الباب الثاني
المبحث الأول: في مولده وبداية أمره
تُوُفِّيَ والده عبد الله قبل مولده ﷺ بشهرين، تاركًا خمسًا من الجِمال وبَركة الحبشية المُكَنَّاة بأم أيمن، ثم توفيت أمه آمنه وعمره ست سنين، وكفله جَدُّهُ عبد المطلب قائلًا: ليكونن لابني هذا شأن حين ولد مختونًا مسرورًا. مات سنة ٥٧٩، فكفله عمه أبو طالب، ثم خرج به حين بلغ ثلاث عشرة سنة في تجارة له إلى الشام حتى بلغ بصرى، فلَقِيَهُ الراهب بُحيرى، فقال: ارجع بابن أخيك واحذر عليه من اليهود فسيكون له شأن عظيم. فرجع به إلى مكة حيث فرغ من تجارته وأحضره معه وله أربع عشرة سنة، حرب الفجار بعكاظ بين قريش وكنانة وبين هوازن.
وشب ﷺ حتى بلغ، فكان أعظم الناس مروءة وحِلمًا وأمانة، وأحسنهم جوابًا وأصدقهم حديثًا، وأبعدهم عن الفحش حتى عُرف في قومه بالأمين، وبلغت أمانته وأخلاقه المُرضية خديجة بنت خويلد القرشية، وكانت ذات مال، تاجرة كسائر قريش فعرضت عليه خروجه إلى الشام في تجارة لها مع غلامها ميسرة، فخرج وربح كثيرًا وعاد إلى مكة وأخبرها ميسرة بكراماته، فعرضت نفسها عليه وهي أيم لها أربعون سنة، فأصدقها عشرين بكرة وتزوجها وله خمس وعشرون سنة، فبقيت معه حتى ماتت قبل الهجرة بثلاث سنين وكان قومها تجارًا ذوي رفعة وشأن.
المبحث الثاني: في خُلقه ﷺ ومقاصده
كان ﷺ أميًّا، أرجح الناس عقلًا وأفضلهم رأيًا، دائم البِشر، مطيل الصمت، لين الجانب، سهل الخلق، يكثر الذكر ويقل اللغو، يستوي عنده في الحق القريب والبعيد والقوي والضعيف، يحب المساكين، لا يُحَقِّرُ فقيرًا لفقره ولا يهاب ملكًا لملكه، يؤلف أصحابه ولا ينفرهم ويصابر من جالسه أو قاومه أو صافحه، ولا يحيد عنه حتى يكون الرجل هو المنصرف، يتفقد أصحابه، يجلس على الأرض ويخصف النعل ويرقع الثوب، وضع الحجر الأسود في موضعه بيده الشريفة حين هدم قريش الكعبة سنة ٦٠٥ لقصر بنائها وبَنَوْهَا حتى بلغوا موضع الحجر واختصموا فيه، فحكَّموا أول داخل من باب الحرم، فكان رسول الله ﷺ أول داخل فحكَّموه، فأمر أن يضعوا الحجر في ثوب، تمسك كل قبيلة بطرف منه ورفعوه حتى بلغ موضعه، فوضعه في موضعه، وعمره ٣٥ سنة.
وكان عمه أبو طالب كثير العيال وأصابت قريشًا أزمة شديدة، فقال ﷺ لعمه العباس: إن أخاك أبا طالب كثير العيال، فانطلق بنا لنأخذ من بنيه ما يخفف به عنه، فأتيا أبا طالب، فقال: اتركا لي عقيلًا واصنعا ما شئتما، فأخذ العباس جعفرًا والنبي ﷺ عليًا سنة ٦٠٦ فقام بتربيته، واشترى زيدًا مولاه وأعتقه. ناهز الأربعين وليس له ما يشهره عند العرب سوى تأليفه من أشراف قريش حزبًا يسمى حزب الفضول لدرء المظالم.
المبحث الثالث: في مبعثه ﷺ وتبليغه الرسالة سنة ٦١١ ميلادية
حُبب إليه ﷺ الخلاء، فأخذ يخلو شهرًا من كل سنة بغار حراء حتى نزل عليه الوحي، وبُعث حين بلغ الأربعين، وكان من أمره ما في حديث بدء الوحي، ودعا إلى الإسلام، فأسلمت خديجة فعليٌّ فزيد مولاه فأبو بكر الذي دعا عثمان بن عفان، وعبد الرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، والزبير بن العوام، وطلحة بن عبد الرحمن، وأتى بهم إلى رسول الله ﷺ فأسلموا، ثم أسلم أبو عبيدة عامر بن عبد الله بن الجراح، وعبيدة بن الحارث، وسعيد بن زيد بن عمرو وابن نفيل بن عبد العزى، وعبد الله بن مسعود وعمار بن ياسر.
