائرا، ثم التفتت إلىّ والعبرات ترفضّ على خديها وقالت: «ألا ترحم ضعفى؟ ألا يعطفك علىّ أنى محتاجة إلى عمل هنا؟ هل تريد أن أخرج من البيت»؟
وثنت رأسها ووضعت كفيها على وجهها وانتحبت. فكاد قلبى يتفطر. وأقبلت عليها أدعوها إلى السكينة، وألاطفها، وأقسم لها أنى لن أعود إلى ما تكره منى.
فقلت وهى تنحى الدمع عن خديها بأصبعها: «لست أكره منك شيئًا، وأنت تعرف ذلك ولكن أخشى على عقلى من مثل هذا الكلام. فاصنع معروفًا و..».
فلثمت جبينها، ومسحت لها دموعها ووعدتها أن أكف. كلا … لا فائدة. وصدق من قال:
ولكن كيف؟ كيف؟ هذه هى المسألة..