الباب الثاني
المبحث الأول: في طباع العرب وأخلاقهم وطبقاتهم وانقسامهم إلى قبائل
وكان قدماء العرب محافظين على أخلاق أجدادهم الدينية، ولكنهم وُهِبُوا شبيبة مؤيدة واقتدارًا على أعظم الأمور، فتغيرت طباعهم؛ فكانوا سريعي الغضب، أقوياء الجراءة، سفاكين للدماء، معتقدين الأوهام الكاذبة، كثيري المشاجرة كراهية في مطلق التحكم عليهم؛ لما جلبوا عليه من حب الاستقلال الذي يظنونه الخير الوحيد من بين ما متعوا به مع ما هم عليه من كثرة السعي والجهد في الضرورات المعاشية المصحوبة بصعوبة المعاملة وقسوة القلب وشدة الحرص على الانتقام، إلا أنهم كانوا ذوي حرية وعزة نفس وكرم، بل كانوا يَعتَبِرون قرى الضيف قانونًا جامعًا لقوانين الإنسانية؛ ولذا كانوا يفخرون به مع السيف الكفيل بإثبات حقوقهم، والفصاحة المستعملة في فصل خصوماتهم التي لا تنهيها المحاربات، وكان تحت حكم كل رئيس — يسمى الشيخ أو السيد — قبيلة أو عدة قبائل، تنفد معيشة بعضها بالحروب فتنضم إلى قبيلة أخرى قادرة على حمايتها؛ فيكونان قبيلة واحدة تحت رياسة كبير القبيلة ذات الشوكة؛ وبذا يُعلم سبب أن كثيرًا من أسماء القبائل لم يَبْقَ ذكره إلى الآن، وكان سائر مشايخ القبائل تحت حكم شيخ قائد للجيش مُلقَّبٍ في بعض الأحيان بالأمير، مُوكَّلٍ بجميع مصالح القبائل، لا يقدر على تمييز مصلحته عن مصالحها؛ لأن سائرها منسوب إليه، وهو الذي يباشر بَتَّ الحكم في جميع الدعاوى العظيمة بعد إصغائه إلى آراء المشايخ؛ ولذا كان مقيدًا في حكمه، لا ينجو من الاقتصاص منه بمثل جنايته على ما عُرف في القوانين القديمة من القضاء بقتل القاتل أو تغريمه الدية.
ولم تزل العرب على هذا النظام ما ألفوا العيشة البدوية، وإن أنشَئُوا ببلادهم مدائن لإطلاق تصرف المشايخ فيها، بدليل أن من دخل منهم المدائن لم يتغير عن حالته الأصلية.
المبحث الثاني: في الروايات القديمة من ابتداء القرن المتمم للعشرين إلى القرن العاشر قبل الميلاد العيسوي
أعلم أن العرب يعزون أنفسهم إلى إبراهيم الخليل — عليه السلام — وقد عمر شمال بحيث جزيرة العرب بنو إسماعيل، وجنوبها بنو قحطان الذين سكنوا اليمن، وأسسوا فيه عائلتين ملوكيتين، عائلة ملوك سبأ، وعائلة ملوك بني حمير، وهذان غير العرب العرباء الذين بقي لسانهم — وهو اللغة العربية الحقيقية — مستعملًا الآن في الحجاز ونجد تتكلم به سكان البيد والفلوات، إلا أن سكان مدائن اليمن تكلموا باللغة الحميرية التي تعلمها بنو قحطان من آبائهم الأولين.
وكان وجود بني إسماعيل بعد بني قحطان بزمن مديد، وقد أوحى الله إلى الخليل — عليه السلام — أن يبني في مكة معبدًا، فرحل إليها من الشام وبنى الكعبة التي تُعَظِّمُهَا العرب من أَمَدٍ بعيد بأنواع التعظيم الديني، ومكث في بنائها سنين طويلة، وعاونه في البناء ابنه إسماعيل — عليه السلام — المولود في أرض مكة، والذي جاء إليه جبريل بالحجر الأسود، الذي لم يَزَلْ موضوعًا فيها من قديم الزمان، وسيشهد يوم القيامة لمن عبد الله أمامه، ووالدته هاجر هي التي عثرت على بئر زمزم.
وورد في الروايات القديمة التي حفظتها العرب آياتٌ أُخر تدل على رعاية الله لهم وعنايته بهم، وأقل ما ثبت في عقولهم أن نَسْلَهُم كنسل بني إسرائيل في الامتياز على الغير.
