الباب الأول
المبحث الأول: فيما وصلت إليه أصحاب النبي ﷺ من العظمة والسلطنة
كانت العرب قبل البعثة عظيمة الكبرياء والتفاخر، منفردة بحكم أنفسها شديدة الغيرة على الاستقلال، حتى بُعِثَ النبي ﷺ ودعاهم فاهتدوا إلى الإسلام وصاروا أمة واحدة مركَّبة من قبائل شتى، متناسين حب الرياسة وعوائد الجاهلية لظهور الحركة الدينية التأليفية، حتى تُوُفِّيَ النبي ﷺ، فعادوا إلى ذلك لعدم تمكُّن الإيمان عندهم فاتَّفق معظم الصحابة على اختيار خليفة يقوم بحفظ الشريعة بإصدار الأوامر بالضبط العام والقوانين النظامية اللازمة للعسكر وغيرها، متبعًا في ذلك القرآن والسنة؛ فكان بذلك للدين قوة انقادت بها العرب إلى الإسلام بلا نزاع بينهم وبين الخليفة لاقتفائه أثر الكتاب والسنة، ثم قسطت الخلفاء بعد الصحابة فلم ينالوا غرضهم من غير قيام الأمة عليهم، ومنع المفتين خروجهم عن الشريعة الإسلامية.
المبحث الثاني: في الخلفاء الراشدين
تولي الخلافة أبو بكر — رضي الله تعالى عنه — سنة إحدى عشرة من الهجرة إلى سنة ثلاث عشرة، ثم عُمِّرَ إلى سنة أربع وعشرين، ثم عثمان إلى سنة ستٍّ وثلاثين، ثم علي بن أبي طالب إلى سنة إحدى وأربعين متَّبِعين النبي ﷺ في عصمة النفس من دهشة الشوكة والتشبُّث بحب الملاذِّ والزخارف واقتناء الأموال، وفي إطعام الفقير ونصر المظلوم والخطبة والصلاة بالناس في المساجد والزهد والقناعة والتقشف.
فقد كان أبو بكر — رضي الله عنه — يأخذ كل يوم بإذن الصحابة خمسة دراهم من بيت المال حتى تُوُفِّيَ تاركًا ثيابه وعبدًا وبعيرًا، وتوجه عمر بن الخطاب لفتح بيت المقدس من المدينة إلى فلسطين بلا خفراء معه، وكان ينام على مدرج الكعبة مع الفقراء، وحكم على جبلة بن الأيهم ملك غسان حين ضرب صحابيًّا أن يستسمحه أو يدعوه ليقتص منه؛ فقال جبلة: كيف وأنا ملك وهو من آحاد الأمة؟! وأبى عمر إلا ذلك، ففر جبلة إلى هرقل بالقسطنطينية.
واتهم عثمان نصرانيًّا بسرقته أسلحته، ولم يأبَ الحضور معه إلى المحكمة الشرعية للتقاضي في ذلك، وأدى حساب ما في بيت المال من النقود، وكان في إمكان كل شخص أن يطلبه إلى المحكمة للتحاكم، وكان علي بن أبي طالب يفرق على المساكين كل يوم جمعة ما بَقِيَ معه من الدراهم، وكانت الأحكام الصادرة من القضاة نافذة على أرباب المناصب وآحاد الناس؛ ولذا لم يعفُ أحد من هؤلاء الخلفاء الراشدين عن أحد من المذنبين بعد صدور حكم القضاة بعقابه إلى غير ذلك من الفضائل التي لا تحصى.
المبحث الثالث: في ملحوظات في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم
لما تُوُفِّيَ النبي ﷺ تهيأ أمراء الأنصار لانتخاب سعد بن عبادة الخزرجي خليفة؛ فبادرت الصحابة إلى انتخاب أبي بكر الصديق، فبايعه أولًا عمر وتبعه من بعده، فخطبهم بما معناه: أيها الناس إنكم قد قلدتموني الحكم عليكم، فإن فعلت خيرًا فعاونوني عليه أو شرًّا فردوني عنه، وإن قول الحق لخليفة النبي على الأمة لمنبئ عن غيرة قائله على الإسلام وكتمان الحق عنه خيانة، وإني أرى الضعيف والقوي متساويين في الحقوق أحكم بينهما بلا ميل، وإلا فلا حق لي في طاعتكم.
