الباب الأول
المبحث الأول: في حالة إسبانيا وسير عبد الرحمن الأموي إليها وتأسيسه الخلافة الأموية بقرطبة
أسلفنا أن نتيجة حرب الأموية والعباسية انقسام ممالك العرب المسلمين إلى قسمين: أحدهما بالمشرق، وهو الممالك الإسلامية في آسيا والإيالة المصرية، وقد سبق الكلام على تقلُّبَاته وثانيهما بالمغرب، وهو مملكة إسبانيا والإيالات الشمالية في إفريقية، وسنورد لك حوادث هذا القسم المقارِنَة للحوادث المشرقية بادِئِين بحالة إسبانيا، فنقول: كان ولاة إسبانيا وأصاغر مشايخها يكلفون أهلها تأدية مطالب شاقَّة غير مبالين بخلفاء العباسية لبعدهم عن إسبانيا التي كان من بها من القبائل الحميرية والعراقية والشامية يخاصم بعضهم بعضًا، ويَرَوْنَ قبائل البربر في إفريقية بعين الغَيْرَةِ والحسد، فعظم بإسبانيا سوء الانتظام، ولم يُبَالِ أهلها بما يلزمهم به حكامهم من التكاليف الشاقة، فكان كل ذلك باعثًا لحزب جسيم على إحداث حكومة جديدة.
ثم شاع لديهم نجاة الأمير عبد الرحمن حفيد الخليفة هشام الأموي من ذبح السفاح، والتجاؤه إلى بعض أقاليم إفريقية لدى القبيلة المسماة بالزناتة أعظم قبائل إفريقية لبلوغ كتيبتها سبعمائة وخمسين فارسًا، فبعثوا إليه ثلاثة سفراء ركب معهم في سفينة إلى إسبانيا حتى بلغ مينا على نحو خمسة عشر فرسخًا من غرناطة؛ فقابله الناس بالترحاب، ثم دخل مدينة إشبيلية وبقرطبة الرئيسان من طرف العباسية يتنازعان قيادة العسكر والسلطنة، ثم اتحدا على ذلك الأموي حين رأيا ميل أهل قرطبة إليه، فسلماها إليه، ونُصِرَ عليهما في واقعة موزارة فاستقل بالحكم وانتصر على أعدائه مرة أخرى وظفر بهم، ثم أطلقهم وأبقى إليهم أملاكهم وأموالهم، ثم أدخل جميع المدن تحت حكمه وبايعه أهل إسبانيا سنة سِتٍّ وخمسين وسبعمائة ميلادية، فانفصلت من ذلك الوقت الخلافة المغربية عن الخلافة المشرقية ببغداد.
المبحث الثاني: في اضطرابات الإيالات الشمالية من إفريقية يتخاصم العرب والبربر وفي سلطنة الملوك التغلَبية
كان بالإيالات الشمالية من إفريقية مغاربة مسلمون مُسَمَّوْنَ بالبربر مختصون بالحرية السياسية لعدم حاكم عليهم، حتى ذهب إليهم من آسيا عرب أجروا عليهم حكم الخلفاء العباسية، ثم أخذ عبد الرحمن بن حبيب يستميل العرب والبربر حتى اتخذ منها أحزابًا زمن محاربة الأموية والعباسية من سنة سِتٍّ وأربعين وسبعمائة إلى سنة اثنتين وخمسين وسبعمائة ميلادية، واستقل بالحل والعقد لاشتغال العباسية، ثم انتصروا فانقاد لهم سنة ثلاث وخمسين وسبعمائة، حتى كلفه الخليفة المنصور سنة خمسٍ وخمسين وسبعمائة بمطالِبَ أفضت به إلى الإعلان بالاستقلال والخطبة باسمه في مسجد مدينة القريوان، ثم طمع أخوه إلياس وأوقع بين العرب والبربر فتنة أثارت حربًا سُفِكَ فيها كثير من الدماء، حتى انتهت سنة سبعين وسبعمائة ميلادية بنصر العرب، فاجتهد أميرهم أغلب وجبر الجميع على الانقياد للمنصور، ثم عصت البربر المهدي والرشيد عدة مرات خَسِرَ فيها العباسية خسارات عظيمة صمم بها الرشيد سنة ثمانمائة ميلادية على خلع حكم الإيالات المغربية على إبراهيم بن الأغلب، فاستقلت الأغلبية بالحكم من هذه السنة إلى سنة إحدى عشرة وتسعمائة، وخلَطُوا دَمَ البربر بدَمِ العرب بالتصاهر، فاتحدا أخلاقًا ودينًا، وزال ما بينهما من التباغُض، وانقاد لحكم إبراهيم بن الأغلب ما بين ابتداء سواحل الأقيانوس الأطلنطيقي وحدود إيالة مصر الغربية، وخطب فيه باسمه مع اسم الخليفة العباسي.
المبحث الثالث: في استيلاء الإدريسيين على تلمسان وإنشائهم مدينة فاس ومساعدة بني الأغلب على التقدم في الفنون والصنائع
بعد زوال الشحناء بين أهل الإيالات الغربية من شمال إفريقية، ظهر من العلوية رجل جليل يسمى إدريس، اتخذ من تلك الإيالات حزبًا قوي الشوكة، واستولى على تلمسان وجميع المغرب الأقصى سنة ثلاث وثمانمائة ميلادية، وأقام بمدينة واليلي وأزال من تلك الإيالات الحكم السياسي للتغلبية والديني للعباسية، وأثبتهما للإدريسية المنشئين مدينة فاس ومسجدها ومدارس وكتبخانات، وبها ظهرت الحركة العلمية التي حث عليها العباسية في الممالك المشرقية، ثم اتخذوا فاس تختًا جديدًا لمملكة المغرب ومركز تجارة بين عرب إسبانيا وعرب إفريقية، واجتهد كل من العباسية والأغلبية في إزالة حكم الإدريسية عن المغرب الأقصى فلم يحصلا نتيجة، وأخذت الأغلبية تحامي عن بلاد المغرب الوسطى وبلاد إفريقية، ونصرت في غزوات بالممالك النصرانية التي على سواحل البحر الأبيض المتوسط، وأدخلوا في الأقاليم الإفريقية جميع مبادئ التمدُّن الإسلامي التي كانت بالشام والعراق، وأنشئوا مدينتي القصر القديم ورصادة، وأخذوا يقيمون في تونس والقيروان وطرابلس، فامتلأت تلك المدن مباني أبدت للناظرين الأقواس الحادة والدعامة المزخرفة على حسب فن العمارة الروماني، وبنوا قناطر على مجاري سيول أمطار سريعة التيار، واجتهدوا في إحياء العلوم والصنائع والتجارة والفلاحة، وأنشئوا مراكزَ تجارية سهلت مخالطة سكان الصحراء بسكان السواحل، وجددوا طرقًا أَبْدَوْا فيها الأمن، وجعلوا نظارة محالِّ البوستة في أيدي أعيان البلاد، ورتبوا بتلك المحال ملاحِظِين لإبقاء التواصُل التام بواسطة السعاة والبريد الخيالي من ابتداء حدود المغرب إلى حدود مملكة مصر، وعمروا سُفُنًا بحرية حكموا بها على البحر الأبيض المتوسط.