وكان في بحيث جزيرة العرب غير بني قحطان وبني إسماعيل بقايا قليلة من الأقوام الأولية، ولا يوثَق بما ورد في حقهم من الروايات المبهمة وغاية ما يعلم، بل غاية ما يُفرض أن قوم عاد جابوا بلاد العراق والهندستان تحت قيادة شداد ولقمان قبل الميلاد بأكثر من ألفي سنة، وأنهم استولَوْا على مدينة بابل سنة ٢٢١٨ قبل الميلاد، وتغلبوا على مصر في ذلك العصر، وكانوا يُسَمَّوْنَ برعاة الإبل أو الإكسوس — بكسر الهمزة — وذهب بعضهم إلى أنهم حين طردهم بعد ذلك بنو قحطان من أرض اليمن، ذهبوا إلى الحبشة تاركين آثارًا تدل على مرورهم من بلاد العرب، ولا يزال يشاهَد فيها إلى الآن أبنية منسوبة لقوم عادٍ تشبه أبنية الصقالبة في الأحقاب الخالية.
وطبقات العرب ثلاث: عاربة ومستعربة وتابعة للعرب.
فالعاربة
فأما عاد بن عوص بن إرم بن سام فأول مَن ملك من العرب، ومواطن بنيه بأحقاف الرمل بين اليمن وعمان إلى حضرموت والشحر، عبدوا الأوثان فبُعِثَ لهم هود — عليه السلام — فكان له معهم ما في القرآن الكريم، وغلبهم على الملك يعرب بن قحطان؛ فاعتصموا بجبال حضرموت حتى انقرضوا.
وعبيل إخوان عادٍ أو أبيه وديارهم بالجحفة بين مكة والمدينة أهلكهم السيل، وعبد بن ضخم بن إرم، مسكن بنيه الطائف، وهم أوَّل من كتب الخط العربي.
وثمود بن كاثر بن إرم، ديار بنيه بالحجر ووادي القرى فيما بين الحجاز والشام، طالت أعمارهم فنحتوا بيوتًا في الجبال، وبُعث لهم صالح — عليه السلام — فكان ما قصه القرآن العظيم.
وجديس لإرم بن سام وديارهم باليمامة، وطسم للاوذ بن سام وديارهم بالبحرين، وقيل هما معًا للاوذ وديارهم اليمامة.
والعمالقة بنو عمليق بن لاوذ بن سام المضروب بهم المثل في الطول والجثمان، والمعدودون عند بعض المؤرخين من جملة رعاة الإبل أو الإكسوس الذين أغاروا على مصر كما سلف، ومنهم أهل المشرق وأهل عمان البحرين وأهل الحجاز وفراعنة مصر وجبابرة الشام والمسمَّوْن بالكنعانيين، ومع انتشارهم ببلاد العرب وملكهم للديار المصرية، لم يؤسِّسوا مباني مخلدة البقاء، وآل أمرهم إلى انحيازهم في شمال بلاد العرب واختلاطهم بالأيدومية والموابية والأمونية، ومنعوا حين نزولهم بسهول الحجاز ونجد العبرانيين من دخول كنعان، فدام الحرب بينهما حتى غلبهم طالوت ملك اليهود، ثم أدخلهم داود — عليه السلام — في حكمه الساري فيما بين البحر الميت والخليج الأيلانيتي — لعله خليج أيلة — وخلفه ابنه سليمان — عليه السلام — فلم يكتفِ بحكمه البحر الأحمر الطائفة أساطيله بسائر جهاته، بل جمع بين تجارتي الهند والهندستان بإلزامه العرب المتنقِّلة في براري كلدة أن يؤدوا له الجزية، ثم تُوُفِّيَ سنة ٩٧٦ قبل الميلاد — قبل الهجرة بألف وخمسمائة وثمانية وتسعين سنة — فانفصلت مملكة يهودا عن مملكة إسرائيل وانقطع الارتباط بين القدس ومدائن العراق، وأَبَتِ العرب أن تؤدي الجزية، وأخذت العمالقة والأيدومية والموابية في الاستقلال عن اليهود.
ولقوة شوكة سليمان — عليه السلام — وعظم ملكه في جميع بحيث جزيرة العرب، اعتبرت سلطنته مبدأ تاريخ للحوادث المهمة من تاريخ العرب؛ ولذا جاءت ملكة سبأ لتتحقق ما سمعته من قوة شوكته، فوجدت فخامة ديوانه فوق ما اشتهر من الأخبار، فازداد عجبها من علو شأن سليمان — عليه السلام — الذي خاف منه العرب على حريتهم، ثم اطمأنوا عليها بضعف شوكة خلفائه وعدم كفاءتهم للسلطنة.
