الباب الثاني
المبحث الأول: في عصيان بعض العرب وفتوحات خالد بن الوليد وعكرمة وغيرهما وكتابة القرآن
لما توفي النبي ﷺ ارتدت قبائل عمان والبحرين ومهرة وحضرموت، وظهر مُدَّعُو النبوة طليحة في نجد ومسيلمة في اليمامة وقيس قاتل الأسود في اليمن، وهَمَّ بالعصيان أهل مكة والطائف وسائر إقليم الحجاز فوجه أبو بكر همته لقمع هذه الفتنة، وبعث أسامة بن زيد إلى البلاد الشامية بجيش هائل أوقع الرعب في قلوب العرب، إلا أن غطفان وقبائل نجد رأوا المدينة خالية حينئذٍ من المقاتِلة فشنوا الغارة عليها فصَدَّهُم أبو بكر مرتين، فرجعوا وقتلوا من ببلادهم من المسلمين، وانضموا إلى حزب طليحة الكذاب، ثم قدِم أسامة مؤيَّدًا رابحًا بجزيل الغنائم بعد وقوع فشل في حزبي طليحة ومسيلمة بمسير سجاح المدعية النبوة ببني تغلب من جزيرة الدجلة والفرات إلى نجد، فبايعها بنو تميم قوم طليحة وانتصروا، ثم توجهت إلى اليمامة بطامة كالريح القاصف فبادرها مسيلمة بالقتال، وعرض عليها في أثنائه أن يتزوجها ولم ترحل عنه إلا بعد أن أخذت نقودًا كثيرة.
ولم تدخل دومة الجندل تحت طاعة أسامة — رضي الله عنه — واتخذها العصاة والمرتدون ملتجأ؛ فوجه أبو بكر — رضي الله عنه — خالد بن الوليد إلى نجد، وأوصاه بما أوصى به أسامة من أن يطلب من الأعداء الإسلام أو تأدية الجزية، فإن أجابوا وإلا قاتلهم بشدة عزم وصدق نية من غير أن يقطع أعضاء المغلوبين أو يقتل النساء والأطفال أو يتلف زرعًا أو شجرًا مثمرًا، ثم قدم خالد إلى بلاد نجد فانقاد إليه طيئ وبنو أسد وغطفان وهوازن وسليم، وهزم طليحة في واقعة بزاخة ففر إلى صحاري الشام وقبض — رضي الله عنه — على من قَتَلَ مسلمًا أو ساعد على قتله من غطفان ونجد، فكانوا ما بين مرجوم ومُلْقًى من شواهق الجبال ومُحَرَّقٍ وغريق؛ فامتلأت القبائل رعبًا، ثم سار إلى بني حنظلة — وهم بطن من تميم تابعون لسجاح — فشتت شمل من لم يبايِعْه، وقتل رئيسهم مالك بن نويرة وتزوج امرأته؛ فلِيمَ على ذلك، وجاء متمم أخو مالك إلى أبي بكر وطلب الانتصاف من خالد فأيده عمر، فقال أبو بكر: لا أقتل سيفًا سله الله على المشركين. ودفع عنه دية مالك لأخيه.
ووجه أبو بكر — رضي الله عنه — إلى اليمامة سَرِيَّتَيْنِ إحداهما مع عكرمة بن أبي جهل والأخرى مع شرحبيل بن حسنة فغلبهما مسيلمة، فأمر أبو بكر بتوجه عكرمة إلى عمان وخالد إلى اليمامة، فانقاد بنو حنيفة لخالد وسلَّموه مدينة هجر بعد قتل مسيلمة بواقعة عقرباء التي قُتِلَ فيها كثير من القراء؛ فأمر أبو بكر بجمع القرآن خشية ضياعه بقتل أهله، ووضعه — رضي الله عنه — بعد جمعه تحت يد السيدة حفصة بن عمر بن الخطاب إحدى أمهات المؤمنين — رضي الله عنهن — واستولى عكرمة على مدينة دابا قاعدة عمان، وشتت أحزاب المتنبئ لقيط ذي التاج بن مالك الأزدي، وانقاد إليه إقليم مهرة وبنو كندة في إقليم حضرموت وانضم إلى المهاجرين بن أبي أمية أحد رؤساء المجاهدين، وقطع دابر من بقي من حزب الأسود باليمن.
ووجَّه — رضي الله عنه — إلى أهل الردة بالبحرين وعمان وغيرهما العلاء بن الحضرمي؛ فجاب بجنوده صحراء الدهناء وهزم أمام بلدة جؤائي بني بكر المتولي عليهم أحد عائلة المنذر ملك الحيرة، وفتح جزيرة دوينة فأطفأ نار الخروج بالكلية، وبذلك صار من في بحيث جزيرة العرب الحقيقية معترفًا بالطاعة للأوامر البكرية.
