الفصل التاسع
قضيت بقية النهار — ألا متى يصبح «ذاك» النهار؟ — فى سجن. ولست أعنى أنى حبست فى مكان، أو غُلّقت علىّ أبواب، أو حيل بينى وبين الحركة والتنقل. كلا. فقد كنت أصعد وأهبط، وأدخل وأخرج، وألعب وأرتع وأنط، فى البيت والحديقة، كما أشاء بلا تقية أو حذر. ولكنى كنت وحدى لا رفيق لى، ولا ترب ألاعبه ولا شىء ألعب به. فاستوحشت وكانت أمى فى مخدعها أغلب الوقت. وما كان لى لذة فى مجالسة امرأة يخالط إحساسى بأنها أمى إحساس آخر بأنها زوجة. ولا كانت لى رغبة فى حديث هذا العم الذى نام، وشخر ونخر، بعد أن هزم جيش النمل، وكان الخدم مشغولين فى جناحهم بإعداد ما كلفوه للاحتفال «بمقدمى السعيد» أو عيد ميلادى كما يزعمون. وما جدوى الخدم، وأنا بى حاجة إلى من أبثه شجنى فيصدق ولا يرتاع أو يغشى عليه أو يفر منى، أو يحدق فى وجهى ويتفرس كأنما يحاول أن يرى أمارات الجنون التى يرجو أن ترتسم أو تبرز على صفحته، أو يجسنى لعلى محموم يهذى، أو يذهب يقهقه ويجاملنى فيسايرنى وفى ظنه أنى أتخيل ما أقول وأصف.
وكان أمرى يحيرنى، ويورثنى اضطراباً وقلقاً شديدين، فإنه إن يكن هذا حلماً فقد طال وثقل، والأحلام لاتطرد على هذا النحو المنتظم، والاغلب فيها أن تتغير مناظرها وصورها ومواقفها وسائر ما يتمثل فيها لرائيها بغير ضابط، وهذا الذى أنا فيه والذى أراه، يجرى على نسق الحياة الدنيا، ويسير الهوينى جدٌا، كتأتأة الطفل الذى يتعلم الخطو، ومتى بالله ينتهى حلم يأبى إلا أن يبدأ من بداية العمر، وتبطئ الساعات فيه كل هذا الابطاء فى الدوران؟ وسأحتاج إلى سنين وسنين كالدهر طولا حتي أكبر، آو أفيق، وأرانى مرة أخرى على سريرى فى غرفتى التى أوصدت بابها … أترى كسروه علىّ، أم تركونى أنام إلى العصر الذى أنا فيه الأن؟ من يدرى؟ أم الأمر جد، وقد رددت طفلا؟ إن يكن هذا هكذا فلماذا بقى عقلى عقل رجل؟ أم ترٍاه سيصغر شيئا على الأيام — أو على الساعات — حتى ينقلب هو أيضا عقل غلام حدث؟ فانى أرى نفسى تنازعنى أن أصنع ما يصنع الصبيان وأن أركب الحياة والناس بما يركبهما به حدث غرير، ولو تم هذا التحول لكنت به أسعد وأشقى — أسعد لأن. حداثتى تستوفى حيئذ حقها بانتقاء هذا التلفيق والترقيع، وأشقى لأنى أبت صلتي بما عشته وألفته وأنساه، وتتغير شخصيتي التى أنا بها ما أنا، ولست أرضى لنفسى هذا، ولست مستعدًّا أن أرضى سلفا عن شخصية جديدة أجهلها، وأعتاضها من شخصيتي القديمة المألوفة، ثم لماذا تُكتب لى وحدى هذه المحنة دون خلق الله جميعاً، ويقضى على أن أحيا حياتين مختلفتين، وأمر بعهد الحداثة وما يليها مرتين؟ وإذا ظل الحال يجرى على هذا المنوال فأصغر بعد أن أكبر، فمتى يمكن أن أستريح وأُعفى من هذا العناء المتكرر؟
وكنت وأنا أدير هذا فى نفسى أتمشى فى الحديقة، فخطر لى أن مدّ البصر إلى المستقبل متعبة، وأن الساعة التى أنا فيها أولى بالعناية، وأن أول ما ينبغى هو أن أعرف أين أنا؟ أى بلد هذا وأى حى؟ لأعرف أقريب أنا أم بعيد من أهلى وبيتى، ويحسن أن أعرف ماضىّ «الجديد» فقد أقحم — علىّ حاضر أعيشه وأحياه بماض يُعد «مستعارا» وهذا ترقيع لا تصلح به الحياة التى أعطيتها فإما أن أعطى ماضيها معها أو أعاد إلى الحاضر الذى زحزحت عنه وأجلبت لا أدرى كيف؟
وعلى فرط ما أجهدت رأسى، لم أر إلا أن الموقف يدعو إلى القنوط، فما من وسيلة مثلا إلى إقناع أهلى، إذا تسنى لى أن أتصل بهم، بأنى أنا أنا — أعنى أنى أنا المفقود الذى اختطف وأن كل ما حدث أنى صببت فى هذا القالب، فأصبحت «طبعةَ جيب» من الرجل الذى كنتهُ وكيف يمكن أن يصدقوا أو يقتنعوا؟ ولكن الاً يمكن أن يقتنعوا إذا ذهبت أخبرهم أخبار ماضىّ معهم وأروى لهم ما كان بينى وبينهم فى حياتنا المشتركة؟ ممكن إذا أصغوا، ولم تطر عقولهم قبل أن أفرغ من الكلام.