المبحث الرابع: في الغزوات البحرية لبني الأغلب واستيلائهم على جزيرة سيسيليا وبلوغها شأو التقدُّم زمن تحكُّمهم عليها
وآخر انتصار العرب على جميع أهل هذه الجزيرة ما كان بها من الفشل الداخلي، وتعدد الولاة عليها من سنة ٨٧١ إلى سنة ٨٧٣ ميلادية؛ فقد تولى في تلك المدة سبعة ولاة على تلك الجزيرة التي لم ينتشر بها المسلمون لقلتهم، بل سكنوا مدنها بعد أن استسلموا النصارى، ونهبوا كثيرًا من الكنائس والديور، وقدروا الخراج؛ فانتفت التغيرات والزيادات التي كان وزراء السلاطين اليونانية يتخذونها لأنفسهم، وقسموا تلك البلاد إلى إقليمين السراغوسي والباترميتاني.
وتولى في مدائن مزارة ونوتو ومونة ثلاثة ولاة تحت يَدِ كل والٍ حاكم فوق القائدين الموكلين بإدارة المصالح في الخطط التي دون تلك الولايات. وبالجملة أجاد العرب في ترتيب وتقسيم تلك البلاد، وقدموا فيها الفِلَاحة والصنائع، نقلوا إليها شجرات القطن من الشام وقصب السكر من طرابلس الغرب ولسان العصفور والفستق، واستخرجوا ما فيها من معادن الفضة والحديد والنحاس والكبريت والملح الأندراني، واستعملوا أنواع الرخام والفرفيري والصوان واليشم في المباني الموجود منها في ضواحي بالرمة عدة قلاع تؤذِنُ بمهارتهم في فن العمارة، وفشا نسج الحرير بجزيرة سيسيليا، ومنها انتشر في أوروبا في القرن الثاني عشر بعد الميلاد على ما قيل.
المبحث الخامس: في جولان الأغلبيين في ممالك إيطاليا وتأسيسيهم عدة نزلات إسلامية على سواحل البحر الأبيض المتوسط
لما أخذت العرب جزيرة سيسيليا وخربوا جزيرتي بنزا وإيشيا، ونهبوا سواحل إقليم قالبرة، وأغاروا على مَصَبِّ نهر التبر، وأخذوا مدينة بالرمة سنة ٨٣٦، تقدموا إلى إيطاليا فحاربوا ملك فرنسا بعد شرلمانيه، كما حاربوا اليونان بإقليم أبوليا والأمراء اللمبردية أصحاب مدينة بنيوان، وأخذوا مدينة برندس ثم مدينة باري سنة ٨٣٩، وأخذوا المينا التي بالبحر الأدرياتيقي، فتمكنوا أن يخربوا سواحل دلماسيا وسواحل الأقاليم الشرقية من إيطاليا، ويهددوا بلاد بيولوبونيسة والجزائر اليونانية بالتغلُّب عليها؛ حيث تركها سلاطين القسطنطينية بلا إغاثة، وأخذوا مدينة ترنتة سنة ٨٤٤ زمن الفشل بإيطاليا، وأغاروا على دوقة بنيوان وخربوا الدير الكبير الكثير الأموال المسمَّى دير جبل قسين، وأغاروا على مدينتي غابيطة وأماقي، فقابلهم أهلهما بعظيم البسالة ومدينتا سالرنة ونابلي إذ ذاك في خطر عظيم، وبنى العرب قلعةً على مصب نهير غار يليانون ثم أرادوا السفر في نهر التبر إلى داخل البلاد؛ فأمر البابا برومة أن يعلوا الناس سور مدينة أستيه، فأغاروا على ضواحي مدينة رومة، ونهبوا كنيستي ماري بولص وماري بطرس، وعادوا بالغنائم سنة ٨٤٦، فهدموا الاستحكامات الحربية في سويطا ويكشيا، ثم عادوا للإغارة على أقاليم إيطاليا سنة ٨٤٨، فوجدوا سلسلة حديد معترضة بنهر التبر وجميع البلاد شاهرة أسلحتها تحت قيادة البابا ليون الرابع، فذهبوا إلى جارجليانو.
وقد حرك ما كان بمدينة رومة من الأخطار غيرة ملك إيطاليا لويز الثاني؛ حيث تصدى للمحاماة عن النصارى، ونزل في إقليم بوليا، وقاتَلَ العرب سنة ٨٦٨ في نواحي مدينة لوسيرة سنة ٨٦٧، فغلبهم وقاومهم ثلاث سنين حتى أخذ مدينة باري سنة ٨٧١، ثم استعان باليونانية وغلب العرب بمدينة سالرمة سنة ٨٧٥، ولم يترك بأيديهم من إيطاليا إلا مدينة ترنتة، ثم تعاهد العرب بعد خروجهم من إيطاليا مع أهل مدائن نابلي وأمالقي وسالرنة، وتوجهوا إلى ممالك الكنيسة الكبرى الرومانية، وهددوا البابا حنا، وتغلَّبُوا على بلاده حتى على مدينتي رومة وراوينة، فأبعدهم عن بلاده بوعدهم جزية قدرها خمسة وعشرون ألف رطل فضة كل رطل ثماني أواقٍ، ثم ذهب سنة ٨٨٠ إلى ملك فرنسا ثم ملك ألمانيا يستنجدهما، إلا أن العرب انكفُّوا بعد مشارطته على هذه الجزية عن الغارة على إيطاليا، وكان نهبهم مدينة قابو آخر غاراتهم حتى انتهى القرن التاسع من الميلاد.
وقد كابَد أهل مدينة البنادقة مشاقَّ كثيرة من العرب، واستعانوا سنة ٨٧٠ باليونانية، فغلبهم العرب، وتمكنوا من أخذهم مدينة غرادو، وتسلطنوا في النصف الثاني من القرن التاسع الميلادي على سواحل البحر الأبيض المتوسط، وملكوا غير جزيرة سيسيليا جزائر مالطة وغزو وكامينوا وبنتلاريه، وأخذوا بعد مدينة بالرمة جزيرة سردينيا، وأخذوا أيضًا بقرب مدينة سنت ترويز محطة مهمة تعرف بمحطة فركسينيت التي سهلت للعرب الطريق إلى جبال ألبه بلا منازع، وذلك سوى ما أخذوه من جزيرة قرسقة والجزائر البليارية.
