الباب الثاني
المقدمة
قد اتسعت العلوم الطبيعية زمن اتساع العلوم الرياضية، ولكن لا نعرف عصر نشأتها لتسلسل التصوُّرات في جميع الأشياء التي يجول العقل فيها نعم الاشتغال بمعرفة حقائق الكائنات العلوية والسفلية، وتفصيل ما يتعلق بها، وضبط قياس الحركة والفضاء الذي تتم فيه بواسطة التأمل في الطبيعة، حدث زمن أرسطاطاليس، على أن ذلك البحث كان في الغالب متعلِّقًا بالأجسام العضوية، وهي الحيوان والنبات، ثم ارتقى ذلك زمن العرب إلى درجة البحث عن القوى الطبيعية والجواهر الأوَّلية التي تحلل لإدخالها في مركبات أخرى؛ لأنهم كانوا يسكنون بحيث جزيرة العرب ما بين مدينة مسكات ومكة الذي به كثر من البهارات والصموغ البلسمية والجواهر النافعة والضارة بالإنسان، فالتفتوا إلى مزايا ما بأرضهم من النباتات النافعة في الطب والصنائع وزينة المعابد والقصور، ومثلهم من في سواحل مالابار وسرنديب (سيلان) والسواحل الشرقية من قسم إفريقية، فتحصل كل على مزية لم يعلمها الآخر إلا بواسطة تجارات أتت من مخزن جرها الذي بين الخليج الفارسي واليمن، وجابت بحيث جزيرة العرب حتى بلغت كنعان والشام، وأما البحث عن الجواهر الطبية الذي مدحه ديوسقوربدس لأهل مدرسة الإسكندرية فمن مخترعات العرب؛ فإنهم المنشئون للأجزاخانات الكيماوية والموروث عنهم ما يسمى الآن بقواعد تحضير الأدوية الذي انتشر بعد من مدرسة سالرنة في الممالك التي في جنوب أوروبا.
المبحث الأول: في علم الكيمياء
قد أدى إنشاء الأجزاخانات والمادة الطبية — اللتين هما أول ما يلزم لفن الطب — إلى الاشتغال بعلم الكيمياء الذي كان ابتداء العرب في التمدن مبدأ للاشتغال به، وهو عبارة عن مجرد التحليل والتركيب لا تركيب الذهب والفضة المسمى بالكيمياء السرية والإكسير والحجر المكرم. وقد أوصلت العمليات الهرمسية — وهي تراكيب الملاغم والمخلوطات المعدنية التي عملت في المعادن المطروقة — إلى أبدع الاستكشافات المعدنية، وعرف تركيب الكبريتيك والماء المعشر والماء الملكي، وتحضير الزئبق وتخمير الجواهر الكئولية، وغير ذلك من مؤلفات أبي موسى جعفر الكوفي المشتهر في القرن الثامن من الميلاد والفخر الرازي المتوفى سنة ٩٢٣ من الميلاد.
المبحث الثاني: في علم النباتات والمادة الطبية والاقتصاد الزراعي
لسعة اطلاع العرب على مزايا النباتات، أدخلوا في الأدوية نباتات جهل اليونانيون خواصها كالراوند وشحم التمر الهندي وخيار شنبرو ورق السنا المكي والإهليليجات والكافور، وعرفوا أنواع الطيب الذكية كجوز الطيب والقرنفل وغرسوا عدة أشجار من ذوات الزهور المذكَّرة والمؤنثة، وعرفوا ما يتعلق بخصب آلات الذكورة والأنوثة ورأوا استعمالهم السكر في الطب أفضل من استعمال القدماء العسل، فأدخلوه في مركبات كثيرة كشراب الورد وأشربة جُلَّابِيَّة (بضم فشد) ومعاجين كثيرة، واشتغلوا بعلم الجيولوجية، وهو معرفة تركيب طبقات الأرض، وتكلم ابن سينا في المادة الطبية على شجرة الأرز المسماة ديودفارة النابتة في جبال هيماليه، وجعلها نوعًا من الشجر المسمى جونيبيريس الداخل في تركيب زيت الترمنتينا، وقد أنشأ عبد الرحمن الأول خليفة قرطبة بستان نباتات بقربها، وبعث إلى الشام وغيره من الممالك المشرقية سَيَّاحِينَ لجمع البذور النادرة، وكان قد غرس بقرب قصره في الرصافة أول نخلة في قرطبة.
