الباب الرابع
المبحث الأول: في زوال قوة الحزب العلوي
كانت سادات قريش تبغض النبي ﷺ، ثم دخلوا في الإسلام لحمله عليهم، فكانوا ذوي شرف وأنفة بين العرب حتى ولي الخلافة ابن الخطاب، وأزال أنفتهم فأجمعوا بعد وفاته على تولية عثمان وأخذوا يُظهِرون شرفهم بتنفيذ كلمتهم على عثمان، فتخلص من تغلُّبهم فتخلوا عن تعضيده وحرضوا الناس بخطبهم في الممالك الإسلامية على العصيان حتى قُتِلَ، فأخذوا يقاتلون ابن أبي طالب محتجين بأخذ الثأر حتى عجزوا، فسلطوا عليه من قتله غدرًا فانتقلت الخلافة إلى ابنه الحسن، ثم تنازل عنها سنة اثنتين وأربعين إلى معاوية الذي انفرد بها، فقمع الخوارج وجازى ابن العاص على انتصاره له بإعادته إلى ولايته الديار المصرية، واتخذ دمشق تخت الممالك الإسلامية، فشق ذلك على أهل مكة والمدينة محتجِّين بأن لهم انتخاب الإمام من عهد أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وكذا أهل الكوفة، محتجين بأنهم أكثر عددًا وأكبر شجاعة مع إقامة علي — رضي الله عنه — بينهم المقتضية لشرفهم، فقام زياد بن أبي سفيان فقتل في أقل من نصف سنة من البصرة أكثر من ثمانية آلاف رجل ومن الكوفة حجرًا أتقى رجالها لتعظيمه علي بن أبي طالب، وقتل الحسن بن علي في المدينة بسَمٍّ سنة اثنتين وأربعين، وعبد الرحمن بن خالد مروع بني أمية بشجاعته وآخرين، وحكم بقتل السيدة عائشة فرعب الحجازيون والعراقيون وصبروا، وأراد معاوية أن يجعل الخلافة وراثية لعائلته بأن يعهد بها إلى ابنه يزيد، فعارضه زياد ابن أبيه حتى مات، فاعترف الناس بالخلافة ليزيد بعد أبيه حتى توفي معاوية، وجلس يزيد سنة ستين، فأراد العراقيون إعطاء الخلافة لنسل علي؛ حيث كانوا أقرب الناس للنبي ﷺ، وطردوا الحاكم الذي بعثه يزيد، وأرسل أعيان العراق إلى الإمام الحسين ليولوه الخلافة؛ فسار إلى العراق بسبعين نفسًا بلغ بهم شواطئ الفرات، وبعث له عبيد الله نائب يزيد بن معاوية شمرًا الخبيث ليقتله، فطلب منه الإمام الحسين أن يسير معها إلى يزيد في أمن أو يعود إلى المدينة، فأبى شمر، فقاتله الحسين بمن معه حتى أحدق به عساكر يزيد وضربوه، فوقع مضرجًا بالدم على أصحابه الذين رمتهم الأعداء، ولم يُبقُوا إلا أخوات الحسين وولده زين العابدين — وكان صغيرًا — فأمر يزيد بإعادته مع السيدات إلى المدينة، ولم يجد الكوفيون رئيسًا يولونه الخلافة بعده، فصبروا حتى بلغوا أمنيتهم سنة إحدى وستين، وقد ظنوا أن تبجيله — رضي الله عنه — بعد وفاته ينفي عنهم عار جبنهم المخلد، واتخذت شيعة العجم إلى زمننا هذا يوم موته — وهو عاشر المحرم — موسمًا لجنازته يظهرون فيه الحزن على موته.
المبحث الثاني: في خلافة عبد الله بن الزبير بمكة مخالفًا لبني أمية وظهور آخرين يدَّعون الخلافة وتسكين الحجاج الثقفي ما بداخل المملكة الإسلامية من الفتن
تفجع الحجازيون على قتل الحسين وأصحابه، فعصى عبد الله بن الزبير بني أمية وحرض عليهم قبائل قريش، فدعاه أهل المدينة للإقامة بينهم، وطردوا والي المدينة من قبل يزيد بن معاوية، فاقتدى بهم أهل مكة والمدن القريبة منها، وتلقب ابن الزبير بالخليفة، فبعث له يزيد جيشًا هجم على المدينة، ثم حاصر مكة سنة أربع وستين وأشرف على فتحها، وإذا يزيد قد مات بحوران في رابع ربيع الأول من هذه السنة، فرجع الجيش إلى الشام.