وبذلك يعلم أن ما حازه العرب من الفتوحات بالبحر الأبيض المتوسط تعلو فتوحات عرب إفريقية وعرب إسبانيا.
المبحث السادس: في سلب الفاطمية السلطنة من الأغلبية وتداخل خلفاء قرطبة بينهما
قد حسن الأغلبيون سياستهم بحسن معاملتهم ورفقهم بالناس، وصدوا الطولونية المُغِيرِينَ عليهم حين استقلوا بأحكام الديار المصرية، ثم تسلطن منهم أبو إسحاق من سنة ٨٧٧ إلى سنة ٩٠٢، وفعل مظالم أبغضت بها الناس عائلته، فأخذ العلوية يثيرون الناس عليه، وبعثوا في البلاد رسلًا يخبرون أن السلطنة ستنقل إلى مهدي ثانٍ أخبر النبي بظهوره سنة ثلاثمائة هجرية، ووجوب المسارعة إلى طاعته، وما زالوا كذلك حتى بثوا هذه الدعوة لدى الرعايا، وقام على أبي النصر زيادةُ الله الأغلبي شقيقه وطرده من القيروان، ففر إلى مصر ثم إلى العراق العربي، ولقَّب عبيد الله الفاطمي نفسه بأمير المؤمنين بعد أن كان مكتفيًا بلقب المهدي، وأمر ببناء المهدية ليتخذها تختًا ويهجر القيروان، وشرع حين أشرفت على التمام في فتوحات انقاد له فيها جزيرتا سيسيليا وسردينيا، وسار برجال أخذ بهم صحاري برقة، وأخذ الجزية سنة ٩٣١ ممن استقلُّوا بالحكم كالملك الإدريسي سلطان المغرب الأقصى وعائلة مكناز في مكناسة والمدرارية في سجلماسة والرسطامية في طهرت وغيرها، ثم بعد عن تلك البلاد فعاد من بها إلى الشقاق، وأغار أمير مكناسة، فطرد أمير فاس الإدريسي الذي بذل عرب زناتة نفوسهم له واستنجدوا الخليفة الأموي صاحب إسبانيا؛ فبعث كتائب مكثت بمدينتي طنجة وسبتة زمنًا عملوا فيه استحكامات حربية، ثم أغاروا على الفاطمية بفاس سنة ٩٣٣، فأخذوا فاس وتولى الإدريسي على جميع المغرب الأقصى من طرف الخليفة الأموي، ثم هجم في سنة ٩٥٤ قائد من قواد العساكر الأموية على تونس، فضرب عليها غرامات لنهبهم منه قبل ذلك سفينة بها أَرِقَّاءُ لخليفة قرطبة الأموي، فسار عبيد الله الفاطمي بجيش من كُتَامَةَ وصنهاجة مزق بهم سنة ٩٦٠ شمل والي طهرت من قِبَلِ الخليفة الأموي؛ ففتحت له مدينتا فاس وسلجماسة أبوابهما، وتبعهما سائر المدن إلا مدائن سبتة وطنجة وتلمسان؛ لاشتمالها على بقايا جيش والي طهرت، ثم ترك المعز لدين الله تلك البلاد، فعادت خطبتها إلى الخليفة الأموي.
المبحث السابع: في ترك الفاطميين بلاد المغرب للزيرية وتوطُّن العائلة الحمادية في مدينة بجاية
هذا ما كان عليه عرب إفريقية في ابتداء القرن الحادي عشر بعد الميلاد من أخذهم في الانفصال واقترابهم من الانحطاط، وكذلك كان عرب إسبانيا بعد أن مضى عليهم عصر طويل نالوا فيه عظيم الفخار والسلطان.
المبحث الثامن: في عز إسبانيا وجلالتها من الأموية وخلافة عبد الرحمن الأموي الأول
لبث هذا الخليفة بجزيرة إسبانيا على حالة التمدُّن مفارِقًا للجهالة والخشونة التي كان عليها الأمم الغربية ثلاثمائة سنة، خضع فيها مَنْ في أوروبا من المسيحيين لسلطان القوة، وعنيت فيها العرب بتحصيل العلوم والفنون اختيارًا لا جبرًا كما فعل الفرنج امتثالًا لملكهم شرلمانيه، وشاركت الخلفاء الرعايا في الآراء العامة، واشتياقهم إلى تقدُّم المعارف والصنائع، وظهرت في إسبانيا مبادي التمدن العربي من سنة ٧١١ بسبب نظامات أحدثتها الفتوحات الإسلامية، ثم كان بها حروب أوقفت إدراتها السياسية حتى جلس عبد الرحمن الأول الأموي على سرير الخلافة سنة ٧٥٥، فأزالها واتَّبَعَ الشعائر الدينية، فأثبت في عقول رعاياه احترام عائلته الأموية والشعائر الدينية، فنمت في أسرع وقت جميع وسائل السعادة العامة، وذهب من إسبانيا ما كان بإفريقية والممالك الشرقية من التعصُّب الديني الموجِب إراقة كثير من الدماء؛ لِانْعِزَالِ فرق العقائد عن السياسة وانحصارها في علمَيِ الآداب الدينية والفلسفة، ولم يخرج جدالها عن منهج الاعتدال، ولبث عبد الرحمن الأول في الخلافة إلى سنة ٧٨٧ حسن النظر السياسي لطيف الطبع شجاعًا يؤثِر ما تنتجه الفنون والصنائع من الأعمال الجليلة، وما تبتدعه العقول السليمة من الأشياء التي ترفع العقل وترقيه عن الزينة والتحلي بالجواهر الثمينة، لقَّبَتْهُ رعاياه بالعادل لما يرون من أن العدالة أول الفضائل.
المبحث التاسع: في اقتفاء خلفاء عبد الرحمن الأول آثاره وفي فخامة عبد الرحمن الثالث
ولي الخلافة بعد عبد الرحمن الأول ولدُه هشام سنة ٧٨٧، غلب عليه الحلم والإحسان؛ فأحبته رعاياه، وأنشأ عدة عمارات اكتسب فيها الفقراء والمساكين، فضلًا عمَّا يفيضه عليهم من بحار زكاته وصدقاته، نصح قبل وفاته ولده الحاكم بقوله: يا بني، إن الممالك ملك لله، وهو يؤتيها من يشاء وينزعها ممن يشاء كما يختار، وحيثما إنه قد أجلسنا على سرير سلطنة إسبانيا، فلنشكره جزيل الشكر الأبدي، ولنصنع الخير بخلقه لنكون عاملين طبق أوامره المقدسة؛ فإنه تعالى لم يجعل فينا الشوكة العظمى إلا لنفعل الخير بعباده، فلتجعل عدلك مستقيمًا بين الغني والفقير، وعامِلْ جنودك برفق وبر، وَأْمُرْهُم بالحماية عن البلاد وانهَهْمْ عن الظلم والجور بين العباد، وحامِ عن الفلاحين الذين نقتات من نتائج أشغالهم، واستلفت نظرك نحو مزارعهم ومحصولاتهم؛ حتى تكون الرعية سعيدة الحال في ظل سلطنتك، ولتتمتع الرعية في الأمن بخيرات الحياة ونعيمها. توفي سنة ٧٩٥ فخلفه ابنه الحاكم، وكان متكبرًا قاسيًا غليظ الطبع معتزلًا عن الناس، فأضاع بذلك بهجة علمه وشجاعته. اعتراه عند كبره خَبَلٌ حمله على الانتقام حتى غلبت عليه الحسرات عند موته سنة ٨٢١.
