المبحث الثاني: فيما يتعلق ببلاد مراكش وإيالة الجزائر
اكتسب غربي إفريقية بعض التمدُّن من مملكة مراكش التي بقيت خالية من تسليط
الأجانب، فحق لها أن ترفع لواء ظهور الأمة العربية واستقلالها بالحكم، إلا أن الفشل
بين العائلة المتسلطنة عليها عَجَّلَ انحطاطها وسلطانها الآن عبد الرحمن الجالس
على
سرير السلطنة سنة ١٨٢٢ ميلادية، ولم تزل مكناسة وفاس ومراكش مشتملة على طرف من العز
والجلالة، لا سيما فاس المعتبرة آخر مأوى ثوت فيه المعلومات المشرقية، واشتمل على
مدارس كثيرة وكتبخانة مشحونة بأنفَس الكتب المكتوبة بخط اليد، ولم تُبِحْ علماؤها
لأحد من الفرنج أن يطلع عليها، ويمكن أن يكون أهالي مملكة مراكش ستة ملايين من
البربر والعرب واليهود والزنج وغيرهم، وقد انتشر البربر على سلسلة أطلس الممتدة
من
الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي، وبقرب سواحل البحر جبال الريف التي يحمي حماها
قبائل مستقلة لا نعرف أسماءها.
وتنقسم أرض تلك الجهات إلى تل وصحراء؛ فطول التل خمسة وسبعون ميريا مترًا، وعرضه
ثلاثون أو أربعون ميريا مترًا، وسطحه ثلاثة آلاف ومائتان وخمسة وعشرون ميريا مترًا
مربعًا، وهو ضعف تل الجزائر والصحراء كصحراء الجزائر في السعة، وبجنوبهما وشرقهما
مملكة صغيرة معروفة بمملكة سيدي هشام، أنشئت سنة ١٨١٠ ميلادية، وأهلوه عرب وشيلوق
وكرسيها طالان مركز قوافل التجارة بين تمبكتو ومراكش.
وجبال تلك الجهة من إفريقية شامخة ومنحدرها على صورة واحدة وأنهارها أكبر من
أنهار الجهة الشرقية، ويجري من هذه الأنهر إلى جهة الشمال ملويه ولقوص والعورا
والأصبو وأم الربية والبورغراز وإلى جهة الجنوب الغوير والزيز، ووادي دراعة، وتلك
البلاد فاخرة ناضرة لا نعرف جميع وسائل قوتها وغناها.
وكان ملوك أوروبا متشوِّقين لامتلاك بقاع مهمة من ساحل شمال إفريقية، وتأسيس
مراكز تجارية، أو إلزام أهل تلك الأقطار احترام بيارقهم الفرنجية، وكان بينهم وبين
حكام مراكش والجزائر وطرابلس وتونس علائق نتج منها منفعة تبعية، ثم عادت الفرنساوية
إلى الجزائر من سنة ١٨٢٧ ميلادية حتى أخذوا الجزائر سنة ١٨٣٠ ميلادية، فتغير شمال
إفريقية تغيُّرًا كليًّا، وزال عنه علائق الحكومة التركية، ومنع الفرنساوية من
توسعة دائرة حكومتها بالأقطار المغربية ما حصل لديها من الانقلاب في شهر يولية سنة
١٨٣٠ ميلادية، وما كان عليه الترك والعرب من شدة البغضاء للنصارى، وإن كانت
المعادات حربية بين رؤسائهم كالحاج أحمد وابن عيسى وابن زامون في الجهات الشرقية،
وعلي مبارك والبرقاني وأبي مزراق وأمثالهم في الجهات الغربية، وتنقسم إيالة الجزائر
إلى أربعة أقاليم: عران وقسطنطينية وتيتري والجزائر، وكان القائم بتدبير الحكومة
بالأقاليم الثلاثة الأول وكيل عن الوالي الكبير وبتدبير إقليم الجزائر آغا العرب
الداخل في حكومته بليدة وسهل حمزة حتى أبواب الحديد، وبغربي هذا الإقليم إقليم عران
المحصور بجبل أطلس الصغير والمتصل بحدود مملكة مراكش، ويشمل إقليم القسطنطينية ما
في شرقِه من حوض البلاد المروية بنهر وادي الرمل وبجنوب هذا الإقليم إقليم تيتري
المبتدئ من شواطئ نهر الشليف، والممتد طولًا على جوانب جبل أطلس الكبير.