وأميم بن لاوذ أخو عملاق وديارهم بأرض فارس، وهم أول من بنى البيوت والآطام من الحجارة وسقَّفوا بالخشب.
وجرهم وحضورا وحضرموت والسلف من بني أرفخشذ بن يقطن يسمون العرب البائدة لعدم بقائهم، وجرهم أمة كانت على عهد عاد، وحضورا ديارهم بالرس وهم عبدة أوثان، بُعِثَ إليهم شعيب — عليه السلام — فكذَّبُوه وهلكوا، وحضرموت منها الملوك التبابعة.
وأهل التوراة لا يعرفون أخبار أحد من العرب العاربة؛ لأنهم إنما يعرفون أخبار من ذُكر في عمود النسب بين موسى وآدم، ولا ذكر فيه لأحد من آباء هؤلاء الأجيال، الذين عُلمت أخبارهم من مهاجرة بني إسرائيل؛ لأنهم أقرب إليهم عصرًا، وأمَّا من كانوا قبل هؤلاء العرب فلا طريق لعلم أخبارهم إلا القرآن المجيد؛ لتطاوُل الأحقاب وانقطاع السند.
والعرب المستعربة
بنو قحطان أبي سائر اليمنيين بن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام، ظاهر بنوه العرب العاربة على أمورهم، وكانوا مُبعدين عن رتبة الملك والترفُّه التي لأولئك، حتى كثرت أفخاذهم وعشائرهم، فأخذ يعرب بن قحطان اليمن من عاد والحجاز من العمالقة، فولى أخوته جرهمًا على الحجاز، وعادًا على الشحر وعمان على بلاد عمان وحضرموت على جبال الشحر وهؤلاء غير جرهم وعاد وحضرموت السالفة في العاربة.
ولم يزل بنو قحطان على حضارتهم باليمن إلا جرهم، فهاجرت إلى مكة وهي بيد إسماعيل — عليه السلام — فحالفته ونزلت بها، ثم اقتضى الحال أن يعينوا رئيسًا يدخل تحت لوائه جميع الرجال عند هجوم العدو ومركزًا من المدن تدور عليه أمور الأمة العربية، فاختار بنو إسماعيل أن تكون الرياسة لهم والمركز مكة لشرفها بالبيت المطهر، وبنو جرهم أن يكون الرئيس منهم والمركز صنعاء لغنى اليمن وأقدمية أهله. فقام بذلك بين الفريقين حرب امتدت إلى القرن السادس بعد الميلاد، كانت النصرة فيها لبني إسماعيل، وذلك زمن استعداد النبي ﷺ لتأسيس الوحدة الدينية.
والعرب التابعة للعرب
من ولد إسماعيل — عليه السلام — تزوَّج بنت مضاض سيد جرهم فأتت منه بأولاد، وكانوا قبيلة تحت رياسة واحد حتى كثروا فتفرقوا قبائلَ ذهب أكثرها إلى البادية تحت الخيام، فاعتادوا المعيشة البدوية، واعتادوا في أسفارهم حمل أحجار من الحرم يطوفون بها إذا نزلوا؛ تبركًا بأثر البيت، حتى أفضى بهم ذلك إلى عبادة الأحجار، واعتادت مشايخهم عند تملك مرعى أن يستنبحوا كلابهم ليكون مدى صوتهم المعلم بالحيازة كراسم دائرة على المرعى تمتنع بها مواشي القبائل المجاورة من النزول فيه.