فخلفه ابنه عبد الرحمن الثاني المعاصر للمأمون العباسي، وكان كَجَدِّهِ هشام في الحلم والإحسان زائدًا عليه بشدة رغبته في الفنون، حف بالشعراء والبارعين في المويسيقى، فأحدث في أخلاق عرب إسبانيا عظيم الرقة حتى اختص ذلك بعد بالطائفة الشوالية، عاقب جارية فعلت غير مراده بسد باب مكانها بقطع من فضة، وكلفها هدم ذلك بيدها. مات سنة ٨٥٢.
فخلفه محمد الأول إلى سنة ٨٨٦ والمنذر إلى سنة ٨٨٨، وعبد الله إلى سنة ٩١٢ سلكوا المسالك الحميدة في تدبير الممالك ولزموا العدل، غير أنهم لم ينشئوا مباني لمقاتلات داخلية.
ولي بعدهم الخلافة عبد الرحمن الثالث سنة ٩١٢، فأدخل في إسبانيا علوم بغداد، واجتهد في تقديم العلوم والفنون، وجمَّل قرطبة ومدائن الأندلس بالمباني الفاخرة، وبنى قرب قرطبة لجاريته زهرة قصرًا وصفته التواريخ العربية بما لا يتصوره الذهن، وكان عصره أزهر أعصر خلفاء الأموية في إسبانيا لذهاب الشقاق والمخاصمات التي أطفأ نارها قريبه الأمير المظفر، وانقاد له المغرب الأقصى في إفريقية. وبالجملة كان حائزًا للنصر الحربي والعلم الفائق والمال الوافر والزينة وجميع أسباب الاشتهار الدنيوي، إلا أنه كان سيئ البخت؛ حيث قتل من أولاده واحدًا، كان يحزب الناس عليه ليتولى الخلافة بعده، ثم كف نفسه عن جميع الملاذِّ حتى مات سنة ٩٦١، فوجد في بعض أوراقه ما نصه أنه قد مضت خمسون سنة من منذ ما توليت الخلافة وتمتعت بعلو الشأن وكثير من خزائن الأموال والملاذِّ والحظوظ حتى أنفدت كل ما ظفرت به منها، وإن الملوك المقارنين لي في عصري يعتبرونني ويخشونني ويغبطونني، وجميع ما تشتهيه الرجال قد أنعم به الله عليَّ من فضله. وقد أحصيت في مدة خلافتي التي قضيتها في العز والسعادة الظاهرة الأيام التي ظننتني فيها سعيدًا فرأيتها أربعة عشر يومًا؛ فيا أيها الناس قدروا بعقولكم ما قيمة عظمة الملوك والدنيا والحياة.
المبحث العاشر: في محمد الحاكم الثاني وهشام الثاني وحكم المنصور
تولى الحاكم الثاني الخلافة سنة ٩٦١، فأعمل فكره فيما فيه سعادة الرعية وتكثيرًا لأشغال العامة النفع، وعدل عن الزخرفة فكثرت الأموال فنقص الخراج، ثم مات بعد ١٥ سنة وابنه هشام الثاني طفل، فتولى حكم إسبانيا المنصور الذي كان مقلَّدًا بحماية الخليفة حتى مات سنة إحدى وألف، فخلفه ابنه عبد الملك الملقب بلقب أبيه والجاري على نهجه حتى مات سنة ثمانٍ وألف، فتولى الخلافة هشام الثاني، وعجز عن مقاومة الأعداء لسوء تدبيره؛ فأخذت الدولة في الانحطاط.
المبحث الحادي عشر: في سياسة الأموية بإسبانيا واضطرابات تلك المملكة زمن خلافتهم
تولى الأموية الخلافة بقرطبة ثلاثة قرون فعلوا فيها فوائدَ نفيسة، منها أنهم لم يصرفوا إيراد إسبانيا في الغزوات البعيدة، وأضمروا بُغْضَ بني العباس الذين قتلوا الأموية بدمشق وسلبوا الخلافة منهم، وأراد الأمير يوسف أن يحكم إسبانيا نائبًا عن خلفاء العراق العربي، فصدت الأموية غارة معاهده علي بن مغيث والي قيروان من غير أن يشهروا سلاحًا، واستمالهم اليونانية في سني ٨٢٣ و٨٤١ و٨٤٩ إلى قتال عرب ممالك الإسلام المشرقية، فقبلوا ذلك ووعدوهم المساعدة، ولكن لم يفعلوا من ذلك شيئًا، وكان بالمغرب الأقصى قبائل الزناتة عاصين ففتحوه سنة ٩٣١ بعد ذهاب كثير من الرجال والنقود، ولم يحدثوا نزلات إلا في إفريقية، بل اقتصروا منها على المغرب الأقصى لسهولة بعث جيوشهم إليه، وأوقفوا بفتحهم المغرب تقدُّمَات الفاطمية العازمين إذ ذاك على الإغارة على إسبانيا قبل الديار المصرية، ولم تزل قرطبة مركز حكومتهم ثلاثمائة سنة تخلَّفوا فيها مع انحصار القوة النافذة الحُكم في رجل واحد منهم، إلا أن الفتن ما زالت تشتعل بينهم ويُطفِئُونَهَا، ومنها ما كان في ابتداء القرن الثامن الميلادي؛ فإن عبد الرحمن الأول عهد بالخلافة لابنه الثالث هشام الأول فشَقَّ ذلك على ولديه الأول والثاني، وهما سليمان وعبد الله اللذان حاربا أخاهما سنة ٧٨٩ ليسلُبَاهُ الخلافة أو يستقلا ولو في إقليمي مريدة وطليطلة، فهزمهما في واقعة بلش، ثم انقادا له وعَفَا عنهما، ثم مات سنة ٧٩٦ ميلادية، وخلفه ابنه الحاكم فثار عليه عماه سليمان وعبد الله في كثير من ولاة البلاد طالبَيْن قسمة إسبانيا أثلاثًا، فهزمهم الحاكم في واقعة لرقة، ثم في واقعة أخرى بسهول مدينة مرسية سنة ٨٠٠ التي مات فيها سليمان، وقد عفا عن عبد الله ثم مات سنة ٨١٢، فخلفه ابنه عبد الرحمن الثاني، وسارع يُجَيِّشُ إلى مدينة والنسة التي وثب