المبحث الثاني: في شدة ميل العرب المسلمين إلى الجهاد وتكثير المسلمين
عوَّدَ النبي ﷺ الصحابة على الجهاد، وأعلمهم بنحو حديث: جُعل رزقي تحت ظل رمحي أن الدنيا تصيب المؤمنين بقوة عزائمهم. فغلب عليهم في الجهاد هُيام ديني، لا سيما إذا حثهم الرؤساء حين تقوم الحرب على ساقها، بقولهم: إن الجنة أمامكم والنار خلفكم. فإنهم بهذه الموعظة المبشرة بالجنة والحماسة المثيرة طباع الحرب وشدة الضرب والطعن يلقون أنفسهم وسط المعركة؛ فيفوزون في أكثر المقاتلات بالنصر بعد أن ينازل رئيسهم أشجع الأعداء قبل انعقاد الواقعة، إلا أنهم كانوا يجهلون تعبئة الجيش العلمية فاعتنوا بمعرفة استعدادات أعدائهم الحربية وانتظاماتهم العسكرية؛ فأخذوا يقلدونهم حتى عَوَّدُوا عساكرهم الانتظام، وعرفوا كيف ينتفعون بفرسانهم بوضعهم على ميمنة الصفوف وميسرتها وقت القتال.
وبالجملة توالت للعرب نصرات ضعفت بها الفرس، وكذا الروم المنقسمون إلى أحزاب متعادية لاختلاف أديانها، المتعودون أن يستأمنوا على مملكتهم للحماية عنها غرباء مؤجَّرين لا يعرفون قوة عزائم الأمة العربية، ظانِّينَ أن حربها كالحروب القديمة التي كان يئول أمرها إلى الاتفاق والصلح مع الأعداء، فضيعوا بذلك زمنًا نفيسًا لم يتداولوا فيه مع هؤلاء الرجال الذين كانوا إذا نُصِرُوا أو انهزموا لا يزالون مُصِرِّينَ على إلزام العدو إما الدخول في الإسلام أو دفع الجزية مع الصَّغَار. على أن الرعايا الرومية كانت فرِحة بحكم الإسلاميين لما رأت من صدقهم في المعاهدات والمعاملات وعدم تعسفهم وإجحافهم؛ فأخذ الروم يسلمون وكل من نطق منهم بالشهادتين تثبت له الحقوق الإسلامية، ثم تكامل اختلاط الروم بالعرب فأخذ كل عربي يتزوج بروميات في آنٍ واحد.
المبحث الثالث: في إغارة أهل الإسلام على العراق العربي من سنة ٦٣٣ إلى سنة ٦٣٤ ميلادية الموافقة سنة ١٢ إلى سنة ١٣ هجرية
كان غرض أبي بكر — رضي الله عنه — من بَعْثِ أسامة بن زيد بجيشه استكشافَ ما عليه سكان العراق، ثم قصد الجِدَّ في فتحه، فأوصى عياض بن غنم وخالد بن الوليد بما تطيب وتقوى به نفوس الأمة البدوية، ثم بعثهما إلى غربي العراق، ففتح عياض دومة الجندل وبلغ العراق من طريق المضيخ قبل خالد الذي سافر من بلاد اليمامة، فسلك طريق أبلة قرب الخليج الفارسي، واجتمع مع عياض قرب الحيرة وحارب من بجزيرة دجلة والفرات، فنُصِرَ عليهم ثلاث مرات وهدم مدينة أمغيشيا، وفشا قتله الذريع لكل مبارز فوقع الرعب في قلوب العراقيين مسيرة أيام؛ فأخذَ بلا قتالٍ الحيرةَ والأنبار وعين التمر وديوان المدائن تخت مملكة الفرس الفاشية بها إذ ذاك أنواع الفشل والفتن، وسار إلى إغاثة عياض حين أوقفته الأعداء عن المسير أمام مدينة دومة الجندل، فأنجده ورجع إلى الحيرة فجدد الحرب مع العراقيين، وهَزَمَ قرب فراض التي على ميمنة الفرات الروم المنضمين إلى الفرس والعرب التغلَبيين لصد المسلمين عن العراق، ثم ترك جيشه وتوجه سنة ثلاث عشرة إلى مكة فحج، وعاد متأهبًا لاجتياز حدود مملكة الفرس والجَوَلان في أرض فارس؛ إذ ورد إليه من أبي بكر كتاب بتوجهه إلى الشام.
المبحث الرابع: في فتح الشام من سنة ٦٣٣ إلى سنة ٦٣٨ ميلادية الموافقة سنة ١٢ إلى سنة ١٧ هجرية
كان العرب يطلقون الشام على بلاد سورية غير مريدين به ما بين حدود طور سينا وغرب الفرات إلى منابع نهر الأردن، بل مريدين جميع ما تحده براري بحيث جزيرة العرب، وبرزخ السويس من الجنوب والبحر الأبيض المتوسط من الغرب، وطور سينا الأقصى من الشمال والفرات من الشرق.