وقد زال حكم الوالي الكبير فنفذ حكم الحاج عبد الرحمن في القسطنطينية بلا تعرُّض
من الفرنساوية له، وأراد مشايخ العرب بإقليمي عران وتيتري أن يأخذوا ما كان لهم
من
علو الشأن ونفوذ الحكم، لكن مال بعضُهم إلى معاهدة عبد الرحمن سلطان مراكش الذي
بعث
كتائب إلى مسقرة وتلمسان، وبعض أخر إلى أن يكونوا تحت حماية الفرنساوية اللابثين
بمدينتي بونة والمرسى الكبيرة، ثم جاء السر عسكر «كلوزيل Clausel» الفرنساوي إلى مدينة الجزائر في سبتمبر سنة ١٨٣٠
ميلادية، فاجتهد في الاستيلاء على إيالة الجزائر، وشَدَّ أزره بمشايخ العرب ذوي
البأس، واتَّبَع الفرنساوية رأيه من ذلك الزمن، ثم علموا ما فعله أبو مزراق المنفرد
بالقوة في جهة مدية من إقليم تيتري من إظهاره الانقياد إليهم مع تحريضه العرب وأهل
مراكش سرًّا على قتالهم، فقاتلوه وأسروه وولَّوْا بدله مصطفى بن عمر الذي عاهدهم
على الصداقة والطاعة.
وكانت طائفة كولة موكَّلين من الحكومة العثمانية المزالة بالمدافعة عن الحصون
الحصينة، فحصرهم العرب، واستغاث حسن بيك بالفرنساوية، فبعث «كلوزبل» عساكر إلى
مدينة المرسى الكبيرة وآخرين إلى مدينة عران، ثم أخذ والي تونس مدينة عران بعد
اتفاق بينه وبين الفرنساوية الذين أخذوها بعد ذلك في ثامن عشر أغسطس سنة ١٨٣١
ميلادية التي تولى فيها قيادة الجيش الفرنساوي السرعسكر «برتزين Berthesêne»، وعساكره لا تبلغ تسعة آلاف مع اضطراب
العرب بسائر الجهات، ومحاصرتهم بلدة مدية، ونفاد ما عند مصطفى بن عمر من الأقوات
والوسائل؛ ولذا أخذ العرب هذه البلدة من الفرنساوية في الخامس والعشرين من يونية
وظنوا أن الفرنساوية يخرجون عمَّا قليل من أرض الجزائر.
وكانت أحزاب العرب تتعاقب على مدينتي تلمسان ومستغانم، ومحيي الدين المرابط يمهد
طريق الظهور لابنه عبد القادر في بلدة مسكرة التي كانت مركز الحرب بعد ذبح الجنود
التركية الغير المنتظمة، فغلب السرعسكر «بواير Boyer» هؤلاء العرب وادي «أرزوا» المتعاهد مع الفرنساوية إلى
العساكر المحافظة على مدينتي عران والمرسى الكبيرة جميع الأقوات الضرورية، وفي
أثناء ذلك كان بضواحي مدينة الجزائر تحزُّب عظيم دخل فيه أهل بليدة وقولية ودخل
أهل
مدية في حكومة سلطان مراكش فنصر على هؤلاء الجموع السرعسكر «برتزين» وجعل علي مبارك
آغا العرب فحفظ عدوهم في السهل لما التزم لذلك القائد.
وجاء الدوق «دي رويجو Le duc de Rovigo» إلى
مدينة الجزائر في نوفمبر سنة ١٨٣١ ميلادية، وشرع الفرنساوية بعد أشهر قليلة في
تجديد المكافحات الحربية بجيوش أكثر من الأول، ففتح الشيخ فرحات عدو بيك
القسطنطينية أبواب مصادمة الفرنساوية، وبعث سفراء قبض عليهم الفرنساوية في أرض
قبيلة عوفية، وقتلوهم في عاشر أبريل، فتعصب العرب على الفرنساوية، وعضدهم كراهية
علي مبارك للفرنساوية، لكنهم مزقوا كل ممزق في أكتوبر سنة ١٨٣٢ ميلادية.