إليها عبد الله عم أبيه في كثير استأجرهم من رجال إفريقية فخيره بين الحرب والانقياد إليه، فاختار الحرب ثم نكص عنها لأمر رآه وألقى نفسه بين الخليفة عبد الرحمن سنة ٨٢١، فقابله بالاحترام وأباح له التصرُّف في أمواله الخاصة، ثم سعى أولاد الأمير عبد الله سنة ٨٩٥، والخليفة عبد الرحمن الثالث سنة ٩٤٩ في تقويم الرعية، فأخمدا نار تلك الفتنة بتدبيرهما، ولم يَكُنْ بين الخلفاء الأموية غير هذه الحرب إلى القرن الحادي عشر بعد الميلاد، وأما ولاة الأقاليم الإسبانية فقد أبدوا للخلفاء معارضة، ولم يمتثلوا أوامرهم إلا خوف أن يسلبوا مناصبهم، بل طمعوا في الاستقلال حين رأوا أنفسهم ذوي قوة، واستعدوا للإعلان بالاستقلال إذا رأوا خليفة حَلَّتْ به مصيبة. وأما الولاة الذين أوقعوا المسلمين في أكبر الورطات بعد تشتيت أحزاب الأمير يوسف فهم ولاة كارمونة وبايظة المعينين لعلي بن مغيث على غزواته سنة ٧٦١، ووالي طرسوس المساعد للأمير سليمان وأخيه عبد الله على عصيانهما مرات، ثم أضرم القتال في شمال إسبانيا مدة سنة ولاة سراقسطة ومريدة وطليطلة وحوسقة حين حثهم على ذلك رجلان لا يعرف أصلهما، وهما عمر بن حسن وابنه كالب، وكان عمر لصًّا يقطع الطريق، ثم سار بولده إلى بلادٍ بين بلاد النصارى والمسلمين مظهرًا أن يسكن بلادًا حائرة عن الفريقين يعتبر فيها الدينين على السواء، ثم عضده كثير من الولاة والقُوَّاد وحكم من سنة ٨٦٣ إلى سنة ٨٦٦ أكثر إقليم أراغون، ثم غلبه الخليفة محمد، فالتجأ إلى جبال برينة بين إسبانيا وفرنسا، وألف جموعًا فتحوا بمساعدة ملك إيالة نوارة إقليم أراغون ثانيًا من جبال برينة إلى نهر إبرة، ثم قتل في واقعة أيبر، فأخذ ولده كالب بثأره وشد عزمه لمقاومة المنذر، وأخذ طليطلة وكذا قونسة سنة ٨٨٦ بعد أن فتحت له أبوابهما، ثم سار بجيوشه حتى قرب من الوادي اليانع ومن الوادي الكبير، وهو يثير أعداء الخلفاء عليهم في سائر الجهات من سنة ٨٨٨ إلى سنة ٨٨٩ ميلادية وملك جميع البلاد من مدينة طالورة إلى منبع نهر التاج، وكذا إيالة أراغون وجزء من إيالة قطالونية والسواحل من مدينة طرسوس إلى مدينة مرسية، وارتاح من مناوشات المسلمين، فأصر على الإغارة على النصارى، فانهزم في واقعة زامورة سنة ٨٩١، وتعصب عليه الخلفاء الأموية وملوك مملكة ليون؛ فانتصر عليه الخليفة عبد الرحمن الثالث سنة ٩١٣، فانقاد له جميع الجهات الشرقية من إسبانيا، ورجع إليه بعد شهر مائتا مدينة، فلم يَبْقَ بيد كالب إلا طليطلة ومدن قليلة من إيالة أراغون، وبقي بعد ذلك عشر سنين مقاومًا لأعدائه المذعورين من بطشه الشائع، ثم مات بعد سنة ٩٢٢ فتفرَّقَ حزبه إلا طليطلة؛ فإن سكانها يهود ونصارى كانت لهم الغلبة السياسية في إسبانيا، ثم انقادوا للحكم الإسلامي قهرًا حتى انتهزوا فرصة عصيان الأموية، فما زالوا كذلك مرتَقِبِين أن يعود إليهم ما ذهب حتى كابدوا بعد موت كالب أهوال المجاعة، فانقادوا سنة ٩٢٧ وكانوا قبل حزب كالب مجبورين على الانقياد للحاكم سنة ٨٠٠، وعبد الرحمن سنة ٨٢٨ إلى سنة ٨٣٨، ومحمد الأول سنة ٨٥٣ إلى سنة ٨٥٩.
وكان في هذه المدينة من أنواع العصيان الهائلة ما لم يوجد في عصيان مدينة مريدة سنة ٨٢٧، وعصيان جبال الويرة سنة ٩٢٦ الناشئين عن التشديد في تحصيل الخراج، وأن ترتب عليهما مقاتلات في نواحي البكزرَّا وشواطئ نهر التاج، كما عصت قرطبة الحاكم بن هشام سنة ٨١٧ ميلادية حين رتب لحفظه خفراء جعل لهم جمارك المتاجر المجلوبة من البلاد الأجنبية، فكان بذلك في سائر الجهات ثورة أراد الخليفة العقاب عليها، فانقض الناس على خفرائه وذَبَحُوا منهم كثيرًا، فسار بمماليكه وعبيده لقمع أهل قرطبة فهرب من وجد له مفرًّا، ونهبت بيوتهم في ضواحي المدينة، وارتحلوا بعائلاتهم من إسبانيا، وتوجه بعضٌ إلى ناحية فاس فأكرمه أميرها إدريس بن إدريس، وصار الباقي لصوصًا بحرية نهبوا الإسكندرية وفتحوا سنة ٨٢٠ جزيرة كربد، ثم أنشئوا فيها مدينة قندية سنة ٨٤٣.
وكان الأوائل من خلفاء عبد الرحمن الأول يَتَّخِذُونَ خُفَرَاءَهُمْ من مغاربة الزناتة، ثم أحضر عبد الله من القسطنطينية سنة ٩٠٠ من الميلاد ومن بعده أَرِقَّاء من سلاوونية، وعلَّموهم حركات السلاح، واتخذوهم خدمًا انتفت بهم المشاجرات بين العرب وبربر إفريقية من سنة ٧٥٥ إلى سنة ١٠٠٨ ميلادية، ولم يكُن لهم دخول في السياسة لقوة الخلفاء حتى أخذت الدولة في الانحطاط في ابتداء القرن الحادي عشر، فظهر تداخلهم في الأمور السياسية.