وفي زمنهم كان تدويخ بختنصر للعرب وقتلهم؛ وذلك أن الملك استفحل أمره في الطبقة الأولى للعمالقة، وفي الثانية للتبابعة وانتشروا باليمن والحجاز والعراق والشام، وقتَل أهل الوبر بناحية عدن اليمن نبيهم شعيبًا — عليه السلام — فأوحى الله إلى أرمياء وبرخيا أن ينقلا عدنان إلى بلادهما، وأن يأمرا بختنصر بقتل ما عدا عدنان من العرب، ويعلماه أن الله سلطه عليهم، فقبض على مَن ببلاده من تجار العرب وأنزلهم الحيرة، ثم نظم ما بين أيلة والأبلة خيلًا ورجلًا خرج بهم، فانقاد إليه من العرب قبائل أنزلهم على شاطئ الفرات فبنوا الأنبار، وسار إلى الباقين وقد اجتمعوا للقائه بجزيرتهم فهزمهم بذات عِرق، وقتلهم أجمعين ورجع إلى بابل بالغنائم والسبايا، فألقاها بالأنبار، ومات عدنان عقب ذلك، وأخرج بختنصر مَن أسكنهم بالأنبار إلى الحيرة، وبقيت بلاد العرب خرابًا حقبًا من الدهر حتى مات بختنصر، فتراجعت العرب من الشواهق إلى أماكنهم، وخرج معد بن عدنان وأنبياء بني إسرائيل، فجمعوا جميعًا وأخذ معد يسأل عمَّن بقي من ولد الحارث بن مضاض الجرهمي، فقيل له بقي جرهم بن جلهة، فتزوج بنته وولدت له نزار، ثم كثر نسل معد في ربيعة ومضر وإياد، وتدافعوا إلى العراق والشام، ثم كان لهم بالعراق والشام والحجاز دولة بعد التبابعة ودروس الأجيال السابقة، فكانت الدولة في يد اليمانية أزمنة وآمادًا وأحياء مضر وربيعة تبع لهم، فكان الملك بالحيرة للخم في بني المنذر، وبالشام لغسان في بني جفنة، وبالمدينة لغسان في الأوس والخزرج ابني قيلة، وماسوي هؤلاء ظعانون بالبادية في بعضهم رياسة بدوية ترجع في الغالب إلى أحد هؤلاء، ثم نبضت عروق الملك في مضر وظهرت قريش على مكة ونواحي الحجاز أزمنة دانت فيها الدول لتعظيمهم، ثم جاء صبح الإسلام واختص الله بالنبوة مضر، فكانت فيهم الدول الإسلامية.
المبحث الثالث: في تهديد الفاتحين من آسيا للعرب بالتغلب عليهم من سنة ٩٧٦ إلى سنة ٣٢٣ قبل الميلاد
المبحث الرابع: في الكلام على قبيلة النبط
هم من ولد إرم — خامس أولاد سام — أو شاميون أتوا من شواطئ دجلة والفرات، فسكنوا مدينة أوبترة زمن بختنصر الثاني، ولم يكن لهم ذكر زمن محاربة بني إسرائيل العرب، بل كان مبدأ ظهورهم في ميدان الوقائع بعد غزوة إسكندر الأكبر، حكموا بالقتل على من يزرع منهم قمحًا أو يغرس شجرًا مثمرًا أو يبني بيتًا؛ محتجين بضياع الحرية بحفظ تلك الأمتعة، فسكنوا البراري، مشتغلين بما يرد لهم على سواحل البحر الأحمر من متاجر المر والبخور والعطر، فينقلونه إلى مينيات البحر الأبيض المتوسطة، وكانوا إذا دهمهم عدو أقوى منهم أدخلوه بسياستهم براريهم المنفردة، ثم صعدوا صخرة عظيمة منيعة مشهورة، وكأنها التي شيدت عليها مدينة أوبترة، فلا يزالون عليها حتى يكون لعدوهم من الجوع والعطش ما يحمله على طلب السلم، وكانوا مهرة في فن تعبئة الجيش؛ فلذا قاوموا جميع أعدائهم.
المبحث الخامس: في أن قتال الرومانيين للبرطيين كان نافعًا للعرب
كان الرومانيون متسلطين على البحر الأحمر، مسافرين فيه، عاجزين عن الإضرار بالعرب، خاشين من البرطيين أن يسطوا على العرب، فألهوهم بحرب انتهز العرب في زمنها الفرصة لتأسيس مملكة الحيرة أو الأنبار سنة ١٩٥ بعد الميلاد، ومملكة غسان سنة ٢٩٢ بعد الميلاد وهما في الحدود الشمالية من بحيث جزيرة العرب.