وكان ذلك الزمن حوادث مهمة شرقي إيالة الجزائر؛ فإن مدينة بونة التي حلها
الفرنساوية يسيرًا من الزمن خرجت عن طاعة الحاج أحمد بيك القسطنطينية الذي دهمها
بعد ذلك في خامس مارث سنة ١٨٣٢ ميلادية لاحتياجه إلى مينا، واستولى عليها وأفرط
في
ذبح من قاومه فيها، فحاز بذلك صيتًا كبيرًا، ثم أخذتها الفرنساوية في شهر مايو،
وبذل عزائم لم تُفِدْ في استنقاذها منهم، وقد استولى ضابط عساكر «أرمندي Armandy» على القصبة بمساعدة ذوي الجراءة، وفي سنة
١٨٣٣ ميلادية انقاد مدينة الجزائر وضواحيها والأراضي التي بين نهر العراش ونهر
متيجه ومازفران والبحر الملح للفرنساوية الذين كانوا يحلون في مدينة عران وقلعة
المرسى الكبيرة، وتعاهد معهم حزب الكولة في تلمسان ومستغانم، وأحس سلطان مراكش بضعف
شوكته، فأعرض عن توسيع مملكته، وملك الحاج أحمد بيك مدينة بونة، فطمع في مدينة
بجاية، وحاصر مدينة مدية بلا طائل، ثم قاومته مدينة بونة، وأخذ الجنرال
«تريزيل Trèzel» مدينة بجاية في التاسع
والعشرين من سبتمبر سنة ١٨٣٣، وعاقب القبائل التي امتلكها من سنة ١٨٣١، وطردت سفن
الفرنساوية من الساحل مرات، وجاءت قبائل أخرى أبدت تعضيدًا لذلك الجنرال.
وتولى عبد القادر مشيخة العرب بعد وفاة والده محيي الدين، فاستنفر العرب في سائر
الجهات، وأضرم على حين غفلة نار جهاد الفرنساوية، ولم يوقف سيره المتزايد نصرات
الفرنج، واشتهر أنه بيك إقليم تلمسان، واستولى على مدينة أرزوا، وقطع رأس قاضيها
لتحالفه مع الفرنساوية، وهدَّد مدينة مستغانم بالاستيلاء عليها، فأحاط بها
الفرنساوية، وهزموه بمساعدة قبائل الدوير وذميلة، وطردوه من أرزوا غرة أكتوبر في
العين البيضاء، وثالث دسمبر في تلمسان، وألزموه في السادس والعشرين من فبراير سنة
١٨٣٤ ميلادية أن يعقد معهم شروطًا انتهت بها المكافحات الحربية، وأصلحت الفرنساوية
في سهول مدينة الجزائر قناطر بوفاريق وأسسوا معسكر الدويرة، وانضم إليهم سرًّا أهل
مدينتي مدية وبليدة، فلم يخشوا بأس قبائل متيجة، وعينوا جمعًا للنظر في وسائل بقاء
ما فتحوه من البلاد على السلم، وصدر لهم في الثاني والعشرين من يولية سنة ١٨٣٤
ميلادية أمر عالٍ بإجراء السياسة بإيالة الجزائر على نظام جديد، فجعل بها قائدًا
للجنود ورؤساء في وظائف أخرى ووكيل عام النفوذ، وجميعها تحت يد الجنرال
«درويت درلون Drouet d’Erlon» المقلد بالإدارة
العليا للمصالح الذي نقض مصاريف الفرنساوية المقيمين بتلك البلاد، واتخذ جمعًا من
العساكر البلدية، وأعاد منصب الآغا الملغى منذ نكث علي مبارك عن محالفة الفرنساوية
التي احتمى رجالها في المحطة العسكرية الجديدة المسماة حوش جاويش بقرب بوفاريق،
وهادنهم الأمير عبد القادر سنة، قوى فيها شوكته، وأنفذ حكمه في جميع البلاد التي
لم
يحكمها الفرنساوية، وكثرت خلفاءه في إقليمي عران وتيتري، واعتبر وكيلًا عن الأمة