وكانت دعوته ﷺ إلى الإسلام سرًّا ثلاث سنين، ثم أُمِرَ بإظهار الدعوة ونزل: وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ، فقال لعلي بن أبي طالب: اصنع طعامًا واجمع بني طالب لأبلغهم ما أمرت به، فحضر أربعون أو واحد وأربعون، فيهم أبو طالب وحمزة والعباس وكذا أبو لهب الذي ابتدر بعد الأكل بقوله: لشد ما سحركم صاحبكم. فتفرق القوم وصنع عليٌّ في الغد طعامًا جمعهم عليه ثانيًا وأكلوا، فقال ﷺ: ما أعلم إنسانًا في العرب جاء قومه بأفضل مما جئتُكم، قد جئتكم بخيري الدنيا والآخرة، وقد أمرني الله أن أدعوكم إليه، فأيكم يؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي ووصيي وخليفتي فيكم؟ فأحجم القوم جميعًا، قال علي: فقلت وإني لأحدثهم سنًّا وأرمصهم عينًا وأعظمهم بطنًا وأحمشهم ساقًا: أنا يا نبي الله أكون وزيرك عليهم. فأخذ رسول الله ﷺ برقبة علي قائلًا: إن هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا. فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب مستهزئين قد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع ثم عاب ﷺ آلهتهم ونسبهم إلى الكفر والضلال، فعادوه إلا من عُصم بالإسلام وقالوا لأبي طالب: إن ابن أخيك قد عاب ديننا وسَفَّهَ أحلامنا وضلَّل أبناءنا، فانهَهُ عنا أو خَلِّ بيننا وبينه. فردهم ردًّا حسنًا حتى عظم عليهم أمر النبي فأتوه ثانيًا قائلين: إن لم تَنْهَهُ نازلناك وإياه حتى يَهلك أحد الفريقين. وأخبر أبو طالب بذلك النبي، فظن أن عمه خاذله وقال: والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي ما تركت هذا الأمر. وولى، فقال عمه: أقبل يا ابن أخي، وقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبدًا. فأخذت كل قبيلة تُعذب من أسلم منها، وحفظ الله رسوله بعمه أبي طالب.
المبحث الرابع: في أذى قريش للنبي ﷺ وتزوُّجه
أخذ قريش يعذبون من أسلم بمكان أعدوه لذلك، ويُسمعون النبي ﷺ السب والوعيد عند طوافه بالبيت، ويعاقبون من أصغى لقوله أشد العقاب ويقولون إن جابرًا النصراني بمكة يُمليه آيات من القرآن، فنزلت آية وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ. واشتد الأذى فأذن رسول الله ﷺ لمن ليس له عشيرة تحميه بالهجرة إلى الحبشة، فتتابعت جموع مجموعها ثلاثة وثمانون رجلًا وثماني عشرة امرأة سوى الصغار، فبعثت قريش عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص بهدية إلى النجاشي ليمكنهما من المهاجرين، فأبى، فقال له ابن العاص: سَلْهُمْ عَمَّا يقولون في عيسى. فسألهم فقالوا ما في القرآن من أنه كلمة الله ألقاها إلى مريم العذراء، فلم ينكر النجاشي ذلك وأبقاهم في جواره آمنين وأعاد هذين بالهدية، فعلمت قريش أن الإسلام آخذ في الازدياد، فتعاهدت على بني هاشم وبني عبد المطلب أن لا يناكحوهم ولا يبايعوهم، وكتبوا بذلك صحيفة علقوها بالكعبة وأسلم حمزة عم النبي ﷺ وشج بالقوس أبا جهل لشتمه النبي ﷺ، ثم أسلم عمر، فارتاعت قريش وعز به الإسلام بعد أن كان شديد العداوة للنبي ﷺ، وقدم من مهاجري الحبشة ثلاثة وثلاثون رجلًا بلغهم خبر إيمان أهل مكة، وعلموا كذبه حين قربوا فدخلوا مستخْفِين، وما زال أبو طالب يدافع عن رسول الله حتى مات في شوال سنة عشر من النبوة ثم تُوُفِّيَتْ السيدة خديجة هذه السنة، فتتابعت على رسول الله ﷺ بموتهما الشدائد، ونالت منه قريش خصوصًا أبو لهب والحكم بن العاص وعقبة بن أبي معيط، فإنهم كانوا جيرانه يؤذونه بإلقاء القاذورات عليه وقت صلاته وطعامه، وسافر إلى ثقيف بالطائف ودعاهم إلى الإسلام، فأبوا وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم، يسبونه ويصيحون به حتى ألجَئُوه إلى حائط، وعادوا فقال ﷺ: «اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، على من تكلني، إن لم تكن علي غضبانًا فلا أبالي.» ثم قدم إلى مكة وقومه على أشد مما كانوا عليه من الخلاف.