ولتوضيح حالة بحيث جزيرة العرب قبل بعثة النبي ﷺ، أردنا أن نذكر كل انقلاب على حدته من الانقلابات الأصلية التي طرأت في شمال بلاد العرب وجنوبها ووسطها، فنقول:
المبحث السادس: في الكلام على شمال بلاد العرب من ابتداء القرن الثالث قبل الميلاد إلى القرن السابع بعده الذي هو زمن البعثة وعلى مملكة الحيرة والأنبار والغسانيين
كانت البلاد المجاورة لبحيث جزيرة العرب منذ وفاة الإسكندر الأكبر إلى زمن الرومانيين والبرطيين خالية عن حكومة قاسرة؛ فإن المملكة السلجوقية نُهكت بالفتن الداخلية، فلم تستطع أن تمنع نشأة الممالك المستقلة في الأناضول، ولا أن تُنقذ ملوك اليهود من إتلافات العرب المتعودين إذ ذاك العدوان على ممالك أكبر الملوك، وكانوا لا يتمكنون من الإغارة على المملكة السلجوقية من جهة الفرات لقرب مدينة هؤلاء السلجوقية، وأخذوا يرتقبون كل سنة اشتغال جيوش السلجوقية بالحروب في البلاد القاصية، فيسيرون من جهة الشام شاهرين السيوف، ثم يعودون بالغنائم الجسيمة بلا انتقام ولا قصاص، وما زالوا على ذلك حتى عدمت سلطنة السلجوقية، فاجتهد الرومانيون والبرطيون في إزالة ذلك التعدي بتشييد القلاع والحصون بحدود البلاد وترتيب عساكر لملاحظة حركات هؤلاء، بل استمال الرومانيون جمعًا من مشايخ العرب بالعطايا وتلقيبهم بأمراء العرب فكفوهم عدوان تلك القبائل.
ومن أمراء العرب الذين ملكوا الجهة الشرقية من الشام وجزأً من جزيرة دجلة والفرات الملوك الأذينية المعاصرون لأوائل ملوك الحيرة والأنبار، وزعم بعض الفرنج أن آخرهم أذينة زوج الزباء الذي قُتِلَ سنة ٢٦٧ بعد الميلاد في معركة بينه وبين جذيمة بن الأبرش، أحد ملوك الحيرة التنوخيين، فخلفته الزباء في السلطنة وقتلت جذيمة الذي خلفه عمرو بن عدي أول العائلة الملوكية اللخمية أو النصرية، فبعث إلى الزباء قصير بن سعد المعروف عند الفرنج بزبير الثاني، فهجم عليها في قصرها، فهَمَّت بالفرار وعبرت سردابًا صنعته تحت أخدود الفرات فقتلها، فوَلت الرومانيون سنة ٢٧٢ على عرب الشام تنوخية، ثم صالحية، أزال حكمهم الغسانيون سنة ٢٩٢ بعد الميلاد.
ونُقل أن هذا المنذر مكث سلطانًا من سنة ٥١٣ إلى سنة ٥٦٢ بعد الميلاد نافذ الكلمة على العرب التابعين للفرس، يشن الغارات من سائر الجهات على اليونان، فلا يستطيعون رده، فظهر رونق المملكة الحيرية حتى كان ذلك العصر أزهر أعصُرِها، وما زالت كذلك حتى ملك النعمان الخامس من سنة ٥٨٣ إلى سنة ٦٠٥ بعد الميلاد، فكان آخر ملوك العائلة اللخمية، وتَوَلَّى سائر المملكة بعده الملوك الساسانية، فلم يكتفوا بأخذ جزيرة منها ولا بعلامات تفيد تبعيتها لهم، ونصرت القبيلة البكرية السابقة سنة ١١٦ بعد الميلاد على الفرس في واقعة ذي قار، فاستقلت بالبحرين، وولي مملكة الحيرة من حينئذٍ عمال من قبل ملوك الفرس، وفي ذلك الزمن ظهر النبي ﷺ بما جاء به من الجهاد وتأسيس الدين.
وكان شمال بلاد العرب منحصرًا — في ابتداء القرن السابع بعد الميلاد — بين ممالك الفرس واليونان المتغلِّبِين على مصر وفلسطين وبحيث جزيرة طور سينا، وبين مملكتين تدفع إحداهما الجزية إلى الرومانيين بالقسطنطينية، والأخرى إلى ملوك المدائن. وكان لهاتين المدينتين تغلُّبٌ كلي على صحاري الشام والعراق وجزيرة دجلة والفرات.
المبحث السابع: في بلاد العرب الجنوبية من سنة ١٦٧ قبل الميلاد إلى سنة ٥٩٧ بعده وفي التبابعة وملوك الحبشة
بعد انقراض ملوك سبأ المؤسِّسِين لمدينة مأرب وظفار وعدن ونجران وغيرها، أحدثت الحميرية من بني قحطان التابعون لسلطنة الملوك التبع عمارات كثيرة في جنوب بلاد العرب، وأولهم الحارث الرائش المتسلطن سنة ١٦٧ قبل الميلاد على ما يظهر، وأما ما زَعَمَهُ بعضُ متأخِّري الفرنج أن هذه العمارات لم تحدث إلا بعد سنة ٧٩٤ قبل الميلاد فَتَوَهُّمٌ لا يسعنا الحكم بصحته، وقد تغلب هذا الملك على حضرموت ومهرة وعمان زيادة على اليمن، وبقيت سلطنة التبابعة حتى تغلب عليهم ملوك الحبشة سنة ٥٢٥ بعد الميلاد.