العربية في تلك البلاد ووقعت له حادثة تقضي بضعف قوته؛ فكانت تقوية له وهي أن موسى
الدرقاوي ذا التعصب الديني هجم بنحو ألفي مسلم على مدينة مدية المُعرِضة عن التحزب
مع عبد القادر، ثم حاصر مدينة مليانة فكافحه عبد القادر وأخذ منه مدية، ثم ولى
قُوَّادًا على متيجة وغيرها من العرب بجميع الجهات، ورجع من مدينة مسخرة فاستعد
للحرب، وأتته ذخرات من بلاد أجنبية بواسطة مصب نهر التفنة وأراد عقاب الدويرة
والزميلة لمخالفتهم الفرنساوية، فسار بالعسكر الجنرال «تريزيل» الذي خلف الجنرال
«دسميشل Desmichels» من أول فبراير سنة ١٨٣٥،
ونزل أمام أرض تلك القبائل في أوائل يونية فقاتل المسلمين عدة مقاتلات خالية عن
النتائج المهمة، ثم دهمه المسلمون وهزموه على شواطئ نهر المقطة فعاد إلى أرزوا
بغاية المشقة، وكان لهم بذلك فرح اعترفوا فيه بالمشيخة لعبد القادر حتى اقتدت مدينة
بليدة بغيرها، وقَبِلَتْ حاكمًا من قبل عبد القادر وبقيت مدينة قولية على طاعته
بسبب معسكر بمتاديست أمام قبيلة الدويرة وغربها، والفرنساوية إذ ذاك في غاية الضيق،
فجهز بالعزم على التوجه لمحاربة عبد القادر في بلدة مسكرة مركز شوكنه الجنرال
«كلوزيل» المتولي الحكم العام في أغسطس سنة ١٨٣٥، وأنزل عساكره في جزيرة حشجون
المتحكمة على مصب نهر التفنة والمساوي ارتفاعها لارتفاع تلمسان، وتمت استعداداته
الحربية في السادس والعشرين من نوفمبر، فسار بجيشه ومعه الدوق «أرليان Le Duc d’Orléan»، ولم يؤمل عبد القادر مقاومة
الفرنساوية، فنقل ماله من قاعدة حكومته وأحرقها، فدخلها الفرنساوية في خامس دسمبر،
فأعدموا من فيها من الطوبجية، وعادوا إلى محطتهم الأصلية، وبذلك بطل ما لعبد القادر
من الشعوذة الآخذة بعقول العرب، فانضم منهم قبائل إلى الفرنساوية، ثم هَمَّ عبد
القادر أن يدهم مشوار تلمسان، فهزمه الفرنساوية واقتفَوْا أثره فنجا بجواده وزالت
شوكته، فخلفته قبائل بالشاطئ الأيسر لنهر التفنة وأهل مراكش، فأبدوا موئلًا جديدًا
لعبد القادر فدهم أعداءه حين عودتهم إلى تلمسان وعران.
وطلب رؤساء العرب من حاكم الفرنساوية الأكبر أن يقلدهم المشيخة وكانوا كثيرين،
فتجدَّد الانتظام والهدوُّ في ضواحي مدينة الجزائر، وزرع خارج التحصينات، وأخذت
أحوال جهة الشرق في التحسن كل يوم، وكان بين قبائل بجاية شقاق انتهز فيه الفرنساوية
الفرصة بإلزامهم السكوت واتقاء صولتهم، كما كان بين قبائل بونة من التباغُض الذي
وصَّل الفرنساوية إلى مآربهم؛ فإنهم اتخذوا من أشياخها خلفاء فتحوا للجيوش
الفرنساوية طريقًا إلى القسطنطينية، فجدد الأمير عبد القادر في أوائل سنة ١٨٣٦
دهمات على الفرنساوية سرت بها حركة الاضطراب في الجهة الجنوبية، ففعل الفرنساوية
غزوة ثالثة لمدينة مدية فأخذوها، ثم أشيعت أقاويل كاذبة حين حازت عساكرهم مدينة
الجزائر، فعصت العرب وشهروا السلاح، وتولى شيخ العرب علي مبارك مدينة مدية في شهر
مايو.