وتزوج ﷺ قبل الهجرة بعد وفاة السيدة خديجة السيدة عائشة بنت أبي بكر الصديق، ودخل بها بعد الهجرة بثمانية أشهر ولها تسع سنين وكانت نساؤه خمس عشرة، دخل بإحدى أو ثلاث عشرة، وأولاده من خديجة إلا إبراهيم فمن مارية القبطية، ولدته في ذي الحجة سنة ثمانٍ من الهجرة، وتوفي سنة عشر، وأولاده الذكور من السيدة خديجة القاسم وعبد الله الملقب بالطيب والطاهر ماتا صغيرين، والإناث فاطمة زوج علي رضي الله عنهما، وزينب زوج أبي العاص، فرَّق رسول الله ﷺ بينها وبين زوجها بالإسلام، ثم ردها إليه بالنكاح الأول حين أسلم، ورقية وأم كلثوم المتزوج بها عثمان بعد الأولى.
المبحث الخامس: في معجزاته ﷺ المُختلف فيها بين أهل السنة والمعتزلة وتكسير الأصنام وإسلام عمر
أُسْرِيَ بجسده أو روحه ﷺ قبل موت عمه أبي طالب أو بعده في سنة اثنتي عشرة من الهجرة، وأشهر معجزاته القرآن الكريم لاشتهار البلاغة والفصاحة في زمانه عند قريش الذين كانوا يفتخرون بحسن الكلام، ويتغالبون فيه كما كان إحياء الموتى لعيسى زمن اشتهار الطب، والثعبان لموسى زمن اشتهار السحر، والنفَس الطيب لداود زمن اشتهار المويسيقى.
وتلا ﷺ على عُباد الأصنام أول سورة فُصلت، وبلغ آية قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا إلى أن قال: وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ، وكان من أراد الله هدايته يسمع القرآن فيُسلم كعمر — رضى الله عنه — فإنه توجه بسيفه لقتل النبي، فقيل له لا تفعل لئلا يقتلك بنو عبد مناف، ولكن اردع خبابًا وأختك وابن عمك سعيد بن زيد فإنهم أسلموا، فقصدهم عمر وهم يتلون سورة طه فسكتوا، فسألهم عما سمعه، فأنكروه فضرب أخته فشجها قائلًا: أريني ما كنتم تقرءونه. وخافت على الصحيفة، فعاهدها على أن يردها إليها، فدفعتها وقرأها فقال: ما أحسن هذا وأكرمه! ثم توجه إلى النبي ﷺ فأسلم.
المبحث السادس: في عرض رسول الله نفسه على القبائل وابتداء أمر الأنصار وبيعتي العقبة
أخذ رسول الله ﷺ يعرض نفسه على القبائل في مواسم الحج حتى أراد الله إظهار دينه، فخرج في الموسم يدعو إلى الإيمان، فلقيه عند العقبة ستة رجال من الخزرج، تلا عليهم القرآن فآمنوا، وانصرفوا إلى المدينة فأخذوا يدعون إلى الإسلام، وخرج ﷺ في العام التالي إلى الموسم، فبايعه اثنا عشر رجلًا من الأنصار، وهذه بيعة العقبة الأولى، فبعث معهم إلى المدينة مصعب بن عمير، الذي جعل يتلو عليهم القرآن حتى كان سائر دُورِ الأنصار مسلمين إلا دار أمية بن زيد. وعاد مصعب إلى مكة سنة ثلاث عشرة من البعثة بمسلمين من الأوس والخزرج، ثلاثة وسبعين رجلًا وامرأتين، وكفار مستخفين حتى اجتمعوا برسول الله ليلًا أيام التشريق بالعقبة فقالوا: مالنا إن قُتلنا دونك؟ قال: الجنة. فبايعوه وعادوا إلى المدينة، وهذه بيعة العقبة الثانية، ثم أمر ﷺ أصحابه بالهجرة فهاجروا إلى المدينة، وأقام مع علي وأبي بكر منتظرًا الإذن في الهجرة.
