الباب الثالث
المبحث الأول: في الاضطرابات الداخلية وعجز المتوكل وخلفائه عن منع مفاسد العساكر التركية
كان أهل الصين يُغِيرُونَ من جهة الشرق على الترك، فيبددون شملهم، ثم يغيرون على حدود المملكة العربية كإقليم ما وراء النهر وخوارزم، فيفتك بهم حكام تلك الأقاليم، ويأسرون منهم رجالًا من الترك، فيبعثون بهم إلى بغداد فقَرَّبَهُم المعتصم، واتخذهم عسكرًا وخفراء عليه تحت نظر ضباط منهم، مريدًا بذلك تعظيم شوكته، فكان أول مفتوك به؛ فإنهم أخذوا يفسدون حتى ترك لهم بغداد وسكن سامرَّا، وازداد عددهم وفسادهم زمن الواثق الذي كانت المملكة من ابتداء خلافته فوضى لا رئيس لها حتى مات، فأجلس هؤلاء في دست الخلافة المتوكل أكبر الظَّلَمَة من الخلفاء لشدة قسوته وتجاوزه الحد؛ أساءه وزير فأحرقه حيًّا في وجاق نار مملوء قطع حديد، وأطلق بقصره أنواع الحيوان المفترس على من أراد الفتك به، وخشي أن يَتَحَزَّبَ عليه ضباط ديوانه فدعاهم إلى طعام، وأحضر لهم من ذبحوهم جميعًا؛ ففزعت منه القلوب، وطلب الترك منه عطاءً منعه، فأعانوا ولده المستنصر على قتله وولوه الخلافة، وألزموه أن يعهد بالخلافة للمستعين ويحرم إخوته منها لئلا يغدروا بهم، ثم مات في سنته ندمًا على قتل والده، فقدموا حفيد المعتصم، وهو المستعين بالله سنة ٢٤٨ هجرية على إخوته الأربعة الذين ولي منهم الخلافة بعد ذلك المعتز والمعتمد، ثم انقسموا حزبين بين المستعين والمعتز الذي كان معه حزب العرب الذين وَلَّوْهُ الخلافة سنة ٢٥٢ هجرية؛ فأخر مرتبهم عن زمن الصرف المعتاد، فألزموه فخلعها سنة خمس وخمسين ومائتين على المهتدي بن الواثق الذي أراد الضغط عليهم فقتلوه في قصره سنة سِتٍّ وخمسين ومائتين التي تولى فيها المعتمد الخلافة إلى سنة تسع وسبعين ومائتين، والفضل في تلك السنين لأخيه الموفق؛ حيث بذل روحه، ولم يُبْقِ شيئًا من عزائم أهل الفتن، وصرف عقول العساكر التركية عن إضرام نيران الفتن في القطر باستعمالهم في حروب بعيدة عن المملكة.
المبحث الثاني: في استقلال عائلات ملوكية عن الخلفاء في الأقاليم الشرقية من آسيا وهي الطاهرية والصفرية والسمانية وغيرها
لما اضطربت الحكومة البغدادية، أخذ حكام الأقاليم يضيعون احترامها، ويتأسفون على ما يؤدونه من الخراج، ويطمعون عند عزل خليفة في الاستقلال، فلا يدخلون تحت طاعة المتولي إلا بشروط يأخذونها عليه، ولم يزالوا كذلك حتى قَوِيَتْ شوكتهم، فكان لهم من الخلافة مسماها وللخلفاء اسمها.
ثم ظهر بالاستقلال عن الحكومة البغدادية العائلات الطاهرية والعلوية والصفرية والسمانية وغيرها، فيما بين سنة أربع عشرة وثمانمائة وسنة خمس وخمسين وألف ميلادية، الذي ظهر فيه بالمملكة الفرنساوية عائلات، استقلت بالحكم في إيالات عظيمة.