وأراد الفرنساوية إغاثة القبائل الدويرية والزميلة من دهمات الحرب، فنزل الجنرال
«بريجو Perregaux» على نهير هبرة وفي وادي
شليف، والجنرال «درلنج» على نهير التفنة، ودهمه عرب مراكش، فدخل متاريسه في خامس
عشر أبريل، واستنجد فجاء الجنرال «بوجود Bugeaud»،
وقام في أوائل يونية بقيادة المقيمين في عران، وصد جيوش عبد القادر مرتين، وهزمها
في سادس يولية في مقتلة سقاه، فعاد عبد القادر إلى مدينة مسكرة، فالتزم سلطان مراكش
أن يمنع أمام حدود مملكته قبائل هَمَّتْ بنجدة عبد القادر فأملت الفرنساوية ظفرهم
بالحاج أحمد بيك القسطنطينية، وتقدم يوسف الذي جعله كاوزيل بيكًا على الإقليم
برجاله إلى مدينة دربان في جنوب بونة على ستة فراسخ، وضَمَّ إليه عدة مشايخ يكرهون
الحاج أحمد، ثم أقام في الساحل بمحطة كالة التي كانت مع الفرنساوية من سنة ١٥٢٠
إلى
سنة ١٧٩٩، ثم تركوها للإنكليز سنة ١٨٠٧، ثم أخذوها سنة ١٨١٦، ثم هدمها والي الجزائر
سنة ١٨٢٧، وتم استعداد الفرنساوية لمحاربة يوسف في ثامن نوفمبر فسار الماريشال
والدوق «نمور Nemours» بسبعة آلاف وصلوا مدينة
غلمة في الخامس عشر من هذا الشهر، وكانوا أمام القسطنطينية في الحادي والعشرين،
فكان من البرد والمطر ما عَطَّلَ حركتهم، ويئسوا من أخذها بعد هجمات كثيرة، فعادوا
إلى مدينة بونة وقاوموا يوسف وألجئوه إلى بعض المدن، ثم استعدوا سنة ١٨٣٧ وتدبروا
فيما يُبقِي العرب على الطاعة، ويُبعِدُهم عن الخروج العام الذي تحدثت به نفس عبد
القادر، فسافر من بلدة بوفاريق الجنرال «دمريمون Damrémont» ثالث من قلد الحكم العام على ما فتح من بلاد الجزائر
بسبعة آلاف في السابع والعشرين من أبريل، ونزل في بليدة وقولية، ثم سار من بلدة
مليانة ووادي شليف، وغزا العرب غزوة أذعنوا فيها بالعجز عن مقاومة الفرنساوية، وعقد
الجنرال «بوجود» في واقعة التفنة شروطًا تكفَّلت بإعادة الهدوء في جميع إيالة
الجزائر.