ونقل أن الخط القديم الحميري المسمى مسندًا كان يتركب من حروف متقطعة، ولا مانع أن يُعتبر ما استكشفه بعض الفرنج من العنوانات القديمة نموذجًا لذلك الخط.
وبنى أبرهة بصنعاء كنيسة في غاية الزخرفة؛ ليصرف العرب إلى حجها بدل الكعبة المشرفة التي سار بعدُ إلى هدمها، فخُذِلَ ومات عقب هزيمته، وخلفته أولاده فعسفوا وجاروا، وعجز اليمنيون عن كَفِّهِمْ فاستغاثوا بقيصر القسطنطينية فأبى؛ حيث كانوا وثنية وهو نصراني، واستغاث ملك الحيرة بكسرى أبرويز، فتوقف ثم أجابه وبعث سنة ٥٧٥ بعد الميلاد أسطولًا هزم الحبشة وأجلاهم من اليمن سنة ٥٩٧ بعد الميلاد، فانقاد اليمنيون للفرس كما كانوا منقادين للحبشة، غير أن الفرس لم يجبروهم على أعمال دينية، ثم تغلبوا على حضرموت وعمان والبحرين.
المبحث الثامن: في الكلام على وسط بلاد العرب من سنة ٢٠٦ إلى سنة ٦٢٠ بعد الميلاد وعلى مكة والمدينة وشوكة قريش
كانت بلاد العرب في القرن السابع من الميلاد في أخطار عظيمة من الإمبراطور اليوناني وملك الفرس المتمكنين بحدودها؛ فإن كلًّا منهما أخذ إقليمًا ألحقه بمملكته، فالتجأت الأمة العربية إلى نجد والحجاز السالمَيْن من تغلُّب الأجانب عليهما، لتظهر بعد على البلاد الأخرى مع خلو هذين الإقليمين عن دولة منتظمة كدولة التبابعة، بل هما في ذلك الوقت وما قبله في قبضة قبائل متحدة الأخلاق والعوائد، تخاطر بإتلاف أموالها وأنفسها حفظًا لحريتها، فبقي منظر وتاريخ هؤلاء الأقوام الكثيرون مدة قرون كمنظر وتاريخ جماعات قليلة متحدة الكلمة لما بينهم من الترتيب السياسي المؤدي إلى اتحادهم على غيرهم، وإن كان بعضهم منفصلًا عن بعضٍ بما يقع بينهم من المنافسات والمشاجرات المقرونة بسفك الدماء. وكانوا متساوين تقريبًا في الأموال لتماثلهم في وسائلها الحربية، ومن استغنى منهم بالتجارات ألجأته العلائق والمخالطات إلى أمور عادلوا بها غيرهم في الغنى.
وأعظم تلك القبائل رتبة ذوو السطوة في أعظم مدائن الحجاز وهما المدينة ومكة.
وكان المهاجر إلى الحجاز عدة عشائر من بني قحطان اليمنيين، فنزلت جرهم ببطحاء مكة وعاهدوا إسماعيل — عليه السلام — ثم غلبوا ولده فأخذوا منه سدانة الكعبة زمنًا طويلًا حتى طردوا عن بطحاء مكة سنة ٢٠٦ بعد الميلاد؛ لعبادتهم الأوثان المخالفة لما لولد إسماعيل من عبادة الإله الذي اهتدى إليه الخليل — عليه السلام — ونزلت قضاعة في شمال المدينة، ونزل الأزد في منزلة بطن مر التي أسسوها سنة ١٨٠ بعد الميلاد، ثم نزلوا البحرين والعراق، وخلفت خزاعة — التي هي فرع من الأزد — بني جرهم في سدانة الكعبة سنة ٢٠٧ بعد الميلاد، فأحدثوا بمكة أوهامًا باطلة منها عبادة هبل أحد ٣٠٦ صنمًا داخل الكعبة حتى ارتحلوا، ونزلوا في منزلة بطن مر حين ظهرت قريش وتولى الحكم رئيسهم قُصَيُّ سنة ٤٤٠ بعد الميلاد، فجمع القبائل القرشية تحت يده وجعل الحكومة في أيدي جمهور من العرب، وقسم الوظائف المتعلقة بسدانة الكعبة بين فروع العائلة القرشية، وخص هاشمًا بالرفادة والسقاية اللتين هما أكبر تلك الوظائف، واشتهر بتوزيعه على العرب كل يوم الدشيشة المعروفة بالشربة، واتسعت مكة في زمنه، ثم خلفه المطلب ثم عبد المطلب جد النبي ﷺ.