المبحث السابع: في هجرة النبي ﷺ
لما علمت قريش أن لرسول الله بالمدينة أنصارًا، وأن أصحابه بمكة لحقوا بهم، خافوا خروجه إلى المدينة، فاجتمعوا ليتشاوروا فيه، فاجتمع الرأي على أن يضربوه ضربة رجل واحد ليتفرق دمه في القبائل، فنزل جبريل، فأعلم النبي ﷺ بذلك، فأمر عليًّا أن ينام على فراشه متشحًا ببُرْدِهِ ليؤدي ما عنده من الودائع إلى أربابها، وخرج وهم يرصدونه بالباب وهو يتلو «يس» إلى أن وصل إلى قوله: فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ فجعل يكررها، ووضع على رءوسهم التراب ولم يشعروا به، وتوجه إلى دار أبي بكر، فأعلمه أن الله تعالى أذن له في الهجرة، فتوجَّها إلى غار بجبل ثور وخرجا منه بعد ثلاثة أيام إلى المدينة يوم الاثنين خامس ربيع الأول من السنة الأولى، ومعهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر وعبد الله بن أريقط، وهو كافر استأجره ليدلهما على الطريق، فبعثت قريش سراقة في أثره فنجا منه رسول الله ﷺ وقدم المدينة ظهر يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من هذا الشهر، فنزل بقباء وأسس به المسجد المؤسَّس على التقوى، ولحقه علي بن أبي طالب، ثم خرج من قباء يوم الجمعة، فما مر على دار أحد من الأنصار إلا قالوا: هلم يا رسول الله. واعترضوا ناقته. فقال: خلوا سبيلها فإنها مأمورة. فتركوها حتى بركت في موضع المسجد، فأقام النبي ﷺ عند أبي أيوب الأنصاري حتى بنى مسجده ومساكنه بالموضع الذي اشتراه، وغيَّر اسم يثرب إلى المدينة، وسمى الأوس والخزرج بالأنصار، والمسلمين من أهل مكة بالمهاجرين، واتخذ عليًّا أخًا وآخى بين المهاجرين والأنصار، ولبث بينهم يعلمهم شرائع الدين ويقتدون به في الأقوال والأفعال، ويرجعون إليه في حكم كل حادثة، وبايعهم قبل سنة ثلاث من الهجرة أن لا يشركوا بالله شيئًا، ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم، وأن يتعاملوا بالمعروف ويذروا اليهود، آمنين على أموالهم وأسلم سلمان الفارسي وعبد الله بن سلام، فزاد الإسلام عزة، ولكن اليهود تحزَّبُوا مع المنافقين.
وأخذت قريش تشدد على المسلمين وأغروا شعراءهم على الهجو، فرتب ﷺ من الخزرج حسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة للرد عليهم، وشرع الصوم والزكاة، وحُولت الصلاة إلى الكعبة وورد الوحي بالأذان في سنة اثنتين من الهجرة، التي بعث فيها النبي عبد الله بن جحش الأسدي في ثمانية إلى نخلة بين مكة والطائف ليتعرفوا أخبار قريش، فمر بهم عير لهم فغنموها وأسروا اثنين في آخر يوم من جمادى الآخرة، والتبس عليهم برجب فعيرهم الكفار باستحلاله، فنزلت يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ إلى وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ.
المبحث الثامن: في غزوة بدر وأمر رسول الله بالغزو
كان أول غزواته غزوة بدر، ومن خبرها أن قدم أبو سفيان بن حرب وثلاثون رجلًا بعير لقريش وندب النبي الناس إليهم، فبعث أبو سفيان بذلك إلى مكة، فقدم منها أبو جهل بتسعمائة وخمسين رجلًا فيهم مائة فارس، وخرج النبي ﷺ من المدينة لثلاث خلون من رمضان سنة اثنتين من الهجرة بثلاثمائة وثلاثة عشرة رجلًا فيهم فارسان، ومعهم من الإبل سبعون يتعاقبون عليها ونزل بهم بدرًا، وجلس هو وأبو بكر على عريش بُني لهما، وأتى أبو جهل بمن معه وبرز منهم عتبة وشيبة ابني ربيعة، والوليد بن عتبة، فأخرج النبي لهم عمه حمزة وعلي بن أبي طالب وعبيدة بن الحارث بن عبد المطلب، فقَتل حمزة شيبة وعلي الوليد، وكَرَّا على عتبة فقتلاه، واحتملا عبيدة وقد قُطعت رجله ثم مات، وانتشبت الحرب صبيحة الجمعة لسبع عشرة ليلة خلت من رمضان، فخرج رسول الله ﷺ من العريش يحرض الناس على القتال، وأخذ من الحصباء حفنة رمى بها قريشًا قائلًا: شاهت الوجوه، ثم قال لأصحابه: شدوا عليهم. فهزموا قريشًا وقتلوا سبعين، منهم أبو جهل، وأسروا سبعين، منهم عم النبي العباس وابنا أخويه عقيل بن أبي طالب ونوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وقُذف في قليب بدر بعد القتال أربعة وعشرون من صناديد قريش، وفي هذه الغزوة نزل قوله تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ.
غزوة بين قينقاع
وهم يهود نقضوا عهد رسول الله، فخرج إليهم نصف شوال سنة اثنتين، فحاصرهم خمس عشرة ليلة، ونزلوا على حكمه.
غزوة السويق
حلف أبو سفيان بسبب قتلى بدر أن لا يمس الطيب ولا النساء حتى يغزو النبي ﷺ، فبعث إلى المدينة رجالًا قَتَلُوا رجالًا من الأنصار، ثم خرج في مائتي راكب، فركب النبي في طلبه حتى هرب بمن معه وألقوا جرب السويق فسميت غزوة السويق.