وأعلنت جزيرة العرب ومصر والعراق وخراسان بالانقياد لابن الزبير، الذي تأخر مع ذلك عن إزالته الخلافة الأموية من دمشق حتى عينوا معاوية الثاني بن يزيد، فتقلدها بعد امتناع وتنازل عنها بعد ستة أسابيع، فخلفه مروان بن الحكم مشترطًا تولية خالد بن يزيد بعده، ثم هزم جيوش ابن الزبير وانقاد له حمص وجزء من جزيرة دجلة والفرات، فصرف همته إلى مصر فأخذها ممن ولاه ابن الزبير عليها، وترك بها بعض أولاده يأخذ الخراج والجزية، وحرم مكة والمدينة من القمح الذي كان يُرسَل إليهما في بحر السويس المسمى القلزم، فتبدلت أحوال خلافة ابن الزبير، وذهب أخوه مصعب لأخذ دمشق، فهزمه الأموية إلى البصرة. ثم مات مروان سنة ٦٨٤ ميلادية الموافقة سنة ٦٥ هجرية، فخلفه ابنه عبد الملك في ثالث رمضان من هذه السنة غير مكترث بعهد والده إلى خالد بالخلافة؛ فاستبد بحكم الشام ومصر، ورأى عدم تمكُّن أحزابه من الحج فزين لهم بيت المقدس ليزوروه، وصرف همته أولًا إلى العراق المضطرب منذ قُتِلَ الإمام الحسين؛ فقد كان به حزب متعصب للعلوية يأبى الانقياد لغير أئمتهم سار به سليمان بن صرد إلى الشام لصد جيش عبيد الله بن زياد عن العراق، فقابله عبيد الله بحدود الشام فمزق شمله، وحزب آخر معترف بخلافة ابن الزبير سار به المختار إلى مكة، فنصر ابن الزبير ولم يكافئه على نصره له، فخالفه وجمع من بقي من جيش ابن صرد وتلقب بالخليفة، وأظهر الأخذ بثأر علي وولديه، فقتل في غير الوقائع نحو خمسين ألف رجل منهم شمر قاتل الحسين وسائر من اشتهر معه في يوم كربلاء، وعبيد الله بن زياد.
ثم أخذ الكوفة والعراق البابلي، ثم سار إلى مصعب بن الزبير والي البصرة فحاصر الكوفة، ثم قتله بقلعتها سنة ٦٨٦ ميلادية الموافقة سنة ٦٧ هجرية، وقتل جميع أحزابه بالسيف، وكانوا سبعة آلاف؛ فعظمت المصائب بتلك الحروب الداخلية، إلا أن عبد الملك كان يفرح لها لتقليلها أعداءه وتقريبها انتصاره؛ إذ لم يبقَ له إلا عدوان: عمرو بن سعيد بدمشق ومصعب بن الزبير، فقتل ابن سعيد ثم مصعبًا في واقعة مسكن، ووضعت أمامه رأس مصعب في قلعة الكوفة، فقال بعض الحاضرين لعبد الملك: إني رأيت بهذه القلعة رأس الحسين أمام عبيد الله بن زياد ورأس ابن زياد أمام المختار، ورأس المختار أمام مصعب، ورأس مصعب أمام أمير المؤمنين. فتشاءم عبد الملك وهدم القلعة ومحا أثرها، وانقاد له الكوفيون وجنود مصعب بالبصرة والموصل وبلاد الفرس وسائر الأقاليم الشرقية من المملكة الإسلامية، ثم بعث أعظم قواد عساكره الحجاج بن يوسف الثقفي بجيش حاصر به مكة ثمانية أشهر، وقتل ابن الزبير وأعيان رجاله على عتبة الكعبة التي تهدمت من مجانيقه، فبناها هذه السنة بعد أن بناها ابن الزبير سنة ٦٨٣ ميلادية الموافقة سنة ٦٤ هجرية، فاستقل بالولاية والتصرُّف في بحيث جزيرة العرب، وعامل أهل المدينة بالقسوة لكونهم أول من قام على الأموية، ثم بدت فتن بجهة العراق، فنقله عبد الملك من ولاية بلاد العرب إلى ولاية العراق وخراسان