وبالجملة بذل العرب صادق الهمة والعزيمة في تعلُّم وتعليم جميع فروع العلوم المتعلقة بالمولدات الطبيعية؛ ولذا أنصفهم المؤلف لييل في كتابه الجديد بما حكاه من اشتغالهم بعلم الجيولوجيا ونقل دساسي عدة فصول من كتاب القزويني المشهور باسم يلين المشارقة، واشتهر حياة الحيوان للدميري الذي هو عند العرب بمنزلة بوفون عند الفرنج، وبلغت العرب في علم الزراعة أقصى درج الكمال وأحدثوا في إسبانيا السواقي ذات القواديس المعتادة الآن، وكان عندهم في الاقتصاد الزراعي معلومات شِيبَت بأوهام فاسدة إلا أنهم كانوا يعرفون طرقًا عملية تستحق التفات الفلاحين إليها.
المبحث الثالث: في علم الطب والمدرسة اليونانية العربية والفخر الرازي وابن سينا
أحضر ملوك الفرس الأكاسرة من ابتداء القرن الثالث بعد الميلاد العيسوي أطباء اليونان، فنشروا في البلاد المشرقية آراء أبيقراط الطبية حتى سابقت المدرسة التي بجنديسابور مدينة الإسكندرية أيام البطالسة، ثم فتحت العرب البلاد فكان مركز التعليم أنطاكية وحران، وظهر منهما أطباء جامعون في الغالب بين العلوم الرياضية والفلسفية عارفون باللغة اليونانية كالعربية، التي ترجموا إليها كتب أرسطو وإقليدس وبطليموس، منهم يحيى بن ماسويه طبيب هارون الرشيد، ألف في الطب كثيرًا من المؤلَّفات المعتبرة عند المشرقيين، منها شرحه المشتمل على ثلاثين كتابًا، وكتاب في تحضير الأدوية، ورسائل في أصناف الحمى والأغذية والنزلات والحمامات وأنواع الصداع والشقيقة وغير ذلك، ترجم كثير من مؤلفاته إلى العبرانية، ويوجد بكتبخانات أوروبا كثير منها بالعبرانية والعبرية، مات سنة ٨٥٥ ميلادية، وله ثمانون سنة فخلفه تلميذه حسين، وأخذ من المأمون على كل كتاب ترجمه من اليونانية إلى العربية زنته ذهبًا ترجم كتابي جالينوس وأبيقراط وغيرهما، وألَّف كتبًا كثيرة في الطب والمنطق الفلسفي، واختبره المتوكل؛ حيث سأله عن سم قاتل بمجرد تناوله، فقال: لا أعرف إلا الأدوية الحافظة للصحة. فاتخذه طبيبًا وأغدق عليه، توفي سنة ٨٧٤ ميلادية، ومنهم جبرائيل المشتهر في علاج كثير من الأدواء.
والفخر الرازي محمد بن زكريا قام بإدارة المستشفيات في بغداد والري وجنديسابور، وهو أول من أحدث المُسَهِّلَاتِ اللطيفة في الأجزاخانات والتراكيب الكيماوية الطبية واستعمال الخزام، وأول من ميَّز القصب الحنجري عن القصب الراجع الذي يكون أحيانًا مضاعفًا من جهة اليمين، وكان يرى أهمية التشريح في الطب الذي ألَّف فيه أكثر من مائة مؤلف، منها كتاب ضخم سماه الحاوي في علم التداوي، ورسالة في الجدري والحصبة استمد منها سائر الأطباء، وأهدى إلى الأمير المنصور حاكم خراسان في القرن العاشر من الميلاد أحد أبناء العائلة السمانية عشرة كتب حسنة الترتيب والأسلوب، طُبِعَتْ في مدينة ونديق البنادقة سنة ١٥١٠ ميلادية، وهي أول ما بحث فيه عن الخمرة عمى كبيرًا، فمنع أن يعالجه من الأطباء إلا من عرف عدد أغشية العين، وساح في الشام ومصر وإسبانيا توفي سنة ٩٣٢ ميلادية، واشتهر بعده بخمسين سنة علي بن عباس الفارسي المجوسي، ألَّف في الطب كتابًا عشرين مجلدًا عشرة في قواعد الطب، وعشرة في عملياته سماه الملكي، وأهداه إلى السلطان عضد الدولة البويهي، ترجمه إلى اللاتينية اصطفان الأنطاكي سنة ١١٢٧ ميلادية، وطبعه ميخائيل كابلا سنة ١٥٢٣ في مدينة ليون بفرنسا.