وأفادت هذه الشروط شعوذة عبد القادر واعتراف الفرنساوية له بالإمارة على العرب،
وتوجه فكرتهم إلى الاستعداد لأخذ القسطنطينية التي توجه إليها العساكر الفرنساوية،
وبلغوا المجاز الأحمر في يولية، وعرفوا طريق القسطنطينية في ثاني عشر سبتمبر،
فجازوا رأس العقبة، وقاتلوا في السهل الرَّحْب الذي بنهايته نهير الوادي الزناتي
سرية قليلة من فرسان العرب، ورجعوا في الثالث عشر إلى المجاز الأحمر، فدهمهم العرب
عدة دهمات بذلوا فيها العزيمة من الحادي والعشرين إلى الثالث والعشرين، ونزل الدوق
«نمور» المعسكر في الثامن والعشرين، وسار الجنرال «دمريمون» برجاله في غرة أكتوبر،
ونزل بهم أمام القسطنطينية في اليوم السادس، وأخذ يحاصرها وابن عيسى قائد رجال
الحاج أحمد يدافع عنها، مع ما كان في اليوم السابع إلى التاسع من انسكاب المطر الذي
خشيت به الفرنساوية أن يحل به عليهم من الوبال ما حل بهم في المرة السالفة، ثم
اعتدل وذهب المطر، فنقبوا فرجة في أسوار المدينة يوم مات الجنرال «دمريمون» الذي
خلفه الجنرال «فاله Valée»، وأثار موته فيهم
حَمِيَّةً أخذوا بها المدينة عنوة في صبيحة الغد؛ ففر واليها أحمد إلى الجنوب،
واجتهد في عوده إليه فلم يُفِدْ، ثم انقاد إليهم في شهر مايو سنة ١٨٤٨ فنصب
الفرنساوية بيرقهم على أسوار الثلاثة مدن الكبار بإيالة الجزائر، وهي مدينة الجزائر
وعران وقسطنطينية وجعلوا بقسطنطينية ثلاثة خلفاء وثلاثة قواد وسلموها لحاكم وقلدوا
ابن غانة مشيخة العرب، وقد أبى عبد القادر تنجيز الاتفاق الواقع في رابع يولية،
وانتظر بالشروط المعقودة بعد واقعة التفنة فرصة لقتال الفرنساوية، ثم ظهر برجاله
في
دسمبر سنة ١٨٣٧ بحدود إقليم قسطنطينية، وفي أبريل سنة ١٨٣٨ بجهة مدية، وفي شهر مايو
بجهة تجدمت، ثم سار حتى بعد عن ساحل البحر الملح بمائة فرسخ ليدهم في عين ماضي
المرابط المسمى تجيني الذي انقاد للفرنساوية في خامس عشر يناير سنة ١٨٣٩ وقرب بعد
ستة أشهر من مملكة مراكش، وجال في أرض الزواوة فأوقد سعير الاضطراب بجميع
جهاتها.
وفتح الفرنساوية طريقًا من بلدة جميلة إلى ستيف، فأخذوا في مايو سنة ١٨٣٩ ثلاث
مدن: ميلة وجيجلى وجميلة، وانقاد لهم سهل مجانة الذي صد أهله أحزاب الحاج أحمد،
ووجهوا من بجاية أناسًا يستكشفون مضيق تيزى، ورأوا في آخر سنة ١٨٣٩ أن يلزموا العرب
عدم القيام مع عبد القادر، فوجهوا الغزو أبواب الحديد «الدوق أرليان من ستيف» في
ستمبر، فجاز ذلك المضيق المخوف، وعاد إلى مدينة الجزائر بواسطة بلاد حمزة، فظهرت
قبائل هاجوط المحالفة لعبد القادر، وقاتلوا الفرنساوية في واقعتي نهر الشفا والوادي
العالج، ثم قام جميع القبائل في طول تلك الجهات، وهجموا على مدينة بليدة الحصينة،
فانهزموا عنها مرات.
وفي سنة ١٨٤٠ أكثر الجنرال «لاموريسيير Lamoriciêre» من النهب والسبي، وأظهر العساكر الفرنساوية مدافعة
مازجران الحصينة في ثاني فبراير، وملكوا بلدة شرشل في سادس عشر مارث بعد واقعة
مزرغين، وغلب ابن غانة قائدًا من قواد عبد القادر بمعركة سلسول في الرابع والعشرين
من هذا الشهر، وعاقبوا بني هراقطة وقبائل بني موسى في الثاني والعشرين من أبريل،
وحصنوا غلمة ورباط سيدي طمطم خلف الوادي الزناتي، وأنشئوا معسكر عين ترك على سبعة
فراسخ من ستيف، وأخذوا مدينة مدية في سابع عشر مايو ومدينة مليانة في ثامن يونية،
ولم يكُن من عبد القادر بعد ذلك إلا حزب إتلاف ونهب وهجمات على محالَّ قاصية إلا
أنه نظم جنودًا ظهر فيهم بمظهر الجلال، ثم تولى الجنرال «بوجود» بدل الجنرال «فاله»
في الثاني والعشرين من فبراير سنة ١٨٤١، فتوجه لإعدام المركز الأكبر لشوكة عبد
القادر، وتبعه الدوق «نمور» في مايو لمساعدته، فتوجه بعساكره جهة الغرب، واستولى
على بلدة تجدمت في الخامس والعشرين من هذا الشهر وعلى مسكرة في غايته، ونصر غرة
يونية في معركة عقبة جدة، فبَقِيَ مستوليًا على ما فتحه من تلك البلاد، ووضع
الفرنساوية في مدينة مدية ومليانة عددًا حربية لفتح مسيلة البعيدة من بلدة ستيف
بثمانية وعشرين فرسخًا، وهدموا كلًّا من بوغارة وتعازة، وعملوا في سنتي ١٨٤٢ و١٨٤٣
محاربات مكنت في إيالة الجزائر تحكُّمهم الذي امتد إلى حدود الصحراء الكبرى.
