الباب الأول
المبحث الأول: في المُجدِّدِين الأُول لأمور العرب
كان تنافس المعاصرة بين عشائر العرب في بحيث الجزيرة، حتى هجم عليهم اليونان من الشمال والفرس من المشرق والحبشة من الجنوب، فاتحدوا وصاروا أمة واحدة، وأخذوا يُضعفون قوى أعدائهم بإغراء بعضهم على بعض، فأغرَوُا الفرس المالكين للمدائن واليمن، والبلاد التي بشواطئ الخليج الفارسي على صد الحبشة المحالفة لليونان، المتغلبين على أرض الحجاز، ثم ساعدهم حسن حظهم على بلوغ أربهم فصدوا أبرهة، وسعى عبد المطلب في ربط العلائق بين القبائل المستقلة بحكمها وبين أهل مكة، وذهب إلى صنعاء ليهنئ الملك الحميري الذي أعاده جيش الفرس إلى الجلوس على سرير الملك نيابة عن بني قريش، وكان العرب إذ ذاك متحابين مكتسبين الوحدة اللغوية دون الوحدة الدينية، إلا أن عقائدهم القديمة اضمحلَّت وكره بعضهم عبادة الأوثان والتزوج بزوجات الآباء ووأد البنات، وأشرف على الزوال غير ذلك من الأوهام الفاسدة، ولم يميلوا إلى النصرانية لانقيادهم إلى أنفسهم فيما تأمرهم به من الشهوات الجسمانية، مع تأسُّسِ آداب الإنجيل على عصيانها، وقد تحصل كل من ورقة بن نوفل وعثمان بن حريث وعبيد وزيد بن عمرو وغيرهم على معلومات استفادوها من مخالطات اليهود والنصارى، فاجتهدوا في إبطال دين الجاهلية ودَعَوْا إلى التمسك بشريعة الخليل، وادعوا أنهم مجدِّدون للدين، فعجزوا، فأُخْبِرُوا أن رسولًا سيظهر ويُنصر على الشيطان وحزبه.
المبحث الثاني: في انحطاط الدول المجاورة للعرب في ذلك العصر
بينما العرب على التحاب والميل إلى الاختلاط العام؛ إذ حدث بين كسرى وهرقل حرب عظم أمرها في ابتداء القرن السابع، أخذ فيها كسرى جزيرة دجلة والفرات والشام وفلسطين ومصر، ثم أخذها هرقل ملك القسطنطينية، وانقضت الحرب بصلح بينهما بعد ذهاب شوكتي الدولتين، وتهدم القلاع والحصون، وتضعضع حال الرعايا بالإفراط في الخراج وغيره، وتمادى بهم العجز حتى نبغ دين الإسلام، وكتب النبي ﷺ إلى كسرى: من محمد بن عبد الله نبي الله إلى كسرى بن هرمز ملك الفرس، وكسرى إذ ذاك دُهش بفخامة سلطنته وجلالة قدره، يرى نفسه ملك الملوك مع غلبة هرقل إياه يصدر باسمه في سائر الكتابات إليه ومنه إعلانًا بشرفه على ما اعتاده المشرقيون، ولذاكره قراءة كتاب النبي ﷺ، ومزقه وداسه برجليه حين رأى تأخُّر اسمه، وما زال في مُلكه متعجبًا من سرعة تقدم الدعوة الإسلامية حتى ذهبت دولته عن قرب.