المبحث التاسع: في عدة غزوات
غزوة أحد
نزل أبو سفيان بذي الحليفة يوم الأربعاء لأربع ليالٍ مَضَيْنَ من شوال سنة ثلاث من الهجرة بثلاثة آلاف من قريش، وامرأته هند بنت عتبة في خمس عشرة امرأة معهن دفوف، يضربن بها، ويبكين على قتلى بدر، ويحرضن المشركين على قتال المسلمين. وخرج رسول الله ﷺ في ألف رجل منهم عبد الله بن أُبَيٍّ المنافق بثلاثمائة من المنافقين، ومضى رسول الله بسبعمائة نزل بهم في شعب أُحُد الذي جعل ظهره إليه، وكان بين الفريقين يوم السبت لسبع مضين من شوال وقعة، قَتل فيها حمزة أرطأة حامل لواء المشركين واشتغل بقتل سباع بن عبد العزى، فقتله وحشي الحبشي عبد جبير بن مطعم، وقتل ابن قمئة الليثي مصعب بن عمير حامل اللواء ظانًّا أنه رسول الله، فأعطى النبي الراية لعلي، فانهزم المشركون وطمعت الرماة في الغنيمة، وفارقوا المكان المأمورين بملازمته، فأتاهم خالد بن الوليد بخيل المشركين من خلفهم وصيح إن محمدًا قُتل. وانهزم المسلمون وأصيبت رباعية رسول الله ﷺ، وشُج وجهه، وكُلِمَت شفتاه وجُرح علي وأبو بكر وعمر، ومثلت هند وصواحبها بالشهداء فجدعن الآذان والأنوف واتخذن منها قلائد وبقرت هند بطن حمزة ولاكت كبده، وقُتِلَ فيها من المسلمين سبعون ومن المشركين اثنان وعشرون، وفيها نزل قوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ.
غزوة بئر معونة
قدم المدينة في صفر سنة أربع من الهجرة أبو براء بن مالك بن جعفر مُلاعب الأسنة وهو على دينه، فقال للنبي: لو بعثت رجالًا يدعون أهل نجد إلى الإسلام رجوت أن يستجيبوا لك. فبعث ﷺ سبعين نزلوا بئر معونة على أربع مراحل من المدينة، وبعثوا كتاب النبي إلى عامر بن الطفيل، فقتل الذي حضر بالكتاب وتوجه بجموع قتلوا الصحابة عند هذه البئر، إلا كعب بن زيد، توارى بين القتلى ثم لحق بالنبي.
غزوة بني النضير من اليهود
نقض بنو النضير العهد، وأجمعوا على اغتيال النبي فسار ﷺ إليهم وحاصرهم في ربيع الأول سِتَّ ليالٍ، فسألوه الخروج من المدينة بما حملت إبلهم من الأموال إلا السلاح، فخرج بعض إلى خيبر وآخر إلى الشام، وهم أول من أُخرِج من أهل الكتاب من جزيرة العرب إلى الشام، وهذا أول حشرهم المراد في قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ، وآخر حشرهم إجلاء عمر لهم من خيبر إلى الشام.
غزوة ذات الرقاع
سار ﷺ إلى نجد، فلقي جمعًا من غطفان بذات الرقاع في جمادى الأولى من هذه السنة وتقارب الجمعان ولم يكن بينهما حرب.
غزوة بدر الثانية
ثم سار ﷺ في شعبان هذه السنة إلى بدر منتظرًا قدوم أبي سفيان الذي خرج من مكة، وعاد فانصرف رسول الله بالناس.
غزوة الخندق وهي غزوة الأحزاب
وبلغه تحزُّبُ قبائل العرب فحفر حول المدينة خندقًا، وأتت قريش ومن تبعها من كنانة في عشرة آلاف وغطفان ومن تبعهم من أهل نجد، وانضم إليهم بنو قريظة ناقضين للعهد فعظم الخطب على المسلمين، ولبث الفريقان بضعًا وعشرين ليلة يترامَوْن بالنَّبْل بلا قتال، وخرج علي بن عبد ود من ولد لؤي بن غالب فخرج إليه علي وذبحه، ثم هبت الصَّبَا، فأكفأت قدور الأعداء وطرحت آنيتهم، ورمى الله الاختلاف بينهم، فرحلوا بعد أن استشهد من المسلمين ستة، وفيها نزل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا، وكانت هذه الغزوة سنة أربع أو خمس.
غزوة بني قريظة
انصرف رسول الله ﷺ من الخندق إلى المدينة، فأمر بالمسير إلى بني قريظة، فسار إليهم وحاصرهم بالمدينة خمسًا وعشرين ليلة في ذي القعدة سنة خمسٍ من الهجرة، فسبى الذراري والنساء وأسر الرجال — وكانوا سبعمائة يزيدون أو ينقصون — حبسهم في دور الأنصار حتى حُفِرَتْ لهم خنادق ضُرِبَتْ أعناقهم فيها.
غزوة ذي قرد
خرج ﷺ في ربيع الأول سنة ست إلى ذي قرد على ليلتيْن من المدينة، فاستنقذ بعض لقاحه التي أغار عيينة بن حصن الفزاري عليها وهي بالغابة.