وأول الطاهرية إبراهيم بن الأغلب الذي وَلَّاهُ الرشيد الأقاليم المغربية لِئَلَّا تضيع من يده بالكلية، وخلفه من بعده حتى تولاها الأمير الرابع طاهر الذي قاد جيوش المأمون، وبذل النُّصْحَ في خدمته، فكافأه بإعطائه إقليم خراسان وراثةً سنة أربع عشرة وثمانمائة ميلادية، مع ذكر اسم الخليفة العباسي في الخطبة؛ فساس طاهر الرعية حتى جنحت إليه، وأفردت اسمه بالذكر في الخطبة، وخلفه الأمير محمد سنة اثنتين وستين وثمانمائة ميلادية.
وتملَّك العلوية السيد حسن بن زيد الديلم وجرجان وطبرستان المجاورة لبحر جرجان، واستقل بالحكم سنة أربع وستين وثمانمائة ميلادية.
واشتغل من الصفرية يعقوب بن ليتس بصناعة الصفر — وهو النحاس — مدة، ثم التحق بالعسكر ونجح في معرفة فن العسكرية، ثم دخل سنة ثلاث وسبعين وثمانمائة ميلادية في خراسان بجيش هائل فتح إقليم سجستان، وقطع دابر الطاهرية هذه السنة، وسلب من العلوية إقليم طبرستان، وأخذ يقيم تارة بمرو وأخرى بنيسابور، وأراد الفتك ببغداد سنة أربع وسبعين وثمانمائة ميلادية، فتقدم إليه الموفق بالله وهزمه قرب مدينة واسط، فرجع إلى ممالكه، وأخذ في السنة التالية يهدد الموفق بإعدام الدولة، ثم مات سنة تسع وسبعين وثمانمائة ميلادية، فخلفه أخوه عمر فبايع المعتمد هذه السنة على تملُّكِه لما تحت حكمه.
وولَّى المأمون سنة اثنتي عشرة وثمانمائة ميلادية على سمرقند وفرغانة وبلخ أولاد أسد، الذي هو ابن جمال يسمى سمعان أو سمان، منهم أحمد الذي خلفه في الشوكة ولده الأكبر ناصر، الذي باستيلائه على بخارى تَمَّ له ملك ما وراء النهر، فأخذ يدافع عنه الأتراك والصفرية حتى استعان بأعدائه أخوه إسماعيل سنة ثمان وثمانين وثمانمائة ميلادية، وهجم عليه تأسره ثم أبقاه على مملكته مع التعظيم اللائق بمنصبه إظهارًا لعظمة خلقه وطبعه حتى مات الناصر سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة ميلادية، فقام هو بالمملكة وطرد التركمان خلف سيحون، وأسس العائلة السمعانية أو السمانية، وأظهر الاستقلال بالحكم على إقليمَيْ خوارزم وما وراء النهر.
المبحث الثالث: في عصيان العباسية في الأقاليم الغربية والإيالة المصرية وذكر عائلتي الزنجيين والطولونيين
جمع رجل من أهل الغارات زنجِيين من زنجبار ملك بهم البصرة ومعظم العراق العربي وبعض إقليمي أهواز وخوزستان، وما زال يقاوم دهمات العرب زمن خلافة المعتز والمعتضد حتى استخلف المعتمد على الله، فسار أخوه الموفق بجيوش أخذ بها من الزنجيين البصرة والعراق العربي والأقاليم الفارسية سنة اثنتين وثمانين وثمانمائة ميلادية، وتولى إذ ذاك الديار المصرية والشامية أحمد بن طولون أحد الترك العتقى المرتبين بدواوين الخلفاء. كان محبًّا للعلوم كريمًا بارًّا برعيته، وَسَّعَ الفسطاط وبنى مسجده الموجود الآن سنة ثمانٍ وثلاثمائة وألف في أواخر «الصليبة»، وأظهر الاستقلال عن الحكومة العباسية بمنع الخراج سنة سبع وسبعين وثمانمائة ميلادية.