وقد صرف أبو بكر — رضي الله عنه — هِمَّتَهُ في فتح الشام، فقد بعث سرايا وصلت إلى مدينتي صور وعكا والجزء الأعلى من مجرى نهر الأردن، وإلى داخل إقليم فِلَسْطِينَ الحقيقي، إلا أن واقعة عقدت بعيدًا عن دمشق فعادت على السرايا الإسلامية بهزمية بعث بها أبو بكر إلى أبي عبيدة مددًا، وقلده ويزيد بن أبي سفيان وشرحبيل قيادة الجيش، على أن يكون الأخيران تحت يدِه عند الاجتماع، فقسم أبو عبيدة جيشَه ثلاثة أقسام دَهَموا في آنٍ واحد بصرى ودمشق وطبرية فلم يظفروا بالأعداء لتفرُّق القوة، وأما خالد بن الوليد فامتثل أبا بكر وسار بتسعة آلاف من الحيرة إلى الشام، فنزل جهة تدمر وحوران منتظرًا وفود المدد إليه من غير أن يحارب هاتين الجهتين؛ لعلمه أنهما يوصلانه إلى نهري الأردن وأنطاكية.
المبحث الخامس: في فتح بُصرى ودمشق وواقعة أجنادين سنة ٦٣٣ ميلادية الموافقة سنة ١٢ هجرية
المبحث السادس: في عزل خالد من قيادة الجنود وواقعة اليرموك وانقياد بني غسان سنة ٦٣٦ ميلادية الموافقة سنة ١٥ هجرية
المبحث السابع: في فتح القدس وحلب وأنطاكية ومدن السواحل وجزيرة دجلة والفرات
وبلغ ابن الخطاب — رضي الله عنه — فتح خالد لمدينة الرملة، فرضي عن خالد وأعاده أميرًا على المجاهدين، فسار لفتح أنطاكية وحلب من وسط سهول دمشق، وأبقى في فلسطين يزيد ومعاوية ابني أبي سفيان، ليأخذا قيسارية وسائر مدائن الساحل من قسطنطين بن هرقل، فأهلكا أكثر جيش قسطنطين حتى خرج هو من قيسارية، فأخذها يزيد ومعاوية مع عسقلان وغزة ونابلس وطبرية وعكا ويافا وبيروت وجبلة واللاذقية بلا قتال.
ونقل بعض المؤرخين أن هرقل أراد سنة سبع عشرة هجرية أخذ البلاد الشامية، فبعث أسطولًا إلى أنطاكية، وهجم روم وعرب جزيرة دجلة والفرات على حمص، فعصت أنطاكية وقنسرين وحلب والقريتان المسميتان بالحاضرتين بجوار حلب وقنسرين مع بقاء قيسارية تحت سلطنة الروم، وجمع أبو عبيدة جنوده في مركز واحد، وبعث له عمر بن الخطاب جنودًا تغزو جزيرة دجلة والفرات لتتحول الأعداد عن الشام، إلا أن عرب الجزيرة والحاضرتين انقادوا إلى خالد وسالَمُوه فولت الروم الأدبار.
وأخذ المسلمون ثانيًا قنسرين وحلب وأنطاكية بلا حرب، وأسلم بنو تنوخ وجُرْهُمْ المنتشرون في تلك البلاد إلى نواحي تَدْمُر.
ولكثرة ثمرات البلاد الشامية توطن بها معظم الفاتحين، ثم انتشر بها سنة ثمان عشرة هجرية طاعون مات به أكثر من خمسة وعشرين ألفًا منهم أبو عبيدة وشرحبيل ويزيد بن أبي سفيان، ونجا منه خالد واتهمه ابن الخطاب في بيت مال المسلمين، فعزله عن الإمارة على الجنود فصبر — رضي الله عنه — حتى مات سنة إحدى وعشرين هجرية، فما وُجِدَ بتركته سوى جواده وأسلحته وجاريته.
وسمى المسلمون بلاد ميزو بوتاميا بالجزيرة وقسموها أربعة أقسام: ديار الجزيرة وقاعدتها الموصل على نهر الدجلة بإزاء نينوي، وديار بكر بشواطئ الفرات وقاعدتها آمد الرومية، وديار مضر الشاملة للبلاد التي تسميها الروم أوشروين وقاعدتها الرقة، وديار ربيعة الشاملة للأخطاط التي بين الفرات وأعلى الدجلة وقاعدتها نصيبين.
المبحث الثامن: في إغارة المسلمين على أرمينية وأناضول والسواحل والجزائر البحرية والقسطنطينية وما كان من ملوك الروم في حق النصارى المردائية
لما فتح المسلمون جزيرة النهرين أغاروا على إيالة أرمينية، فهزموا أهلها وألزموهم تأدية الجزية سنة ٦٤٦ ميلادية الموافقة سنة سِتٍّ وعشرين هجرية لشقاق بينهم أنساهم الحب الوطني، وتقدموا إلى جبال الجراكسة، ففتحوا بلاد أيبرية التي هي جزء من بلاد شروان، وصدهم الخزر ببلاد جرجستان، فساروا إلى بلاد أناضول من جهة إقليمي قبادوث وفريجيا؛ فأخذوا عمورية من اليونان ثم خرجت عن الحكم سنة ٦٦٧ ميلادية الموافقة سنة ثمانٍ وأربعين هجرية، فلم يُغِيرُوا على تلك البلاد إلا بعد نصف قرن.