وسجستان، فأظهر دعوة الإسلام ورأى العراقيين متأهبين للخروج عن الطاعة، فقتل رجالهم ومنهم قرشيون أعانوا على قتل عثمان — رضي الله عنه — وبالعراق إذ ذاك من الخوارج جموع الأزارقة الفار بهم إلى نواحي الأهواز المهلب أحد قواد مصعب بن الزبير، وهم أعداء للحكومة خلافية كانت أو ملوكية، وظهر منهم شبيب وصالح بأحزابهم الملقبين بالصفرية لمبارزة الحجاج، وعقدا بقرب آمد واقعة لم يظفر فيها أحد بالآخر، ثم نُصِرَا عليه في عدة وقائع، ثم قَتَل الحجاج صالحًا قرب الموصل على غفلة. وأما شبيب فأخذ الكوفة حين كان الحجاج بالبصرة، فعاد إليه وهزمه من موضع إلى آخر حتى دخل بلاد الفرس وكرمان، ثم مات قرب دجيل الأهواز سنة ٦٩٦ ميلادية الموافقة سنة ٧٧ هجرية، ثم خرج على الحجاج عبد الرحمن بن محمد سنة ٧٠١ ميلادية الموافقة سنة ٨٢ هجرية، فأخذ منه البصرة والكوفة، ثم انهزم، فقتل نفسه لئلا يقع في يد الحجاج، فكان ذلك آخر فتنة بالمملكة العربية.
المبحث الثالث: في سوء عواقب تلك الحروب الداخلية
حقق الثقفي للأموية الانتصار على أعدائهم الذين كانوا ينازعونهم في الخلافة، وعادت بلاد العرب إلى خمول الذكر، ونشأ من ذلك ذهاب شهرة البلاد العربية إلا بموسم الحج، وعود سكان نجد والحجاز إلى ما كان عليه آباؤهم من الاستقلال في المعيشة عن غيرهم، وانعزالهم عن الانتظام في سلك الجيوش الإسلامية، وتخلُّق خلفاء الأموية بأخلاق الملوك الذين غلبوهم، فإنهم رأوا دناءة النفوس في رعاياهم، فداخلهم ما كان عند إمبراطرة القسطنطينية والفرس من الكبرياء مع استقلالهم بالسياسة دون الديانة، وجراءتهم على تعدي الحدود الشرعية، وإعراضهم عن حث الوعاظ بإحياء القرآن واعتباره دستور الأحوال، بل كانت خلفاء الأموية قدوة لغيرهم في المخالفات كشرب يزيد بن معاوية الخمر، ورسم عبد الملك صورته مقلدة بسيف على نقود ضربها؛ ولذا ذهبت الحَمِيَّة الدينية التي هي السبب الأقوى في تقوية عزائم الجيوش الإسلامية؛ فظهرت فرق ادَّعَتْ أنها متمسكة بالعروة الوثقى داعية إليها، فتمادت في التعصُّب للدين حتى اتخذت قتل النفوس ذريعة إلى نصر معتقداتها، كالخوارج الذين توجهوا لقتل عَلِيٍّ ومعاوية وابن العاص ظانِّين أن في ذلك هدوًّا للناس، والمعتزلة المتظاهرين بثأر عثمان، والأزارقة الذين لم يُبقوا صغيرًا ولا كبيرًا مع إدامتهم التهليل والتكبير، بل كان بين تلك الفرق حروب في جزيرة دجلة والفرات وأذربيجان، لا سيما العراق العجمي.
ولم يؤخِّر غير تلك الفرق عن الانتقام منها إلا خشية سطوتها، فإنها طالما بارزت وهي مائة أو مائتان آلافًا ربما نُصِرَتْ عليهم؛ ولذا نفذت أوامرها بالقتل لدى نواب الأموية خشية منها.
وبالجملة كانوا هم وغيرهم على غاية من الإفساد كما فعل الحجاج؛ فإنه ذبح مائة وعشرين ألف نفس ومات وبحبوسه أكثر من خمسين ألفًا يكابدون الذل والهوان. هذا ما كان بالجهة المشرقية، وأما المغربية فلم يظهر بها شيء من ذلك، بل ازداد فيها التمسك بالدين الإسلامي.