ونقل أن العمالقة بَنَوُا المدينة فكانت في حيازتهم، ثم في حيازة أقوام من اليهود، منهم بنو النضير وبنو قريظة وبنو قينقاع، ثم نزلها قبيلتان من الأزد سنة ثلاثمائة وأخذاها سنة ٤٩٢ بعد الميلاد، وقاوما تبابعة اليمن حين هجموا عليهما، ثم تفاشلَا وضعفا بحروب داخلية في سني ٤٩٧ و٥٢٠ و٥٨٣ و٦١٥ بعد الميلاد، ثم تحابَّا بعد ذلك بخمس سنين، وبايعا النبي ﷺ.
المبحث التاسع: في ميل العرب إلى الوحدة السياسية وفي اجتماعهم بسوق عكاظ ومنازلاتهم بالقصائد الشعرية
كان بين الإسماعيلية والقحطانية تنافس المعاصرة المؤدي إلى اختلاف الكلمة، ثم مالوا إلى الوحدة السياسية لتوفُّر أسبابها من إغارة الحبشة عليهم بمكة واتحادهم في الأخلاق والعوائد؛ فإن سائرهم تَمَسَّكَ بأوهام العبادة الوثنية والعوائد الجاهلية؛ كمعاملة النساء معاملة الرقيق، ووأد البنات، مع التكبر الوحشي وحب الانتقام والمقاصة وإجازة النهب بعد الانتصار، وإقامة القوة مقام الحق وقرى الضيف مع حرمان النفس؛ تشوفًا إلى السمعة بين القبائل، وحب شرف النفس الموجب البسالة والحماسة والمحاماة عن المظلوم وتقديم الوفاء بالوعد على الحياة، ويزيد على ذلك شهواتهم النفسية فإنها أكبر تلك الخصال غلبة وظهورًا، ومن ذلك يُعلم أنه متى اتجهت عقولهم الهائجة المخاطرة إلى شيء وثبوا إليه وثبة واحدة، وذلك يوجب الوحدة في اللغة المتيسر بعضها بواسطة اختلاط القبائل.
ورأوا الأشعار وسيلةً لانتشار فخارهم في بحيث جزيرة العرب، وسبيلًا لوصول أعمالهم العجيبة ومآثرهم إلى ذراريهم، فأحبوها وعكفوا عليها، لكن كلام مؤلفي نجد والحجاز لم يفهمه مؤلفو اليمن، بل لم تتفق قبائل بلد واحد على لغة واحدة، إلا أن شعراء العرب الموكول إليهم اختراع لغة أعم من تلك اللغات رُوِيَتْ أشعارهم في كل جهة، فتعينت الألفاظ المعدة للدلالة على الأفكار والتصورات، فإن العشائر المستعملة للعبارات المختلفة للدلالة على فكرة واحدة متى سمعت قول الشاعر اختارته في ذلك الموضوع، وفهمت مع ذلك فوائد التمدن؛ فلذا قابلت الأمة العربية هذه الابتكارات العقلية بالاعتبار، وأنشئوا في عكاظ والمجنة وذي المجاز للمفاخرة بالشعر مجالس حافلة خالية من التحكم على النفوس، يقوم أمامها شجاع يمشي مشية المتكبر والأبصار شاخصة إليه حتى يقف على مرتفع من الأرض، فينشد مع إنصاتهم قصيدة بصوت رنان يستعين فيها بروية حافظته الواسعة الاقتراح، فتارة ينشد أعماله العظيمة ووقائعه الجسيمة وشرف قبيلته، وطورًا يصف لذائذ الانتقام، وتارة لطائف إكرام الضيف وطورًا الشجاعة، وفي كُلٍّ لا يغفل عن مدح شرف النفس والعِرض، وقد يقتصر على وصف العجائب المشاهدة والعزلة عن الناس في الصحاري وخفة عَدْوِ الظباء، والسامعون في كل ذلك ناظرون إلى فه مستحسِنُون جميع الأخلاق التي يَوَدُّ أن يوزعهم إياها، مرتسمًا على وجوههم ما يقع بنفوسهم من تعظيم الشجاع واحتقار الجبان عند النزال، حتى إذا أتم قوله أظهروا ما عندهم من الاستحسان أو الاستقباح، فإذا شهدوا له عاد إلى قول أبدع ممَّا أبداه بحماس جديد.