ولاشتغال الموفق بحرب الزنجيين أغرى أمراء الشام على عصيان ابن طولون الذي نجا منه حتى مات سنة أربع وثمانين وثمانمائة ميلادية، فخلفه ابنه خمارويه، واعترف بسلطنته أهل دمشق، فاتخذها دار إقامة ونصر على أعدائه المتحزبين على عزله سنة تسع وثمانين وثمانمائة ميلادية. بنى بالفسطاط حوشًا واسعًا به جميع أصناف الحيوان العجيبة لكل منها مسكن وحوض ماء من رخام، شغف بالخيل والصيد وزخرفة القصور، ووضع سريره ببركة ملأها زئبقًا يهتز به اهتزازًا لطيفًا لينام. مات قتيلًا فزال عِزُّ هذه العائلة.
المبحث الرابع: في نصرات العباسية آخر القرن التاسع وأول العاشر
لما نشأ بالمشرق ممالك الصفرية والسمانية والطولونية، بقي للعباسيين بحيث جزيرة العرب وبلاد جزيرة النهرين والعراق العجمي والعربي وأذربيجان وأرمنستان والأقاليم التي على بحري جرجان والهند.
وولي المعتضد الخلافة سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة ميلادية، فانقاد له خمارويه بن أحمد بن طولون على أن يُوَلِّيهِ مصر والشام ويأخذ منه كل سنة مليونًا من الدنانير، ثم مات خمارويه فقامت الحرب بين ولديه جيش وهارون، فألزم المعتضد سنة تسع وتسعين وثمانمائة ميلادية من انتصر منهما أن يزيد في المرتب أربعمائة وثمانين ألف دينار، وطرد من الجزيرة عربًا وكردًا رحلوا عن صحاري الشام مريدين الاستيلاء على الموصل. وقمع الأمير همدان الذي أعلن في هذه الجزيرة بالاستقلال، وخلفه المقتفي سنة اثنتين وتسعمائة، فدهم هارون بن خمارويه برًّا وبحرًا بجيوش انقاد لهم جميع أمراء هارون بلا حرب سنة خمسٍ وتسعمائة ميلادية، وأوقد بين الصفرية والسمانية حروبًا نصر فيها السمانية وضموا إلى ما وراء النهر أقاليم خراسان وطبرستان وسجستان، وبعثوا إلى بغداد آخر ملوك الصفرية، وبالجملة لم يحصل في المملكة من سنة اثنتين وتسعين وثمانمائة ميلادية تمزيق حتى ولي المقتدر الخلافة سنة ثمانٍ وتسعمائة ميلادية، فتَحَزَّبَ عليه أحزاب قاموا عليه مرات، فضعفت شوكته في سائر نواحي المملكة التي أخذت من سنة ثلاث عشرة وتسعمائة ميلادية في الاستقلال، واستمر التمزيق فيها حتى زالت الحكومة البغدادية سنة خمسٍ وأربعين وتسعمائة ميلادية زوالًا كليًّا.
المبحث الخامس: في اقتصار العباسية على الرياسة الدينية بعد أن كانت لهم الرياستان وفي اختراع منصب أمير الأمراء وتأسيس شوكة البويهيين
ما زال الخلفاء يبعثون أميرًا يحكم بمصر والشام حتى بعثوا مملوكًا تركمانيًّا يدعى أبا بكر محمدًا الإخشيد، علم أنه سيغضب عليه الخليفة ويعزله عن منصبه، فألَّف أحزابًا عصى بهم الخلافة لضعف شوكتها، واستقل بالحكم سنة ست وثلاثين وتسعمائة ميلادية، وخلفه في الاستقلال بحكم مصر والشام أبو القاسم محمود ثم أبو الحسن علي، فكافور فأبو الفوارس. وقد نصب بالجزيرة رجل من ذرية الأمير همدان راية الاستقلال زمن المعتضد سنة ثلاثين وتسعمائة ميلادية، وأخذ عدة مدن بهذه الجزيرة وجال برجاله فيما جاوره حتى في الشمال الشرقي من بر الشام سنة سبع وثلاثين وتسعمائة ميلادية، واتخذ مدينة الموصل تخت مملكته التي خلفه فيها ناصر الدولة المتوسط في تسكين الفتن البغدادية وسيف الدولة المظهر في حربه مع اليونان الشجاعة والشهامة.