إذن أسلم أمرى إلى الله، فلا سعى ولا محاولة؟ وماذا يسعنى خلاف ذلك إلا إذا أردت أن أحمل إلى مستشفى المجانين لأعالج وأداوى من الخرف الذى أروع به الناس.
وكنت قد صرت تحت شجرة برتقال سكرى مثقلة الأغصان يما تحمل من هذه الفاكهة الطيبة. فجرى ريقى. فمددت اليد وقطفت وذهبت أقشر وأمص وقد أذهلتنى حلاوة البرتقال عما كنت فيه، فلما شبعت وهنئت، رحت أتعجب وأقول إنى أرانى كبيت ذى شقتين أو جناحين، فلا أدخل واحدة إلا بالخروج من الأخرى، ومتِى كان فتحُ باب من هذه، أغلق باب تلك، وإن هذا ليكسبنى ازدواجاً ورحابة، ولكنًه يكلفنى شططا، فإن إحدى الشقتين يجب أن تظل سرًّا مطويًّا، وإلا حلت بى متاعب لا ينقصنى أن أعانيها، وستسكن هذه الشقةَ وطاويط الخواطر السود، ولكن ما حيلتى؟ وهل يعوض هذا أن الجانب الاَخر يستطيع أن ينعم بمرح الصبيان وخفة الحداثة وطيش أحلامها وذهولها بجدة الحياة الفياضة عن الجد؟ ربما … جائز … وإذا كان قد جاز أن أصير طفلا فلماذا لا يجوز أى شىء اخر؟
واليوم عرفنا أنه الجمعة، وغداً يجىء السبت، وأحسب أن سيكون على فيه أن أذهب إلى المدرسة، وإن كانت عينى لم تقع فى هذا البيعلى كتاب أو دفتر أو قلم، أم ترى للدرس غرفة خاصة؟ وكيف أذهب إلى مدرسة لا أعرف أين هى؟ وهبهم حملونى إليها فى سيارة، أو رافقنى إليها خادم، فإلى أى الفرق أقصد؟ وأى التلاميذ أحيىّ، وعن أيهم أعرض، ومن ألاعب ومن أتقى؟ واه لو كان الذى تقمصت بدنه قد ورثنى عداوات وخصومات وثارات؟ وأخرج يوماً أو ليلة أتمشى فإذا ثلاثة أو أربعة — أو أكثر أو أقل — من الحاقدين الموتورين أو المولعين بالشر — لوجه الله تعالى — قد كمنوا لى وراء شجرة، ثم انقضوا علىّ وأوسعونى لكما وركلا وتمزيقاً؟ آو قذفونى بحجارة فشجوا لى رأسى وأسالوا دمى وهشموا عظمى؟ وكيف أتقى هذا وقد أهمل الذى تخلى لى عن بدنه أن يترك لى بباناً يعرفنى ماضيه وعلاقاته الحسنة والسيئة؟ أما إنه والله لاهمال! أو لعلها سرعة الإبدال أنست الذى تولاه أن يعنى بهذه التوافه. وماذا كان الداعى إلى كل هذه العجلة؟ وما ضره لو كان تأنى، بل عدل؟
وخفت أن يذهب عقلى، فقد بدأت أخلط، فأقصرت، وبدا لى أن أذهب أعدو فيرفضّ عنى هذا الكرب عرقاً.