المبحث الثاني عشر: في حروب المسلمين مع النصارى بإسبانيا
كان عرب إسبانيا متوطِّنين في أقاليم سبتيمانية خلف جبال برينة لديهم مخاصمات واضطرابات، مع احتياجهم إلى مقاومة النصارى بأقاليم استورية وبلاد الغالة وجبال برينة وجبال مملكة أوقييد، وكذا بحدود إيالة جاليسة؛ فإن الأمير ببلاد الغوطي ألزم أمراء إسبانيا قبل عبد الرحمن الأول أن يتركوا بهذه الحدود إمارة صغيرة تأوي إليها النصارى.
وملك القس الثاني المتسلطن سنة ٧٩٣ إلى سنة ٨٤٢ ما بين ابتداء نهر منهو وشواطئ نهر الدويرو، وحصر مقاتِلَتَهُ العرب في حوالي مدينة زامورة، ومات الملك شرلمانيه فاستقل ولاة البلاد بالحُكْمِ، وقاتلوا الجيوش الإسلامية عند مرورها بإسبانيا، وتلقب والي نوارة سنة ٨٣٥ بالملك، وأخذ يُغِيرُ على بلاد قسطيلة وأراغون، فكان إذ ذاك بين النصارى والمسلمين حرب عَمَّتْ دماؤها الأرض؛ فإن الخلفاء وملوك النصارى وإن تهادنوا مرات على ترك الحرب إلا أن سكان الحدود الفاصلة بين البلاد الإسلامية والنصرانية لم يَكُنْ بينهم مهادنة، بل كانوا دائمًا يتواعدون الملاقاة في تلك الحدود، ثم كان سنة ٨٧٢ واقعة على شواطئ نهر صهاجون الملتقى بنهر الدوير، وقاتل فيها عساكر ملوك نوارة وليون تحت لواء واحد، وسفك فيها كثير من الدماء، ولم يظهر أحد الفريقين على الآخر وسنة ٨٧٨ واقعة في سهول مدينة زامورة نصر فيها الملك ألفنس الثالث المشهور بالأكبر، وملك في هذه الواقعة زامورة، وتيسر له السبيل إلى البلاد المروية بنهر التاج؛ فأغار أهل غاليسة على مدن ويزو ولاميغو وقومبرة وسالمنك حتى مدينة طالورة، فظهر كمتات قسطيلة، وانتهزوا الفرصة بعصيان عمر بن حسن وابنه كالب في توسيع دائرة شوكتهم.
ولم تزل الأموية مشغولين بما بينهم من المشاجرات الداخلية عن محاربة النصارى الذين تقدموا في غزواتهم، حتى كان بين كمتات قسطيلة وملوك نوارة وليون تنازُع انتهز به الخليفة عبد الرحمن الثالث الفرصة في إعادة عصاة المؤمنين إلى طاعته، وقد حرض أولاد كالب رامير الثاني، فجال في البلاد حتى بلغ طالورة ففتك بها ضربًا بالسلاح، وإحراقًا بالنار، فبعث عبد الرحمن جيشًا هائلًا إلى بلاد غاليسة ومملكة ليون، فهزموا ملك ليون على شواطئ نهر الدوير وسنة ٩٢٩، ثم سار النصارى سنة ٩٣٤ في بلاد لوزيتانيا حتى بلغوا مدينتي بداجوز وإسبونة، ورجعوا خوفًا من الجيوش الإسلامية.
وخلفه في الوزارة ابنه عبد الملك وأخذ يحارب النصارى في سهول قطالونية وليون من سنة ١٠٠١ إلى سنة ١٠٥٨، وكان النصارى يفوقون عرب إسبانيا في معرفة الفنون الحربية وعلى شريفهم ووضيعهم اتِّبَاع الملك في الغزوات بخلاف عرب إسبانيا فمخيرون في السفر للجهاد إلا إذا اسْتُنْفِرُوا فينفرون جميعًا مدة محدودة؛ ولذا كان للنصارى الفوقان عليهم في المعارك الحربية. وأما نصرات الوزير المنصور فلحمية كان يثيرها في عساكره الذين كان اندفاعهم على الأعداء لا يُقاوَم.
نعم كان للعرب في المعارك البحرية قوة لا تعادل ما كان لهم في مينيات قادس والجزيرة والمنقار والمرية وطرطوس وطراغونة من السفن المصنوعة بالمدن الثلاثة الأخيرة ومدينتي قرطاجنة وإشبيلية، وكان من الرعية كثير يجهز سفنًا تجارية ينقل فيها تجارات المشرق إلى إسبانيا، ومنهم من يصنع للسرقة سفنًا يُغِيرُ بها على سواحل إسبانيا وفرنسا وإيطاليا، وتعود عرب إسبانيا لبس الدروع والزرد، وقضى رؤساؤهم شبيبتهم في تعلُّم حركات المزاريق والسيوف التي استعملوها حين فتكهم بالنصارى الذين لم يعرفوا ذاك أن يقدَّموا تعلُّم الفنون الحربية على الفِلَاحة أو التمتُّع بالملاذّ الذي استلزمه تقدمهم في التمدن.
المبحث الثالث عشر: في إنشاء عرب إسبانيا نزلات ومحال إسلامية في جزائر البحر الأبيض المتوسط اقتداءً بما فعله الأغلبيون وفي دهمهم إقليم برونسة وإنشائهم نزلة في مدينة أفركسينيت وفي غارات القوم النرثمانية
توطن العرب سنة ٨٢٠ ميلادية في جزائر بليارة، وأخذوا سنة ٨٤٠ جزيرة قرسقة، فبقيت مستقلة عن غيرها بالحكم إلى سنة ٨٥٠، وخربوا نواحي مدينتي مرسيليا وأرلس مرات، ووجدوا في نواحي مدينة سنترويز بقعة يمكنهم أن يَنْقَضُّوا منها على جميع إقليم برونسة، فنزلوا في محطة أفركسينيت سنة ٨٨٩، ومكثوا فيها جميع القرن العاشر. تزوج بعضُهم نساء تلك الجهة، واشتغل بفلاحة أرضها، واشتغل بعض بقطع مرور الناس من فرنسا إلى إيطاليا، ثم جال سنة ٩٣٥ في إقليمي تارنتيزة ووالس، ثم في بلاد سويسة التي نهبها المجر قبل ذلك، وألزموا سكان مدينتي فريجوس وطولون سنة ٩٤٢ بالمهاجرة منهما. وقد همت مملكة سويج ونرويج المُسَمَّاةُ أيضًا بالمملكة الإسكنديناوية بالغارة على إسبانيا؛ حيث أخرجت سنة ٨٤٣ في أرض لوزيتانيا المسماة الآن بمملكة البرتغال في غرب إسبانيا جيشًا من النرثمانية للاستيلاء على مدينة لسبونة التي استنجد واليها جيرانه لصدهم، فذهبوا إلى مدينة صيدونة بإقليم الغرب ودهموها، وساروا سنة ٨٤٤ في نهر الوادي الكبير حتى بلغوا إشبيلية، فنهبوا نواحيها، وأرادوا التوطُّن بها فأَجْلَتْهُمْ مشايخ القبائل العربية، وأَرْسَوْا سُفُنَهُمْ قرب مدينتي ملاغة وقرطاجنة، فنهبوا المسجد الشهير بمدينة الجزيرة، ثم ارتحلوا وأفرطوا في النهب والتخريب، فحافظت الخلفاء بالسفن في جميع جهات السواحل، وبعثوا لطرد هؤلاء النرثمان سفنًا حربية طردتهم وبعدت، فقد شوهد منها سفينة في مصب نهر لوارة غرب فرنسا على ما هو مُدَوَّنٌ في التواريخ القديمة باللغة الإنكليزية.