وأخذت هذه العائلة الهمدانية تنازع العائلة الإخشيدية في حُكْمِ الشام، ودخلوا مراتٍ دمشق وملكوا حلب واستقل بالحكم حزبا الرائقية والباريدية، وتنازَعَا سنة أربعين وتسعمائة ميلادية في الاستيلاء على مدينتي البصرة وواسط وإقليم الأهواز، وكذلك استقل أرمنستان وجرجستان وصارتا حكومتين، وأشهر السلاح رئيس من أعيان إقليم جيلان يسمى مرداويج بن بويه فأخذ على بحر جرجان أقاليم مازندران وجيلان وشروان وجرجان، وأخذ إيالة طبرستان من السمانية ومعظم إقليم أذربيجان، فكان مؤسسًا للعائلة البويهية، إلا أنه لم يَنَلْ فَخَارًا؛ حيث نازعه إخوته الثلاثة الذين كانوا في جيشه، زاعمين أنهم من نسل الأكاسرة بني ساسان مع أن أباهم بويه كان صياد سمك فقيرًا، ضموا إلى ممالك مرداويج أقاليم كرمان ومكزان والعراق العجمي وسورستان وخوزستان من سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة إلى سنة أربعين وتسعمائة ميلادية، وأحيطت بغداد بالولايات المستقلة من ابتداء هذا الزمن الذي استمر فيه القتل في القُوَّادِ والوزراء والملوك المستقلين بالحكم، وكذا الخلفاء؛ فقد قتل من التسعة والخمسين خليفة ثمانية وثلاثون، وعذبوا بالجوع أو إدمان السجن أو الرمي في وعاء كبير مملوء ثلجًا؛ ولذا خرج القاهر من السجن مفقوء العينين عليه ثياب بالية يسأل الناس على أبواب المساجد، وتغلب على الراضي ضابط العساكر التركمانية، وتصرفوا كما شاءوا في سائر فروع المملكة، فاخترع منصب إمارة الأمراء، وأعطاه ابن رائق فتولى قيادة الجيوش وخزينة المملكة وسائر أمور الرعية، وقرن اسمه باسم الخليفة في الخطبة، وما زال متصرِّفًا بالمملكة حتى حنق منه جندي يسمى ياقم، فحاصر بغداد وقبض على الراضي سنة أربعين وتسعمائة ميلادية، وألزمه أن يُوَلِّيَه إمارة الأمراء فولَّاه وحكم حتى مات في خلافة المتَّقي سنة ثلاث وأربعين وتسعمائة ميلادية، فتنازعها بنو رائق ونبو بريدة أصحاب واسط وبنو همدان أصحاب الموصل، وتردَّد المتقي فيمن يُوَلِّيه إياها، واستحسن أن ينضم إلى الإخشيديين، ثم نصر رئيس التركمانية على هؤلاء فأمر بقتل المتقي لتردده في إعطاء الإمارة وولى بدله المستكفي، وحنق البغداديون من مفاسد التركمانية فاستغاثوا بالبويهيين المستقر حكمهم إذ ذاك في أقاليم مملكة الفرس القديمة، فأتوا للإغاثة بجيوش فتح لهم أهل بغداد الأبواب سنة خمسٍ وأربعين وتسعمائة ميلادية، وتَقَلَّدَ معز الدولة إمارة الأمراء، وعزل الخليفة بآخرَ كان باذلًا نفسه في نجاح مصلحة المعز أول الأمراء البويهية المستمرين في ذلك المنصب أكثر من مائة سنة، واقتصر الخلفاء داخل قصورهم يُسَلُّونَ أنفسهم بمجالسة العلماء، ثم مات الراضي آخر من اتَّخَذَ أرباب المعارف أخص جلسائه؛ فأخذ البويهيون ينشرون العلوم ويوسعون علم الفلك والعلوم الرياضية، وأحضروا من الأقاليم التي تحت حكمهم عساكر أسكتوا بها أحزابًا تعصبوا عليهم واختصوا بالحكم. وأما المطيع والطائع والقادر والقائم فجُرِّدُوا عن الحكم، ولم يَكُنْ عند كل منهم إلا كاتب واحد، ومع ذلك كان أغلب العائلات المتحكِّمة في أقاليم آسيا يقلدون الحكومة من قبل هؤلاء الخلفاء؛ لما عليه أهل السنة من أن العباسية أحق بالخلافة، ولكن أهل الطمع تغلبوا على الحكم السياسي وتركوا لهم الحكم الديني.