وأخذ عبد القادر في غاية سنة ١٨٤١ يدافع عن أقوامه بسائر الجهات، وضم إليه أهل
مراكش، ثم أخذ منه الدوق «أومال Le duc d’Aumale»
في رابع عشر مايو سنة ١٨٤٣ مدينة سمالة التي في ضواحي مدينة تغلين، وأخذت الدولة
الفرنساوية في التقدُّم بإيالة الجزائر من ابتداء سنة ١٨٤٤ رتبت إدارة القبائل
بطريق منتظمة، واتسعت فتوحاتها من جهة الشرق بأخذ مدينة مسكرة وانقياد بني زيبان
وقبيلة بلازمة وعريس، ومن جهة الغرب بأخذ مدينة سبدو ونمور واللامغنية ودية والفارة
والقصور وغير ذلك، وفي إقليم الجزائر بغزو قبائل لاغوة وعين ماضي وقوم سباعوا، وأخذ
مدينة دليس وإنشاء محطة أومال العسكرية، وعرف الدوق «أومال» حاكم قسطنطينية خط
التحديد بين إيالتي الجزائر وتونس، وبعدت الفرنساوية عن مدينة الجزائر إلى جهة
الجنوب بمائة وعشرين فرسخًا، وعاقبوا سلطان مراكش لنقضه شروطهم ومحاماته عن عبد
القادر، وعارضوا أهل مراكش بمعسكر اللامغنية في آخر مايو، وملكوا مدينة أشده،
وأطلقوا المدافع على طنجة في سادس أغسطس، ونصر الجنرال «بوجود» في واقعة أسلى رابع
عشر هذا الشهر، وأطلق في ذلك اليوم أمير يونويل مدافع هدمت أسوار مقدور، فرجاه
مولاي عبد الرحمن أن يعفو عنها، وصالح الفرنساوية في ثامن عشر مارث، وفي سنة ١٨٤٥
اتقد نار العصيان بقيام رجل آخر يسمى أبا معزة جاء من مراكش مستنفرًا لعدة قبائل،
فغلبه الفرنساوية في عين مران، فسار ليأخذ مدينة أرليانويل، فهزموه عدة مرات، وأخذ
يتنقل من مكان إلى آخر حتى سلَّم نفسه إليهم في ثالث عشر أبريل سنة ١٨٤٧.