غزوة بني المصطلق
سار رسول الله في شعبان سنة خمس أو ستٍّ إلى بني المصطلق وقائدهم الحارث بن أبي ضرار، فقاتلهم على ماء لهم يقال له المريسيع وهزمهم فقتل وسبى وغنم، ووقعت جويرة بنت قائدهم في سهم ثابت بن قيس؛ فكاتبته على نفسها فأدى رسول الله ﷺ عنها كتابتها وتزوجها، فأعتق مائة أهل بيت من قومها بني المصطلق لكونهم أصهاره.
المبحث العاشر: في عمرة الحديبية وبيعة الرضوان والهدنة مع كفار قريش
خرج النبي ﷺ من المدينة يوم الإثنين غرة ذي القعدة سنة ستٍّ معتمرًا في ألف وأربعمائة من المهاجرين والأنصار، وساق الهَدْي حتى بلغ ثنية المرار مهبط الحديبية أسفل مكة، فبعث قريش إليه عروة بن مسعود الثقفي سيد أهل الطائف؛ فقال: إن قريشًا عاهدوا الله أن لا تدخل عليهم مكة عنوة ورجع إليهم؛ فقال: جئت كسرى وقيصر في ملكهما فوالله ما رأيت ملكًا في قومه مثل محمد في أصحابه. فبعث النبي عثمان بن عفان ليخبر أبا سفيان وأشراف قريش أنه ﷺ لم يأتِ محاربًا، بل زائرًا معظمًا لهذا البيت، فقالوا: إن أحببت أن تطوف بالبيت فطف. فقال: لا إلا أن يطوف رسول الله. فحبسوه وبلغ رسول الله أنه قُتِلَ، فدعا من معه إلى البيعة فبايعوه بيعة الرضوان تحت الشجرة، ثم علم أن عثمان لم يُقتل، وبعث قريش إليه سهيل بن عمرو، فأجابه ﷺ إلى ما أراد، ثم نحر هديه وحلق رأسه، وفعل أصحابه مثله ثم عاد إلى المدينة.
غزوة خيبر
حتى خرج في نصف المحرم سنة سبع من الهجرة إلى خيبر المالك أهلُها أَزِمَّةَ تجارة الحجاز ونجد، وفي هذه الغزوة أكل رسول الله من الشاة المسمومة التي أهدتها إليه زينب بنت الحارث اليهودية أكلة لم تزل تعاوده حتى مات منها، وأخذ أبو بكر الصديق الراية فقاتل قتالًا شديدًا ورجع فأخذها عمر بن الخطاب فقاتل أشد من الأول ورجع، فقال ﷺ: أما والله لأعطين الراية غدًا رجلًا يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله. فاستشرف إليها المهاجرون والأنصار، وجاء علي من المدينة أرمد، فتفل ﷺ في عينه فبرئ وأعطاه الراية فسار وقاتله أهل الحصن وضربه أحدهم فسقط ترسه من يده، فتناول من عند الحصن بابًا تَتَرَّسَ به حتى فتح الله عليه في صفر بعد الحصار بضع عشرة ليلة، فألقى من يده الباب الذي اجتهد بعد ذلك ثمانية من الصحابة أن يقلبوه فما قدروا، وسأل أهل خيبر وفدك رسول الله الصلح على أن يساقيهم بنصف الثمار ويخرجهم متى شاء، ففعل، فكانت خيبر للمسلمين وفدك لرسول الله خاصة لأنها فتحت بلا إيجاف.
غزوة وادي القرى
ثم انصرف ﷺ إلى وادي القرى فحاصره وفتحه عنوة، ثم سار إلى المدينة فقدم من الحبشة بقية المهاجرين، ومنهم جعفر بن أبي طالب؛ فقال: ما أدري بأيهما أُسرُّ بفتح خيبر أو قدوم جعفر؟
رسل النبي إلى الملوك
في سنة تسع بعث ﷺ إلى كسرى أبرويز عبد الله بن حذافة بكتاب مزقه، وكتب إلى باذان عامله باليمن أن يكتب إلى النبي أن يسير إلى كسرى وإلا حاربه، فقال ﷺ: مزق الله ملكه. فسلط الله شيرويه على أبيه كسرى فقتله، وكتب إلى باذان بذلك، وأن يتعرض للنبي فأسلم باذان وناس من فارس، وبعث دحية بكتاب إلى قيصر الروم فاحترمه ورد دحية ردًّا جميلًا، وإلى المقوقس صاحب مصر حاطب بن أبي بلتعة فأكرم حاطبًا وأهدى إلى النبي ﷺ بغلة وحمارًا وجاريتين إحداهما مارية القبطية والدة إبراهيم ابن النبي ﷺ، وإلى النجاشي عمرو بن أمية بكتاب قبله وأسلم على يد جعفر بن أبي طالب، وكان عنده. وإلى الحارث بن أبي شمر الغساني شجاع بن وهب الأسدي بكتاب قرأه فقال: أنا سائر إليه. فقال النبي: باد ملكه. وإلى هوذة ملك اليمامة سليط بن عمرو فقال: إن جعل الأمر لي بعده سرت إليه وأسلمت ونصرته وإلا حاربته. فقال النبي: اللهم اكفنيه. فمات بعد قليل، وإلى المنذر ملك البحرين العلاء بن الحضرمي، فأسلم وتبعه جميع العرب بالبحرين.