المبحث السادس: في فرق الزيدية والإسماعيلية والكرمانية وغيرها
ظهر زمن الأموية عِدَّةُ فرق دينية تعِبوا في إزالته كالخوارج والقدرية والأزارقة والصفرية. وفي عصر العباسية فرقة المعتزلة وفرقة الراوندية الزاعمة أن الخلفاء يُعبَدُون كعبادة الإله، وتُعتَبَر دُورُهُم كعبةً جديدة؛ قاتلهم المنصور، فقابلوه بأعظم ما يكون من الشجاعة والبأس ليعبدوه قهرًا عنه، وظهرت أيضًا فرقة الزيدية القائلة بحرمة أكل لحوم الحيوان وتملك الإنسان شيئًا لخاصَّة نفسه.
وأسَّس بابك في إقليم أذربيجان سنة أربع وثلاثين وثمانمائة ميلادية فرقة الإسماعيلية المعتَقِدة مذهب الدهرية، وقاومت عساكر المعتصم أربع سنين، وملأت الكرمانية في القرن العاشر من الميلاد بلاد العرب، وأخذت من العباسيين الأقاليم الشرقية من بحيث جزيرة العرب، ولم يُبقُوا لهم فيها حكمًا دينيًّا ولا دنيويًّا. وكان كرمان مُنكِرًا للنبوة ووجود الله تعالى، وعظ بإبطال العبودية فتبعه كثيرون نصروه واغتنَوْا بالنهب والسلب، فعكفوا على أعظم المفاسد ونهبوا الكوفة في خلافة المعتضد سنة ثمان وتسعين وثمانمائة، وأغاروا في خلافة المكتفي على فلسطين والشام، وهددوا دمشق بالهجوم عليها وتعرضوا لنهب القوافل الذاهبة إلى مكة، وأوقفوا في آنٍ واحد تجارة العراق والحجاز، واتخذوا مُسْتَقَرَّ مذهبهم صحاري الشام وكلدة واليمامة والبحرين، وهجم بهم رئيسُهم أبو طاهر على مكة، فحاصروها قبل سنة ثلاثين وتسعمائة، فأخذوها عنوة وذبحوا من أهلها أكثر من ألفين، وهدموا الكعبة، وأزالوا الحجر الأسود، وردموا بئر زمزم، ثم بعثوا إلى مكة الحَجر، فأمر الخليفة بوضعه ثانيًا، وكسر منه قطعة وضعها على باب مسكنه؛ فكان ذلك سببًا في الجثي على الركب حين دخول بيوت الملوك، وفي قولهم الباب العالي للدلالة على مسكن الخليفة، ثم أطلق على باب سلاطين القسطنطينية.
وقد ظهرت شوكة هؤلاء الكرمانية حتى أخذوا الجزية من القاهر والراضي، ثم هزمتهم الملوك الهمدانية والإخشيدية، فذهبت شهرتهم شيئًا فشيئًا، وظهر مع هؤلاء علماء مُفتُون وفلاسفة وصوفية أداموا توجُّه أرواحهم إلى الله بواسطة إعدام جميع الشهوات. انتشر مذهبهم خصوصًا بين الفرس، وانتصر في الهندستان على مذهب البرهمانية، إلا أن شقاق الشيعة والسُّنِّيَّة أضر بالتقدمات الدينية، وعجز الخلفاء وأمراء الأمراء أن يجمعوا الناس على عقيدة واحدة، وفشت الاضطرابات الدينية، وفرض بعض أهل البدع على نفسه سب معاوية كُلَّمَا ذكر اسمه، ورتب احتفالات لتعظيم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه.