ولم يكُن في حكماء العرب مثل الفخر الرازي، وأبي علي الحسين بن سينا المولود في إفشائه من ضواحي شيراز سنة ٩٨٠ ميلادية، كان والده حاكمًا على شيراز وتَعَلَّمَ هو الطب في بخارى، وعالج وهو ابن ١٨ سنة الأمير نوح السماني وشفي من مرض عظيم، فتقدم عند الملوك السمانية، ووعده محمود الغزنوي الإغداق عليه إن أقام عنده فأبى، ودام على التغرُّب في البلاد، وأقام عند قابوس حاكم إقليم جرجان، وجدد في ديوانه أعمال الطبيب اليوناني إيراز ستراطس، وجدد له موئلًا في مدينة الري حين كان سلطانها مجد الدولة، ثم في مدينة همدان حين اختاره ملكها شمس الدولة أن يكون وزيرًا وطبيبًا له، ثم دعاه علاء الدولة للقيام بوظيفتي الوزارة والطب بأصفهان، ألف كتبًا من أَجَلِّ المؤلفات، منها القوانين، وهي خمسة كتب ترجمت وطبعت مرارًا، وكانت مؤلفاته ومؤلفات الرازي تدرس بمدارس أوروبا نحو ستة قرون تقريبًا، مات سنة ١٠٣٧ ميلادية.
المبحث الرابع: في مدرسة إسبانيا وابن القاسم وابن زُهر وابن رشد وغيرهم
ظهر أيضًا في مدرسة إسبانيا من الأطباء جمع، منهم أبو القاسم خلف بن عباس المعروف عند الفرنج بالبوقاريس، وضع علم الجراحة ووصف آلاتها وكيفية استعمالها وما يحصل في بعض الكيفيات من الأخطار، وعين لإخراج الحصوة موضع البضع الذي عيَّنه متأخرو الجراحين من الفرنج، ولم تعرف مؤلفاته بين الفرنج إلا في القرن الخامس عشر من الميلاد، مات سنة ١١٠٧ ميلادية.
وأبو مروان بن عبد الملك بن زُهر ولد في بلدة بنافلور، أدخل في المادة الطبية عدة أدوية، وأحدث في علم الجراحة فتح شعبتي التنفس، ووصف أمراضًا لم تَكُنْ موصوفة قبل، مثل المرض المعروف بالتهاب الحجاب المنصف للتامور المحيط بالقلب، وتعين لرد العظام المنتقلة إلى مواضعها وجبر المنكسر منها، تُرجِمت كتبه الكبيرة إلى اللاتينية غير مستوفاة الترجمة، استُخدِم عند الأمير يوسف بن تشفين صاحب مراكش فأغدق عليه.
ومن تلامذة ابن زهر أبو الوليد محمد بن رشد اتبع أصول الفلسفة الأرسطاليسية، وألف رسالة في الترياق وكتابًا في السموم وأنواع الحمى وشرحًا على كتاب أرسطاليس، وشرحًا على قوانين ابن سينا، وكتابًا ضخمًا مشهورًا بالكليات طُبِعَ في مدينتي ونديق وليون وغيرهما.
وكان عبد الله بن أحمد بن علي البيطار أعلم الأطباء بعلم النباتات، ساح في البلاد المشرقية زمنًا طويلًا، وأكرمه السلطان يوسف صلاح الدين الأيوبي والكامل صاحب دمشق، اشتمل مجموعه المُسَمَّى بالأدوية المفردة المقسم أربعة أقسام على وصف جميع النباتات والأحجار والمعادن والحيوانات ذات الخواص الطبية، أصلح فيه غلطات ديوسقوريدس وجالينوس وأوريان.
وبالجملة كان ملوك المشرق يدعون العلماء إلى دواوينهم ويستقبلونهم بأنواع التشريف والأموال الجزيلة، فكان منهم عدد لا يُحصَى حُفِظَتْ أسماؤهم في التواريخ، اشتهر منهم في الطب ثابت بن قرة الطبيب الفلكي سنة ٨٥٠ ميلادية، وأبو جعفر أحمد بن محمد الطالب الذي ألف سنة ٩٧٠ ميلادية في داء البرسام والسرسام وغيرهما، وعلي بن رضوان سنة ١٠٦٠ ميلادية، وجزلة بن جزلة سنة ١١٠٠، وعبد الرزاق سنة ١١٥٠، وهبة الله سنة ١١٥٥، والجلدكي الذي ألَّف سنة ١٢٥٢ كتابًا في الحجر المُكَرَّم المسمى أيضًا بالكيمياء السرية والصنعة الإلهية، وأبو الفرج سنة ١٢٨٦، وإسحاق بن إبراهيم سنة ١٣٠٠.