المبحث الحادي عشر: في عمرة القضاء وإسلام خالد ومن معه وفتح مكة وغزوات مؤتة وحنين والطائف
عمرة القضاء
خرج رسول الله ﷺ بألفين من المسلمين في ذي القعدة سنة سبع معتمرًا عمرة القضاء، وساق البُدن حتى قرب من مكة، فخرج له قريش وتحدثوا أن النبي في عسر وجهد، واصطفوا عند دار الندوة، فقال ﷺ: رحم الله امرأ أراهم اليوم قوة. ورمَل في أربعة أشواط من الطواف ثم سعى بين الصفا والمروة.
إسلام خالد بن الوليد ومن معه
في سنة ثمانٍ أسلم خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعثمان بن طلحة بن عبد الدار.
غزوة مؤتة
هي أول غزوة بين المسلمين والروم بعث رسول الله الحارث بن عمير بكتاب إلى عمرو بن شرحبيل الغساني ملك بصرى، فقُتل الحارث في مؤتة، فبعث رسول الله ﷺ في جمادى الأولى سنة ثمانٍ ثلاثة آلاف بلغوا مؤتة بأرض الشام، فأتاهم الروم والعرب المتنصرة في نحو مائة ألف وولى راية المسلمين زيد بن حارثة مولى النبي فجعفر بن أبي طالب فعبد الله بن رواحة، كما أمر رسول الله أن يليها اللاحق بعد قتل السابق، ثم قُتِلَ ابن رواحة؛ فاتفق العسكر على خالد بن الوليد فأخذ الراية وفتح الله على يديه ورجع بهم إلى المدينة.
نقض الصلح بين قريش والنبي وفتح مكة سنة ثمانٍ
كان في عهد قرش بنو بكر وفي عهد النبي ﷺ خزاعة، فقَتل بنو بكر من خزاعة في هذه السنة بإعانة جمع من قريش؛ فانتقض العهد فأتى أبو سفيان لتجديده، فما أجيب بشيء فعاد.
وخرج رسول الله ﷺ من المدينة باثني عشر ألفًا من المهاجرين والأنصار وطوائف من العرب حتى قارب مكة، فركب العباس عم النبي ليخبر قريشًا فيأتوا إلى النبي ويستأمنوه، فوجد أبا سفيان فأتى به إلى النبي وأسلم وعرضت عليه قبائل الجنود.
ثم أمر النبي الجنود بدخول مكة من أسفل مكة، ومن كداء وثنية كداء، فدخلوها يوم الجمعة لعشر بقين من رمضان هذه السنة واطمأنَّ الناس، فخرج النبي وطاف بالبيت ودخله فصلى فيه، وكسر الأصنام قائلًا: قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا. ثم بعث سرايا يدعون من حول مكة إلى الإسلام بلا قتال.
منهم سرية خالد بن الوليد
نزل بها على ماء لبني جذيمة ودعاهم إلى الإسلام، فتكلموا بكلام فهم منه عدم الانقياد فقتلهم، وبلغ ذلك النبي ﷺ، فقال: اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد (حيث بادر إلى القتل ولم يتثبت) ثم أرسل عليًّا بمال أدى به ديات القتلى، وفضل معه مال دفعه إليهم تطييبًا لخاطرهم.
غزوة حنين
بعد فتح النبي مكة أتى لحرب النبي هوازن بحريمهم وأموالهم معهم ثقيف أهل الطائف وبنو سعد بن بكر الذين ارتضع عندهم النبي ﷺ، فخرج النبي من مكة لستٍّ خلوْنَ من شوال سنة ثمان باثني عشر ألفًا حتى بلغ حنينًا، وهو وادٍ إلى الطائف أقرب منه إلى مكة، ونزل المشركون بأوطاس ثم التقى الجمعان فانهزم المسلمون لا يلوي بعضهم على بعض، وثبت رسول الله في نفر من المهاجرين والأنصار وأهل بيته حتى تراجع المسلمون ونُصِرُوا على المشركين وتبعوهم يقتلون ويأسرون، وكان في السبي الشيماء أخت رسول الله من الرضاعة، فإنها بنت حليمة السعدية مرضعته، فأكرمها ﷺ وزودها وردَّها إلى قومها حسبما سألت.
وفي هذه الغزوة أعجبت المسلمين كثرتهم، وقال أحدهم: لن نُغْلَبَ اليوم عن قلة. فنزل: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ … إلخ.