ولاعتماد أخبار الشعراء وسداد رأيهم، كانوا المدونين لتاريخ بلادهم قبل البعثة والرافعين أو الخافضين شأن القبائل المختلفة كما يستصوبون؛ ولذا كانوا مهابين محترمين عند الجميع، وكان المقبول من قصائدهم يُكتب بالذهب على نفيس القماش، ثم يعلق على الكعبة، ليُحْفَظ حتى تَطَّلِعَ عليه الذرية، فوصل إلينا المعلقات السبع: لامرئ القيس المتوفى سنة ٥٤٠ بعد الميلاد، والحارث بن حلزة المولود في هذه السنة، وطرفة المتوفى سنة ٥٦٤، وعنترة بن شداد المتوفى سنة ٦١٥ الذي فاق غيره في إتقان جميع أنواع الشعر الجاهلي، وعمرو المتوفى سنة ٦٢٢ التي كانت فيها الهجرة، وزهير المتوفى سنة ٦٢٧ بعد الهجرة بنحو خمس سنين، ولبيد المتوفى سنة ٦٦٢ التي هي عام ثلاث وأربعين من الهجرة.
وكانت العرب تجتمع كل ليلة بخيامهم؛ ليسمعوا هذه المعلقات الجامعة بين محاسن الترنم وحلاوة التوقيع بلا تكلُّفٍ، مع اشتمالها على السجايا العربية المثيرة للحماسة.
ومن عادة عرب البادية التي وجدت بأشعار العرب، أن يعقدوا بعد مقاتلاتهم منازلات للفخار والتظاهر بالكرم يسمونها المنافرة، كما وقع لعلقمة وعامر بن الطفيل من بني عامر سنة ٦٢٠؛ فإنهما كانا شاعرين شجاعين يزعم كل منهما استحقاقه المشيخة، فحكَّما في تنازعهما شيخًا على غير عشيرتيهما فأجَّل الحكم إلى سنة أظهرا فيها شجاعتهما وفضائلهما، ثم حكم ذلك الشيخ في مجمع حافل على العادة باستحقاق كل منهما الرياسة على العشيرة فاشتركا في الحكم واتحدا كل الاتحاد، ومن ذلك ما كان في بني طيئ من التنافس بين حاتم وزيد الخيل المضروب بكرمهما المثل في ابتداء القرن السابع من الميلاد في سائر بحيث جزيرة العرب.
المبحث العاشر: في الحركة الدينية التي ظهرت في بحيث جزيرة العرب
وكان لقريش سدنة الكعبة ضرب من التحكم الديني اعترف به سائر العرب؛ ولذا كان لهم الحق في تعيين الأشهُر الحرم التي يمتنع فيها القتال بين جميع قبائل العرب، ويلقي أمامهم السلاح من يحضر بسوق عكاظ قبل الدخول للجلوس لئلا يقع بينهم سفك الدماء.
وكان عبد المطلب بن هاشم المولود سنة ٤٩٧ بعد الميلاد ممارسًا للحكومة العظمى في مكة من سنة ٥٢٠ إلى سنة ٥٧٩، خلص وطنه من غارة الحبشة، وأقرع بين أولاده حين بلغ عددهم ١٨ سنة ٥٦٩ لذبح أحدهم قربانًا لأصنام الكعبة وفاءً بنذره، فوقعت القرعة على عبد الله أحبهم إليه وعمره إذ ذاك خمسة وعشرون سنة تقريبًا، فَهَمَّ بذبحه فأنكر عليه قريش وأجمعوا على مشاورة كاهنة تُعرف بالعرَّافة، فأخبرت أن يُفتدى بعشر جمال دية النفس بعد عمل قرعة أخرى، فكتب على سهم عدد عشر وعلى آخر اسم عبد الله واقترعوا، فوقعت القرعة على عبد الله، فزادوا عشرًا في عدد الجمال، ولم يزالوا يقترعون ويزيدون كل مرة عشرًا حتى بلغوا تسع مرات وقعت فيها القرعة على عبد الله، ثم وقعت على الجمال في العاشرة، فذبحوا مائة جمل فدية، فاعتُبر هذا العدد من ذلك الوقت مقدارًا للدِّيَةِ بين قريش.
وتزوج عبد الله بعد نجاته بقليل السيدة آمنة بنت وهب شيخ بني زهرة، فأتت منه بالنبي ﷺ في ثاني عشر ربيع الأول الموافق أغسطس سنة ٥٧٠ بعد الميلاد.