وتظاهر بعض آخر بالصداقة والتعصب لمذهب أهل السنة مريدًا أن يتبع سائر الناس الأحاديث والمواعظ بغاية الدقة، ولخوف العباسية من تسلُّط العلوية انضموا إلى أهل السُّنَّة، واضطهدوا مَنْ لم يشاركهم في هذا الرأي.
المبحث السابع: في تجديد العلوية دعوى الخلافة وتأسيس الفاطمية خلافتهم بالقاهرة وتحريضهم الناس على ممارسة العلوم وسيرة الحاكم وأمة الدروز
لَمَّا لم تَنَلِ العلوية الخلافة بدل العباسية وجهوا فكرتهم إلى إنشاء حكومة في الممالك المنفصلة عن المملكة العباسية، فملك أحدُهم طبرستان زمنًا يسيرًا، وجمعت العائلة الإدريسية في إقليم موريتانيا أقوامًا على حب ابن أبي طالب، وادَّعى الإمامة أبو عبيد الله الفاطمي، ونصره أهل المغرب على العائلة الأغلبية التي أزالها سنة ثمانٍ وتسعمائة ميلادية، ثم نفذت أحكامه بجميع سواحل البحر الأبيض المتوسط، وأسس شوكة الفاطمية بقيروان ومهدية، وأخذ يهدد حكام الديار المصرية بالاستيلاء عليها؛ فمات وخلفه ابنه القائم بأمر الله من سنة ثلاثَ عشرة وتسعمائة إلى سنة ستٍّ وأربعين وتسعمائة ميلادية، التي خلفه فيها المنصور، ضعفت قوتهما في محاربة الإخشيد، فاتخذوا بالحجاز واليمن أَحِبَّةً كثيرة ببذل العطايا الجزيلة، ثم مات المنصور سنة ثلاثٍ وخمسين وتسعمائة وخلفه المعز لدين الله، ومات الإخشيد فكان في حكم الديار المصرية والشامية تنازُع اغتنم به المعز الفرصة؛ حيث جال في بلاد الإخشيد وانقادت له الأمراء، فكان أول خليفة فاطمي بالديار المصرية سنة ثمانٍ وستين وتسعمائة ميلادية، ثم أخذت الفاطمية تُنازع العباسية في أمور دينية، وبَنَوُا القاهرة سنة اثنتين وسبعين وتسعمائة وفتحوا الشام وجزءًا من الجزيرة، واعترف بخلافتهم في بحيث جزيرة العرب جزء عظيم أمل فيهم الإنجاد على من يظهر في بلادهم من الكرمانية، واجتهدوا في تقدمات التجارة والصنائع والفلاحة والعلوم، وبَنَوُا المساجد الفاخرة ورصد خانة لابن يونس مثل ما كان للفلكيين في المملكة العباسية، وحسَّنُوا إدارة الخراج وكيفية تحصيله وساوى وارد المملكة السنوي وارد المملكة العباسية زمن الرشيد، وذُكِرَتْ أسماؤهم مع اسم علي بن أبي طالب في سائر خطب مملكتهم التي كانت هي ومملكتا البويهيين والسمانين جميع مملكة العرب الشرقية في غاية القرن العاشر من الميلاد.