حصار الطائف
انهزمت ثقيف من حنين إلى الطائف، فسار إليهم النبي وحاصرهم سنة ثمانٍ نَيِفًا وعشرين يومًا، وقاتلهم بالمنجنيق وقطع أعناقهم.
وأتى إليه بعض هوازن فرد عليهم نصيبه ونصيب بني المطلب وأطلق السبي، وكانت عدته ثمانية آلاف وأسلم مالك بن عوف مقدم هوازن، فاستعمله النبي على قومه وعلى من أسلم من تلك القبائل.
المبحث الثاني عشر: في غزوة تبوك وانقياد مَن في بحيث جزيرة العرب للشريعة الإسلامية
عزم النبي على غزو الروم في رجب سنة تسع مع إيناع الثمار الباعث على حب المقام وشدة الحر وجدب البلاد وعسر الناس، وأمر المسلمين بالصدقة فتصدق أبو بكر بجميع ماله وعثمان بألف دينار وثلاثمائة بعير طعامًا، وأعلم الناس مقصدهم لبعد الطريق وقوة العدو بعد أن كان إذا أراد غزوة ورى بغيرها، ثم خرج بثلاثين ألفًا منهم عشرة آلاف فارس حتى بلغ تبوك بعد مقاساة شدائد بالحر والعطش، فأقام به عشرين يومًا وقدم إليه يوحنا صاحب أيلة فصالحه على جزية بلغت ثلاثمائة دينار.
وصالح أهل أذرح على مائة دينار في كل رجب، وبعث خالد بن الوليد فأتى بأكيدر دومة صاحب دومة الجندل، فصالحه النبي على الجزية، ثم قدم إلى المدينة في رمضان، وبها من الأنصار ثلاثة متخلفون: كعب بن مالك، ومرارة بن الربيع، وهلال بن أمية، واعتذروا إليه، ونهى ﷺ عن مخاطبتهم فاعتزلهم الناس خمسين ليلة، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت إلى أن نزل قوله تعالى: وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ.
وقدم عليه ﷺ وفد ثقيف، فأسلموا وبعث معهم المغيرة بن شعبة وأبا سفيان ليهدما اللات، ثم جاءه وفود العرب قاطبة سنة عشر، وأسلموا كما قال تعالى: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا، وبعث عليًّا إلى اليمن بكتاب قرأه عليهم، فأسلمت همذان كلها في يوم ثم تتابع أهل اليمن على الإسلام، وكتب بذلك إلى النبي فأمره أن يأخذ صدقات نجران وجزيتهم، ففعل وعاد إلى مكة وبها رسول الله ﷺ يؤدي حجة الوداع؛ لأنه لم يحج بعدها ثم عاد إلى المدينة.
المبحث الثالث عشر: في وفاة رسول الله ﷺ
فأقام بها حتى مرض في أواخر صفر سنة إحدى عشرة، وخرج في أثناء مرضه بين الفضل بن العباس وعلي بن أبي طالب من بيت عائشة حتى جلس على المنبر، فحمد الله ثم قال: أيها الناس من كنت جلدت له ظهرًا فهذا ظهري فليستقِدْ مني، ومن كنت شتمت له عرضًا فهذا عرضي فليستقِدْ منه، ومن أخذت له مالًا فهذا مالي فليأخذ منه، ولا يخش الشحناء من قبلي، فإنها ليست من شأني. ونزل فصلى الظهر ورجع إلى المنبر فعاد إلى مقالته فادعى عليه رجل ثلاثة دراهم فأعطاه بدلها.
واشتد به المرض فاستأذن أزواجَه أن يمرَّض في بيت عائشة فأُذِنَ له، وتأخر عن الصلاة بالناس ثلاثة أيام قال في أولها: مروا أبا بكر فليصل بالناس. ثم توفي ضحوة أو نصف يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول وغسله علي وهو يقول: بأبي أنت وأمي طبت حيًّا وميتًّا. وأسامة بن زيد وشقران يصبان الماء عليه والعباس وابناه الفضل وقثم يقلبونه، وكُفِّنَ في ثلاثة أثواب وحفر له أبو طلحة الأنصاري تحت فراشه الذي مات عليه، ونزل في قبره علي بن أبي طالب والفضل وقثم ابنا العباس ودُفِنَ ليلة الأربعاء، وله ثلاث وستون سنة؛ فإنه بُعِثَ لأربعين سنة ومكث بمكة ثلاث عشرة سنة وكسرًا وبالمدينة قريبًا من عشر سنين.
جهز ﷺ مولاه أسامة بن زيد بجيش إلى الشام، وحث حال مرضه على مسيره فخرج الجيش إلى المعسكر وتوفي ﷺ فرجع الجيش حتى جهزه أبو بكر الصديق — رضي الله عنه — وعن سائر الصحابة والتابعين.