المبحث الرابع عشر: في اتساع أفهام العرب الإسبانية وحسن أخلاقهم واستعدادهم العقلي
فاق عرب إسبانيا الفرنج في العلوم والصنائع والأخلاق كبذل النفس والكرم، مع ما امتازوا به من معرفة قَدْرِهَا وعزتها الناشئة عمَّا اعتيد عندهم من تلاقي الخَصْمَيْنِ بالسلاح؛ ولذا حلف بعض قواد العساكر أن لا يعود إلى مقابلة الخليفة عبد الله حين سخر من لحيته، وقد أَبَرَّ في يمينه وأيقنت الفرنج ملوك قسطيلة ونوارة بصداقة عرب إسبانيا وإكرامهم للضيوف، فذهب عدة منهم إلى قرطبة يستشيرون حكماءها المشتهرين بالطب، وكان هؤلاء العرب في سائر الجهات منقادين لأبي العائلة، مبجلين للشيوخ، ذوي غَيْرَةٍ شديدة على مراعاة العدل، أفقرهم كأكبرهم في الاعتناء بحفظ العائلة من العار، لا يمنع خمول أصل أحدهم من الوصول إلى أرقى المناصب، غير معوِّلين في اعتبار الشخص على شرف حسبه ونسبه فقط، بل مع اعتبار فضائله وأخلاقه؛ لأنهم لم يكونوا إذ ذاك باقين على ما كانوا عليه زمن فتح إسبانيا من الإضرار بالحرية البشرية لتغلُّب الدين على عقولهم، بل كانوا متفنين في الفهم والعمل بالقرآن الدال على أهمية اكتساب الفضائل والأعمال الصالحة؛ ولذا كان الخلفاء يُشَوِّقُونَ الناس إلى الشغل ووقاية الأملاك من العدوان، وكان قضاتهم يَرَوْنَ أنفسهم كالمُحَكَّمين بين الخصوم لا قضاة، ولا يتجاوزون الرفق بالناس إلا نادرًا.
والذي ساعد هؤلاء العرب على بلوغهم شأو العظمة اتساع العلوم والفنون والفلاحة والصنائع. ذاق جميعهم لذة المعارف وتنافسوا في ابتكار ما يمتازون به، وكان اقتراحهم الشعر يرفع قدر نفوسهم، ولا بد لقضاتهم من حوز معلومات غويصة حتى يعتبرهم الناس زمن قيامهم بوظائفهم، وكانوا يكتُبُون على جميع المباني الجليلة اسمي المهندس والآمر بالتشييد ويُجزلون الثناء على كل ماهر في فن، وقد بلغوا الدرجة العلية في فنون العمارة والمويسيقى والقريض؛ ولذا اقتفى الفرنج أثرهم في أساليب أبنيتهم وزخارفها.
وأتقن علي بن زناب أجناس الأصوات وما في الصوت البشري من الوسائل والطرق النغمية. أنشأ في قرطبة مدرسة وركب للعود وترًا خامسًا بعد أن كان بأربعة، ومارسوا ضروب الشعر خصوصًا نظم الحكايات المشتملة على نكت مُشَوِّقَةٍ، فبرع فيها كثير من الرجال وبعض النساء، وتعلَّمُوا في المدارس علوم الفلك والجغرافيا والمنطق والطب والنحو والهندسة والجبر ومبادئ علم الطبيعة والكيمياء الطبية والتاريخ الطبيعي، وهو علم المواليد الأرضية الثلاثة.
مُلِئَتْ كتبخاناتهم نسخًا منقولة من كتب قدماء العلماء اليونانيين ومن كتب فلاسفة الإسكندرية، واستمد جوبرت بابة رومية المدائن آخر القرن العاشر من إسبانيا معارف عجِب منها أبناء عصره من النصارى فاتهموه بالسحر.
المبحث الخامس عشر: في صنائع عرب إسبانيا وتجارتهم وفلاحتهم ومبانيهم وأشغالهم العامة
فاق عرب إسبانيا غيرهم في الصنائع، عثروا على معارف الرومان والفينيقيين، فاستخرجوا بها المعادن المطروقة وعلى معادن أخرى كمعادن الزئبق، وكذا معادن الياقوت التي وجدوها قرب مدينتي ملقا وبجاديكاميريس، واستخرجوا من البحر بقرب سواحل الأندلس المرجان وبقرب طراغونة اللؤلؤ، وأتقنوا صناعة الدباغة ونسج القطن والكتان والتيل، وبلغوا أقصى الغايات في صناعة الأقمشة الحرير والصوف، ولم يتحدث الناس بالمشرق وسواحل إفريقية إلا في حسن صناعة نصال السلاح بطليطلة والحرير بغرناطة، والسروج والجلود السختيان بقرطبة. ورغب جميع أهل أوروبا كل الرغبة في الجوخ الأزرق والأخضر المصنوع بقونسية والبهارات والسكر بوالنسة، واتَّجَرُوا مع ذلك في نحو الزيت ودودة الصباغة والعنبر الخام والبلور المعدني، وهو بلور الصخور والكبريت والزعفران والزنجبيل، ولا مانع أن يكونوا استعملوا أوراق الحوالة المسماة بين التجار بالكمبيالة التي عُزِيَ ابتكارها إلى الأمة اللمبردية، أو استعملوا طريقة تماثلها.