وذهب ملك البويهية فانتقل التمدُّن إلى القاهرة، وفاقت مدارسها رونقًا على المدارس البغدادية لاجتهاد الفاطمية في التقدِمات العلمية كغيرها، إلا أن الحاكم ظهر على سرير الخلافة سنة سِتٍّ وتسعين وتسعمائة ميلادية ظهور إبليس، فأخذ يعاقب رعاياه بغاية الفظاعة ويمشي وراءه مماليك بأسلحة لذبح كل من يكدره ولو بأدنى شيء، ويرمي من قصره ورقات في كل منها أمر بتقديمها إلى أمير معين يذهب إليه من وقعت في يده فيعامله ذلك الأمير بما فيها من إعطائه دراهم كثيرة أو عقابه بأشنع الإساءات، وأخذ يعذب اليهود والنصارى حتى يُسلِموا فيأذن لهم في العود إلى ما كانوا عليه، رتب أعينًا يخبرونه بكل حادثة ولو واهية، فزعم بعض الناس أنه يرى ويعلم كل شيء فعبدوه كعبادة الإله، وأخذ يحضر أي مجلس على حين غفلة مختفيًا، فقويت دعواه الألوهية عند عباده حتى نادوا عند غيبته عنهم أنه صعد حيًّا إلى السماء وسيعود.
أخبر حمزة الفارسي ابن عبد الهادي بن علي الترزي أن الله تعالى ظهر بالصورة البشرية فيما مضى عدة مرات، وظهر الآن في صورة الحاكم بأمر الله؛ فغضب عليه أهل القاهرة وطردوه ففر إلى الشام وأخذ ينشر مذهبه الذي سماه دين الوحدانية لدى الأقوام المُسَمَّيْنَ بالدروز. وكان الحاكم مع ذلك يحترم العلماء ويشوِّقهم بإحسانه إلى إحياء العلوم. أهدى إليه ابن يونس أزياجًا نُسِبَتْ إليه، وقد قتلته أخته وولت بدله ابنه الظاهر وهو طفل سنة عشرين وألف ميلادية، ثم خلفه سنة سِتٍّ وثلاثين وألف المستنصر الذي اعترف بخلافته أهلُ إفريقية الشمالية، وبحيث جزيرة العرب، وعمت خلافته البلاد الإسلامية، واعتبره البغداديون إمامهم في الدين، ساخطين على القائم بأمر الله لاستعانته بطغرلبك التركماني السلجوقي، إلا أنه فقد بعد ذلك أحسن الأقاليم الشامية، وبقي في حكمه إقليم فلسطين بغاية المشقة.
المبحث الثامن: في الملوك البويهية والسمانية والغزنوية
أخذ البويهيون مملكة الفرس سنة ثلاث وثلاثين وتسعمائة ميلادية، وطردوا الهمدانيين من الجزيرة، وكذا الموصل تخت مملكتهم وأعدموا العساكر التركمانية، واختصوا في بغداد بإمارة الإمراء، فكان لهم في النصف الأخير من القرن العاشر الميلادي بالعراق العربي، وبغداد، وسائر قسم آسيا من السلطان الأعظم وجلالة الشأن ما لم ينافسهم فيه منافس.
واقتدى عضد الدولة بالمأمون فغمر العلماء والشعراء بالإنعام، وحرض الناس على اكتساب العلوم، وأحيا مدرسة بغداد بعد دروسها، وحفر قرب شيراز نهرًا به حفظت المزارع من الفيضان السنوي، وسهل ربط العلائق التجارية، ونهج شرف الدولة نهجه في إحياء المدرسة البغدادية التي نبغ منها في عهدهما علماء، منهم ابن الأعلم وعبد الرحمن الصوفي وأبو الوفاء الفلكي.
وبنى هؤلاء الملوك للمرضى مستشفًى بمهرجان عظيم بقيت ذكرته في الصحف التاريخية المشرقية، لكنهم وضعوا قوانين في انتقال ممالكهم إلى ذراريهم، وقسَّمُوها عليهم تقسيمًا غير سياسي به فتحت أبواب الحروب الداخلية وتمزق ما أسسوه من الممالك.