أحس — رضي الله تعالى عنه — بالوفاة بعد سنتين من مبايعته؛ فاستخلف ابن الخطاب الذي لم يَقْفُ أثرَه في تعيين واحد للخلافة حين وفاته، بل اختار من كبار الصحابة ستة اتفقوا على انتخاب عثمان، فولي الخلافة، وجدد فتوحات ازدادت بها الثروة الإسلامية، إلا أنَّ توليته أقاربه الأموية المناصب كانت سببًا في الفتنة الكبرى التي قُتِلَ فيها، فإن ذلك بعث القرشيين المنتشرين في جميع خدم المملكة على بث خطباء في الكوفة والبصرة ومصر بالخروج عليه، الذي أفضى إلى قتله سنة ٦٥٥ ميلادية الموافقة سنة ٣٦ هجرية.
المبحث الرابع: في خلافة على بن أبي طالب وما كان بينه وبين معاوية من سنة ٦٥٦ إلى سنة ٦٦١ ميلادية الموافقة سنة ٣٧ إلى سنة ٤٢ هجرية
لم يتحصل قَتَلَةُ عثمان على الخلافة لاتقاد نار الفتنة في جميع الجهات، وكان علي — رضي الله عنه — قبل خلافته مشتغلًا بمعيشته المنزلية، وقد يحضر مشورات أهل المدينة. انعقد الرأي بعد عثمان على خلافته لتأثُّل مجده، فبايعه كثيرون منهم طلحة والزبير، ثم سارا إلى موسم الحج بإذنه فوافيا السيدة عائشة المتوجهة معتمرةً إلى مكة قبل قتل عثمان بعشرين يومًا، فتشاورا معها في الأخذ بدم عثمان من رؤساء قوم عليٍّ، ورجواها أن تسير معهما إلى البصرة؛ ليكون أهلها ومن يسير معهم من الحجازيين حزبًا واحدًا. فسارت وانضم إليها أهل البصرة، وبلغ ذلك عليًّا وهو مسافر إلى العراق فعاد إلى البصرة ودعا قوم عائشة إلى ترك القتال فأبوا؛ فكان بين الفريقين قتال نُصِرَ فيه علي لكنه لم يُهِنِ السيدة عائشة، بل احترمها وبعثها إلى المدينة في نساء ذوات شرف، وبعث معها ولديه الحسن والحسين وأخاها محمد بن أبي بكر، وسار إلى الكوفة فاتخذها دار خلافته فوفد إليه المبايعون من العراق وخراسان وبلاد الفرس وبحيث جزيرة العرب، ثم ظهر بالشام أمر معاوية مع عمرو بن العاص، فنازعاه في الخلافة وأتيا إلى صِفِّين بثمانين ألفًا كان بينهم وبين جيش علي في مائة وعشرة أيام تسعون معركة، قُتِلَ فيها خمسة وأربعون ألفًا من جند معاوية وخمسة وعشرون ألفًا من جند علي من غير أن يظفر أحدهما بالآخر؛ فحَكَم الجيشان على معاوية وعلي أن يُحَكِّمَا أناسًا بينهما، فحكما جمعًا قضوا أن لا حق لعلي وشهروا معاوية خليفة، فأبى علي والحكم واشتكى من غدر وكيله، وعاد إلى تشهير السلاح فأصر ثلاثة من الخوارج على قتل علي ومعاوية وعمرو بن العاص لتنقطع الحروب الداخلية، فتوجه أحدهم إلى معاوية فضربه ضربة غير قاتلة، والآخر إلى ابن العاص فقتل كاتب سره ظانًّا أنه هو، والثالث إلى علي فقتله؛ فاختار الكوفيون ابنه الحسن خليفة، ومعاوية إذ ذاك خليفة الشام ومصر وبحيث جزيرة العرب، وهو أول من جلس من الأموية على كرسي الخلافة.
قال المؤرخ السنير النيمساوي: قد زالت عادة الأمة المحمدية من الساذجية في الضروريات منذ جلس معاوية على كرسي الخلافة، وأما الفقه الديني والعوائد التي ورد بها القرآن فقد بقيا بعد الخلفاء الأربعة، كما بقي عند الأمة المحمدية، وعساكر الإسلام طرف من تلك الطباع الجمهورية والسجايا العلوية التي من شأنها أن تجعل الدول الصغيرة عظيمة، وتزيد الدول العظام قوة وشوكة حتى في الأيام التي استولى فيها الأجانب الظَّلَمَة على تلك الأمة.