وكانوا يرسلون بضائع إلى تجار بالممالك الشرقية، فيرسلون إليهم بدلها نحو العود القافلي والكافور وأكراك السمور الخراسانية والبُسُط الفارسية، وبذلوا غاية عنايتهم في الفِلَاحة التي أَدَّوْهَا، وبقيت آثارها في سهل هوسطاة بالنسبة وسهل ويغات غرناطة الواصلين بالري إلى أقصى درجات الخصوبة، وقد أبدعوا في طريقة ري سهل هوسطاة الذي يقسمه إلى نصفين نهر طونة الذي يصب في البحر قرب والنسية؛ فإنهم أوقفوا ماء هذا النهر بجسر مانع على فرسخين من مَصَبِّهِ، ثم قطعوا منه سبعة جداول ثلاثة في شاطئ وأربعة في آخر، يفتح كل فرع منها في يوم من الأسبوع بحيث يرتفع الماء إلى المستوى الضروري، وقسموا كل جدول من تلك إلى جداول ثانوية صغيرة يفتح كل منها في ساعة بعد حصول ذلك الارتفاع حتى يصل الماء إلى أصغر مربع من الأرض؛ فكان كل جدول مع فروعه على هيئة مروحة، ولعدم انحدار ذلك السهل انحدارًا هندسيًّا تدريجيًّا رتبوا له مساقي صغيرة وقناطر عليها مجاري مياه موزعة على المزارع، وبالجملة فعلوا بذلك السهل ما استحق به أن يلقب ببستان إسبانيا، وصنعوا لما لا يمكن سقيه بهذه الكيفية ما يسمى لدى العامة بالسواقي، وحفظوا مياهها في حياض أو جداول يُصرَفُ منها عند الاحتياج، ونقلوا إلى إسبانيا الزراعة بقواعدها العلمية من آسيا وكلدة والشام، وأخذوا يبذرون الحَبَّ في الأرض بمجرد حصاد ما فيها ويأخذون منها كل سنة ثلاث حصائد، وزرعوا بها الأرز والقطن والتوت وقصب السكر والنخل والفستق والموز ودوحة الكاملياء الحمراء والبيضاء وأزهارًا وبقولًا، نقلت بعد إلى جميع البلاد الغربية من أوروبا وورد بابونيا.
وكان في الجزء الذي يملكه المسلمون من إسبانيا ست تخوت وثمانون مدينة كبيرة وثلاثمائة مدينة أقل ممَّا قبلها، وما لا يحصى من الضياع والقرى والكفور، وفي قرطبة وحدها ٢٠٠٠٠٠ بيت و٦٠٠ مسجد و٥٠ مستشفى للمرضى، و٨٠ مدرسة كبرى عامة، و٩٠٠ حمام سوقي، وعدد ساكنيها مليون. وبذلك يُعلَم أنها ليست الآن على حالتها القديمة، وأنه لا وجه لاستغراب ما كانت عليه من عظيم الثروة والزخرفة اللتين تنافس في إظهارهما عليها الخلفاء، الذين وصلوا إلى حيازة ما في المملكة من الأموال بترتيب العشور والخراج والجمارك وفردة التجار. ويؤخذ من ذلك أن وارد هؤلاء الخلفاء كل سنة يبلغ ١٢ مليونًا و٤٥٠٠٠ دينار من الذهب سوى خُمس غنائم الحرب وجزية اليهود والنصارى، ومع ذلك كله لا يزال العقل متعجبًا من كثرة ما بذله عرب إسبانيا في مبانيهم؛ فإن مسجد قرطبة الباقي الآن يضاهي في الفخامة المسجد الأموي بدمشق طوله ٦٠٠ قدم وعرضه ٢٥٠ قدمًا، وفي عرضه الأيمن ٣٨ صحنًا، والأيسر ٢٩ صحنًا، وفيه ١٠٩٣ عامود رخام، وفيه من جهة الجنوب ١٩ بابًا مبطنة بصفائح من نحاس النوج (نحاس المدافع)، وأوسطها مرصع بصفائح ذهب، وبأعلاه ٣ أُكَر مُذَهَّبة فوقها رمانة من العسجد وقناديله ٤٧٠٠ أحدها في المحراب من الذهب الإبريز، ويصرف عليه كل سنة ٢٤٠٠٠ رطل زيتًا و١٢٠ رطلًا من العنبر والعود القاقلي، وكانت هذه المدينة تصبح مضيئة وحاراتها مُطَيَّبَةً بما يُلقَى فيها من الزهور مع استعمال الألحان المطرِبة في المتنزهات والميادين العامة.
وقد أسلفنا الكلام على مدينة زهرة وقصرها الذي بناه الخليفة عبد الرحمن الثالث على شواطئ نهر الوادي الكبير على فراسخ قليلة من قرطبة، ولم يَبْقَ له أثر وحكى فيه مؤرخو الإسلام ما نصه أن قباب القصر المذكور كانت على ٤٣٠٠ عامود من أنواع الرُّخَام كلها منقوشة بالمزينات على حَدٍّ سواء، وكانت أرضه ومواطنه مُرَخَّمَةً بترابيع الرخام المختلف الألوان بأظرف وأجمل تشكيل، وكانت حيطانه مبطَّنة أيضًا بتلك الكيفية وسقوفة منقوشة باللازوردي والذهب، وكان في مساكنه العظيمة فساقي مياه عذبة تنصب وتغيب في أحواض من الرخام الأبيض واليشم المتنوِّعَة أشكالُه، وكان يشاهد في قاعة جلوس الخليفة فسقية يخرج من وسطها صورة بجعة من ذهب معلقة فوق رأسها لؤلؤة عظيمة، وكانت تلك البجعة قد صُنِعَتْ في مدينة القسطنطينية. وأما اللؤلؤة فهي هدية أهدى بها السلطان ليون حضرة الخليفة، وكانت قد أُنْشِئَتْ حول القصر بساتين واسعة وبُنِيَ في وسطها أيضًا قصر منفرد لكي يستريح فيه الخليفة بعد رجوعه من القنص. وكان هذا القصر المُعَدُّ للاستراحة مبنيًّا على أعمدة من رخام ذوات تيجان مُذَهَّبَةٍ، وكان ينبع في وسطه عين ماء صافٍ كالزئبق بياضًا، وتنصب من فم الفسقية على هيئة جرزة القمح في إناء مستدير مصنوع من الفرفيري. ا.ﻫ.
ولم يصرف جميع أموال خلفاء إسبانيا في المباني الفاخرة لتزيين المملكة فقط، بل صُرِفَ بعضها في عمارات نافعة؛ فقد بنى الخليفة الحاكم قناطر، وفتح طرقًا أنشأ فيها محطات للسياحين، وبنى في قرطبة مسجدًا سماه باسمه، وكان إنشاؤه باهتمام المقلد في هذه المدينة بالضبط والربط وقيادة جيوش المملكة، وبالتأمل فيما أسلفناه يعلم أن عرب إسبانيا أول الأمم المتمدنة في القرن الحادي عشر بعد الميلاد، بل كانوا يفوقون في ذلك العصر جميع أمم أوروبا، إلا أن ميلهم إلى الشقاق أثار بينهم نار الحرب، وعجل دمار سلطانهم في ذلك الزمان المحتاجين فيه إلى نفوذ كلمتهم؛ ليتمكنوا من مقاومة نصارى إسبانيا.