وأما عبد القادر فلم توافقه العرب على القيام لقوة شوكة الفرنساوية الذين هزموه
في سابع مارث سنة ١٨٤٦؛ ففر إلى جهة الغرب وذبح في تاسع مارث الفرنساوية المأسورين
في واقعة ديرة، فدهمه جيش فرنساوي ففر إلى مملكة مراكش، فأعلن سلطانها عبد الرحمن
بمعاداته ودهم من سائر الجهات، فانهزم في معركة سيدي إبراهيم وسلم نفسه للجنرال
«لاموريسير»، فبعثه إلى فرنسا، وبقي بها أسيرًا حتى أطلقه نابليون الثالث سنة ١٨٥٣،
فسكن في مدينة البرصة إحدى قرى تركية آسيا منعزلًا عن الأمور السياسية، وقد انقاد
سائر إيالة الجزائر للفرنساوية منذ زالت شوكته ودعيت القبائل بغزو الجنرال
«بوجود Bugeaud» للقبيلة الكبرى في مايو سنة
١٨٤٧، ولم يكُن بعدها إلا وقائع جزئية كوثوب الزعاطشة على الفرنساوية في سادس عشر
يولية سنة ١٨٤٩ وانتقام الفرنساوية منهم في سادس أكتوبر، وقمع العسكر بعض قبائل،
وسبي قبيلة مزاور المراكشية سنة ١٨٥٠، وغزوة الجنرال «سنت أرنود Saint-Arnaud» للقبيلة الكبرى في الجزائر،
وانقياد بني فليسه للجنرال «بيليسيه Pélissier»
سنة ١٨٥١، وكان ولاة الحكم العام بعد الماريشال «بوجود Bugeaud» مشتغلين بإصلاح الحال، وهم الدوق «أومال Aumale» المتولي في سابع عشر أغسطس سنة ١٨٤٧،
و«كافنياك Cavaignac» في الخامس والعشرين من
فبراير سنة ١٨٤٨، و«شنجرنيه Changarnier» في رابع
عشر يونية، و«شارون Charon» في تاسع سبتمبر،
و«هوتبول d’Hautpoul» في الثاني والعشرين من
أكتوبر سنة ١٨٥٠، و«بيليسيه Pélissier» في عاشر
مايو سنة ١٨٥١، و«رندون Randon» في حادي عشر
دسمبر، ونظموا إدارة البلاد، وتكفلت القبائل بما يكون من الجنايات في أرضها، وتحدد
مقدار غرامات الجنح، وأبقيت الغابات بقوانين نظامية، وتحددت الأقاليم الثلاث؛ وهي
أقاليم مدينة الجزائر وقسطنطينية وعران وقسم إقليم مدينة الجزائر ستة أقسام عسكرية
صغيرة قواعدها مدن الجزائر وبليدة ومدية وأومال ومليانة وأرلياتسويل وشرشل وبوغار
وطناس وبجاية ودليس وفوليه ونحوها، وقسم إقليم عران خمسة أقسام صغيرة: عران ومسكره
ومستغنم وسيدي أبو العباس وتلمسان وبنادرها ارزو وغورس وطياره وسيدة ومسرجين
ومازجران ودية واللامغنية وسبدو، وإقليم قسطنطينية أربعة أقسام: قسطنطينية وبونة
وستيف وبطنه وبنادرها بسكره وفيلييض وغلمة وجيجلي وكالة وطبسة ونحوها.
وإيالة الجزائر محدودة من الشمال بالبحر الأبيض المتوسط والغرب بمملكة مراكش
والشرق إلى الجنوب بباشوية تونس، وتمتد هذه الإيالة إلى غردية بواحة وادي مزاب،
وأما أرض القبيلة الكبرى التي يصعب دائمًا قمعها فمائة وستة وأربعون كيلومترًا
بساحل البحر الملح بين مدينتي دليس وبجاية، وتمتد من جهة الأرض القادة إلى أبواب
الحديد في الجنوب الغربي وإلى ستيف في الجنوب الشرقي، وسكان هذه الأرض من نسل
الماسولان والكنكيجنطيين الذين بارزوا الأمة الرومانية في القرون الأول بعد
الميلاد، وكانت تسمى بالجبل المدرع بالحديد حتى أظهر العرب الإسلام فسموها أرض
العدوة المحاربة وأدخلوا فيها الإسلام بلا حرب، بل بواسطة ما ظهر فيها من المرابطين
من أهل التصوف ولم يطل حكمهم فيها، وكذا كان وضع الترك أيديهم عليها، ولا يستطيع
أحد أن يدرك ببصيرته أن الفرنساوية المتحكمة عليها الآن أمهر من العرب والترك وأسعد
منها خطا أولًا.
وقد أخذت إيالة الجزائر في التقدم بمخالطة الفرنساوية أهل التمدن، ولا يبين لنا
حقيقة ما يصير إليه هذا التحكم الإفرنجي على عرب إفريقية إلا مستقبل الزمان.
تم بعناية الله وقوته طبع هذا الكتاب المستطاب الموسوم بخلاصة تاريخ العرب، ترجمة
العالم سيديو الشهير، وذلك بالمطبعة البهية الكائنة بحوش قدم بمصر المحمية في أواخر
شهر ذي الحجة سنة ١٣٠٩ من الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى
التحية.