وحكم السمانية في المشرق سنة أربع وسبعين وثمانمائة حتى انقرض حكمهم سنة تسع وتسعين وتسعمائة ميلادية التي انحطت فيها دولة الأمراء البويهية؛ فإن مملوكًا تركمانيًّا يسمى ألب تجين ترقى في عهد سيده عبد الملك إلى منصب الوزارة حتى مات سيده، وأرد أن يخلفه في الحكومة فلم ينلها، وأُخْرِجَ من بخارى فتوطن غزنة سِتَّ عشرة سنة، قاوم فيها السمانية التي بذلت جهدها في إزالة جاهه وإمارته، وخلفه سنة خمسٍ وتسعين وتسعمائة ميلادية صهره سبكتكين الذي كان قائد جنوده ومشيره، فاستمال رعيته، وأغار على الهند، ونشر فيه الإسلام، وخرب إقليم بنجاب، وأنشأ مدينتي بسط وقصدار، وتعاهد مع نوح حفيد عبد الملك، فمنع عن السمانية إغارة التركمان الذين أغاروا على بلاد ما وراء النهر، ثم خلفه إسماعيل أصغر أولاده، فنازعه أخوه محمود لكبره عنه وقاتله، ثم غلب السمانية وأخذ إقليم خراسان سنة ألف ميلادية، واستقل بمملكته مستغنيًا بما حازه من الغنائم، فبعث إليه الخليفة العباسي تقليدًا بحكومة خراسان، وأمره أن لا يتوجَّه إلى بلاد الأمراء البويهية فلم يُصْغِ لقوله، ودهم البويهيين فأخذ منهم بلاد جرجان والعراق الفارسي، ودخل مملكة هراة وبلوجستان تحت حكمه الساري من منابع نهري السند والكنج إلى بحر الخزر، وهو أول من تلقَّب من أصحاب الدول المشرقية بالسلطان. اتخذ غزنة كرسي مملكته وأذاع في سائر الجهات الدين الإسلامي محاميًا عن الأمة العربية، وأخذ الجزية ممَّا فتحه في الهند من قنوج ولوهور ودلهي ومطرة، وخرب في غرب الهندستان مملكة جوزارات، وفعل بالهند ما اشتهر به من الغزوات التي انتهى فيها إلى هيكل سومنات الفائق ما عداه زخرفة وحسنًا، كانت قبته مغطاة بصفائح ذهب مرصعة بأحجار قديمة ثمينة والصنم الموضوع فيه حجر طوله خمسون ذراعًا، وهو أكبر أصنام الهندستان وبه ألفا خادم من البراهمة الذين عرضوا على هذا السلطان أكثر من مائتي مليون، فأبى وكسر ذلك الصنم، فوجد من الأحجار واليواقيت أكثر مما عرضوه عليه.
وبالجملة كان هذا السلطان ذا غَيْرَةٍ وحماسة دينية مقتديًا بخلفاء النبي ﷺ؛ ولذا بعث إليه الخليفة القادر بالله كتابًا لقَّبَه فيه بالمحامي عن المؤمنين.
المبحث التاسع: في إزالة السلجوقية الدولة الغزنوية وحكم اليونان في الشام
نشر السلطان محمود الغزنوي عساكره في الهند، وترك إقليم ما وراء النهر في قبضة قبائل تركستان المعروفة بمملكة التتار، وأدخل الأتراك السلجوقية في خراسان حين أسلموا وسألوه أرضًا يسكنون وينتفعون بها.
خلفه ابنه مسعود سنة ثلاثين وألف ميلادية، فاجتهد في أن يتخلص من مجاورة هؤلاء الأتراك فغلبوه؛ فبقي محترسًا منهم حتى لبس طغرلبك السلجوقي تاج الملك في مدينة نيسابور، ثم نصر على الغزنوية وطردهم من بلادهم إلى الهند، ثم أغار على أقاليم خوارزم وجرجان والعراق العجمى، وحاصر البويهية أمراء بغداد المتسلطن بها إذ ذاك سوء الانتظام بما دهم خليفتها القائم بأمر الله من وزرائه العصاة والخلفاء الفاطمية وأمراء الشام.